وليس المقصود منها مخلفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً ـ ولعلها عبارة عن الاموال والعقارات الثابتة نحو فدك ـ فهل يجوز لنا تقدير أن غرض الخليفة من الجملة تخصيص الاموال التي لا تورث بها ؟ لا أظن ذلك ، لان أملاك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تختلف في التوريث وعدمه. ونخرج من هذه التأملات بنتيجة وهي أن المفهوم من الحديث للخليفة ان رسول الله (ص) أخبر عن عدم تملكه للاموال القائمة وأشار اليها بوصف التركة فقال ما تركناه صدقة فشأنه شأن من يجمع ورثته ثم يقول لهم ان كل تركتي صدقة يحاول بذلك أن يخبرهم بأنها ليست ملكاً له ليرثوها بعده لأن ذلك هو المعنى الذي يمكن أن يختص بالاموال القائمة ويحدد موضوعه بها : ( الثالث ) : جواب الخليفة لرسول ارسلته فاطمة ليطالب بما كان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر اذ قال له : ان رسول الله (ص) قال : لا نورث ما تركناه صدقة انما يأكل آل محمّد من هذا المال ، واني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (ص). فاننا اذا افترضنا أن معنى الحديث في رأي الخليفة عدم توريث النبي (ص) لاملاكه كان كلامه متناقضاً لان استدلاله بالحديث في صدر كلامه يدل حينئذ على أنه يعترف بأن ما تطالب به الزهراء هو من تركة النبي «ص» وأملاكه التي مات عنها ـ ليصح انطباق الحديث عليه ـ والجملة الاخيرة من كلامه وهي قوله : وأني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (ص) تعاكس هذا المعنى لأن ما طلبت الزهراء تغييره عن أيام النبي (ص) ـ بزعم الخليفة ـ هو فدك وعقاراته في المدينة وما بقي من خمس خيبر فأبو بكر حين يقول : اني والله لا أغير شيئاً من صدقات رسول الله (ص) يعني بها تلك الأموال التي طالبت بها الزهراء ورأى معنى


( 126 )

مطالبتها بها تغييرها عن حالها السابقة ومعنى تسميته لها بصدقات رسول الله (ص) ان من رأيه أنها ليست ملكاً للنبي (ص) بل من صدقاته التي كان يتولاها في حياته ويوضح لنا هذا ان استدلاله بالحديث في صدر كلامه لم يكن لاثبات ان املاك النبي (ص) لا تورث وانما أراد بذلك توضيح ان الأموال القائمة ليست من أملاك النبي لأنه (ص) ذكر أنها صدقة.
2 ـ ونستطيع أن نتبين من بعض روايات الموضوع ان الخليفة ناقش في توريث الانبياء لأملاكهم ولم يقصر النزاع على الناحية السابقة فان الرواية التي تحدثنا بخطبة الزهراء واستدلال أبي بكر بما رواه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من حديث : أنا معاشر الانبياء لا نورث الخ .. واعتراض الزهراء عليه بالآيات العامة المشرعة للميراث والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الانبياء تكشف عن جانب جديد من المنازعة اذ ينكر أبو بكر توريث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمواله ويستند الى الحديث في ذلك ويلح في الانكار كما تلح فاطمة في مناقشته والتشبت بوجهة نظرها في المسألة.
3 ـ واذن فللخليفة حديثان : ـ
( الاول ) لا نورث ما تركناه صدقة.
( والثاني ) أنا معاشر الانبياء لا تورث ذهباً ولا فضة. وقد ادعى أمرين : ـ
« أحدهما » ان فدكاً صدقة فلا نورث.
« والآخر » ان النبي (ص) لا تورث املاكه واستدل بالحديث الاول على أن فدكاً صدقة وبالحديث الثاني على أن النبي (ص) لا يورث.

* * *

1 ـ قد لا يكون من العسير تصفية الحساب مع الخليفة بعد أن


( 127 )

اتضح موقفه وتقررت الملاحظات التي لا حظناها في الحديثين الذين رواهما عن النبي (ص) وتتلخص المؤاخذة التي آخذناه بها حتى الآن في عدة أمور نشير اليها لنجمع نتائج ما سبق :
( الاول ) ان الخليفة لم يصدق روايته في بعض الاحاديين كما المعنا في مستهل هذا الفصل . .
( الثاني ) ان من الاسراف في الاحتمال ان نجوز اسرار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى الخليفة بحكم تركته واخفاءه عن بضعته وسائر ورثته وكيف اختص الخليفة دون غيره بمعرفة الحكم المذكور(1) مع أن النبي (ص) لم يكن من عادته الاجتماع بأبي بكر وحده الا بأن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبره بالخبر في خلوة متعمدة ليبقى الامر مجهولاً لدى ورثته وبضعته ويضيف بذلك الى آلامها من ورائه محنة جديدة.
( الثالث ) ان علياً هو وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا ريب للحديث الدال على ذلك الذي ارتفع به رواته الى درجة التواتر واليقين حتى شاع في شعر أكابر الصحابة فضلا عن رواياتهم كعبد الله ابن عباس وخزيمة بن ثابت الانصاري وحجر بن عدي وأبي الهيثم بن التيهان وعبدالله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبدالمطلب وحسان بن ثابت وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(2) واذن فالوصاية من الاوسمة الاسلامية الرفيعة التي اختص بها الامام بلا ريب(3).
____________
(1) حتى قالت عائشة في كلام لها. واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحاد في ذلك علماً فقال أبو بكر : سمعت رسول الله (ص) يقول : انا معاشر الانبياء لا نورث الخ ، راجع صواعق ابن حجر.
(2) راجع شرح النهج ج1 ص47 ـ 49 وج3 ص15.
(3) قال ابن أبي الحديد ج1 ص46 : فلا ريب عندنا ان علياً (ع) كان وصي رسول الله (ص) وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا الى العناد.

