المواسم والمراسم

المؤلف
السيد جعفر مرتضى العاملي


( 5 )

مقدمة الناشر
قراءنا الأعزة
ضمن سلسلة الكتب التي أصدرتها منظمة الاعلام الاسلامي نقدم هذا الكتاب آملين أن يترك أثره الجيد في تنوير الأذهان حول مسألة كانت وستبقى طبيعية لولا ما قام به المغرضون والجهلة من تهويل وإضفاءٍ لصفات غريبة عليها .
هذه المسألة هي مسألة الاحتفالات التي اعتاد المسلمون ـ منذ القدم ـ القيام بها إحياء لإحدى الذكريات الرائعة في تاريخهم الاسلامي ، مثلهم في ذلك مثل أية أمّةٍ أخرى تحترم مقدساتها ، وتبجّل أيامها الكبرى ، وذكرياتها الخالدة .
بل هي حالة لدى الانسان الفرد قبل الجماعة لا يشذ عنها أحد .
إن الاقتران الزماني والمكاني للحوادث يترك أثره الكبير في النفس ، ولذا فهي تعمل على استعادة الذكريات واستيحاء العبر فيها ، وتلك طريقة من أفضل طرق التربية عموما والتربية القرآنية ، بالخصوص . فما أكثر تذكير القرآن الكريم بأيّام الله وشعائره ، وما أشد تعظيم الاسلام لسير العظماء وفي طليعتها سيرة إبراهيم (ع) وملة إبراهيم الحنيفية الخالصة ، حتى لنجد الاسلام يخلّد حركة خالصة من فرد من أفراد العائلة الابراهيمية لأنها تمّت عن وعي ، وقس على هذا تحليد القرآن الكريم لحركة من حركات أهل البيت (ع) نتيجة لما تضمّنته من إخلاص عظيم وذلك كما


( 6 )

في قضية الإطعام التي خلّدها القرآن الكريم بقوله ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً ) . 1
ولا يتسع لنا المجال لوأردنا أن نستعرض كل الأمثلة الزمانية والمكانية لهذه الخصيصة القرآنية التربوية الفطرية .
فالاحتفال بالذكرى العظيمة هو مقتضى الأصل والفطرة والطبيعة بل ولا يحتاج الى دفع شرعي بعد أن كان يشكل حالة طبيعية ومصداقاً لأوامر التكريم والتبديل . والمطالع لهذا الكتاب يجد أن كل ما ذكر من أدلة مانعة لا تنهض مطلقا دليلاً على الردع عن هذه السيرة الانسانية الطبيعية ... ولو افترضنا أن الاسلام يعارض هذا المعنى لكان من الطبيعي أن تتظافر الأدلة في المنع ، وليس لدينا ما يمنع بل لدينا ما يحث على العمل بهذه السيرة الانسانية خصوصا إذا تحول من مجرد الفرح والحزن الى عملية استيحاء واعية للذكرى ومعطياتها .
ترى ماذا على المسلمين لو أحيوا ذكرى المعراج واستوحوا معاني العظمة الانسانية منه ؟ وهل عليهم من غضاضة لو احتفلوا بيوم الهجرة النبوية الشريفة ، او الثورة الحسينية العظيمة ؟! وهل بعد ذلك بدعة كما يدعي الوهابيون الجهلة ؟
وبهذا نعرف أن تركيزنا على جواز هذا الإحياء بل استحبابه لا يعني مطلقا تبرير ما يجري عن أعمال مخالفة للشريعة أحيانا ، فإنها أمور مرفوضة في أي زمان أو مكان كانت ، وهذا أمر لا يغيب عن بال الواعين .
وحبذا لو ثاب الى رشدهم أولئك الذين يتّهمون الناس سريعا بالكفر والبدعة والجحود وأمثال ذلك من التهم العظيمة الوزر ، وحبذا لو عملوا على وحدة الصف ... دون تناسي مسألة تطهير هذا الاحتفالات مما علق بها من شوائب غير صحيحة .
وهكذا نعود أمة موحدة صامدة في وجه الظلم ، بل ونحوّل احتفالاتنا الى مجالات اسلامية تربوية كبيرة تعمل على تحقيق نفس الأهداف السامية .
والله الموفق للصواب


