36 ـ عقيدتنا في زيارة القبور
وممّا امتازت به الامامية العناية بزيارة القبور ـ قبور النبي والاَئمّة عليهم الصلاة والسلام ـ وتشييدها، وإقامة العمارات الضخمة عليها، ولاَجلها يضحُّون بكلّ غال ورخيص، عن إيمان وطيب نفس.
ومردّ كلّ ذلك إلى وصايا الاَئمّة، وحثِّهم شيعتهم على الزيارة، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى(1) ؛ باعتبار أنّها من أفضل الطاعات والقربات بعد العبادات الواجبة، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى.
وجعلوها أيضاً من تمام الوفاء بعهود الائمّة؛ إذ «أنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد، وحسن الاَداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم، وتصديقاً بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»(2).
وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحقّ العناية من أئمتنا؛ فإنّها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الاَئمة وأوليائهم، وتجدّد في النفوس ذكر مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل
____________
(1) وللمزيد من الاطّلاع راجع كتاب كامل الزيارات، فقد ورد فيه من الاَحاديث التي تصف ثواب زيارة الرسول صلّى الله عليه وآله والاَئمّة عليهم السلام الشيء الكثير.
(2) من قول الامام الرضا عليه السلام. راجع: كامل الزيارات لابن قولويه: 122 باب 44 ثواب من زار الحسين عليه السلام.
واُنظر ـ كذلك ـ : الكافي: 4|567 ح2، من لا يحضره الفقيه: 2|577 ح3160، تهذيب الاحكام: 6|78 ح3 و:93 ح2.

( 144 )
الحق، تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرِّقين على صعيد واحد؛ ليتعارفوا ويتآلفوا، ثمّ تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى، والانقطاع إليه، وطاعة أوامره، وتلقِّنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسيّة الاسلام والرسالة المحمّدية، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين، والخضوع إلى مدِّبر الكائنات، وشكر آلائه ونعمه، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الاَدعية المأثورة التي تقدَّم الكلام عليها.
بل بعضها يشتمل على أبلغ الاَدعية وأسماها، كزيارة (أمين الله) وهي الزيارة المرويّة عن الامام زين العابدين عليه السلام حينما زار قبر جدّه أمير المؤمنين عليه السلام(1).
كما تفهم هذه الزيارات المأثورة مواقف الائمّة عليهم السلام وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق، واعلاء كلمة الدين، وتجرُّدهم لطاعة الله تعالى، وقد وردت بأسلوب عربي جزل، وفصاحة عالية، وعبارات سهلة يفهمها الخاصّة والعامّة، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه، والدعاء والابتهال اليه تعالى.
فهي بحق من أرقى الاَدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والاَدعية المأثورة عنهم؛ إذ أودعت فيها خلاصة معارف الاَئمّة عليهم السلام فيما يتعلَّق بهذه الشؤون الدينية والتهذيبية.
ثمّ إنّ في آداب الزيارة أيضاً من التعليم والارشاد ما يؤكِّد من تحقيق تلك المعاني الدينية السامية، من نحو رفع معنوية المسلم، وتنمية روح العطف على الفقير، وحمله على حسن العشرة والسلوك، والتحبّب إلى
____________
(1) راجع: كامل الزيارات: 39 باب 11 ـ زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام.

( 145 )
مخالطة الناس؛ فإنّ من آدابها ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في المرقد المطهَّر وزيارته.
ومنها ما ينبغي أن يصنع في اثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة، ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب؛ للتنبيه على مقاصدها التي قلناها:

من آدابها:
1 ـ أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهَّر(1) وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة، وهي ان ينظِّف الانسان بدنه من الاَوساخ؛ ليقيه من كثير من الاَمراض والاَدواء، ولئلاّ يتأفّف من روائِحه الناس(2) وأن يطهِّر نفسه من الرذائل.
وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل؛ لغرض تنبيهه على تلكم الاَهداف العالية فيقول: « اللّهُمَّ اجعلْ(3) لِي نوراً وطهوراً، وحِرْزاً كافياً(4) منْ كلِّ داءٍ وسقَمٍ، ومنْ كلِّ آفةٍ وعاهةٍ، وطهِّرْ بهِ قلبي وجوارِحِي، وعظامِي(5) ولحمِي ودمِي، وشعرِي وبشري ومخِّي وعظمِي(6) ، ومَا أقلَّتْ الاَرضُ منِّي، واجْعلْ (7) لِي شاهِداً يومَ حاجَتي(8) ، وفقْرِي
____________
(1) راجع: كامل الزيارات: 184 الباب 75: من اغتسل في الفرات وزار الحسين عليه السلام، 198 الباب 79 زيارات الحسين بن علي عليه السلام.
(2) قال أمير المؤمنين عليه السلام: «تنظّفوا بالماء من الريح المنتنة وتعهدوا أنفسكم؛ فان الله يبغض من عباده القاذورة الذي يتأفّف من جلس إليه» تحف العقول: 24.
(3) في المصدر: «اجعله».
(4) في المصدر: «وكافياً».
(5) لم ترد (وعظامي) في المصدر.
(6) في المصدر: «وعظامي وعصبي».
(7) في المصدر: «فاجعله».
(8) في المصدر: «يوم القيامة ويوم حاجتي».

( 146 )
وفاقَتِي »(1).
2 ـ أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب(2) ؛ فإنّ في الاَناقة في الملبس في المواسم العامّة ما يحبّب الناس بعضهم إلى بعض، ويقرِّب بينهم، ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهميّة الموسم الذي يشترك فيه.
وممّا ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنّه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم، بل يلبس أحسن ما يتمكَّن عليه؛ إذ ليس كل أحد يستطيع ذلك، وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة، فقد جمع هذا الاَدب بين ما ينبغي من الاَناقة، وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.
3 ـ أن يتطيَّب ما وسعه الطيب، وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.
4 ـ أن يتصدَّق على الفقراء بما يعنَّ له أن يتصَّدق به، ومن المعلوم فائدة التصدُّق في مثل هذه المواسم، فإنّ فيه معاونة المعوزين، وتنمية روح العطف عليهم.
5 ـ أن يمشي على سكينة ووقار غاضّاً من بصره(3) ، وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة، وتعظيم للمزور، وتوجّه إلى الله تعالى، وانقطاع إليه، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور، وعدم إساءة بعضهم إلى بعض.
6 ـ أن يكبِّر بقول: «الله أكبر» ويكرّر ذلك ما شاء(4) ، وقد تُحدَّد في
____________
(1) كامل الزيارات: 186 الباب 75 من اغتسل في الفرات وزار الحسين عليه السلام.
(2) لاحظ: كامل الزيارات: 130 باب 48 ح1، و198 الباب 79.
(3) لاحظ: كامل الزيارات: 130 باب 48 ح1.
(4) لاحظ: كامل الزيارات: 199 الباب 79 زيارات الحسين بن علي عليه السلام.

( 147 )
بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة(1) . وفي ذلك فائدة اشعار النفس بعظمة الله، وأنّه لا شيء أكبر منه، وأنّ الزيارة ليست إلاّ لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.
7 ـ وبعد الفراغ من الزيارة للنبي أو الامام يصلّي ركعتين على الاَقل، تطوّعاً وعبادة لله تعالى؛ ليشكره على توفيقه إياه، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور.
وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم الزائر أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده، وإنه لا يعبد سواه، وليست الزيارة إلاّ نوع التقرّب إليه تعالى زلفى؛ إذ يقول:
« اللّهمَّ لكَ صلَّيْتُ، ولكَ ركعْتُ، ولَكَ سجدْتُ وحدَكَ لا شريكَ لكَ؛ لاَنّه لا تكون الصلاةُ والركُوعُ والسجودُ إلاّ لَكَ؛ لاَنَّكَ أنْتَ اللهُ لا إلهَ إلاّ أنْتَ. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمّدٍ، وتقبَّلْ منِّي زيارَتِي، وأعَطِني سؤلِي، بمحمَّدٍ وآلهِ الطاهرينَ »(2)
وفي هذا النوع من الاَدب ما يوضّح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الاَئمة وشيعتهم تبعاً لهم في زيارة القبور، وما يلقم المتجاهلين حجراً حينما يزعمون أنّها عندهم من نوع عبادة القبور، والتقرّب إليها، والشرك بالله.
وأغلب الظن أنّ غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الامامية من الفوائد الاجتماعية الدينية في مواسم الزيارات؛ إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمَّد، وإلاّ فما نظنهم يجهلون حقيقة مقاصد
____________
(1) لاحظ: كامل الزيارات: 222 الباب 79 زيارات الحسين بن علي عليه السلام.
(2) المصباح للكفعمي: 2|158.