( 128 )

وقد اختلف شيعة علي وشيعة أبي بكر في معنى هذه الوصاية فذهب السابقون الاولون الى أنها بمعنى النص عليه بالخلافة وتأولها الآخرون فقالوا : ان علياً وصي رسول الله (ص) على علمه أو شريعته أو مختصاته ولا نريد الآن الاعتراض على هؤلاء أو تأييد اولئك وانما نتكلم على الحديث بمقدار ما يتطلبه اتصاله بموضوع هذا البحث ونقرر النتيجة التي يقضي بها على كل من تلك التفاسير.
فنفترض اولاً : ان الوصاية بمعنى الخلافة ثم نتبين الصديق على هدى الحديث فاننا سوف نراه شخصاً سارقاً لأنفس المعنويات الاسلامية ومتصرفاً في مقدرات الامة بلا سلطان شرعي. ولا مجال لهذا الشخص حينئذ ان يحكم بين الناس. ولا يسعنا ان نؤمن له بحديث . ولنترك هذا التفسير ما دام شديد القسوة على صاحبنا ونقول : ان علياً وصي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على علمه وشريعته فهل يسعنا مع الاعتراف بهذه الوصاية المقدسة ان نؤمن بحديث ينكره الوصي . وما دام هو العين الساهرة على شريعة السماء فلابد ان يؤخذ رأيه في كل مسألة نصاً لا مناقشة فيه لأنه ادرى بما اوصاه به رسول الله (ص) وأئتمنه عليه وخذ اليك بعد ذلك الاسلوب الثالث فانه ينتهي الى النتيجة السابقة عينها لأن علياً اذا كان وصياً لرسول الله (ص) على تركته ومختصاته فلا معنى لسطو الخليفة على التركة النبوية ووصي النبي (ص) عليها موجود وهو اعرف بحكمها ومصيرها الشرعي.
( الرابع ) ان تأميم التركة النبوية من اوليات الخليفة في التاريخ ولم يؤثر في تواريخ الامم السابقة ذلك ولو كان قاعدة متبعة قد جرى عليها الخلفاء بالنسبة الى تركة سائر الانبياء لاشتهر الامر وعرفته أمم الانبياء جميعاً.
كما ان انكار الخليفة لملكية رسول الله (ص) لفدك ـ كما تدل


( 129 )

عليه بعض المحاورات السابقة ـ كان فيه من التسرع شيء كثير لأن فدكاً مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بل استسلم أهلها خوفاً ورعباً باتفاق أعلام المؤرخين من السنة والشيعة. وكل ارض يستسلم أهلها على هذا الاسلوب فهي للنبي (ص) خالصة. وقد أشار الله تعالى في الكتاب الكريم الى ان فدكاً للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه بخيل ولا ركاب(1) ولم يثبت تصدق النبي بها ووقفه لها.
(الخامس) ان الحديثين الذين استدل بهما في الموضوع لا يقوم منهما دليل على ما أراد ، وقد خرجنا من دراستهما قريباً بمعنى لكل منهما لا يتصل بمذهب الخليفة عن قرب أو بعد ، وان أبيت فلتكن المعاني الآنفة الذكر متكافئة ولتكن العبارة ذات تقادير متساوية. ولا يجوز حينئذ ترجيح معنى لها والاستدلال بها عليه.
2 ـ هذه هي الاعتراضات التي انتهينا اليها آنفاً. ونضيف اليها الآن اعتراضاً سادساً بعد ان نفترض ان جملة انا معاشر الانبياء لا نورث أقرب الى نفي الحكم بالميراث منها الى نفي التركة الموروثة ونقدر لجملة : لا نورث ما تركناه صدقة. من المعنى ما ينفع الخليفة ونلغي تفسيرها بأن الصدقة المتروكة لا تورث ثم ندرس المسألة على ضوء هذه التقادير. وهذا الاعتراض الجديد هو ان اللازم ـ في العرف العلمي ـ متى صحت هذه الفروض تأويل الخبر ولم يجز الركون الى أوضح معانيه لأنه يقرر حينئذ عدم توريث سائر الانبياء لتركاتهم لما جاء في بعضها من التصريح بالتعميم نحو انا معاشر الانبياء لا نورث ولما دل عليه بالنون في قوله لا نورث ما تركناه صدقة ، من تعليق الحكم على جماعة وحيث
____________
(1) راجع سيرة ابن هشام ج2 ص239 وتاريخ الكامل ج2 ص85 وشرح النهج ج4 ص78.
( 130 )

يتضح ان الحكم في الحديث عدم توريث التركة يتجلى ان المراد بالجماعة جماعة الانبياء اذ لا توجد جماعة اخرى نحتمل عدم انتقال تركاتها الى الورثة ، وقد دل صريح القرآن الكريم على توريث بعض الانبياء اذ قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مخبراً عن زكريا عليه السلام : « واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً » والارث في الآية بمعنى ارث المال لأنه هو الذي ينتقل حقيقة من الموروث الى الوارث وأما العلم والنبوة فلا ينتقلان انتقالاً حقيقياً ، وامتناع انتقال العلم على نظرية اتحاد العاقل والمعقول(1) واضح كل الوضوح واما اذا اعترفنا بالمغايرة الوجودية بينهما فلا ريب في تجرد الصور العلمية(2) وانها قائمة بالنفس قياماً صدورياً(3) بمعنى انها معلولة للنفس والمعلول الواحد بحسب الذات ـ
____________
(1) وتقوم الفكرة في هذه النظرية على أن الصور المعقولة ـ وهي عبارة عن وجود مجرد عن المادة ـ لاقوام لها الا بكونها معقولة فالمعقولية نفس هويتها وتجردها عن العاقل تجريد لها عن نحو وجودها الخاص. وهذا آية الوحدة الوجودية واذن فتدرج النفس في مراتب العلم هو تدرجها في أطوار الوجود وكلما صار الوجود النفسي مصداقاً فالمفهوم عقلي جديد زاد في تكامله الجوهري واصبح من طراز أرفع ، ولا مانع مطلقاً من اتحاد مفاهيم متعددة في الوجود كما يتحد الجنس والفصل وليس ذلك كالوحدة الوجودية لوجودين أو الوحدة المفهومية لمفهومين فان هاتين الوحدتين مستحيلتان في حساب العقل دون ذاك الاتحاد. والتوسع لا مجال له.
(2) فان الحق تجرد جميع مراتب العلم والصور المدركة ولكن على تفاوت في مراتب التجريد فان المدرك بالذات لا يمكن ان يكون نفس الشيء بهويته المادية فحتى المدرك بحاسة البصر له نحو من التجرد وليس في نورية خروج الشعاع أو الانطباع وما ثبت حول الرؤية في علم المرايا أو بحوث الفيزياء ما يفسر الادراك البصري تفسيراً فلسفياً فلابد من الاعتراف بتجرده فضلاً عن الخيال والعقل وقد أوضحنا هذا المذهب في كتابنا العقيدة الالهية في الاسلام.
(3) لا قياماً حلولياً بمعنى كونها اعراضاً لها وانما ذهب هذا المذهب بعض الفلاسفة لحل المشكلة التي اعترضت الباحثين عندما ارادوا ان يوفقوا بين أدلة الوجود الذهني وبين ما اشتهر من كون العلم كيفا وهي ان الصورة المعقولة اذا كانت كيفا فما نتعلقه من الانسان ليس جوهراً لأنه كيف وليس

