40 ـ عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشق تمرة، بل حب بقائهم، من أشد ما حذَّر عنه الاَئمة عليهم السلام، فما حال الاشتراك معهم في الحكم، والدخول في وظائفهم وولاياتهم؟ بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم، أو من كان من أركان سلطانهم، والمنغمسين في تشييد حكمهم «وذلك أن ولاية الجائر دروس الحق كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد»(1)كما جاء في حديث «تحف العقول» عن الصادق عليه السلام.
غير أنّه ورد عنهم عليهم السلام جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل، وإقامة حدود الله، والاحسان إلى المؤمنين، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إن لله في أبواب الظلمة مَنْ نوَّر الله به البرهان، ومكَّن له في البلاد، فيدفع بهم عن أوليائه، ويصلح بهم اُمور المسلمين... اُولئك هم المؤمنون حقّاً، أولئك منار الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته...» كما جاء في الحديث عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام(2).
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضّح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفون، مثل ما في رسالة الصادق عليه السلام إلى عبدالله
____________
(1) تحف العقول: 332.
(2) بحار الاَنوار: 75/381 ح46. عن منية المريد. وفيه الحديث عن الامام الرضا عليه السلام.

( 160 )
النجاشي أمير الاَهواز (راجع الوسائل كتاب البيع الباب 78)(1).

____________
(1) انظر وسائل الشيعة: 17|196 ح22338 وباقي أحاديث الباب 46 من أبواب ما يكتسب به. كشف الريبة: 86.

( 161 )
41 ـ عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الاِسلامية
عرف آل البيت عليهم السلام بحرصهم على بقاء مظاهر الاسلام، والدعوة إلى عزّته، ووحدة كلمة أهله، وحفظ التآخي بينهم، ورفع السخيمة من القلوب، والاَحقاد من النفوس.
ولا يُنسى موقف أمير المؤمنين عليه السلام مع الخلفاء الذين سبقوه، مع توجّده عليهم، واعتقاده بغصبهم لحقه، فجاراهم وسالمهم، بل حبس رأيه في انّه المنصوص عليه بالخلافة؛ حتّى أنه لم يجهر في حشد عام بالنصِّ إلا بعد أن آل الاَمر إليه، فاستشهد بمن بقي من الصحابة عن نص الغدير في يوم الرحبة المعروف(1).
وكان لا يتأخّر عن الاشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للاِسلام بالنفع والمصلحة، وكم كان يقول عن ذلك العهد: «فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنصُر الاِسلامَ وَأَهلَهُ أَنْ أَرى فِيهِ ثَلْماً أو هدْماً»(2).
كما لم يصدر منه ما يؤثِّر على شوكة ملكهم، أو يضعف من سلطانهم، أو يقلِّل من هيبتهم، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت،
____________
(1) انظر: مسند أحمد: 1|84، فضائل أحمد: 77|115، السنة لابن أبي عاصم: 593 ح1372 و1373 و1374، مشكل الآثار: 2|307، خصائص النسائي 100 ـ 101 ح85 ـ 87، المعجم الصغير للطبراني: 1|65، المعجم الاوسط: 2|68، حلية الاولياء: 5|26، المناقب لابن المغازلي: 20 ح27، كنز العمال: 13|157 ح36485 و36486 و: 170 ح36514 و36515. اُسد الغابة: 3|321، 4|28.
(2) نهج البلاغة: الكتاب 62 (من كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة).

