الفهرس العام



بسم الله الرحمن الرحيم




تصدير
حمداً لله وشكراً، وصلاة وسلاماً على محمد خير البشر وآله الهداة.
أمليت هذه (المعتقدات)، وما كان القصد منها إلاّ تسجيل خلاصة ما توصَّلت إليه من فهم المعتقدات الاسلامية على طريقة آل البيت عليهم السلام.
وقد سجلت هذه الخلاصات مجرّدة عن الدليل والبرهان، ومجردة عن النصوص الواردة عن الاَئمة فيها على الاَكثر؛ لينتفع بها المبتدئ والمتعلّم والعالم، وأسميتها «عقائد الشيعة»(1) وغرضي من الشيعة الامامية الاثني عشرية خاصة.
وكان إملاؤها سنة 1363 هـ بدافع إلقائها محاضرات دورية في كلية منتدى النشر الدينية(2)؛ للاستفادة منها تمهيداً للاَبحاث الكلامية العالية.
____________
(1) وهو الاسم الذي اتّخذه المؤلّف (قدس سره) عنوانا لكتابه في طبعته الاولى.
(2) وهي مؤسسة الشيخ المظفر (قدّس سرّه) التي سمّيت فيما بعد بـ «كلية الفقه» في النجف الاَشرف، ولم تزل قائمة بعد إلحاقها بالجامعة المستنصرية عام 1970م وبجامعة الكوفة عام 1987 مع عدّة محاولات لتغيير منهجها التعليمي وسيرها الدراسي ، ثم الغيت الآن.

( 8 )
وفي حينه قد توفقت لإلقاء الكثير منها، وما كنت يومئذ قد أعددتها مؤلَّفاً يُنشر ويُقرأ، فأُهملت في أوراق مبعثرة شأن كثير من المحاضرات والدروس التي أمليتها في تلك الظروف، لا سيّما فيما يتعلّق بالعقائد وعلم الكلام.
غير أنّه في هذا العام ـ وبعد مضي ثمان سنوات عليها ـ رغَّب إليَّ الفاضل النبيل محمد كاظم الكتبي(1)ـ رعاه الله تعالى ـ في تجديد النظر فيها، وجمعها مؤلَّفة في رسالة مختصرة موصولة الحلقات؛ لغرض نشرها وتعميم الفائدة منها ، ولتدرأ كثيراً من الطعون التي أُلصقت بالاِمامية، ولا سيّما أنّ بعض كتّاب العصر في مصر وغيرها لا زالوا مستمرين يحملون بأقلامهم الحملات القاسية على الشيعة ومعتقداتها، جهلاً أو تجاهلاً بطريقة آل البيت في مسالكهم الدينية، وبهذا قد جمعوا إلى ظلم الحق وإشاعة الجهل بين قرّاء كتبهم والدعوة إلى تفريق كلمة المسلمين، وإثارة الضغائن في نفوسهم والاَحقاد في قلوبهم، بل تأليب بعضهم على بعض... ولا يجهل خبير مقدار الحاجة ـ اليوم خاصّة ـ إلى التقريب بين جماعات المسلمين المختلفة ودفن أحقادهم، إِن لم نستطع أن نوحِّد صفوفهم وجمعهم تحت راية واحدة.
أقول ذلك وإِني لشاعر ـ مع الاَسف ـ أنّا لا نستطيع أن نصنع شيئاً بهذه المحاولات مع من جرَّبنا من هؤلاء الكتّاب، كالدكتور أحمد أمين وأضرابه من دعاة التفرقة، فما زادهم توضيح معتقدات الامامية إلاّ عناداً، وتنبيههم على خطئهم إلاّ لجاجاً.

وما يهمُّنا من هؤلاء وغير هؤلاء أن يستمرّوا على عنادهم مصرِّين، لولا
____________
(1) وهو صاحب المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف الاَشرف، وقد قام بنشر الكتاب لاَول مرّة على نفقته.