معاونية العلاقات الدولية
في منظمة الاعلام الاسلامي


____________
1 ـ الإنسان : 8 ـ 9 .
( 7 )

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، واللعنة عل أعدائهم أجمعين ، الى قيام يوم الدين .
وبعد ...
فلم يكن ليدور في خلدي في يوم من الأيام ، أن يكون موضوع الاحتفال بالمناسبات ، وإقامة المواسم ، موضوعا للبحث أو مجالاً للتشكيك والنقض والإبرام ، من أيّ كان وفي أيّ من الظروف والأحوال ... فضلا عن أن أبتلى أنا شخصياً بالبحث فيه ، وأجمع له الشواهد والدلائل ...
ولكن ... ما عشت أراك الدهر عجباً ... فها أناذا لا أجد مناصاً من أن أتصدى لهذا الموضوع ، وأصرف فيه شطرا من عمري الذي ما كنت أحب له أن يصرف في مثل هذه الأمور الجانبية التي تجاوزت حد الوضوح ، لتكون من الضرورات والبديهيات لدى سائر أبناء البشرية ، ممن يتعاملون مع الامور بسلامة الفطرة ، وصفائها ، وبصحيح العقل ، وصريح الوجدان ...
نعم ... لقد رأيتني غير قادر على التخلص ، ولا على التملص من هذا الأمر ، بعد أن كانت ثمة فئة اختارت لنفسها ليس فقط ان تثقل العقل بالقيود المرهقة ، وتعطل دور الوجدان ، وتمنع من تأثير الفطرة ... وإنما قد تعدّت ذلك إلى أسلوب


( 8 )

التهويش ، والتشويش ، والعربدة ، وحتى إيصال الاذى إلى الآخرين ، وهتك حرماتهم ، ما وجدت الى ذلك سبيلا .
حيث أدرك من تسمّوا بالعلماء فيها : أنهم لا يملكون من الأدلة على ما يدّعون ، سوى الشعارات الفارغة ، وتوزيع التهّم الباطلة ـ وبلا حساب ـ ورمي الآخرين بالكفر تارةً ، وبالشرك أخرى ، وبالابتداع في الدين ثالثة ... وهكذا ...
فكانت هذه الدارسة الموجزة ، التي أريد لها أن تعطي صورة واضحة قدر الإمكان لما يقوله هؤلاء الناس في هذه المسألة ، مع الإشارة الى بعض موارد الخلل والضعف في تلكم الأقاويل ، مع التأكيد على أن سلاحنا الأول والأخير هو الدليل القاطع والبرهان الناصع ... وعلى أن هدفنا هو خدمة الحق والدين ، والذبّ عن شريعة سيد المرسلين ... وعلى أن تقوى الله سبحانه ، والخوف من عقابه ، والأمل في ثوابه هو الذي لابدّ وأن يهيمن على كل أقوالنا وأفعالنا ، بل وعلى كل حياتنا ووجودنا .
والله نسأل : أن يهب لأولئك الذين يشغولننا بأمور جانبية ، وغير ذات أهمية ، العقل قبل كل شيء ، ومعه الإنصاف ، وأن يمنّ عليهم بالتقوى ، والخوف من عقاب الله أوّلاً ، ثم الرّجاء لثوابه ثانيا .
وأن يمنّ علينا ، وعلى جميع إخواننا المؤمنين العاملين المخلصين بالتوفيق والتسديد ، في جميع ما نقول ونفعل ، إنه ولي قدير ، وبالاجابة حري وجدير ، وهو خير مأمول ، وأكرم مسؤول .
ايران ـ قم المشرفة
20 ربيع الاول 1407 هـ . ق
جعفر مرتضى العاملي
عامله الله بلطفه وإحسانه






( 9 )