=


( 131 )

لا بمجرد الاتصال فقط ـ متقوم بعلته ومرتبط الهوية بل فيستحيل انتقاله الى علة اخرى ولو افترضنا ان الصور المدركة اعراض وكيفيات قائمة بالمدرك قياماً حلولياً فيستحيل انتقالها لاستحالة انتقال العرض من موضوع الى موضوع كما برهن عليه في الفلسفة سواء أقلنا بتجردها أو بماديتها بان اعترافنا باشتمال الصور المدركة على الخصائص العامة للمادة من قابلية الانقسام ونحوها.
واذن فالعلم يستحيل انتقاله في حكم المذاهب الفلسفية الدائرة حول الصور العلمية جيمعاً.
واذا لاحظنا النبوة وجدنا انها هي الاخرى أيضاً مما لا يجوز في عرف العقل انتقالها سواء أذهبنا في تفسيرها مذهب بعض الفلاسفة وقلنا انها مرتبة من مراتب الكمال النفسي ودرجة من درجات الوجود الانساني الفاضل الذي ترتفع اليه المهية الانسانية في ارتقاءاتها الجوهرية وتصاعداتها نحو الكمال المطلق أو أخذنا بالمعنى المفهوم للناس من الكلمة واعتبرنا النبوة منصباً إلهياً مجعولاً لا كمنصب الملك والوزير ويكون ذلك التكامل النفسي شرطاً له فالمفهوم الاول يمتنع انتقاله بالضرورة لأنه نفس وجود النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكمالاته الذاتية ، والنبوة بالمعنى الآخر
____________
=
انساناً اذن لان كل انسان جوهر وانما هو مثال. ولما أفلست جميع الحلول التي وضعت لحل الشبهة من انكار الوجود الذهني وتقرير مذهب المثالية. واختيار التعدد وكون العلم عرضاً والمعلوم جوهراً وتفسير الجوهر بأنه الموجود المستقل خارجاً لا ذهناً والانقلاب : اضطر الباحثون المتأخرون الى تقرير ان الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا كيف غير ان الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي اختار في الاسفار انها جوهر بحسب ماهيتها وكيف بالعرض. ويمكن الاعتراض عليه بأن كل ما بالعرض لابد ان ينتهي إلى ما بالذات واذن فلابد ان نفترض كيفاً حقيقياً متحداً مع الصورة لتكون كيفا بالعرض وتنتهي النظرية حينئذٍ بصاحبها إلى أحد أمرين أما الالتزام بتعدد ما في النفس أو الاصطدام بالمشكلة الاولى نفسها ولذا كان الافضل تقرير ان الصورة المدركة من الانسان مثلاً جوهر وليست بعرض اطلاقاً وارتباطها بالنفس ارتباط المعلول بالعلة لا العرض بموضوعه.

( 132 )

يستحيل انتقالها أيضاً لأنها حينئذ أمر اعتباري متشخص الاطراف ولا يعقل تبدل طرف من اطرافه الا بتبدل نفسه وانقلابه إلى فرد آخر فنبوة زكريا مثلاً هي هذه التي اختص بها زكريا ولن يعقل ثبوتها لشخص آخر لانها لا تكون حينئذ تلك النبوة الثابتة لزكريا بل منصباً جديداً أو مقاماً نبوياً حادثاً.
والنظر الاولي في المسألة يقضي بامتناع انتقال العلم والنبوة من دون حاجة إلى هذا التعمق والتوسع واذن فالنتيجة التي يقررها العقل في شوطه الفكري القصير الذي لا يعسر على الخليفة مسايرته فيه هي ان المال وحده الذي ينتقل دون العلم والنبوة.
3 ـ وقد يعترض على تفسير الارث في كلام زكريا بارث المال بأن يحيى عليه السلام لم يرث مال أبيه لاستشهاده في حياته فيلزم تفسير الكلمة بارث النبوة لأن يحيى قد حصل عليها ويكون دعاء النبي حينئذ قد استجيب. ولكن هذا الاعتراض لا يختص بتفسير دون تفسير لأن يحيى عليه السلام كما انه لم يرث مال أبيه كذلك لم يخلفه في نبوته. وما ثبت له من النبوة لم يكن وراثياً وليس هو مطلوب زكريا وانما سأل زكريا ربه وارثاً يرثه بعد موته ولذا قال : واني خفت الموالي من ورائي أي بعد موتي فان كلامه يدل بوضوح على أنه اراد وارثاً يخلفه ولم يرد نبياً يعاصره والا لكان خوفه من الموالي بعد وفاته باقياً ـ فلا بد ـ على كل تقدير ـ ان نوضح الآية على اسلوب يسلم عن الاعتراض وهو أن تكون جملة يرثني ويرث من آل يعقوب ، جواباً للدعاء بمعنى ان رزقتني ولداً يرث لا صفة ليكون زكريا قد سأل ربه ولياً وارثاً. فما طلبه النبي من ربه تحقق وهو الولد وتريثه وتوريثه المال أو النبوة لم يكن داخلاً في جملة ما سأل ربه وانما كان لازماً لما رجاه في معتقد زكريا (ع).
ويختلف تقدير العبارة صفة عن تقديرها جواباً من النواحي اللفظية


( 133 )