( 9 )
خشية أن ينخدع بهم المغفَّلون، فتنطلي عليهم تلك التخرُّصات، وتورِّطهم تلك التهجّماتُ في إثارة الاَحقاد والحزازات.
ومهما كان الاَمر، فإني في تقديمي هذه الرسالة للنشر أملي أن يكون فيها ما ينفع الطالب للحق، فأكون قد ساهمت في خدمة اسلامية نافعة، بل خدمة انسانية عامة، فوضعتها في مقدمة وفصول، ومنه تعالى وحده أستمد التوفيق.

محمَّد رضا المظفر
النجف الاَشرف ـ العراق
27 جمادى الآخرة 1370 هـ






( 10 )

1 ـ عقيدتنا في النظر والمعرفة

نعتقد: أن الله تعالى لمّا منحنا قوة التفكير، ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفكَّر في خلقه، وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى: (سَنُرِيهمْ ءايتنَا في الآفاقِ وَفي أنفُسِهِم حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنّهُ الحَقُّ)(1).
وقد ذم المقلَّدين لآبائهم بقوله تعالى: (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفَينا عَليهِ آباءَنا أَوَ لَو كانَ آباؤُهُم لا يَعْقِلونَ شَيئاً)(2).
كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: (إنْ يَتَّبِعُونَ إلاّ الظنَّ)(3)‌.
وفي الحقيقة انّ الذي نعتقده: إنّ عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون(4)كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدّعي
____________
(1) فصلت 41: 53.
(2) البقرة 2: 170.
(3) الانعام 6: 116.
(4) قد أفاض علماء الاسلام في مسألة النظر التي ترتكز عليها نظرية المعرفة، حيث أجمع أئمة المسلمين على وجوب معرفة الله تعالى؛ لاَنّها كمال الدين وأول الواجبات، ويكفينا هنا ما أفاده العلاّمة الحلي (قدّس سره) في شرح الباب الحادي عشر بقوله: (أجمع العلماء كافة على وجوب معرفة الله تعالى، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصح عليه وما يمتنع عنه، والنبوّة، والامامة، والمعاد بالدليل لا بالتقليد)، وممّا دلّ على أهمية هذا الموضوع كثرة المصنّفات في هذا العلم الشريف عند كافة المسلمين، وبالامكان حصر الاَدلّة على وجوب النظر والمعرفة في وجوه: ـ
الوجه الاَول:الدليل العقلي : ومؤدّاه دفع الخوف الحاصل الذي يستوجبه العقل لتحقيق

=


( 11 )
النبوة وفي معجزته، ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطراً.
وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتّباع العلم والمعرفة فانما جاء مقرِّراً لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبِّهاً للنفوس على ما جُبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتِّحاً للاَذهان، وموجِّهاً لها على ما تقتضيه طبيعة العقول(1).

____________

=
الطمأنينة «وعملية البحث والاستدلال ـ حيث تكون ممكنة ـ إن هي إلاّ إنارة استكشافية للواقع الذي نريد السعي بالعمل على تجنّب مخاطره ونيل منافعه، وذلك لاَن الاستدلال على المعتقد دافع للخوف، ودفع الخوف واجب عقلي».
الوجه الثاني: الدليل الأخلاقي: وهو دليل أن شكر المنعم واجب، ولا يتم إلا بالمعرفة، والوجوب هنا من حيث استحقاق الذم عند العقلاء بتركه، ولان الشكر لا بد أن يتناسب مع حال المشكور، والعقلاء من مختلف المذاهب والاتجاهات يقرون القانون الأخلاقي، فالبحث والمعرفة واجبان للقيام بهذا الواجب الأخلاقي.
الوجه الثالث: الدليل النقلي: وهو إنما يأتي بعد الأدلة المتقدمة؛ لنستقرئ منه الدليل الشرعي الذي يفرضه الدين، كما تحكيه مصادر التشريع الاسلامي في الآيات القرآنية الكريمة، والسنة المطهرة وهو كثيرة.
وبالاضافة إلى ما تقدم من اتجاه علماء المسلمين فان معظم الفلاسفة من غير المسلمين، وسواء بذلك أكانت أسس البناء المعرفي عندهم مبنية على البديهيات العقلية أم المعارف التجريبية، فنقطة الالتقاء عندهم: (تحصيل المعرفة بالدليل الصحيح).
انظر: البهادلي الشيخ أحمد: محاضرات في العقيدة الاسلامية: 47 ـ 52.
(1) ومن ذلك قوله تعالى: ( قُل سِيُروا في الاَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ بَدأ الخَلْقَ ) العنكبوت 29: 20.
وقوله تعالى: ( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمواتِ والاََرْضِ ) يونس 10: 101.
وقوله تعالى: ( أفَلاَ يَنْظُروُنَ إلى الاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وإلى الَّسماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وإلى الجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وإلى الاَرضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فذَكِّر إنَّمَا أنْتَ مُذكِّرٌ )... الغاشية 88: 17 إلى 21.

