الفصل الثاني

استدلالات لا تصح




( 28 )


( 29 )

بداية
نجد للمجوّزين لإقامة المواسم والمراسم استدلالات عديدة ، ولكننا لا نجد من بينها ما يجدي في إثبات ما يريدون إثباته ، ولا يصلح للاستدلال به ، ونحن نشير إلى طائفة من أدلتهم تلك ، مع التذكير ببعض ما يرد عليها . فنقول ،

أبولهب ... وعتق ثويبة
إنهم يذكرون : أن أبا لهب حينما بشر بولادته ( ص ) ، اعتق مولاته ثويبة ، فرآه العباس ـ وفي رواية اليعقوبي : رآه النبي ( ص ) ـ بعد موته في المنام ، فأخبره انه يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين لعتقه ثويبة حينما بشر بذلك . 1
قال القسطلاني : « قال ابن الجزري : فإذا كان هذا أبولهب الكافر الذي
____________
1 ـ راجع : السيرة النبوية لابن كثير | ج 1 | ص 224 ، البداية والنهاية | ج 1 | ص 273 ، وتاريخ اليعقوبي | ج 2 | ص 9 ، وفتح الباري | ج 9 | ص 124 ، وعمدة القاري | ج 2 | ص 95 ، والسيرة الحلبية | ج 1 | ص 84 و 85 ، والسيرة النبوية لدحلان | ج 1 | ص 25 ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم | ص 90 ، وارشاد الساري | ج 8 | ص 31 ، وهو ظاهر صحيح البخاري | ج 3 | ص 157 ط سنة 1309 هـ ، وجواهر البحار | ج 3 | ص 338 | 339 ، وتاريخ الاسلام للذهبي | ج 2 | ص 19 ، والوفاء | ص 107 ، ودلائل النبوة للبيهقي | ج 1 | ص 120 ، وبهجة المحافل | ج 1 | ص 41 ،
( 30 )

نزل القرآن بذمه ، جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي ( ص ) به ، فما حال المسلم الموحّد من أمته عليه السلام ، الذي يسر بمولده ، ويبذل ما تصل اليه قدرته في محبته ؟ لعمري ، إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم » . 1
ورحم الله حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر ، حيث قال :
إذا كـان هـذا كـافر جـاء ذمّه * وتبّت يـداه فـي الجحيم مـخلّدا
أتى أنّـه في يـوم الاثـنين دائمـا * يخفـف عـنه لـلسرور بـأحمدا
فما الظـن بالعبد الـذي كان عمره * بأحمد مسرورا ومـات مـوحدا 2
ولكن هذا الاستدلال لا يصح ، وذلك لانّ إعتاق ثويبة قد كان بعد مولده ( ص ) بزمن طويل ، أي بعدما هاجر النبي ( ص ) الى المدينة ، بعد أن حاولت خديجة شراءها من أبي لهب لتعتقها ، بسبب ما يزعم من إرضاعها للنبي ( ص ) فرفض أبو لهب بيعها . 3
وتوجيه الحلبي لذلك ، بأن من الممكن أن يكون أبولهب ، قد أعتقها أوّلاً لكنه لم يذكر ذلك ولم يظهره ، ورفض بيعها لخديجة لكونها كانت معتوقة ، ثم عاد فأظهر ذلك 4 ... هذا التوجيه غير وجيه ، لأن من غير المعقول أن لا يظهر الناس ولا يطلّعوا على عتقه لجاريته طيلة حوالي خمسين سنة ، كما أن هذه الجارية التي اعتقها
____________
وطبقات ابن سعد | ج 1 قسم 1 | ص 67 ـ 68 ، والمواهب اللدنية | ج 1 | ص 27 ، وتاريخ الخميس | ج 1 | ص 222 ، وسيرة مغلطاي | ص 8 ، وصفة الصفوة | ج 1 | ص 62 ، ونور الابصار | ص 10 ، واسعاف الراغبين بهامشه | ص 8 .
1 ـ المواهب اللدنية | ج 1 | ص 27 ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص 90 ـ 91 ، وتاريخ الخميس | ج 1 | ص 222 .
2 ـ السيرة النبوبة لزيني دحلان | ج 1 | ص 25 ، ورسالة السيوطي المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم | ص 91 .
3 ـ أنساب الأشراف ( سيرة النبي « ص » ) | ص 95 ـ 96 ، والكامل لابن الأثير | ج 1 | ص 459 ، وطبقات ابن سعد | ج 1 | قسم 1 | ص 67 ، والإصابة | ج 4 | ص 258 ، وإرشاد الساري | ج 8 | ص 31 ، والسيرة الحلبية | ج 1 | ص 85 ، وراجع الوفاء | ص 107 ، وفتح الباري | ج 9 | ص 124 ، والاستيعاب بهامش الإصابة | ج 1 | ص 16 ، وذخائر العقبى | ص 259 ، وقاموس الرجال | ج 10 | ص 417 .
4 ـ السيرة الحلبية | ج 1 | ص 85 .