تمهيد
الهداية القرآنية
قال الله سبحانه في كتابه الكريم ، في مجال رسم الأسس والمنطلقات للدعوة الالهية الى سبيله : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ) .1
فهذه الآية قد أعطت النظرة الشمولية للاسلام ، فيما يرتبط بسياسته الاعلامية ، ورسمت لهذه السياسة أسسها ومنطلقاتها بدقة ، وبعمق يستوعب كل اتجاهاتها ومناحيها ... ولسنا هنا في صدد بيان وتحديد ذلك ... ، ولكننا نشير إلى أمر ألمحت إليه الآية الكريمة ، ويهمّنا لفت النظر اليه ، والتوجيه نحو التأمل فيه ، وهو :
أن نهج القرآن وطريقته ـ كما ألمحت اليه الآية الشريفة ـ هو استثارة العقول ، ومحاكمة الناس ضمائرهم ، وإرجاعهم إلى سليم الفطرة وإنصاف الوجدان ...
ولم نجد القرآن حكم على أحد بالكفر ، أن بالفسق ،إلاّ ضمن ضوابط عامة ، يكون لكل أحد كامل الحرية في أن يطبقها على نفسه او لا يطبقها .
____________
1 ـ النحل : 125 .
( 10 )

أمّا أن يطبقها على الآخرين بأشخاصهم وأعيانهم ، فليس له ذلك ، إلاّ في الحدود التي أجازها الاسلام ، ولم ير فيها ما يتنافى مع ايّ من أصوله وقواعده ... أي في خصوص الموارد التي قبل بها الآخرون ، وأقرّوا بانطباقها على أنفسهم وفق الضوابط العامة التي يعرفها يقرّبها الجميع ...
هذا على الرغم من أن الحق ربما يكون مرّاً ، أو مخجلا لكثير من أولئك الذين اختاروا الانحراف عن جادة الحق ، والابتعاد عن الطريقة القويمة ، والخطة السليمة المستقيمة .
نعم ... لربما تمسّ الحاجة ـ وذلك كثير في القرآن أيضاً ـ إلى تصعيد التحدّي ، إلى حدّ التلويح أو التصريح بما لو لم يبادر الى التلميح والتصريح به لكان خطراً على الاسلام وعلى قواعده ومبانيه من الأساس .
ولكنها تكون حالات استثنائية ـ يعقبها الاستدلال والتفهيم مباشرة ـ ولا يمكن أن تتخذ الصفة الطبيعية التي يفترض جعلها أساسا للتحرك في المجال العام للدعوة الاسلامية .
هذا كله ... لو لم نقل : إن المنطلق الاسلامي لكل حوار منصف وهادف وبنّاء هو قوله تعالى : ( وإنا أو إيّاكم لعلى هدىّ أو في ضلال مبين ) ... 1 .
حيث يريد سبحانه أن يهيّئ الطرف الآخر للبحث العلمي ، القائم على أساس الدليل ، الساطع ، والبرهان ، القاطع ، بعيداً عن أجواء التشنّج الانفعال والشك والريب .
ولعل هذا بالذات هوالمقصود من المجادلة بالتي هي أحسن ... حسبما نصّت عليه الآية آنفة الذكر .

علي ( ع ) ... وأهل الشام
ونجد الى جانب ذلك :
أن طريقة أئمتنا عليهم الصلاة والسلام وخطهم لم تتعدّ النهج ، وذلك تأسّياً منهم الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم ، والتزاماً منهم بالهداية القرآنية الرائدة ...
____________
1 ـ سبأ : 24 .
( 11 )

وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد : أنّ دعوة علي عليه السلام أصحابه الى عدم سب أهل الشام ، ولكن بإمكانهم أن يصفوا أعمالهم ، معلّلا ذلك بأنه أصوب في القول ، وأبلغ في العذر . 1
ان هذه الدعوة ... قد جائت منسجمة كل الانسجام مع تعاليم القرآن الكريم ، وتوجيهاته السامية ، في مجال الهداية الى سبيل الله ، والدعوة الى دينه ...
مع أنه عليه السلام يستحلّ دماءهم ، ويباشر قتلهم ... حتى لقد قيل : إنه عليه الّسلام قد قتل منهم بنفسه عدّة مئات في ليلة واحدة ، وهي المسماة بـ « ليلة الهرير » .
ولم يكن موقفه هذا ... وهو الالتزام بالكلمة المهذبة ، والعمل بالهدى القرآني الرائد ... خاصا بالذين حاربوه في صفين ، أو في الجمل ، والنهروان ، وإنما هو ينسحب على مجمل مواقفه في حياته ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى أبنائه الأئمة الميامين ، الطيبين الطاهرين .