=


( 12 )
فلا يصح ـ والحال هذه ـ أن يهمل الانسان نفسه في الاُمور الاعتقادية، أو يتّكل على تقليد المربين، أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه ـ بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية ـ أن يفحص ويتأمَّل، وينظر ويتدبَّر في اُصول اعتقاداته(1)المسماة بأصول الدين التي أهمّها: التوحيد، والنبوة، والاِمامة، والمعاد.
ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الاَُصول فقد ارتكب شططاً، وزاغ عن الصراط المستقيم، ولا يكون معذوراً أبداً.
وبالاختصار عندنا هنا ادّعاءان:
الاَول: وجوب النظر والمعرفة في اُصول العقائد، ولا يجوز تقليد الغير فيها.
الثاني: إنّ هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيّداً بها بعد دلالة العقل.
وليس معنى الوجوب العقلي إلاّ إدراك العقل لضرورة المعرفة، ولزوم التفكير والاجتهاد في اُصول الاعتقادات.

____________

=
وقوله تعالى: ( أو لم يتفكروا في أنفسهم) الروم 30: 8.
قوله تعالى: ( فاعلم أنه لا ءاله إلا الله ) محمد 47: 19.
وقوله تعالى: ( أم اتخذوا من دونه ءالهة قل هاتوا برهنكم ) الانبياء 21: 24.
(1) ليس كلّ ما ذكر في هذه الرسالة هو من أُصول الاعتقادات؛ فإنّ كثيراً من الاعتقادات المذكورة، كالقضاء والقدر، والرجعة، وغيرهما لا يجب فيها الاعتقاد ولا النظر، ويجوز الرجوع فيها إلى الغير المعلوم صحة قوله، كالاَنبياء والاَئمّة، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل كان اعتقادنا فيها مستنداً إلى ما هو المأثور عن أئمتنا عليهم السلام : من صحيح الاَثر القطعي. (منه قدس سره).

( 13 )

2 ـ عقيدتنا في التقليد بالفروع

أمّا فروع الدين ـ وهي أحكام الشريعة المتعلِّقة بالاَعمال ـ فلا يجب فيها النظر والاجتهاد، بل يجب فيها ـ إذا لم تكن من الضروريّات في الدين الثابتة بالقطع، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة ـ احد أمور ثلاثة:
إمّا أن يجتهد وينظر في أدلة الاَحكام، إذا كان أهلاً لذلك(1).
وإمّا أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط(2).
وإمّا أن يقلِّد المجتهد الجامع للشرائط(3)، بأن يكون من يقلِّده:
____________
(1) الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد، وهو بذل الوسع للقيام بعمل ما، وهو في اصطلاح فقهائنا: (استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة)، وقد ورد أنّ الاَنسب في التعبير عنه: (ملكة تحصيل الحجج على الاَحكام الشرعية، أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية)، والمجتهد مطلق ومتجزئ ، فالمجتهد المطلق هو: (الذي يتمكّن من الاستنباط في جميع أنواع الفروع الفقهية)، والمجتهد المتجزئ هو: (القادر على استنباط الحكم الشرعي في بعضها دون بعض).
لمراجعة ما يتعلّق بتحديد هذا المصطلح بمفهومه العام أو الخاص، ومعرفة أوجه الاختلاف والترجيح يراجع: الحجّة محمد تقي الحكيم: الاُصول العامّة للفقه المقارن من 561 إلى 565، المسائل المنتخبة المطابقة لفتاوى آية الله العظمى السيد السيستاني ص 9 و 10.
(2) الاحتياط: وهو العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول، وهذا هو الاحتياط المطلق، ويقابله الاحتياط النسبي كالاحتياط بين فتاوى مجتهدين يُعلم إجمالاً بأعلميّة أحدهم. المصدر السابق ص 10 و14.
(3) التقليد: تطابق العمل مع فتوى المجتهد الذي يكون قوله حجّة في حقه فعلاً مع إحراز مطابقته لها. والمقلِّد قسمان:
1ـ من ليست له أية معرفة بمدارك الاحكام الشرعية.
2ـ من له حظ من العلم بها ومع ذلك لا يقدر على استنباط. المصدر السابق ص9.