( 31 )

لماذا بقيت عنده طيلة هذه المدة المتمادية وهي خارجة عن ملكه ... ؟ ولماذا لم يظهر ذلك إلاّ بعد هجرته ( ص ) ؟ فما هو الداعي له للكتمان ، ولا سيما قبل النبوة ؟ وما الداعي للاظهار ، ولا سيما بعد الهجرة ؟
وأوردوا أيضا على الرواية بأنها مرسلة ،
وبأنه لا حجّيّة في المنامات ،
وبأنها مخالفة لظاهر القرآن : الذي يقول عن الكفار : « وقدمنا الى ما عملوا من عمل ، فجعلناه هباءً منثورا » . 1
ولكن إذا ثبت أنّ الرأي هو النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ، كما هو مقتضى رواية اليعقوبي ، كان المنام حجة ... كما أنهم قد ناقشوا في هذا الاعتراض الأخير بما لا مجال لذكره ، فلتراجع المصادر المتقدمة ، والعمدة هو ما ذكرناه نحن آنفا ونذكر أخيرا ... ان فرحه لو كان استجابة لحاجة نفسية طبيعية ، ولم يكن لله ، فلماذا يثاب عليه !؟

الاستدلال بفعل حاكم إربل
ونجد في كلماتهم أيضا الاستدلال بفعل حاكم اربل ، الذي ابتكر عمل المولد على ذلك النحو المخصوص حسبما ذكروه ، وقد كان فاضلا ورعا ديّنا الى آخر ما وصفوه به . 2
ولكنه استدلال لايصح أيضا . لأن التشريع لا يصح من أحد إلاّ من صاحب الشريعة ، ولم يكن هذا الرجل من العلماء ، حتى يحمل عمله على أنه قد استند فيه إلى دليل شرعي ، فلعله ، كان غافلا عن اللوازم الفاسدة لمثل هذا العمل ، أو حتى متعمّداً لها ...
إلاّ إذا كان المقصود والاستدلال على هذا الامر بالإجماع المتحقق في زمانه وحضور العلماء وغيرهم لتلك المناسبات كما يظهر من سياق كلامه ... ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى .
____________
1 ـ راجع : فتح الباري | ج 9 | ص 124 | 125 ، وارشاد الساري | ج 8 | ص 31 ، وعمدة القاري | ج 20 | ص 95 ، والقول الفصل | ص 84 ـ 87 .
2 ـ راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، والمطبوعة مع كتاب : النعمة الكبرى على العالم | ص 80 .

( 32 )

ولكنه ايضا استدلال باطل عندنا ، لأننا نعتقد : أن الإجماع بما هو لا حجّيّة فيه ، إلاّ بسبب اشتماله على قول النبي المعصوم ( ص ) ، أو قول أحد الأئمة المعصومين ، أما دون ذلك فلا اعتبار به ، ولكن المشهور عند أولئك المستدلين بهذه الأدلة هو حجيّة متى تحقق ، حتى ولو بعد عصر النبي ( ص ) ، ثم ما تلاه من أعصار فيكون حجة عليهم ... فراجع كتب الاصول . 1