مواقف الحسين ( عليه السلام ) في نفس الاتجاه
كما ان من الواضح : أن أعظم مواجهة حادة تعرّض لها الأئمة عليهم السلام ، وأشدها إثارةً ، هي تلك التي تعرض لها سيد شباب أهل الجنة ، السبط الشهيد ، الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه ، حينما قررأن يواجه الطاغوت ، وأن يقدّم نفسه ، وأبناءه ، وأهل بيته ، وأصحابه ، في سبيل الله والمستضعفين ...
فنجده عليه السّلام حينما يريد أن يستدل لموقفه من يزيد الطاغية ، ومن نظام حكمه ، ذلك الموقف الذي يعرف بدقة نتائجه وآثاره ، نجده لايذكر يزيد بن معاوية ، إلاّ بما عرف وشاع عنه ، فيقول :
« ... إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله ، وبنا يختم ، ويزيد رجل شارب الخمور ، وقاتل النفس المخترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ... » . 2
____________
1 ـ راجع : نهج البلاغة ، بشرح محمد عبده | ج 2 | ص 221 ، وتذكرة الخواص | ص 154 | وصفين لنصر ابن مزاحم | ص 103 | والأخبار الطوال | ص 165 .
2 ـ مقتل الحسين ( ع ) : للمقرّم | ص 139عن مثير الأحزان لابن نما الحلي : والفتوح | لابن أعثم | ج 5 | ص 18 .

( 12 )

فهو عليه السلام قد أعطى الميزان والضابطة ، والتعليل الواضح ، لكونه عليه السلام لايحق له أن يبايع يزيد ، ولكنه يجعل ذلك ضمن قانون عام تكون نتيجته أن هذا الصنف من الناس ، وهذه النوعية ، لا يحق لها أن تبايع تلك النوعية ، وذلك الصنف ، ملخّصا ذلك بقوله : « ومثلي لا يبايع مثله » .
ثم ... وبما أن ذكر تلك الضابطة ، قد استلزم التصريح ببعض ما ربما يتوهم منافاة التصريح به للهداية القرآنية ... نجده عليه السلام يشير الى أنّ ذلك التوهم مسوّغ له ، مادام ان يزيد بن معاوية « معلن بالفسق » ولا يتستر بذلك ،
فكما لا مجال لأيّ ترديد أو خيار في اتخاذ ذلك القرار ، كذلك لامجال للتواني ، ولا للترداد في الجهربه ، والاعلان عن مبرراته ودوافعه ...

الامام الحسين ( ع ) في كربلاء :
وبعد ... فالبرغم من ان واقعة كانت من أبشع ما عرفه التاريخ البشري ... فإننا لانجد الامام الحسين عليه الصلاة والسلام فيها إلاّ ذلك الصابر المحتسب الذي لا تندّ منه حتى ولو كلمة واحدة في غير المسار الطبيعي للهداية القرآنية التي تقدمت الاشارة إليها .
بل إن كلماته في ذلك الموقف المصيري كانت تطفح بالحب والحنان ، وتفيض بالأدب والطهر والنبل ، والنزاهة عن كل سباب قبيح ، أو استرسال مشين ، رغم هول المصائب التي يواجهها ، وفداحة الكوارث التي يعاني منها ...
بل نجده ( ع ) ـ كما كان ـ حتى لأعدائه ، والذين يقتلون صحبه وولده ، ويريدون إزهاق نفسه ، ثم سبي نسائه ـ نجده ـ يبقى كالوالد الرحيم ، الذي تذهب نفسه عليهم حسرات ، والذي لاهمّ له إلا هدايتهم ، وحملهم على المحجة البيضاء ، وإرشادهم الى سبيل الخير ، والفلاح والرشاد ...

الأئمة ( ع ) والمواقف الحادة
وإذا ما رأينا أحيانا بعض المواقف الحادة والفاصلة للأئمة عليهم السلام ، فإنما هو في مقابل أولئك الذين حاولوا ضرب أساس الاسلام ، وتقويض دعائمه ، من أمثال أبي الخطاب ، والمغيرة بن سعيد ، وأضرابهما من الغلاة والتواصب . ولسنا في مجال استقصاء ذلك هنا .