( 148 )
آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم، وتجرّدوا له في عباداتهم، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.
8 ـ ومن آداب الزيارة: أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه، وقلّة الكلام إلاّ بخير، وكثرة ذكر الله(1) والخشوع، وكثرة الصلاة، والصلاة على محمَّد وآل محمَّد، وأن يغضّ من بصره، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعاً، والمواساة لهم، والورع عمّا نُهي عنه، وعن الخصومة، وكثرة الاَيمان، والجدال الذي فيه الاَيمان(2)
ثمّ أنّه ليست حقيقة الزيارة إلاّ السلام على النبي أو الامام باعتبار أنّهم (أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(3) ؛ فهم يسمعون الكلام، ويردّون الجواب، ويكفي أن يقول فيها مثلاً: (السلام عليك يا رسول الله).
غير أنّ الاَولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت؛ لما فيها ـ كما ذكرنا ـ من المقاصد العالية، والفوائد الدينية، مع بلاغتها وفصاحتها، ومع ما فيها من الاَدعية العالية التي يتّجه بها الانسان إلى الله تعالى وحده.

____________
(1) ليس المراد من كثرة ذكر الله تكرار التسبيح والتكبير ونحوهما فقط، بل المراد ما ذكره الصادق عليه السلام في بعض الحديث في تفسير ذكر الله كثيراً أنّه قال: «أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».
(2) راجع كامل الزيارات: 131 . ح1.
(3) إشارة إلى قوله تعالى (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذيِنَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران 3: 169.

( 149 )
37 ـ عقيدتنا في معنى التشيُّع عند آل البيت

إنّ الاَئمّة من آل البيت عليهم السلام لم تكن لهم همّة ـ بعد أن انصرفوا عن أن يرجع أمر الاَمَّة إليهم ـ إلاّ تهذيب المسلمين، وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم، فكانوا مع كلِّ من يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الاَحكام الشرعية، وتلقينه المعارف المحمدية، ويعرّفونه ماله وما عليه.
ولا يعتبرون الرجل تابعاً وشيعة لهم إلاّ إذا كان مطيعاً لاَمر الله، مجانباً لهواه، آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم.
ولا يعتبرون حبّهم وحده كافياً للنجاة، كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات، ويلتمس عذراً في التمرّد على طاعة الله سبحانه، إنّهم لا يعتبرون حبهم وولاءهم منجاة إلاّ إذا اقترن بالاَعمال الصالحة، وتحلّى الموالي لهم بالصدق والاَمانة، والورع والتقوى.
«يا خيثمة، أبلغ موالينا(1)أنّه لا نغني عنهم من الله شيئاً إلاّ بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلاّ بالورع، وإنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره»(2).
بل هم يريدون من أتباعهم أن يكونوا دعاة الحق، وأدلاّه على الخير والرشاد، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان: «كونوا دعاة
____________
(1) في المصدر: «أبلغ من ترى من موالينا».
(2) الكافي: 2|140 ذيل الحديث 2.

( 150 )
للناس بالخير بغير ألسنتكم؛ ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»(1).
ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض اتباعهم؛ لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس:
1 ـ محاورة أبي جعفر الباقر عليه السلام مع جابر الجعفي:
«يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيُّع أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه.
وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع، والتخشُّع، والاَمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والاَيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الاَلسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الاَشياء.
فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عزّ وجلّ أتقاهم وأعملهم بطاعته(2).
يا جابر، والله ما نتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لاَحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(3).
2 ـ محاورة أبي جعفر عليه السلام أيضاً مع سعيد بن الحسن:
أبو جعفر عليه السلام: «أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟».