في الاعراب لأن الفعل اذا كان صفة مرفوع واذا كان جواباً يتعين جزمه. وقد ورد في قراءته كلا الوجهين.
واذا لاحظنا قصة زكريا في موضعها القرآني الآخر وجدنا انه لم يسأل ربه الا ذرية طيبة فقد قال تبارك وتعإلى في سورة آل عمران : هنالك دعا زكريا ربه قال : ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) .
وافضل الاساليب في فهم القرآن ما كان منه مركزاً على القرآن نفسه وعلى هذا فنفهم من هذه الآية ان زكريا كان مقتصداً في دعائه ولم يطلب من ربه الا ذرية طيبة وقد جمع القرآن الكريم دعاء زكريا في جملة واحدة تارة وجعل لكل من الذرية ووصفها دعوة مستقلة في موضع آخر فكانت جملة هب لي من لدنك ولياً طلباً للذرية وجملة واجعله ربي رضياً دعوة بأن تكون الذرية طيبة. واذا جمعنا هاتين الجملتين ادت نفس المعنى الذي تفيده عبارة هب لي من لدنك ذرية طيبة. وتخرج كلمة ( يرثني ) بعد عملية المطابقة بين الصيغتين القرآنيتين عن حدود الدعاء ولا بد حينئذ ان تكون جواباً له.
4 ـ وعلى ذلك يتضح ان كلمة الارث في الآية الكريمة قد اعطيت حقها من الاستعمال واريد بها ارث المال لا ارث النبوة لأن الشيء انما يصح ان يقع جواباً للدعاء فيما اذا كان ملازماً للمطلوب ومتحققاً عند وجوده دائماً او في أكثر الاحايين. ووراثة النبوة ليست ملازمة لوجود الذرية اطلاقاً بل قد لا تتفق في مئات الملايين من الاشخاص لما يلزم في هذا المقام من كفاءة فذة وكمال عظيم فلا يجوز ان توضع النبوة بجلالها الفريد جواباً لسؤال الله تعإلى ذرية طيبة لأن النسبة بين الذرية الانسانية وبين الجديرين بتحمل اعباء الرسالة السماوية هي النسبة بين الآحاد والملايين واما وراثة المال فيمكن ان تكون جواباً لدعاء زكريا عليه السلام لأن الولد يبقى بعد أبيه على الأكثر فوراثته للمال مما يترتب على وجوده


( 134 )

غالباً واضف إلى ذلك ان زكريا نفسه لم يكن يرى النبوة ملازمة لذريته بل ولا ما دونها من المراتب الروحية ولذا سأل ربه بعد ذلك بأن يجعل ولده رضياً.
5 ـ ولنترك هذا لندرس كلمة الارث في الآية على ضوء تقدير الفعل صفة لا جواب للدعاء. وفي رأيي ان هذا التقدير لا يضطرنا إلى الخروج بنتيجة جديدة بل الارث في كلمة ـ يرثني ـ هو ارث المال في الحالين معاً بلا ريب. والذي يعين هذا المعنى للكلمة على التقدير الجديد أمران : ـ
الاول : ان زكريا عليه السلام لو كان قد طلب من ربه ولداً وارثاً لنبوته لما طلب بعد ذلك ان يكون رضياً لأنه خدل في دعوته الاولى ما هو رافع من الرضا.
الثاني : ان اغفال الارث بالمرة في قصة زكريا الواردة في سورة آل عمران ان لم يدل على ان الارث خارج عن حدود الدعاء فهو في الاقل يوضح ان معنى الارث في الموضع القرآني الآخر للقصة ارث المال لا ارث النبوة لأن زكريا لو كان قد سأل ربه أمرين أحدهما ان يكون ولده طيباً رضياً والآخر ان يرث نبوته لما اقتصر القرآن الكريم على ذكر الوصف الاول الذي طلبه زكريا عليه السلام فانه ليس شيئاً مذكوراً بالاضافة الى النبوة ، ولكي تتفق معي على هذا لاحظ نفسك فيما اذا سألك سائل بستاناً ودرهماً فاعطيته الامرين معاً ثم اردت ان تنقل القصة وتخص الدرهم بالذكر. لا أراك تفعل ذلك الا اذا كنت كثير التواضع ورجحان البستان على الدرهم في حساب القيم المادية دون امتياز النبوة على طيب الذرية في موازين المعنويات الروحية واذن فقصة زكريا التي جاءت في سورة آل عمران. ولم يذكر فيها عن الارث كثير او قليل دليل على ان الارث المذكور في الصورة الاخرى للقصة بمعنى ارث المال لا ارث النبوة


( 135 )

والا لكان من أبرز عناصر القصة التي لا يمكن اغفالها.
6 ـ ولاحظ بعض الباحثين في الآية الكريمة نقطتين تفسران الارث فيها بإرث النبوة.
الاولى ـ قول زكريا عاطفاً على كلمة (يرثني) : ـ ويرث من آل يعقوب ـ فان يحيى لا يرث أموال آل يعقوب ، وانما يرث منهم النبوة والحكمة.
الثاني ـ ما قدمه النبي تمهيداً لدعائه من قوله : وأني خفت الموالي من ورائي حيث ان خوفه انما كان بسبب الاشفاق على معالم الدين والرغبة في بقائها باستمرار النبوة لأن هذا هو اللائق بمقام الانبياء دون الحرص على الاموال والخوف من وصولها الى بعض الورثة.
واعترض أصحابنا على النقطة الاولى بان زكريا عليه السلام لم يسأل ربه ان يرث ولده أموال آل يعقوب جميعاً وانما اراد ان يرث منها فلا يكون دليلا على التفسير المزعوم.
وأمّا النقطة الثانية فهي من القرآئن على التفسير الذي اخترناه لأن الخوف على الدين والعلم من ابناء العم لا معنى له لأن اللطف الالهي لا يترك الناس سدى بلا حجة بالغة فمعالم الدين وكلمة السماء محفوظة بالرعاية الالهية والنبوة مخصوصة أبداً بالأقلين من نوابغ البشر لا يخشى عليها من السطو والنهب واذن فماذا كان يحسب زكريا ربه صانعاً لو لم يمن عليه بيحيى ، أكان يحتمل ان يكلف برسالته مواليه أعني بني عمومته مع عدم كفاءتهم للقيام بواجب الرسالة الالهية وعدم جدارتهم بهذا الشرف او كان يرى ان الله تعالى يهمل أمر خلقه ليكون لهم الحجة عليه ليس هذا ولا ذاك مما يجوزه نبي. وانما خاف زكريا من بني اعمامه على امواله فطلب من الله ولداً رضياً يرثها. ولا جناح عليه في ذلك اذ يحتمل ان


( 136 )