( 162 )
بالرغم ممّا كان يشهده منهم.
كل ذلك رعاية لمصلحة الاسلام العامة، ورعاية أن لا يرى في الاسلام ثلماً أو هدماً، حتى عرف ذلك منه، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول: (لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(1)أو (لولا علي لهلك عمر)(2).
ولا يُنسى موقف الحسن بن علي عليه السلام من الصلح مع معاوية(3) بعد أن رأى أنّ الاصرار على الحرب سيديل من ثقل الله الاَكبر،
____________
(1) انظر: طبقات ابن سعد: 2|339، فضائل أحمد: 155 ح222، انساب الاشراف للبلاذري: 2|99 ح29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1|18، المناقب للخوارزمي: 96 ـ 97 ذيل ح97 و98، اُسد الغابة: 4|22، كفاية الطالب: 217، الاصابة: 2|509، ذخائر العقبى: 82، تهذيب التهذيب: 7|296، تذكرة الخواص: 134 و137، الرياض النضرة: 3|161، فرائد السمطين: 1|344 ح267.
(2) المناقب للخوارزمي: 80 ح65، تذكرة الخواص: 137، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1|18 و141 و12|179 و223، كفاية الطالب: 219، ذخائر العقبى: 82، الرياض النضرة: 3|161.
(3) يمكن النظر إلى الصلح الذي وقع بين الامام الحسن عليه السلام ومعاوية من نواحٍ عدّة، منها:
أولاً: كسر الطوق المعنوي الذي حاول معاوية أن يوهم به عامة المسلمين من إلحاحه المستمر لطلب الصلح واغترار الناس به، وقد أبان الامام الحسن عليه السلام ابتداءاً اعتذاره عن ذلك بأنّ معاوية لا يفي بشرط، ولا هو بمأمون على الدين ولا على الامّة.
ثانياً: لو حاول الامام الحسن عليه السلام الاصرار على موقفه من قتال معاوية لكانت في ذلك مغامرة مواجهة قوّة لا قبل بها، ولا نكشف الامر عن التضحية بنفسه وكافة الهاشميين وأوليائهم، ولعذله العاذلون وقالوا فيه.
ثالثا: اتّضح الاَمر ـ بعد ذلك ـ بفضيحة معاوية الذي لم يلتزم ببنود الصلح قيد أنملة، ثم انكشف بعد ذلك الغطاء في دور أبيّ الضيم الامام الحسين عليه السلام وما قدّمه من تضحيات تقف متممة لدور الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الظالمين، ورد موجة

=


( 163 )
ومن دولة العدل، بل اسم الاسلام إلى آخر الدهر، فتمحى الشريعة الاِلهية، ويُقضى على البقية الباقية من آل البيت، ففضَّل المحافظة على ظواهر
____________
الانحراف في الامة.
رابعاً: امتثل الامام الحسن عليه السلام ما ورد في سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله اُسوة به، حيث استرشد بالرسالة، وامتحن بهذه الخطة، وقد اخذها في إقدامه واحجامه من صلح الحديبية.
خامساً: كان الصلح نموذجاً فريدا صاغ به أئمة أهل البيت عليهم السلام سياستهم الحكيمة، حيث غرس الامام الحسن عليه السلام في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنّى له به أن يلغم قصر الاَموية ببارود الاَموية نفسها.
وقد نقل التاريخ بصراحة زيف معاوية بوعوده حينما انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال، وقد قام خطيباً فيهم: (يا أهل العراق! إني ـ والله ـ لم اُقاتلكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنما قاتلتكم لاَتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!، ألا وإنّ كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين!) ـ كما نقله ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق ـ فلما تمت البيعة لمعاوية خطب فذكر علياً فنال منه، ونال من الحسن.. إلى آخر ما وقع من الوقائع الجسيمة...
ويذكر الامام السيد عبد الحسين شرف الدين (قدّس سرّه): إنّ الامامين الحسن والحسين عليهما السلام كانا وجهين لرسالة واحدة، كل وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازيه بالتضحية في سبيلها... وكان (يوم ساباط) أعرف بمعاني التضحية من (يوم الطف) لدى اُولي الاَلباب ممّن تعمّق... وكانت شهادة الطف حسنية أوّلاً وحسينية ثانياً؛ لاَنّ الحسن أنضج نتائجها، ومهّد أسبابها.
وقد وقف الناس بعد حادثتي ساباط والطف يمعنون في الاحداث، فيرون في الامويين عصبة جاهلية منكرة...
للتفصيل: راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين، المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة، شرح نهج البلاغة: ج4، الامام الحسين عليه السلام للاستاذ عبدالله العلايلي، مختصر تاريخ دمشق: 25|43، تاريخ الطبري: 5|162، الكامل في التاريخ لابن الاثير: 3|404، تاريخ الاسلام للذهبي: 4|5، تاريخ الخلفاء (الامامة والسياسة) لابن قتيبة: 1|164