____________
(1) الكافي: 2|64 ح12.
(2) وبهذا المعنى قال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة: «إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الاَرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين» نهج البلاغة: الخطبة 192.
(3) الكافي: 2|60 ح3.

( 151 )
سعيد: ما أعرف ذلك فينا.
أبو جعفر عليه السلام: «فلا شيء إذن».
سعيد: فالهلاك إذن!
أبو جعفر عليه السلام: «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد»(1).
3 ـ محاورة أبي عبدالله الصادق عليه السلام مع أبي الصباح الكناني: الكناني لأبي عبدالله: ما نلقى من الناس فيك؟!
أبو عبدالله: «وما الذي تلقى من الناس؟»
الكناني: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفري خبيث.
أبو عبدالله: «يعيّركم الناس بي؟!»
الكناني: نعم!
أبو عبدالله: «ما أقل والله من يتّبع جعفراً منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!»(2).
4 ـ ولأبي عبدالله عليه السلام كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي:
أ ـ «ليس منّا ـ ولا كرامة ـ من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه»(3).
ب ـ «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمناً حتّى يكون لجميع أمرنا متّبعاً ومريداً، ألا وإن من اتباع أمرنا وأرادته الورع، فتزيَّنوا به يرحمكم الله»(4).

____________
(1) الكافي: 2|139 ح13.
(2) الكافي: 2|62 ح6.
(3) الكافي: 2|63 ح10.
(4) الكافي: 2|63 ح13.

( 152 )
جـ ـ «ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المخدَّرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله أورع منه»(1).
د ـ «إنّما شيعة جعفر مَن عفّ بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه. فاذا رأيت فأولئك شيعة جعفر»(2).

____________
(1) الكافي: 2|64 ح15.
(2) الكافي: 2|183 ح9.

( 153 )
38 ـ عقيدتنا في الجور والظلم

من أكبر ما كان يعظِّمه الاَئمة عليهم السلام على الانسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس، وذلك اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره، مثل قوله تعالى: (وَلا تَحسَبَنَّ اللهَ غفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـلِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَوْمٍ تَشخَصُ فيه الاََْبصرُ)(1).
وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه، كقوله ـ وهو الصادق المصدَّق ـ من كلامه في نهج البلاغة برقم 219.
«واللهِ لَو أُعطِيتُ الاَقالِيمَ السَّبعةَ بما تَحتَ أَفلاكِها على أنْ أَعصِي اللهَ في نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرةٍ ما فَعَلْتُ»(2).
وهذا غاية ما يمكن أن يتصوَّره الانسان في التعفُّف عن الظلم، والحذر من الجور، واستنكار عمله.
إنّه لا يظلم نملة في قشرة شعيرة وإن أُعطي الاَقاليم السبعة، فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين، وينهب أموال الناس، ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟! كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟! وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟
إنّ هذا هو الاَدب الاِليهي الرفيع الذي يتطلَّبه الدين من البشر.
نعم، إنّ الظلم من أعظم ما حرَّم الله تعالى، فلذا أخذ من أحاديث
____________
(1) إبراهيم 14: 42.
(2) نهج البلاغة: (من كلام له عليه السلام يتبرأ من الظلم).

( 154 )
آل البيت وأدعيتهم المقام الاَوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.
وهذه سياستهم عليهم السلام، وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم، ويجترئ على مقامهم.
وقصّة الامام الحسن عليه السلام معروفة في حلمه عن الشامي الذي اجترأ عليه وشتمه، فلاطفه الامام وعطف عليه، حتّى أشعره بسوء فعلته(1).
وقد قرأت آنفاً في دعاء سيد الساجدين من الاَدب الرفيع في العفو عن المعتدين، وطلب المغفرة لهم، وهو غاية ما يبلغه السموَّ النفسي، والانسانية الكاملة، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزاً في الشريعة(2) وكذا الدعاء عليه جائز مباح، ولكن الجواز شيء، والعفو ـ الذي هو من مكارم الاَخلاق ـ شيء آخر، بل عند الاَئمّة أنّ المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلماً، قال الصادق عليه السلام: «إنّ العبد ليكون مظلوماً فما يزال يدعو حتى يكون ظالماً»(3) أي حتّى يكون ظالماً في دعائه على الظالم
____________
(1) راجع مناقب ابن شهر آشوب: 4/ 19 فقد ذكر هذه القصة عن المبرّد وابن عائشة، قال: إنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه فسلم عليه وضحك وقال: «أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لاَن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً». فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: اشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب خلق الله إلي. وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.
(2) فقد قال تعالى: (فَمنِ اعْتدَى عَليْكَمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَموُا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتّقِينَ) البقرة 2: 194.
(3) الكافي: 2/ 250 ح17، عقاب الاَعمال: 274.