تكون رغبته في صرف امواله عن بني عمومته بسبب أنها لو آلت اليهم لوضعوها في غير مواضعها وانفقوها في المعاصي والوان الفساد لما كان يلوح عليهم من علامات الشر وامارات السوء حتى قيل انهم شرار بني اسرائيل.
وقد حاول ابن أبي الحديد ان يصور وجهاً لخوف زكريا من الموالي على الدين من ناحيتين : ـ
الاولى : عن طريق اصول الشيعة فذكر ان دعوى امتناع مثل هذا الخوف على النبي غير مستقيم على مذهب الشيعة لأن المكلفين قد حرموا بغيبة الامام عندهم الطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والاعياد وهم يقولون في ذلك ان اللوم على المكلفين لانهم قد حرموا انفسهم اللطف فهلا جاز ان يخاف زكريا عليه السلام من تبديل الدين وتغييره وافساد الاحكام الشرعية لأنه انما يجب على الله التبليغ بالرسول الى المكلفين فاذا أفسدوا هم الاديان وبدلوها لم يجب عليه ان يحفظها عليهم لاٌهم هم الذين حرموا انفسهم اللطف.
ولأسجل ملاحظتي على هذا الكلام ثم انتقل بك الى الناحية الثانية فأقول : ان الخوف من انقطاع النبوة انما يصح على اصول الشيعة اذا نشأ عن احتمال افساد الناس لدينهم على نحو لا يستحقون معه ذلك كما هو الحال في زمان غيبة الامام المنتظر صلوات الله عليه لا فيما اذا كان سببه الاطلاع على عدم لياقة جماعة خاصة للنبوة مع استحقاق الناس لها فان ارسال الرسول أو نصب من يقوم مقامه واجب في هذه الصورة على الله تعالى لما أوجبه على نفسه من اللطف بعباده واذن فقصور أبناء العمومة عن نيل المنصب الالهي لا يجوز ان ينتهي بزكريا إلى احتمال انقطاع النبوة وانطماس معالم الدين اذا كان الناس مستحقين للالطاف الالهية. واذا لم يكونوا جديرين بها فمن الممكن انقطاع الاتصال بين


( 137 )

السماء والارض سواء أكان بنو العمومة صالحين للنبوة أو لا وسواه من الله عليه بذرية أو بقي عقيماً. والآية الكريمة تدل على أن الباعث إلى الخوف في نفس زكريا انما هو فساد الموالي لا فساد الناس.
الناحية الثانية : عن طريق تفسير الموالي بالأمراء بمعنى ان زكريا خاف ان يلي بعد موته امراء ورؤساء يفسدون شيئاً من الدين فطلب من الله ولداً ينعم عليه بالنبوة والعلم ليبقى الدين محفوظاً.
ولنا أن نتساءل عما اذا كان هؤلاء الرؤساء الذين اشفق على الدين منهم هم الانبياء الذين يخلفونه أو أنهم أصحاب السلطان الزمني والحكم المنفصل عن السماء. ولا خوف منهم على التقدير الاول اطلاقاً لأنهم انبياء معصومون. واما اذا كانوا ملوكاً فقد يخشى منهم على الدين ولكن ينبغي ان نلاحظ ان وجود النبي حينئذ هل يمنعهم عن التلاعب في الشريعة والاستخفاف بالدستور الالهي اولا فان كان كافياً لوقاية الشريعة وصون كرامتها فلماذا خاف زكريا من اولئك الامراء ما دامت الالطاف الالهية قد ضمنت للنبوة الامتداد في تاريخ الانسانية الواعية وخلود الاتصال بين الأرض والسماء ما بقيت الارض اهلاً للتثقيف السماوي. وان لم يكن وجود النبي كافياً للحراسة المطلوبة فلا يرتفع الخوف من الحاكمين بوجود ولد لزكريا يرث عنه النبوة ما دام النبي قاصراً عن مقاومة القوة الحاكمة وما دام الامراء من الطراز المغشوش مع ان الآية تدل على أن زكريا كان يرى ان خوفه يرتفع فيما اذا من الله عليه بولد رضي يرثه.
ونتيجة هذا البحث ان الارث في الآية هو ارث المال بلا ريب. واذن فبعض الانبياء يورثون وحديث الخليفة يقضي بأن الجميع لا يورثون
فالآية والرواية متعاكسان وكل ما عارض الكتاب الكريم فهو ساقط.


( 138 )

ولا يجوز ان نستثني زكريا خاصة من سائر الانبياء لأن حديث الخليفة لا يقبل هذا الاستثناء وهذا التفريق بين زكريا عليه السلام وغيره والنبوة ان اقتضت عدم التوريث فالأنبياء كلهم لا يورثون ولا نحتمل أن يكون لنبوة زكريا عليه السلام خاصية جعلته يورث دون سائر الانبياء. وما هو ذنب زكريا عليه السلام أو ما هو فضله الذي يسجل له هذا الامتياز. أضف إلى ذلك ان تخصيص كلمة الانبياء الواردة في الحديث والخروج بها عما تستحقه من وضع لا ضرورة له بعد أن كان الحديث قابلاً للتفسير على اسلوب آخر ان لم يكن هو المفهوم الظاهر من الحديث كما اوضحناه سابقاً فهو تفسير على كل حال فلماذا نفسر الحديث بأن تركة النبي لا تورث لنضطر إلى ان نقول بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعني بالانبياء غير زكريا عليه السلام بل لنأخذ بالتفسير الآخر ونفهم من الحديث ان الانبياء ليس لهم من نفائس الدنيا ما يورثونه ونحفظ للفظ العام حقيقته(1).
ونعرف مما سبق ان صيغة الحديث لو كانت صريحة في ما اراده الخليفة لها من المعاني لناقضت القرآن الكريم ومصيرها الاهمال حينئذ وليس في المسألة سبيل إلى اعتبار الحديث مدركاً قانونياً في موضوع التوريث ولذا لم يتفطن الصديق إلى جواب يدفع به اعتراض خصمه عليه بالآية الآنفة الذكر ولم يوفق واحد من أصحابه إلى الدفاع عن موقفه. وليس ذلك الا لأنهم احسوا بوضوح ان الحديث يناقض الآية بمعناه الذي يبرر موقف الحاكمين.
____________
(1) والجملة خبرية وليست انشائية لان انشاء حكم على الانبياء بعد وفاتهم وانقراض ورثتهم لا معنى له وحينئذ فالتخصيص يستلزم مجازية الاستعمال وليس شأن صيغة الحديث شأن الجمل الانشائية التي يكشف تخصيصها عن عدم ارادة الخاص بالارادة الجدية ويقدم لذلك على سائر التأويلات والتجوزات بل هي خبرية والجملة الخبرية اذا خالفت الارادة الاستعمالية فيها الجد والحقيقة كانت كذباً فتخصيصها يستلزم صرفها إلى المعنى المجازي وحينئذ فلا يرجع على تجوز آخر اذا دار الأمر بينهما.
( 139 )

ولا يمكن ان نعتذر عن الخليفة بأنه يجوز اختيار أحد النصين المتناقضين وتنفيذه كما يرتئيه جماعة من علماء الاسلام وقد اختار ان ينفذ مدلول الحديث وذلك لأن المعارض للقرآن باطل بلا ريب لأنه الحق وهل بعد الحق الا الضلال.