( 164 )
الاسلام واسم الدين، وإن سالم معاوية ـ العدو الاَلد للدين وأهله، والخصم الحقود له ولشيعته ـ مع ما يتوقّع من الظلم والذل له ولاَتباعه، وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذة تأبى أن تغمد دون أن تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح، ولكن مصلحة الاسلام العليا كانت عنده فوق جميع هذه الاعتبارات.
وأمّا الحسين الشهيد عليه السلام فلئن نهض فلاَنّه رأى من بني أُمية إن دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم، سيمحون ذكر الاسلام، ويطيحون بمجده، فأراد أن يثبت للتاريخ جورهم وعدوانهم، ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول، وكان ما أراد. ولولا نهضته المباركة لذهب الاسلام في خبر كان يتلهّى بذكره التأريخ كأنّه دين باطل.
وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتّى أساليبهم إنّما هو لاتمام رسالة نهضته في مكافحة الظلم والجور، ولاحياء أمره امتثالاً لاَوامر الاَئمة من بعده.
وينجلي لنا حرص آل البيت عليهم السلام على بقاء عز الاسلام ـ وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم ـ في موقف الاَمام زين العابدين عليه السلام من ملوك بني أُمية، وهو الموتور لهم، والمنتهكة في عهدهم حرمته وحرمه، والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء، فإنّه ـ مع كل ذلك ـ كان يدعو في سرِّه لجيوش المسلمين بالنصر، وللاسلام بالعز، وللمسلمين بالدعة والسلامة، وقد تقدَّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء، فعلَّم شيعته كيف يدعون للجيوش الاِسلامية والمسلمين، كدعائه المعروف بـ (دعاء أهل الثغور)(1)الذي يقول فيه:

____________
(1) الصحيفة السجادية: الدعاء (27): من دعائه عليه السلام لاَهل الثغور.

( 165 )
«اللّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ، وكثِّرْ عددَهُمْ(1) واشحَذْ أسلحَتَهمْ، واحرُسْ حوزَتَهُمْ، وامنَعْ حومَتَهُمْ، وألِّفْ جمعَهُمْ، ودبِّرْ أمرَهُمْ، وواتِرْ بينَ ميرِهِمْ، وتوحَّدْ بكفايَةِ مؤَنِهُمْ، واعضُدهُمْ بالنصرِ، وأعِنهُمْ بالصبْرِ، والطُفْ لهُمْ في المكْرِ ».
إلى أن يقول ـ بعد أن يدعو على الكافرين ـ :
«اللّهمَّ وقوِّ بذلِكَ مِحَالَ أهلِ الاِسلام، وحصِّنْ بهِ ديارَهُمْ، وثمِّرْ بهِ أموالَهُمْ، وفرِّغْهُمْ عن محاربتِهِمْ لعبادَتِكَ، وعنْ منابذَتِهمْ للخلَوةِ بكَ؛ حتّى لا يُعبَدَ في بقاعِ الاَرْضِ غيرُكَ، ولا تُعَفَّرَ لاَحدٍ منهُمْ جبهةٌ دونَكَ »(2)
وهكذا يمضي في دعائه البليغ ـ وهو من أطول أدعيته ـ في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الاَخلاق، وأخذ العدّة للاَعداء، وهو يجمع إلى التعاليم الحربية للجهاد الاسلامي بيان الغاية منه وفائدته، كما ينبِّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم، وما يجب أن يتخذوه في معاملتهم ومكافحتهم، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله تعالى، والانتهاء عن محارمه، والاخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.
وكذلك باقي الاَئمة عليهم السلام في مواقفهم مع ملوك عصرهم، وإن لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكل قساوة وشدّة؛ فانّهم لما علموا أنّ دولة الحق لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم، وتوجيه أتباعهم التوجيه الديني العالي.
وكلّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويين وغيرهم لم تكن
____________
(1) كذا، وفي المصدر: (عِدَّتهم).
(2) ما أجمل هذا الدعاء، وأجدر بالمسلمين في هذه العصور أن يتلوا هذا الدعاء؛ ليعتبروا به، وليبتهلوا إلى الله تعالى في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم وتنوير عقولهم. (منه رحمه الله).