العقيقة ... دليل آخر
قال السيوطي ما حاصله : « إنه له تخريج عمل المولد على أصل آخر ، وهو أنه ( ص ) قد عقّ عن نفسه بعد النبوة ، مع أنه قد ورد أنّ جدّه عبدالمطلب عقّ عنه في سابع ولادته ... فهذا يعني أنه ( ص ) أراد إظهار الشكر على إيجاد الله تعالى إيّاه رحمة للعالمين ، وتشريفاً لأمته ، فيستحب الحب لنا أيضا إظهاراً للشكر بمولده ، بالاجتماع وإطعام الطعام ، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسّرات » . 2
ولكن هذا لا يصلح للاستدلال ايضا ، اذا لم يثبت ان ذلك كان منه ( ص ) فرحا وابتهاجا ، بما ذكر ، فان ذلك لا يعدو عن ان يكون استنباط استحسانيا قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه . هذا كله بالاضافة الى عدم ثبوت انه ( ص ) قد عق عن نفسه 3 ، وعدم ثبوت ان عبدالمطلب كان قد عقّ عنه ( ص ) ... 4 فلا بد من ثبوت ذلك بشكل قطعي ليتكلم في دلالته على المدعى او عدم دلالته .
مضافا الى ان العقيقة بنفسها مستحبة في الشرع ، وقد ثبت ذلك بالدليل القطعي ولكن لا يلزم من استحبابها ، والعمل بها جواز اقامة المراسم والمواسم في اوقات معينة وبكيفية خاصة ... حتى لو ثبت أنّ ذلك كان فرحاً واستبشاراً بمولده ( ص ) ، وإلاّ لكرّرها بعد ذلك في كل عام ، كما يراد إثباته ، فلعل للاستبشار بمولده ( ص ) ، وإلاّ لكرّرها بعد ذلك في كل عام ، كما يراد إثباته ، فلعل للاستبشار بالعقيقة مرّة واحدةً في العمر خصوصية عند الشارع ...
____________
(1) راجع : المستصفى وفواتح الرحموت ، والاحكام ، إرشاد الفحول ، بحث الإجماع ...
(2) راجع : رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم ص 90 .
(3) روى ذلك البيهقي في السنن الكبرى ج 9 ص 300 .
(4) الرواية تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 283 .

( 33 )

الاستدلال بيوم عاشوراء
وقد نقل السيوطي عن أبي الفضل ابن حجر قوله عن عمل الموالد للنبي ( ص ) : « وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت ، وهو ما ثبت في الصحيحين : من أن النبي ( ص ) قدم المدينة ، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسألهم ، فقالوا : هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ، ونجّى موسى ، ونحن نصومه شكراً لله تعالى ، فقال ( ص ) : فأنا أحق بموسى عليه السلام منكم ، فصامه ، وأمر بصومه ...
وفي نص آخر : « كان يوم عاشوراء يوما تصومه اليهود ، تتخذه عيداً ، فقال رسول الله ( ص ) : صوموه أنتم » . 1
قال ابن حجر : فيستفاد منه ، فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معيّن ، من إحداث نعمة ، أو دفع نقمة . ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ... وأيّ نعمة أعظم من نعمة بروز نبيّ الرحمة في ذلك اليوم . » 2
وقد رد البعض على هذا الاستدلال بأنّ السلف الصالح لم يعملوا بهذا النص ، على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم ، وهذا يمنع من اعتبار هذا النهي صحيحا ، فاستنباط ذلك من الحديث مخالف لما أجمع عليه السلف ، من ناحية فهمه ، ومن ناحية العمل به ، وما خالف إجماعهم ، فهو خطأ . 3
ونقول : إن هذا الردّ صحيحا ، كما سيتضح في الفصل الذي نردّ فيه على أدلة المانعين ... ولذا فلا حاجة الى تكرار الكلام هنا ...
____________
1 ـ راجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسول | ص 78 و 79 ، وسنن الدارمي | ج 2 | ص 22 ، وصحيح البخاري | ج 1 | ص 224 ، وصحيح مسلم | ج 3 | ص 159 و 150 ، ومسند أحمد | ج 4 | ص 409 ، وزاد المعاد ج 1 | ص 164 فما بعدها ، وكشف الأستار | ج 1 | ص 490 ، ومجمع الزوائد | ج 3 | ص 185 . والحديث طرق متعددة ، ونصوص مختلفة ، وهو موجود في مختلف المصادر الحديثية عند أهل السنة ، ولتراجع رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم | ص 89 ، والسيرة النبوية لدحلان | ج 1 | ص 25 ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابييّن | ص 114 ، وعجائب المخلوقات ، بهامش حياة الحيوان | ج 1 | ص 114 ، والمنتقى من أخبار المصطفى | ج 2 | ص 192 ، ومجمع الزوائد | ج 3 | ص 184 ـ 188 ، ومنحة المعبود | ج 1 | ص 193 .
2 ـ تلخيص من رسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوع مع : النعمة الكبرى على العالم | ص 89 ـ 90 وراجع : التوسّل بالنبيّ وجهلة الوهابيّين | ص 114 | 115 .
3 ـ ارجع : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل | ص 78 و79 .