* * *

الناحية الثانية : المناقشة التي قامت بين الخليفة والصديقة حول نحلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اياها فدكاً فقد ادعت الصديقة النحلة وشهد بذلك قرينها وأم أيمن فلم يقبل الخليفة دعواها ولم يكتف بشاهديها وطالبها بينة كاملة وهي رجلان او رجل وامرأتان.
1 ـ والنقطة الاولى التي نؤاخذ الصديق عليها هي وقوفه موقف الحاكم في المسألة مع أن خلافته لم تكتسب لوناً شرعياً إلى ذلك الحين على أقل تقدير ولكننا لا نريد الآن ان نضع هذه المؤاخذة قيد الدرس لأن المناقشة على هذا الشكل تبعثنا إلى آفاق واسعة من البحث وتضطرنا إلى نسف الحجر الأساسي لدنيا السياسة في الاسلام وهي عملية لها حساب طويل.
2 ـ والملاحظة الثانية في الموضوع هي ان فدكاً اذا كانت في حيازة الزهراء عليها السلام فلا حاجة لها إلى البينة وفي هذه الملاحظة امران :
أولاً : من هو الذي كانت فدك في حيازته ؟ وهل كانت في يد الزهراء حقاً ؟ قد يمكن ان نفهم ذلك من قول أمير المؤمنين في رسالته الخالدة إلى عثمان بن حنيف : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. فان المفهوم من كلمة أيدينا ان فدكاً كانت في أيدي أهل البيت وقد نصت على ذلك روايات الشيعة.


( 140 )

وحصر ما كان في تلك الأيدي التي عناها الامام بفدك يدل على أنها كانت في حيازة علي وزوجه خاصة ويمنع عن تفسير العبارة بان فدكاً كانت في يد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باعتبار ان حيازته حيازة أهل البيت لأننا نعلم ان رسول الله (ص) كانت في يده أشياء اخرى غير فدك من مختصاته واملاكه.
وثانياً : هل الحيازة دليل على الملكية ؟ والجواب الايجابي عن هذه المسألة مما أجمع عليه المسلمون ولولا اعتبارها كذلك لاختل النظام الاجتماعي للحياة الانسانية.
وقد يعترض على دعوى ان فدكاً كانت في يد الزهراء بانها لم تحتج بذلك ولو كانت في يدها لكفاها ذلك عن دعوى النحلة والاستدلال بآيات الميراث وفي المستندات الشيعية للقضية جواب عن هذا الاعتراض لأنها تنقل احتجاج أهل البيت بذلك على الخليفة غير أننا لا نريد دراسة المسألة على ضوء شيء منها.
ولكن ينبغي أن نلاحظ أن فدكاً كانت أرضاً مترامية الأطراف وليس شأنها شأن التوافه من الاملاك والمختصات الصغيرة التي تتضح حيازة مالكها لها بأدنى ملاحظة. فاذا افترضنا ان فدكاً كانت في يد فاطمة يتعهدها وكيلها الذي يقوم بزراعتها فمن يجب ان يعرف ذلك من الناس غير الوكيل.
ونحن نعلم ان فدكاً لم تكن قريبة من المدينة ليطلع أهلها على شؤونها ويعرفوا من يتولاها فقد كانت تبعد عنها بأيام كما أنها قرية يهودية وليست في محيط اسلامي لتكون حيازة فاطمة لها معروفة بين جماعة المسلمين.
فماذا كان يمنع الزهراء عن الاعتقاد بأن الخليفة سوف يطالبها بالبينة على أن فدكاً في يدها اذا ادعت ذلك كما طالبها على النحلة ما دام


( 141 )

في نظرها ـ مسيراً في الموقف بقوة طاغية من هواه لا تجعله يعترف بشيء.
وكان من السهل في ذلك اليوم ان تبتلع الحوت وكيل فاطمه على فدك أو أي شخص له اطلاع على حقيقة الامر كما ابتلعت أبا سعيد الخدري فلم يرو النحلة وقد حدث بها بعد ذلك كما ورد في طريق الفريقين أو أن تقتله الجن كما قتلت سعد بن عبادة وأراحت الفاروق(1) أو أن يتهم بالردة لأنه امتنع عن تسليم صدقة المسلمين للخليفة كما اتهم مانعوا الزكاة والرافضون لتسليمها له.
3 ـ ولنترك هذه المناقشة لنصل إلى المسألة الأساسية وهي : ان الخليفة هل كان يعتقد بعصمة الزهراء ويؤمن بآية التطهير التي نفت الرجس عن جماعة منهم فاطمة أولاً.
ونحن لا نريد ان نتوسع في الكلام على العصمة واثباتها للصديقة بآية التطهير لأن موسوعات الامامية في فضائل أهل البيت تكفينا هذه المهمة ولا نشك في أن الخليفة كان على علم بذلك لأن السيدة عائشة نفسها كانت تحدث بنزول آية التطهير في فاطمة وقرينها وولديها(2) وقد صرحت بذلك صحاح الشيعة والسنة وكان رسول الله (ص) كلما خرج إلى الفجر بعد نزول الآية يمر ببيت فاطمة ويقول الصلاة يا أهل البيت انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ، وقد استمر على هذا ستة أشهر(3).
____________
(1) وقد جاءت الرواية مصرحة بان عمر ارسل رسولا إلى سعد ليقتله ان لم يبايع فلما أبى سعد قتله الرسول راجع عقد الفريد ج3 ص63.
(2) راجع صحيح مسلم ج2 ص331.
(3) رواه الامام أحمد في مسنده ج3 ص295 عن أنس وأخرجه الحاكم أيضاً وشهد بصحته.

( 142 )