( 166 )
عن إشارتهم ورغبتهم، بل كانت كلّها مخالفة صريحة لاَوامرهم وتشديداتهم؛ فانّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الاسلامية من كل أحد، حتى من خلفاء بني العباس أنفسهم.
وكفى أن نقرأ وصية الامام موسى بن جعفر عليه السلام لشيعته:
«لا تذلُوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلاً فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله اصلاحه؛ فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبون لاَنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لاَنفسكم»(1).
وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعية على سلامة السلطان أن يحبوا له ما يحبون لاَنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لها.
وبعد هذا، فما أعظم تجنِّي بعض كتّاب العصر؛ إذ يصف الشيعة بأنّهم جميعة سرّية هدّامة، أو طائفة ثوروية ناقمة(2)!
صحيح أنّ من خلق الرجل المسلم المتّبع لتعاليم آل البيت عليهم السلام يبغض الظلم والظالمين، والانكماش عن أهل الجور والفسوق، والنظرة إلى أعوانهم وأنصارهم نظرة الاشمئزاز والاستنكار، والاستيحاش والاستحقار، وما زال هذا الخلق متغلغلاً في نفوسهم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الاسلام؛ لا سراً ولا علناً، ولا يبيحون لاَنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلم مهما كان مذهبه
____________
(1) أمالي الصدوق: 277 ح21، وسائل الشيعة: 16|220 ح21406.
(2) وقدمرت الاشارة ـ عند موضوع (عقيدتنا في التقية) ـ إلى قول الكوثري في تعليقه على كتاب التبصير في الدين للاسفرائيني، في وصفه للشيعة بأنّها جمعيات سرّية.

( 167 )
وطريقته؛ أخذاً بتعاليم أئمّتهم عليهم السلام.
بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال، محقون الدم، محرَّم العرض؛ «لا يحل مال امرئ مسلم إِلا بطيب نفسه»(1).
بل المسلم أخو المسلم، عليه من حقوق الاَخوة لاَخيه ما يكشف عنه البحث الآتي.

____________
(1) الفقيه: 4|66 ح195، عوالي اللآلي: 3|473 ح3، تحف العقول: 34، وسائل الشيعة: 5|120 ح6089، سنن الدارقطني: 3|26 ح91 و92، كنز العمال: 1|92 ح397.