( 155 )
بسبب كثرة تكراره.
يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحد ظلماً؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور، ويعتدي على الناس، أو ينهش أعراضهم، أو ينهب أموالهم، أو يشي عليهم عند الظالمين، أو يخدعهم فيورّطهم في المهلكات، أو ينبزهم ويؤذيهم، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيت عليهم السلام.
إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى، وأشدّهم إثماً وعقاباً، وأقبحهم أعمالاً وأخلاقاً.

( 156 )
39 ـ عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أن نهى الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلاَ تَركُنوا إلى الَّذِينَ ظَلَموُا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُمْ مِن دُونِ اللهِ مِنْ أَولياءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ)(1).
هذا هو أدب القرآن الكريم، وهو أدب آل البيت عليهم السلام، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين، والاتّصال بهم، ومشاركتهم في أي عمل كان، ومعاونتهم، ولو بشق تمرة(2).
ولا شك أنّ أعظم ما مُني به الاسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور، والتغاضي عن مساوئهم، والتعامل معهم، فضلاً عن ممالأتهم ومناصرتهم واعانتهم على ظلمهم.
وما جرَّ الويلات على الجامعة الاسلامية إلاّ ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق، حتى ضعف الدين بمرور الاَيام، فتلاشت قوّته، ووصل إلى ما عليه اليوم، فعاد غريباً، وأصبح المسلمون أو ما يسمّون أنفسهم بالمسلمين، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون(3)حتى على أضعف أعدائهم، وأرذل المجترئين عليهم، كاليهود الاَذلاّء، فضلاً عن الصليبيين الاَقوياء.
لقد جاهد الاَئمة عليهم السلام في إبعاد من يتّصل بهم عن التعاون
____________
(1) هود 11: 113.
(2) انظر: وسائل الشيعة: 183/17 ـ باب تحريم معونة الظالمين ـ.
(3) إشارة إلى الآية 113 من سورة هود. المذكورة أعلاه.

( 157 )
مع الظالمين، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة اهل الظلم والجور وممالأتهم. ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب، ومن ذلك ما كتبه الامام زين العابدين عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم:
«أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلَّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمَّروا لك في جنب ما خرَّبوا عليك. فانظر لنفسك؛ فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول...»(1).
ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجل مسؤول»؛ فإنّ الانسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه، بمعنى إنّه لا يجده مسؤولاً عن أعماله، ويستحقر ما يأتي به من أفعال، ويتخيَّل أنّه ليس بذلك الذي يُحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه إنّ هذا من أسرار النفس الانسانية الاَمّارة، فأراد الامام أن ينبِّه الزهري على هذا السر النفساني في دخيلته الكامنة؛ لئلاّ يغلب عليه الوهم فيفرط في مسؤوليته عن نفسه.
وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمَّال مع الامام موسى الكاظم عليه السلام، وقد كان من شيعته، ورواة حديثه الموثّقين قال ـ حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان ـ:
____________
(1) تحف العقول: 275.

( 158 )
دخلت عليه فقال لي: «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل، خلا شيئاً واحداً».
قلت: جعلت فداك! أيّ شيء؟
قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ».
قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاّه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.
قال: «يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟»
قلت: نعم جعلت فداك.
قال: «أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟»
قلت: نعم.
قال: «فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار».
قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها(1).
فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة، فكيف بمن يستعينون به على الظلم، أو يؤيدهم في الجور، وكيف حال من يدخل في زمرتهم، أو يعمل بأعمالهم، أو يواكب قافلتهم، أو يأتمر بأمرهم؟!

____________
(1) رجال الكشي: 440 ح828.