( 34 )

ولكننا نودّ أن نشير هنا إلى أمر آخر لم نتعرض له هناك ، وخلاصته :
اننا نعتقد : أن ما ورد من الأحاديث التي تحث على صيام يوم عاشوراء ، لا يمكن أن تصح ، وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم | ج 3 | ص 104 ـ 110 .
وذلك لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يكره موافقة أهل الكتاب في كلّ أحوالهم ، حتى قالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلاّ خالفنا فيه ... وفي الحديث : « من تشبّه بقوم فهو منهم » . 2
بالاضافة إلى التناقض الشديد بين الروايات المشار إليها ... 3
هذا عدا عن أن اسم عاشوراء إسلامي لا يعرف في الجاهلية . 4
ولسنا هنا في صدد تقضي هذا البحث ، فمن أراد المزيد فليراجع : الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم . وسيأتي المزيد من الكلام حول يوم عاشوراء في فصل : لن يخدع السراب .

تعظيم شعائر الله سبحانه
وقد استدل بعض الاصدقاء في مقال له حول نفس هذا الموضوع بقوله تعالى : « ذلك ، ومن يعظم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، ثم محلها إلى البيت العتيق » 6 .
على اعتبار : أن شعائر الله سبحانه هي أعلام دينه ، خصوصا ما يرتبط
____________
1 ـ راجع :الدخل لابن الحاج | ج 2 | ص 48 ، والسيرة الحلبية | ج 2 | ص 115 ، ومفتاح كنوز السنّة عن عدد من المصادر ، ومسند أحمد | ج 3 | ص 246 ، والجامع الصحيح للترمذي | ج 5 | ص 214 | 215 ، وصحيح مسلم | ج 1 | ص 169 ، وسنن أبي داود | ج 2 | ص 250 | وج 1 | ص 67 ، وسنن الدارمي | ج 1 | ص 245 وسنن النسائي | ج 1 | ص 187 .
2 ـ المدخل لابن الحاج | ج 2 | ص 48 ، وسنن أبي داود | ج 4 | ص 44 ، ومسند أحمد | ج 2 | ص 50 ، ومجمع الزوائد ، | ج 10 | ص 271 عن الطبراني في الأوسط .
3 ـ الصحيح من سيرة النبي | ج 3 | ص 105 .
4 ـ مجمع البحرين | ج 3 | ص 405 ، والجمهرة في لغة العرب لابن دريد | ج 4 | ص 212 ، والنهاية لابن الأثير | ج 3 | ص 240 .
5 ـ المستدل هو صديقنا الشيخ رسول جعفريان حفظه الله في مقال له حول هذا الموضوع .
6 ـ الحج | 32 ـ 33 .

( 35 )