( 168 )
42 ـ عقيدتنا في حقِّ المسلم على المسلم
إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الاسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم، كما أنّ من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالاَخذ بمقتضيات هذه الاَخوّة الاسلامية.
لاَنّ من أيسر مقتضياتها ـ كما سيجيء في كلمة الامام الصادق عليه السلام ـ: «أن يحب لاَخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه».
أنعم النظر، وفكِّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيت عليهم السلام، فستجد أنّها من أشق ما يفرض طلبه من المسلمين اليوم، وهم على مثل هذه الاَخلاق الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الاسلام، فكِّر في هذه الخصلة لو قدِّر للمسلمين أن ينصفوا أنفسهم، ويعرفوا دينهم حقاً، ويأخذوا بها فقط أن يحب أحدهم لاَخيه ما يحب لنفسه، لما شاهدت من أحد ظلماً ولا اعتداء، ولا سرقة ولا كذباً، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تهمة بسوء، ولا قدحاً بباطل، ولا إهانة ولا تجبُّراً.
بلى، إنّ المسلمين لو وقفوا لاِدراك أيسر خصال الاخوّة فيما بينهم، وعملوا بها، لارتفع الظلم والعدوان من الاَرض، ولرأيت البشر اخواناً على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعية، ولتحقَّق حلم الفلاسفة الاَقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا ـ حينما يتبادلون الحب والمودّة ـ إلى الحكومات والمحاكم، ولا إلى الشرطة والسجون، ولا إلى قانون للعقوبات، وأحكام للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمستعمر،
( 169 )
ولا خنعوا لجبّار، ولا استبدّ بهم الطغاة، ولتبدَّلت الاَرض غير الاَرض، وأصبحت جنة النعيم ودار السعادة.
أزيدك أنّ قانون المحبة لو ساد بين البشر ـ كما يريده الدين بتعاليم الاخوّة ـ لانمحت من قاموس لغاتنا كلمة العدل؛ بمعنى إنّا لم نعد نحتاج إلى العدل وقوانينه حتى نحتاج إلى استعمال كلمته، بل كفانا قانون الحب لنشر الخير والسلام، والسعادة والهناء؛ لاَنّ الانسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلاّ إذا فقد الحب فيمن يجب أن يعدل معه، أمّا فيمن يبادله الحب ـ كالولد والاَخ ـ إنّما يحسن إليه، ويتنازل له عن جملة من رغباته فبدافع من الحب والرغبة عن طيب خاطر، لا بدافع العدل والمصلحة.
وسرُّ ذلك أنّ الانسان لا يحب إلاّ نفسه وما يلائم نفسه، ويستحيل أن يحب شيئاً أو شخصاً خارجاً عن ذاته إلاّ إذا ارتبط به وانطبعت في نفسه منه صورة ملائمة مرغوبة لديه.
كما يستحيل أن يضحّي بمحض اختياره له، في رغباته ومحبوباته لاَجل شخص آخر لا يحبه ولا يرغب فيه، إلاّ إذا تكوَّنت عنده عقيدة أقوى من رغباته، مثل عقيدة حسن العدل والاحسان، وحينئذ إذ يضحي باحدى رغباته إنّما يضحي لاَجل رغبة أُخرى أقوى كعقيدته بالعدل ـ إذا حصلت ـ التي تكون جزء من رغباته، بل جزء من نفسه.
وهذه العقيدة المثالية لاَجل أن تتكوَّن في نفس الانسان تتطلَّب منه أن يسمو بروحه على الاعتبارات المادية؛ ليدرك المثل الاَعلى في العدل والاحسان إلى الغير، وذلك بعد أن يعجز أن يكوِّن في نفسه شعور الاَخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.
فأوّل درجات المسلم التي يجب أن يتّصف بها أن يحصل عنده
( 170 )
الشعور بالاُخوة مع الآخرين، فإذا عجز عنها ـ وهو عاجز على الاَكثر؛ لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيته ـ فعليه أن يكوِّن في نفسه عقيدة في العدل والاحسان اتباعاً للارشادات الاسلامية، فإذا عجز عن ذلك فلا يستحق ان يكون مسلماً إلاّ بالاسم، وخرج عن ولاية الله، ولم يكن لله فيه نصيب على حد التعبير الآتي للامام.
والانسان ـ على الاَكثر ـ تطغى عليه شهواته العارمة، فيكون من أشق ما يعانيه أن يهيّىء نفسه لقبول عقيدة العدل، فضلاً عن أن يحصل عليها عقيدة كاملة تفوق بقوّتها على شهواته.
فلذلك كان القيام بحقوق الاَخوّة من أشق تعاليم الدين إذا لم يكن عند الانسان ذلك الشعور الصادق بالاَخوّة، ومن أجل هذا أشفق الاِمام أبو عبدالله الصادق عليه السلام أن يوضِّح لسائله ـ وهو أحد أصحابه (المعلّى بن خُنيس) ـ عن حقوق الاخوان أكثر ممّا ينبغي أن يوضّح له خشية أن يتعلَّم ما لا يستطيع أن يعمل به.
قال المعلّى: قلت له: ما حق المسلم على المسلم؟
قال أبو عبدالله: «له سبعة حقوق واجبات، ما منهنّ حق إلاّ وهو عليه واجب؛ إِن ضيَّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».
قلت له: جعلت فداك! وما هي؟
قال: «يا معلّى، إنّي عليك شفيق؛ أخاف أن تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل».
قلت: لا قوة إلاّ بالله.
وحينئذ ذكر الاِمام الحقوق السبعة بعد أن قال عن الاَوّل منها: «أيسر حقّ منها أن تحب له كما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك».