( 13 )

الاسلام ... وظاهرة الجحود
وبعد أن تحقق لدينا أن طريقة القرآن ، ونهج الاسلام إنما هو الدعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالّتي هي أحسن ... وأن الأساس والمنطلق هو الحوار لموضوعي المنصف ، القائم على قاعدة : « وإنا او إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » و « ما على الرسول إلاّ البلاغ » و « فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر » وذلك في ظل حرية العقل ، وحرية التعبير ، وحرية الموقف ...
وعرفنا كذلك : أن الرفق ، والرضا ، والتفاهم ، وروح التعاون في البحث الموضوعي النزيه والهادف ... هو الجو الطبيعي ، الذي يريده الاسلام ، ويرى أنه يتهياّ له في ظله تكريس وجوده ، وتأكيد واقعيته وأصالته ...
إذا عرفنا ذلك كله ... فإننا ندرك : أن ما يدينه الاسلام ، ويرفضه ، ويسعى إلى ازالته ، هو حالة تكبيل العقل في قيود الهوى ، والعواطف ، والشهوات ، والمصالح الشخصية ، والقبّلية ، والأهواء والعصبيات ...
فهو يرفض ويحارب ظاهرة : « وجحدوا بها » من أجل الحفاظ على بعض الامتيازات الظالمة التي جعلوها لأنفسهم ، أو استجابةً لدواع غير واقعية ولا أصيلة ، أو من أجل الحصول على بعض الملذات الزائلة ، والتمتع بها ، أو من أجل الحفاظ على مركز اجتماعي ، أو على وضعٍ اقتصادي ، أو سياسي معين ، وإن كان ذلك على حساب « المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا » ، أو حتى على حساب كل المثل والقيم الانسانية ، وكل الضوابط والمعايير والأحكام الإلهية ...
هذا ... بالاضافة إلى أنّ أولئك الجاحدين ، بموقفهم الجحودي ذلك ، إنما يعاندون قناعاتهم ، ويضطهدون عقولهم « واستيقنتها أنفسهم » فيجعلون عقولهم ووجدانهم ، وفطرتهم ، وكل النبضات الانسانية الحية في وجودهم ، في سجن تلك الأهواء ، والمصالح ، ويثقلونها بالقيود ، ولتكون نتيجة ذلك هي إلقاءها في سلة المهملات ، مع نفايات التاريخ .
فيأتي الاسلام ... ويقف في وجه هذا البغي ، ويعمل على تحطيم هذا الطغيان ، فيحرر العقل والفطرة من قيد الجمود هذا ، لينطلق إلى الحياة ، باحثاً ، ومنقباً ، وبعد ذلك مستنتجا ، وصاحب قرار وتصميم ، حينما يستكشف كل معاني السمو ، والخير والسعادة ، بعيداً عن كل النزوات البهيمية ، وصراع الشهوات ،


( 14 )

ومزالق العواطف غير المتّزنة ، ولا المسؤولة .
وهذا ما يفسر لنا ما نجده في القرآن من كونه يؤنّب أشد التأنيب هذا النوع من الناس ، وينعى عليهم ارتكابهم تلك الجريمة النكراء في حق فطرتهم وإنسانيتهم ، والأهم من ذلك في حق عقلهم ووجدانهم ...

الاسلام ... والدعوة الى التعقل ، والبصيرة في الدين .
ولقد كان الاسلام ولا يزال يؤكد ويردد بأساليبه المتنوعة ، وفي مختلف المناسبات على دور العقل والفطرة ، وعلى أهمية الضمير والوجدان ، والفكر والعلم .
ففيما يرتبط بأهمية الفكر والعلم والعقل نجد العشرات ، بل المئات من الآيات القرآنية ، التي تشير إلى ذلك ... وكمثال على ذلك نشير الى الآيات التالية :
« قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » 1 .
« وما يعقلها إلاّ العالمون » 2 .
« أفلا تتفكرّون » 3 .
« اولم يتفكرّوا » 4 .
« ويتفّكرون في خلق السماوات والأرض » 5 .
« إنّ في ذلك الآيات لقومٍ يتفكّرون » 6 .
« أفلا تعقلون » 7 .
« لعلّكم تعقلون » 8 .
____________
1 ـ الزمر | 9 .
2 ـ العنكبوت | 43 .
3 ـ الانعام | 50 .
4 ـ الاعراف | 184 ، والروم | 8 .
5 ـ آل عمران | 191 .
6 ـ الرعد | 3 ، والروم | 21 والجاثية | 13 .
7 ـ البقرة | 44 و 76 ، وآل عمران | 85 ، والانعام | 32 ، والاعراف | 169 ، ويونس | 16 ، وهود | 51 ، ويوسف | 109 ، والأنبياء | 10 و 67 ، والمؤمنون | 80 ، و القصص | 60 ، والصافات | 138 .
8 ـ البقرة | 73 و 242 والانعام | 151 ، ويوسف | 2 ، والنور | 61 ، وغافر | 67 ، والزخرف | 3 ، والحديد | 17 .