منها بالحج ، كما قاله القرطبي ، لأنّ أكثر أعمال الحج إنما هي تكرار لعمل تاريخي ، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيم عليه السّلام ، وشعائر الله مفهوم عام شامل للنبيّ ( ص ) ولغيره ، فتعظيمه ( ص ) لازم . ومن أساليب تعظيمه إقامة الذكرى في يوم مولده ، ونحو ذلك ، فكما أن ذكرى ما جرى لإبراهيم عليه السلام من تعظيم شعائر الله سبحانه ، كذلك تعظيم ما جرى للنبيّ الأعظم ، محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم يكون من تعظيم شعائر الله سبحانه .
ونقول : إنه لابدّ من إصلاح هذا الاستدلال ، والقول : بأنه لا يتوقف على دعوى أن شعائر الحج ما هي إلاّ تكرار لحوادث ، تاريخية ، ليمنع ذلك بعدم ثبوت ذلك ، أولا ، وبأنه قد كان يمكن التذكير بحوادث تاريخية مهمة جداً غيرها ، ولعل بعضها أهم بكثير من قضية التحيّر بين الصفا والمروة في طلب الماء ، أو نحوه مما يذكرهنا .
كما لايرد على هذا الاستدلال : أن تفسير القرطبي للشعائر باعلام الدين ، الذي هو معنى عام ، لاينافي اختصاص هذا التعبير في القرآن بـ « أعمال الحج » ومواضعه ، لا يرد عليه ذلك ، لأن العبرة إنما هي بعموم اللفظ ، لا بخصوصية المورد .
ولكن يلاحظ : أن القرآن يكرر ويؤكد على أن أعمال الحج « ... ذلك ومن يعظم شعائر الله ، فإنّها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى ، ثم محلّها إلى البيت العتيق » كما ويشير إلى أن عمل الحج نفسه يحصل الناس فيه على المنافع كما قال تعالى : « ليشهدوا منافع لهم » .
وفي آية أخرى في نفس الموضوع ، نجده تعالى يقول : « والبدن جعلناها لك من شعائر الله لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف ، فإذا وجبت جنوبها ، فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ ، كذلك سخرها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم » . 1
وقد أطلق في القرآن لفظ المشعر الحرام على المزدلفة ، كما وأطلق على الصفا والمروة انهما من شعائر الله ...
فالظاهر : ان المراد هو : أن هذه الأماكن ، وكذلك البدن التي يشعرها
____________
1 ـ الحج | 36 و 37 .
( 36 )

الحاج ويعلمها إنما هي من أعلام المناسك ، ودلائله المظهرة لكمال انقياد العباد له تعالى ، فلا يجوز التعدّي على هذه الأعلام ، ولا يجوز تجاوزها ، بل لابد من تعظيمها والتقيد بها ، وقد ورد النهي عن تجاوزها وتعدّيها في قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ، ولا القلائد ، ولا آمّين البيت الحرام ، يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا » . 1 وقبل آية تعظيم شعائر الله ، تجده تعالى يقول وفي نفس المناسبة : « ذلك ومن يعظّم حرمات الله ، فهو خير له عند ربه » 2 فنجد أن هذا السياق متحد مع سياق الآية التي استدل بها هنا .
وبعد ... كل ما تقدم نقول : إن الاستدلال بالآية يتوقف على كون مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ، وكذا يوم عاشوراء ، مثلا ، وغير ذلك من المناسبات من شعائر الله ، أي من أعلام الله التي نصبها لطاعته ، ليجب تعظيمها ... وكما يقال :
العرش ، ثم النقش ...
فإن قوله تعالى : « والبدن جعلناها لكم من شعائر الله » يشعر بأن كونها من الشعائر يحتاج الى جعلٍ منه تعالى ...

وذكّرهم بأيّام الله
وقد استدل أيضا على مشروعية المواسم والمراسم بقوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام : « وذكّرهم بأيّام الله »3 ، فإن المقصود بأيّام الله ، أيّام غلبة الحق على الباطل ، وظهور الحق ، وما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة ، فإن إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكير بأيّام الله سبحانه . 4
ونقول : إن ما تدل عليه الآية هو التذكير بالأسلوب العادي والمعروف ، وأمّا الخصوصية ، فلا تفهم من الآية ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : « كان رسول الله ( ص ) يخطبنا فيذكّرنا بأيّام الله ، حتى نعرف ذلك في وجهه ، كأنه نذير
____________
1 ـ المائدة | 2 .
2 ـ الحج | 30 .
3 ـ إبراهيم | 5 .
4 ـ المستدل بذلك هو الصديق المشار اليه آنفا في مقال له حول هذا الموضوع . وذكر هذا الاستدلال ايضا عن بعضهم في كتاب : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل | ص 73 .