( 14 )
عاقلاً، عادلاً «صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه»(1).
فمن لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ثم لم يقلِّد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تُقبل منه، وإن صلّى وصام وتعبَّد طول عمره، إلاّ إذا وافق عمله رأي من يقلِّده بعد ذلك، وقد أتّفق له أنّ عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى(2).

____________
(1) تفسير العسكري: 300، الاحتجاج: 2|511 ح337.
(2) أورد العلماء الاَعلام في مقدمة رسائلهم العملية، المتضمنة لفتاواهم في باب التقليد ما يغني تفصيل هذه المسألة (حيث يجب على كل مكلف لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يكون في جميع عباداته، ومعاملاته، وسائر أفعاله وتروكه، مقلداً أو محتاطاً، إلاّ أن يحصل له العلم بأنّه لا يلزم من فعله، أو تركه مخالفة لحكم الزامي ولو مثل حرمة التشريع، أو يكون الحكم من ضروريات الدين أو المذهب، كما في بعض الواجبات والمحرمات وكثير من المستحبات والمباحات، ويحصل له العلم الوجداني أو الاطمئنان الحاصل من المناشيء العقلائية، كالشياع، وإخبار الخبير المطلّع عليها بكونه منها).
انظر: منهاج الصالحين الجزء الأول من فتاوى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله ص9.

( 15 )

3 ـ عقيدتنا في الاجتهاد

نعتقد: أنّ الاجتهاد في الاَحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الامام(1)، بمعنى أنّه يجب على كلّ
____________
(1) إنّ الاِمام محمدً المهدي ابن الامام الحسن العسكري عليهما السلام ـ وهو خاتمة الاَئمة الاثني عشر ـ كانت له غيبتان:
الاَولـى: تسمـى بالـغيبة الصغرى: ابتدأت في السنة التي توفّي فيها والده الامام العسكري عليه السلام عام 260 هـ، وانتهت عام 329 هـ وكان له فيها سفراء أربعة هم:
أولاً: عثمان بن سعيد العمري الاسدي، وقد كان وكيلاً للامام الهادي، ثم للاِمام العسكري، ثم للامام محمد المهدي عليهم السلام.
ثـانياً: مـحمد بـن عثـمان بن سعيد العمري الاسدي، حيث قام بأمر السفارة بعد وفاة أبيه مدّة تقارب الاَربعين عاماً حتى وفاته عام 305 هـ.
ثالثاً: الحسين بن روح، حيث قام بأعباء السفارة المقدّسة منذ وفاة محمد بن عثمان العمري حتى وفاته عام 326 هـ.
رابعاً: علي بن محمد السمري، وهو آخر السفراء الاَربعة، وقد قام بسفارته لمدّة ثلاث سنوات انتهت بوفاته في 15 شعبان 329 هـ.
والمعروف أنّ هؤلاء السفراء الاَربعة دفنوا بأجمعهم ـ بعد وفاتهم ـ في مدينة بغداد، ومشاهدهم معلومة مشهورة إلى يومنا الحاضر.
والثانية: الغيبة الكبرى: ابتدأت بتاريخ 15 شعبان 329 هـ بوفاة السفير الرابع، الذي قال عندما سئل عمن يخلفه بهذا الاَمر: (لله أمر هو بالغه) وفيه بيان لما أعلمه به الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه ببداية الغيبة الكبرى المستمرة إلى يومنا هذا، حيث اصبحت نيابة الاِمام في عصر غيبته موكولة إلى المجتهد الجامع للشرائط المبسوطة في كتب الفقه.
وفي ضوء ما سبق من تعريف الاجتهاد نجد أنّ عملية الاستنباط التي تعني (تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً) وتأتي ضرورة الاجتهاد لبداهة أنّ الانسان ـ بحكم تبعيته للشريعة المقدّسة، ووجوب امتثال أحكامها ـ ملزم بتحديد موقفه العملي منها، ولمّا لم تكن أحكام الشريعة ـ غالباً ـ من البداهة والوضوح بدرجة تغني عن إقامة