( 171 )
يا سبحان الله! هذا هو الحق اليسير، فكيف نجد ـ نحن المسلمين اليوم ـ يسر هذا الحق علينا؟ شاهت وجوه تدّعي الاسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق.
والاَعجب أن يلصق بالاسلام هذا التأخّر الذي أصاب المسلمين، وما الذنب إِلاّ ذنب من يُسمُّون أنفسهم بالمسلمين، ولا يعملون بأيسر ما يجب أن يعملوه من دينهم.
ولاَجل التأريخ فقط، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الامام عليه السلام:
1 ـ أن تحب لاَخيك المسلم ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.
2 ـ أن تجتنب سخطه، وتتّبع مرضاته، وتطيع أمره.
3 ـ أن تعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.
4 ـ أن تكون عينه، ودليله، ومرآته.
5 ـ أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.
6 ـ أن يكون لك خادم وليس لاَخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك، فتغسل ثيابه، وتصنع طعامه، وتمهِّد فراشه.
7 ـ أن تبرَّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته. وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه الى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة.
ثمّ ختم كلامه عليه السلام بقوله:
«فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك»(1).

____________
(1) الكافي: 2|135 ح2، وسائل الشيعة: 12|205 ح6097. الخصال: 2|350 ح26، مصادقة الاخوان: 143|4، الاَمالي للطوسي:98 ح149|3.

( 172 )
وبمضمون هذا الحديث روايات مستفيضة عن أئمتنا، جمع قسماً كبيراً منها كتاب «الوسائل» في أبواب متفرّقة.
وقد يتوهّم المتوهِّم أنّ المقصود بالاُخوّة في أحاديث أهل البيت عليهم السلام خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصّة»، ولكن الرجوع إلى رواياتهم كلها يطرد هذا الوهم ـ وإن كانوا من جهة اُخرى يشدّدون النكير على من يخالف طريقتهم ولا يأخذ بهداهم ـ ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب قال:
قلت له ـ أي الصادق عليه السلام ـ: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟
فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الاَمانة إليهم»(1).
أمّا الاَخوّة التي يريدها الاَئمة عليهم السلام من أتباعهم فهي أرفع من هذه الاخوّة الاسلامية، وقد سمعت بعض الاَحاديث في فصل تعريف الشيعة، ويكفي أن تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادق عليه السلام من حديث أبان نفسه.
قال أبان: كنت أطوف مع أبي عبدالله، فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته، فأشار إليَّ، فرآنا أبو عبدالله.
قال: «يا ابان، إِيّاك يريد هذا؟».
قلت: نعم.
قال: «هو على مثل ما أنت عليه؟».

____________
(1) الكافي: 2|464 ح4، وسائل الشيعة: 12|6 ح15497.

( 173 )
قلت: نعم.
قال: «فاذهب إليه واقطع الطواف»
قلت: وإن كان طواف الفريضة؟!
قال: «نعم».
قال أبان: فذهبت، ثمّ دخلت عليه بعد، فسألته عن حق المؤمن، فقال: «دعه لا ترده».
فلم أزل أردَّ عليه حتى قال: «يا أبان، تقاسمه شطر مالك».
ثم نظر اليَّ ـ فرأى ما داخلني ـ فقال: «يا أبان، أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟».
قلت: بلى.
قال: «إذا أنت قاسمته فلم تؤثره؛ إِنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر»(1).
أقول: إنّ واقعنا المخجل لا يطمعنا أن نسمِّي أنفسنا بالمؤمنين حقاً؛ فنحن بوادٍ وتعاليم أئمتنا عليهم السلام في وادٍ آخر، وما داخل نفس أبان يداخل نفس كل قارئ لهذا الحديث، فيصرف بوجهه متناسياً له كأنّ المخاطب غيره، ولا يحاسب نفسه حساب رجل مسؤول.

____________
(1) مصادقة الاخوان: 38 ح2، وسائل الشيعة: 12|209 ح16106.