( 37 )

قوم يصبحهم الأمر غدوة » . 1
وعن ابي بن كعب : « ان رسول الله ( ص ) قرأ يوم الجمعة تبارك ، وهو قائم ، فذكّرنا بأيّام الله » . 2
وعن النبي ( ص ) : « بينما موسى عليه السلام في قومه يذكّرهم بأيّام الله . وأيّام الله نعمه وبلاؤه إذ قال ... الخ » . 3
فذلك كله يدل على أن التذكير بأيّام الله كان يتخذ صفته الطبيعية والعادية ، ولو للأفراد على انفراد ، ولم يكن يقيم لهم احتفالات ومراسم معينة في أوقات مخصوصة من أجل ذلك . إلاّ أن يقال : إن أمر تعيين المصداق قد ترك إلينا ، كما سيأتي ، فتكون الآية من أدلة العنوان العام .
كما أن المقصود بأيّام الله ... لعلّة تلك الأيام التي تحدث فيها خوارق العادات ، وتظهر فيها الآيات ، أيّام بطشه بالظالمين ، وأخذه لهم أخذ عزيز مقتدر ، وكذا الحال بالنسبة لآية : ( قل للّذين آمنوا يغفروا للّذين لايرجون أيّام الله ) ... فلا تشمل الآية ما هو محل الكلام هنا ..

الفرح بفضل الله سبحانه
وقد استدل أيضا بقوله تعالى : ( قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا ) ، إذ من المصاديق الجلية لرحمة الله سبحانه ، هو ولادة النبي ( ص ) ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، فالفرح بمناسبة ميلاده صلّى الله عليه وآله وسلم مطلوب ومراد . 4
ولكننا نقول : إن الآية تدل على لزوم الفرح برحمة الله سبحانه وفضله ... أمّا الخصوصية ، فلا تدل عليها ، وحينما يصف الله الانسان بأنه فرح فخور ، فان ذلك لا يعني إلاّ ثبوت هذه الحالة النفسية له ، ولا تدل على أنه يقيم الحفلات ، ويلتزم بالمواسم والمراسم ، كما هو محل البحث هنا .
إلاّ أن يقال : إن أمر تعيين الكيفية والمصداق قد أوكل الينا ، كما سبق في
____________
1 ـ مسند أحمد | ج 1 | ص 167 .
2 ـ سنن ابن ماجة | ج 1 | ص 352 ـ 353 .
3 ـ مسند أحمد | ج 5 | ص 121 .
4 ـ راجع : القول الفصل | ص 73 ، ومقالة الصديق المشار إليه آنفا .

( 38 )

الآية السابقة .

مناسك الحج تكرار للذكرى
واستدل بعض العلماء بأن جل أعمال مناسك الحج ما هي إلاّ احتفالات بذكرى الأنبياء ، فأمر الله تعالى باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى ، إحياءً لذكرى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أمّا السعي بين الصفا والمروة ، فهو تخليد لذكرى هاجر حينما عطشت هي وابنها إسماعيل ، فكانت تسعى بين الصفا والمروة ، وتصعد عليهما لتنظر : هل ترى من أحد ( كما ذكر البخاري ) ...
ورمي الجمار تخليد لذكرى إبراهيم عليه السّلام ، حينما ذهب به جبريل إسماعيل ففداه الله بذبح عظيم .
وفي بعض الأخبار : أن أفعال الحج إنما هي احتفال بذكرى آدم ، حيث تاب الله عليه عصر التاسع من ذي الحجة بعرفات ، فأفاض به جبريل حتى وافى إلى الشعر الحرام فبات فيه ، فلما أصبح أفاض إلى منى ، فحلق رأسه إمارة على قبول توبته ، وعتقه من الذنوب .
فجعل الله ذلك اليوم عيداً لذريته .
فأفعال الحج كلها تصير احتفالات واعياداً بذكرى الأنبياء ، ومن ينتسب اليهم ، وهي باقية أبد الدهر . 1
ونقول :
أوّلاً : ان هذا الاستدلال يتوقف على ثبوت الروايات المشار إليها آنفا ، على كون قوله تعالى : ( واتخذوا من مقام ابراهيم مصلّى ) قد جيء به للإشارة إلى هذا الأمر التاريخي ...
والآية إنما أوردت كلمة « مقام إبراهيم » للإشارة إلى موضوع الحكم ، وليس عنوان هذا الموضوع دخيلا في ثبوت ذلك الحكم ، لا بنحو الاقتضاء ولا بنحو العلّميّة التامّة ، ولعلة تكون العلة للحكم أمراً آخر ، ويكون العنوان من قبيل
____________
1 ـ راجع كتاب : معالم المدرستين | ج 1 | ص 47 ـ 49 ، للعلامة العسكري حفظه تعالى .
( 39 )