=


( 16 )
مسلم في كلّ عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين، ويكتفون بمن تصدّى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط، فيقلِّدونه، ويرجعون إليه في فروع دينهم.
ففي كلّ عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم، فإنْ وجدوا من بينهم من تبرَّع بنفسه، وحصل على رتبة الاجتهاد ـ التي لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم ـ وكان جامعاً للشرائط التي تؤهّله للتقليد، اكتفوا به وقلّدوه، ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم.
وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة وجب عليهم أن يحصِّل كل واحد رتبة الاجتهاد، أو يهيؤا من بينهم من يتفرَّغ لنيل هذه المرتبة، حيث يتعذَّر عليهم جميعاً السعي لهذا الاَمر أو يتعسَّر.
ولا يجوز لهم أن يقلِّدوا من مات من المجتهدين(1).

____________

=
الدليل، فليس من المعقول أن يحرم الناس جميعاً تحديد الموقف العملي تحديداً استدلالياً، ويحجر عليهم النظر في الاَدلّة التي تحدّد موقفهم تجاه الشريعة، فعملية الاستنباط إذن ليست جائزة فحسب، بل من الضروري أن تمارس، وهذه الضرورة تنبع من دافع تبعية الانسان للشريعة، والنزاع في ذلك على مستوى النزاع في البديهيات، وقد مرّت ـ كلمة الاجتهاد بمصطلحات عديدة في تاريخها بحيث ألقت ظلال تلك المصطلحات عليها، وأصبحت مثاراً للاختلاف نتيجة الغموض والتشويش، ولم تستقر في مدلولها اليوم حتى تجاوزت مراحل من التطورات في مفهوم اصطلاحها.
انظر: المعالم الجديدة للاصول: السيد الشهيد الصدر (قدس سره): 23 وما بعدها. وللمزيد من الاطلاع على ما يخص الغيبة راجع تاريخ الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر: 395 الفصل الثالث (السفراء الأربعة حياتهم ونشاطهم).
(1) تقليد المجتهد الميت قسمان:
1 ـ ابتدائي.
2 ـ بقائي.
والابتدائي: هو أن يقلد المكلف مجتهداً ميتاً من دون أن يسبق منه تقليده حال حياته.

=


( 17 )
والاجتهاد هو: النظر في الاَدلّة الشرعية لتحصيل معرفة الاَحكام الفرعية التي جاء بها سيِّد المرسَلين صلّى الله عليه وآله، وهي لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر بتغيّر الزمان والاَحوال «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1).
والاَدلّة الشرعية هي: الكتاب الكريم، والسنَّة، والاجماع، والعقل، على التفصيل المذكور في كتب اُصول الفقه.
وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيّأ إلاّ لمن جد واجتهد، وفرَّغ نفسه، وبذل وسعه لتحصيلها(2).