واذن فلماذ طلب الخليفة بينة من فاطمة على دعواها وهل تحتاج الدعوى المعلوم صدقها إلى بينة ؟
قال المعترضون على أبي بكر : ان البينة انما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى والعلم اقوى منها فاذا لزم الحكم للمدعى الذي تقوم البينة على دعواه يجب الحكم للمدعى الذي يعلم الحاكم بصدقه.
والاحظ ان في هذا الدليل ضعفاً مادياً لأن المقارنة لم تقم فيه بين البينة وعلم الحاكم بالاضافة إلى صلب الواقع وانما لوحظ مدى تأثير كل منهما في نفس الحاكم وكانت النتيجة حينئذ ان العلم أقوى من البينة لأن اليقين أشد من الظن. وكان من حق المقارنة ان يلاحظ الاقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في كل مخاصمة. ولا يفضل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة لأن الحاكم قد يخطأ كما ان البينة قد تخطأ فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنة للزلل والاشتباه.
ولكن في المسألة أمر غفل عنه الباحثون أيضاً وهو أن ما يعلمه الخليفة من صدق الزهراء يستحيل ان لا يكون حقيقة ، لأن سبب علمه بصدقها ليس من الاسباب التي قد تنتج توهما خاطئاً وجهلاً مركباً وانما هو قرآن كريم دل على عصمة المدعية. وعلى ضوء هذه الخاصية التي يمتاز بها العلم بصدق الزهراء يمكننا ان نقرر أن البينة التي قد تخطأ اذا كانت دليلاً شرعياً مقتضياً للحكم على طبقه فالعلم الذي لا يخطىء وهو ما كان بسبب شهادة الله تعإلى بعصمة المدعي وصدقه أولى بأن يكتسب تلك الصفة في المجالات القضائية .
وعلى اسلوب آخر من البيان نقول : ان القرآن الكريم لو كان قد نص على ملكية الزهراء لفدك وصدقها في دعوى النحلة لم يكن في المسألة متسع للتشكيك لمسلم او مساغ للتردد لمحكمة من محاكم القرآن ومن الواضح أن نصه على عصمة الزهراء في قوة النص على النحلة


( 143 )

لأن المعصوم لا يكذب فاذا ادعى شيئاً فدعواه صائبة بلا شك ولا فرق بين النص على العصمة والنص على النحلة فيما يتصل بمسألتنا سوى ان ملكية الزهراء لفدك هي المعنى الحرفي للنص الثاني والمعنى المفهوم من النص الاول عن طريق مفهومه الحرفي .
4 ـ ونقول من ناحية أخرى : ان احداً من المسلمين لم يشك في صدق الزهراء ولم يتهمها بالافتراء على أبيها وانما قام النزاع بين المتنازعين في أن العلم بصواب الدعوى هل يكفي مدركاً للحكم على وفقها اولا ؟ فلندع آية التطهير ونفترض ان الخليفة كان كأحد هؤلاء المسلمين وعلمه بصدق الزهراء حينئذ ليس حاوياً على الامتياز الذي أشرنا اليه في النقطة السابقة بل هو علم في مصاف سائر الاعتقادات التي تحصل بأسباب هي عرضه للخطأ والاشتباه ولا يدل حينئذ جعل البينة دليلاً على مشاركته لها في تلك الخاصية لأنه ليس أولى منها بذلك كما عرفنا سابقاً.
ولكن الحاكم يجوز له مع ذلك ـ أن يحكم على وفق علمه كما يجوز له أن يستند في الحكم إلى البينة بدليل ما جاء في الكتاب الكريم مما يقرر ذلك اذ قال الله تعالى في سورة النساء : ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ) وقال في سورة الاعراف : (ممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) أي يحكمون.
وللحق والعدل ملاحظتان : ـ
(احداهما) الحق والعدل في نفس الامر والواقع.
(والاخرى) الحق والعدل بحسب الموازين القضائية فالحكم على وفق البينة حق واعتدال في عرف هذه الملاحظة وان اخطأت ويعاكسه الحكم على وفق شهادة الفاسق فانه ليس حقاً ولا عدلاً وان كان الفاسق صادقاً في خبره.
( 144 )

والمعنى بالكلمتين في الآيتين الكريمتين ان كان هو المعنى الاول للحق والعدل كانتا دالتين على صحة الحكم بالواقع من دون احتياج إلى البينة فاذا احرز الحاكم ملكية شخص لمال صح له أن يحكم بذلك لأنه يرى انه الحق الثابت في الواقع والحقيقة العادلة فحكمه بملكية ذلك الشخص للمال مصداق في عقيدته للحكم بالحق والعدل الذي أمر به الله تعالى. واما اذا فسرنا الكلمتين في الآيتين بالمعنى الثاني اعني ما يكون حقاً وعدلاً بحسب مقاييس القضاء فلا يستقيم الاستدلال بالنصين القرآنيين على شيء في الموضوع لأنهما لا يثبتان حينئذ ان أي قضاء يكون قضاء بالحق وعلى طبق النظام وأي قضاء لا يكون كذلك.
ومن الواضح ان المفهوم المتبادر من الكلمتين هو المعنى الاول دون الثاني وخاصة كلمة الحق فانها متى وصف بها شي ء فهم ان ذلك الشيء أمر ثابت في الواقع فالحكم بالحق عبارة عن الحكم بالحقيقة الثابتة. ويدل على ذلك الاسلوب الذي صيغت عليه الآية الاولى فانها تضمنت أمراً بالحكم بالعدل وواضح جداً أن تطبيق التنظيمات الاسلامية في موارد الخصومة لا يحتاج إلى أمر شرعي لأن نفس وضعها قانوناً للقضاء معناه لزوم تطبيقها فلا يكون الامر بالتزام القانون الا تكراراً أو تنبيها وليس من حقيقة الامر في شيء واما الأمر بالحكم على طبق الحقائق الواقعية سواء أكان عليها دليل من بينة وشهادة أولا فهو من طبيعة الامر بالصميم لانه تقرير جديد يوضح ان الواقع هو ملاك القضاء الاسلامي والمحور الذي ينبغي ان يدور عليه دون أن يتقيد بالشكليات والادلة الخاصة(1).
____________
(1) واذا أردنا أن نترجم هذا المعنى إلى اللغة العلمية قلنا : ان الامر على التقدير الثاني يكون ارشادياً اذ لا ملاك للامر المولوي في المقام حيث ان المأمور اتباعه هو بنفسه كاف للبعث والتحريك فظهور الامر في المولوية يقضي بصرف لفظة العدل إلى المعنى الاول لجواز الامر مولوياً باتباع الواقع فيما اذا دلت عليه البينة خاصة وامكان الامر باتباعه مطلقاً.