( 15 )

« الآيات لقوم يعقلون » 1 .
« واتقون يا أولي الألباب » 2 .
« وما يذكر إلا اوّلوا الألباب » 3 .
وبالنسبة لعلاقة الدين بالفطرة ، فالله سبحانه يقول :
« فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين » 4 .

التجنّي ... والافتراء
وبعد ... فإنّ كل ما تقدم يعطينا : أنّ ما ينهّجه بعض الناس في دعوتهم إلى مذهبهم ، من أساليب فظّة وجافة ، وقاسية ، من قبيل التفسيق تارةً والتكفير أخرى ، والرمي بالشرك أو الزندقة ثالثة ، وما الى ذلك من افتراءات وتهجمات .،. ناشئة عن عدم فهمهم هم لمعنى الشرك والتوحيد ، وخلطهم بين المفاهيم التي هي أوضح الواضحات ، وان كل ذلك لا ينسجم مع روح الاسلام ، ولا يلائم تشريعاته ، ومناهجه ، بل الاسلام من ذلك كله بريء ...
ويتضح بعد هذا النهج عن الاسلام ، وعن تعاليمه حينما نعلم : ان المسائل التي يطرحونها ، ما هي إلاّ مسائل اجتهادية ، يخالفهم فيها كثير ، إن لم يكن أكثر علماء الاسلام ...
بل إن الحقيقية هي أن ما يدعون إليه ، ويعملون على نشره ، لا يعدو عن أن يكون مجرد شعارات ، فارغة ، او تحكّمات باطلة ، لا تستند الى دليل ، ولا تعتمد على برهان .
بل إن بعضها يخالف صريح القرآن ، وما هو المقطوع به من سنة النبي ( ص ) وسيرته ، والصحيح الثابت عن الصحابة والتابعين ، فضلا عن مخالفته لصريح حكم العقل ، ومقتضيات الفطرة والجبلّة الانسانية .
____________
1 ـ البقرة | 164 ، والرعد | 4 ، والنحل | 12 ، والروم | 24 .
2 ـ البقرة | 197 .
3 ـ البقرة | 269 ، وآل عمران | 7 .
4 ـ الروم | 30 و 31 .

( 16 )

لفت نظر ضروري
إن الموضوع الذي هو محل البحث هو مشروعية الأعياد ، والمواسم ، والمراسم والمآتم ، وجميع الاحتفالات ، التي تقام للذكرى في المناسبات المختلفة ، كعيد المولد النبوي الشريف ، وعيد الغدير ، وعاشوراء ، والاحتفال بعيد الاستقلال ، وبيوم العمال ، وغير ذلك ... حتى عيد الجيش ، ويوم الشجرة ، وحتى زيارة الأماكن المقدسة في مواسم معينة .
ولكن لربما نضطر في بحثنا هذا إلى تخصيص المولد النبوي الشريف بالذكر ، وذلك تبعا لما ورد في أدلتهم ، ذلك لأنه هو المحور الذي تدور كلماتهم حوله عادة ، وإن كانوا يهدفون ـ ونقصد : المانعين منهم ـ الى ماهو أعم من ذلك ، كما صرّحوا به في مطاوي كلماتهم واستدلالاتهم ... وكما يظهر من عموم أدلتهم ، التي رأوا أنها كافية للدلالة على المنع من كل تجمّع في مكان معين ، في زمان معين .
فليلاحظ ذلك ... والله هو الموفق ، وهو الهادي ...