____________

=
وهذا لا يجوز، ولو كان الميت أعلم من المجتهدين الأحياء.
والبقائي: هو أن يقلد مجتهداً معيناً شطراً من حياته ويبقى على تقليد ذلك المجتهد بعد موته. وهذا يجوز إذا كان المجتهد الميت أعلم من الأحياء أو إذا لم يعلم ـ ولو إجمالاً ـ بمخالفة فتوى المجتهد الميت لفتوى الحي في المسائل التي هو في معرض الابتلاء بها .
ولزيادة الاطلاع، راجع: العروة الوثقى: 1/ 17 ـ 18، المسائل المنتخبة للسيد السيستاني: 13 مسألة (12، 13، 14).
(1) الكافي: 1|58 ح19، المحاسن: 1|420 ح963.
(2) فيما يحتاج إليه المجتهد من العلوم، تسعة؛ ثلاثة من العلوم الاَدبية: وهي: الاَول: علم اللغة، والثاني: علم الصرف، والثالث: علم النحو.
وثلاثة من المعقولات: وهي: الاول: علم الاصول، والثاني: علم الكلام، والثالث: علم المنطق.
وثلاثة من المنقولات: وهي: الاول: علم الاصول، والثاني: علم الكلام، والثالث: علم المنطق.
وثلاثة من المنقولات: وهي: الاَول: العلم بتفسير آيات الاَحكام في القرآن الكريم، والثاني: العلم بالاَحاديث المتعلّقة بالاَحكام، والثالث: العلم بأحوال الرواة في الجرح والتعديل للمزيد من التفاصيل راجع: الوافية في اُصول الفقه للفاضل التوني: 250 ـ 290.
القرآن والعقيدة للسيد مسلم حمود الحلي: 248 ـ 252.

( 18 )

4 ـ عقيدتنا في المجتهد

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط: إنّه نائب للامام عليه السلام في حال غيبته (1) ، وهو الحاكم والرئيس المطلق، وله ما للإمام في الفضل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الامام، والراد على الامام راد على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله، كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام (2).
فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة(3)، فيُرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصّاته؛
____________
(1) راجع الهامش (6) من الصفحة 241 (عقيدتنا في الاجتهاد).
(2) الاحتجاج: 2|260 ح232، الكافي: 1|54 ح10.
(3) (ولاية الفقيه) تعبير عن السلطة الشرعية والسيادة القانونية للمجتهد الجامع للشرائط، الذي يعتبر امتداداً لرسالة الامامة، ولم تكن من مستحدثات العصور الحديثة، بل إنّ تأصيل هذه النظرية يمتد بجذوره إلى عصر صدر الاسلام وعصور الاَئمّة المعصومين عليهم السلام، وهي في امتدادها للامامة تماثلها من حيث الوظائف العامة وتفترق عنها بما يتّصل بالنص الخاص على كل فقيهٍ فقيه، وبالعصمة الموقوفة على النبي صلّى الله عليه وآله والاَئمّة الاثني عشر من بعده عليهم السلام، حيث أنّ العصمة والنص من المختصات للمعصومين عليهم السلام.
ولا بد من معرفة الحكمة من هذه الولاية العامة في عصر الغيبة، فهي تعني قيام الحجة على الناس، والقيادة الزمنية لرعاية مصالح العباد وإدارة شؤونهم في ضوء ما تقتضيه أحكام الشريعة الاسلامية، ومن غاياتها السامية حفظ الاَحكام الشرعية؛ ذلكم أنّ مهمة التشريع في الاسلام منقطعة إليه تعالى فهي مهمة الخالق القدير، وأمّا المسائل الشرعية في مختلف جوانب الحياة ـ وخاصة في الحوادث الواقعة ـ فلا تعدو كونها مصاديق لاَحكام سبق الانتهاء من صدورها وابلاغها من قبل النبي الاَكرم صلّى الله عليه وآله في حياته.. وروي عن

=


( 19 )
لايجوز لاَحد أن يتولاّها دونه، إلاّ بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلاّ بأمره وحكمه(1).
ويرجع إليه أيضاً في الاَموال التي هي من حقوق الامام ومختصّاته (2).