=


( 145 )

واذن فالآيتان دليل على اعتبار علم الحاكم في قوانين القضاء الاسلامية(1).
واضف إلى ذلك ان الصديق نفسه كان يكتفي كثيراً بالدعوى المجردة عن البينة فقد جاء عنه في صحيح البخاري(1) ان النبي (ص) لما مات جاء لأبي بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال. من كان له علي دين أو كانت قبله عدة فليأتنا قال جابر : وعدني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يده ثلاث مرات فعد في يدي خمسمأة ثم خمسمأة ثم خمسمأة.
وروي في الطبقات(2) عن أبي سعيد الخدري انه قال : سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : من كانت له عدة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فليأت ؟ فيأتيه رجال فيعطيهم فجاء أبو بشير المازني فقال : ان رسول الله (ص) قال يا أبا بشير اذا جاءنا شيء فأتنا. فاعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً فوجدوها الفاً وأربعمائة درهم.
____________
=
وأنا اعتذر عن عدم استعمال الاصطلاحات العلمية الدائرة في مباحث المنطق والفلسفة والفقه والاصول ـ الا حين اضطر إلى ذلك اضطراراً ـ لأنني أحاول ان تكون بحوث هذا الفصل مفهومة لغير المتخصصين في تلك العلوم.
(1) ان قيل : ان الحديث الوارد عن أهل البيت فيمن قضى بالحق وهو لا يعلم الحكم باستحقاقه للعقاب يدل على عدم كون القضاء من آثار الواقع فيدور الامر بين صرف هذه الرواية عن ظهورها في عدم نفوذ الحكم وحمل العقاب فيها على التجري وبين صرف الكلمتين إلى المعنى الثاني قلت : لا وجه لكلا التأويلين بل الرواية المذكورة مقيدة للآيات بصورة العلم فيكون موضوع القضاء مركباً من الواقع والعلم به وبتعبير آخر انه من أثار الواقع الواصل.
(2) ج3 ص180.
(3) ج4 ص134.

( 146 )

فاذا كان الصديق لا يطلب أحداً من الصحابة بالبينة على الدين أو العدة فكيف طلب من الزهراء بينة على النحلة.
وهل كان النظام القضائي يخص الزهراء وحدها بذلك أو أن الظروف السياسية الخاصة هي التي جعلت لها هذا الاختصاص ؟
ومن الغريب حقاً أن تقبل دعوى صحابي لوعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمبلغ من المال وترد دعوى بضعة رسول الله (ص) لانها لم تجد بينة على ما تدعيه.
واذا كان العلم بصدق المدعي مجوزاً لاعطائه ما يدعيه فلا ريب أن الذي لا يتهم جابراً أو أبا بشير بالكذب يرتفع بالزهراء عن ذلك أيضاً.
واذا لم يكن اعطاء الخليفة لمدعي العدة ما طلبه على أساس الأخذ بدعواه وانما دعاه احتمال صدقه إلى اعطائه ذلك وللامام ان يعطي أي شخص المبلغ الذي يراه فلماذا لم يحتط بمثل هذا الاحتياط في مسألة فدك.
وهكذا انجز الصديق وعود رسول الله (ص) التي لم تقم عليها بينة وأهمل هباته المنجزة التي ادعتها سيدة نساء العالمين وبقي السؤال عن الفارق بين الديون والعدات وبين نحلة بلا جواب مقبول.
5 ـ ولنستانف مناقشتنا على أساس جديد وهو : ان الحاكم لا يجوز له الحكم على طبق الدعوى المصدقة لديه اذا لم يحصل المدعى على بينة تشهد له ونهمل النتيجة التي انتهينا اليها في النقطة السابقة ونسأل على هذا التقدير.
أولا ـ عما منع الصديق من التقدم بالشهادة على النحلة اذا كان عالماً بصدق الحوراء سلام الله عليها اذ يضم بذلك شهادته إلى شهادة علي وتكتمل بهما البينة ويثبت الحق واعتباره لنفسه حاكماً لا يوجب سقوط


( 147 )

شهادته لأن شهادة الحاكم معتبرة وليست خارجة عن الدليل الشرعي الذي أقام البينة مرجعاً في موارد الخصومة.
وثانياً ـ عن التفسير المقبول لاغفال الخليفة للواقع المعلوم لديه بحسب الفرض. ولاجل توضيح هذه النقطة يلزمنا أن نفرق بين أمرين اختلطا على جملة الباحثين في المسألة :
( أحدهما ) الحكم للمدعي بما يدعيه.
( والآخر ) تنفيذ آثار الواقع واذا افترضنا ان الاول محدود بالبينة فالآخر واجب على كل تقدير لانه ليس حكماً ليحدد بحدوده فاذا علم شخص بأن بيته للآخر فسلمه لمالكه لم يكن هذا حكماً بملكيته له وانما هو اجراء للاحكام التي نص عليها القانون. كما ان الحاكم نفسه اذا ادعى شخص عنده ملكية بيت وكان في حيازته او دل الاستصحاب على الملكية المدعاة فاللازم عليه وعلى غيره من المسلمين ان يعتبروا هذا البيت كسائر ممتلكات ذلك المدعي وليس معنى هذا ان الحاكم حكم بأن البيت ملك لمدعيه مستنداً إلى قاعدة اليد أو الاستصحاب وان المسلمين اخذوا انفسهم باتباع هذا الحكم بل لو لم يكن بينهم حاكم للزمهم ذلك وليس الاستصحاب أو اليد من موازين الحكم في الشريعة وانما يوجبان تطبيق أحكام الواقع.
والفارق بين حكم الحاكم بملكية شخص لمال أو فسقه ونحوهما من الشؤون التي تتسع لها صلاحيات الحاكم وبين تطبيق آثار تلك الامور هو : امتياز الحكم بفصل الخصومة ونعني بهذا الامتياز ان الحاكم اذا أصدر حكماً حرم نقضه على جميع المسلمين ولزم اتباعه من دون نظر إلى مدرك آخر سوى ذلك الحكم.
وأما تطبيق القاضي لآثار الملكية عملياً بلا حكم فلا يترتب عليه


( 148 )

ذلك المعنى ولا يجب على كل مسلم متابعته واجراء تلك الآثار كما يجريها الا اذا حصل له العلم بذلك كما حصل للحاكم.
والنتيجة : ان الخليفة اذا كان يعلم بملكية الزهراء لفدك فالواجب عليه أن لا يتصرف فيها بما تكرهه ولا ينزعها منها اجاز له أن يحكم على وفق علمه أولا. ولم يكن في المسألة منكر ينازع الزهراء ليلزم طلب اليمين منه واستحقاقه للمال اذا اقسم لأن الاموال التي كانت تطالب بها الزهراء اما ان تكون لها أو للمسلمين. وقد افترضنا ان أبا بكر هو الخليفة الشرعي للمسلمين يومئذ واذن فهو وليهم المكلف بحفظ حقوقهم وأموالهم فاذا كانت الزهراء صادقة في رأيه ولم يكن في الناس من ينازعها فليس للخليفة ان ينتزع فدكاً منها وتحديد الحكم بالبينة خاصة انما يحرم الحكم ولا يجيز انتزاع الملك من صحابه.
واذن فعدم جواز حكم الحاكم على وفق علمه لا يخفف من صعوبة الحساب ولا يخرج الخليفة ناجحاً من الامتحان.

( محمّد باقر الصدر )