____________

=
الاِمام المهدي عجل الله تعالى فرجه: «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم».
لاحظ: الامامة حتى ولاية الفقه: 51.
(1) يدل عليه رواية عمر بن حنظلة؛ حيث قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لاَنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: ( يُريدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أن يكْفُروا به ) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانّما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ والرّاد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله».
راجع الوسائل: 27|136 ح33416، الكافي: 1|54 ح10، الاحتجاج: 2|260 ح232، تهذيب الاحكام: 6|218 ح514 و301 ح 845، والآية: النساء 4: 60.
(2) ويقصد بالاَموال: الزكاة والخمس:
الزكاة: وهي من ضروريات الدين. وقد ورد في جملة من الاَخبار أنّ مانع الزكاة كافر، وأنّ من لا زكاة له لا صلاة له. ووجوبها في تسعة أشياء هي:
1 ـ الاَنعام الثلاثة: أ ـ الابل. ب ـ البقر. جـ ـ الغنم.
2ـ النقدين: أ ـ الذهب. ب ـ الفضة.
3ـ الغلات االاربع: أ ـ الحنطة. ب ـ الشعير. جـ ـ التمر د ـ الزبيب.‎
وهي تؤخذ في كل عام من هذه التسعة بنسب، وبشروط مذكورة في محالّها، ولا تجب في غير هذه التسعة، إلاّ أنّها تستحب في مال التجارة والخيل وما تنبت الاَرض من الحبوب وغيرها. وتُصرف هذه الاَموال على ثمانية أصناف هي: 1 ـ الفقير 2 ـ المسكين 3ـ العاملين عليها 4ـ المؤلفة قلوبهم 5ـ الرقاب 6ـ الغارمين 7ـ سبيل الله ـ وهو جميع سبل الخير، وقيل خصوص ما فيه مصلحة عامة ـ 8 ـ ابن السبيل ـ وهو المسافر الذي نفدت

=


( 20 )
وهذه المنزلة أو الرئاسة العامّة أعطاها الاِمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط؛ ليكون نائباً عنه في حال الغيبة، ولذلك يسمّى «نائب الاِمام».

____________

=
نفقة، أو تلفت راحلته بحيث لا يقدر على الذهاب إلى وطنه ـ وإن كان غنياً، ولا شيء من أحكام الزكاة عند الامامية إلا وهو موافق لمذهب من المذاهب الأربعة المعروفة. ولزيادة الاطلاع، راجع: العروة الوثقى: 2/ 87 ـ 134، المسائل المنتخبة للسيد السيستاني: 213 ـ 233، اصل الشيعة واصولها ـ الطبعة المحققة لمؤسسة الامام علي عليه السلام ـ : 243.
الخمس: وهو عند الامامية حق فرضه الله تعالى لآل محمد صلى الله عليه وآله عوض الصدقة التي حرمها عليهم من الزكاة. والأصل فيه قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الأنفال 8: 41. وهو يجب في سبعة اشياء:
1ـ الغنائم المأخوذة من الكفار من أهل الحرب بمقاتلتهم بإذن الإمام.
2ـ المعادن، من الذهب والفضة والرصاص وما شابهها.
3ـ الكنز.
4ـ الغوص أي إخراج الجواهر من البحر.
5ـ المال الحلال المخلوط باحرام على وجه لا يتميز مع الجهل بصاحبه وبمقداره.
6ـ الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم.
7ـ ما يفضل عن مؤونة السنة ومؤونة العيال من ارباح التجارات والمكاسب.
ويقسم على ستة أقسام: 1ـ لله 2ـ للنبي 3ـ للامام. وهذه الاسهم الثلاثة مختصة بالامام المهدي المنتظر عجل الله فرجه. 4ـ الأيتام .5ـ المساكين. 6ـ أبناء السبيل.
وللمزيد من التوضيح راجع العروة الوثقى: 2/ 170 ـ 199، المسائل المنتخبة للسيد السيستاني 239 ـ 251، أصل الشيعة واصولها: 245 وكافة كتب الفقه والرسائل العملية.