لفظ « زيد في قولك : أكرم زيدا » .
كما ويرد هنا سؤال ، وهو : لماذا اختصت هذه الأحداث بأن يقام لها هذا الاحتفال الدائم أبد الدهر ، مع أنه قد توجد أحداث أعظم أهمية ، وأشد خطراً منها ؟ لماذا لم تخلّد هي أيضا باحتفالات على نحو تخليد هذه ... ولتكن إحدى هذه الأحداث ، ولادة السيد المسيح من دون أب ، وقصة غرق فرعون ، ومحاولة إحراق إبراهيم بالنار ، فكانت برداً وسلاماً ، وقصّة الطوفان ، وغير ذلك ؟
وثانياً : ان هذه الذكريات ، قد أمر الشرع بها وشرع الحكم بلزوم العمل بها ، وهذا لا ينكره المانعون ، وإنما هم يقولون : إن مالم يرد به الشرع يكون بدعة وحراما ، وهذا مما قد ورد الشرع به ، فلا إشكال فيه ، وإنما الاشكال فيما عداه ...

الاستدلال بما جرى ليعقوب
واستدلال أيضا على مشروعية الاحتفالات والمراسم بحزن يعقوب على فراق ولده يوسف ، حتى ابيضت عيناه من الحزن ، فلم لم يجز له بعد موت ولده العزيز على قلبه مع ان حرقته أعظم : أن يظهر التفجع عليه ، ويقيم المراسم في هذا السبيل ؟! 1 .
ونقول : إن ذلك لاربط له بإقامة المراسم والمواسم في زمان معيّن ، وفي مكان معيّن ، فإنّ مجرد الحزن والأسى لامانع منه ، ولكن الزيادة على ذلك هي التي تحتاج إلى ثبات ، بنظر المانع ، والآيات لا تدل على أكثر من ممارسة التوجع والتفجّع والحزن ...

« ورفعنا لك ذكرك »
واستدل أيضا بقوله تعالى : « ورفعنا لك ذكرك » 2 فإن الاحتفالات بميلاده ( ص ) ماهي إلاّ رفع لذكره ( ص ) ... 3
ويمكن المناقشة في ذلك بأن رفع ذكره ( ص ) من قبل الله سبحانه إنّما هو
____________
1 ـ راجع كتاب : آئين وهابيّت | ص 180 ـ 181 للعلامة السبحاني حفظه الله .
2 ـ الانشراح | 4 .
3 ـ آئين وهابيت | ص 184 للسبحاني .

( 40 )

بجعله نبيّاً رسولاً ، وليس في الآية أمر متعلق بالمكلفين يطلب منهم إقامة احتفالات ، ولا غير ذلك ...
وقد ورد في الروايات أن المراد برفع ذكره ما هو واقع من ذكر الشهادة بنبوّته إلى جانب الشهادة لله بالوحدانية في الأذان وفي غيره ... وقبل في تفسير الآية غير ذلك أيضا ...

آية المودة
واستدل أيضا بأن مودة ذوي القربى مطلوبة شرعا ، وقد أمر بها القرآن صراحة ، فإقامة الاحتفالات للتحدث عمّا جرى للأئمة ( ع ) لا يكون إلاّ مودةً لهم ... إلاّ ان يدعى أن المراد بالمودة الحب القلبي ، ولا يجوز الاظهار .
ونقول : صحيح أن إرادة الحب القلبي مجرداً ومن كلمة : « المودة » ، لا يمكن تقويته ، لا سيما وأن بعض المحققين يقول في تفسير المودة : « كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل ... » 1
ولكن يمكن المناقشة فيما ذكر ، بأن مودتهم تحصل من دون إقامة احتفالات ، فالمانع يدّعي : أنّ الخصوصية للزمان وللمكان ، وللتجمّع ، وللمراسم الخصاصة ؛ يحتاج جوازها إلى ثبات ... إلاّ إذا التزم بالأمر بالعنوان العام ، وترك أمر تعيين المصاديق إلينا ، كما سيأتي بيانه ، مع عدم كون الخصوصية مورداً للحكم الشرعي ، ولا للتعبد بإتيانها ... ولعل هذا هو مراد المستدل ، فلا إشكال حينئذ .
ونفس ما تقدم يقال : بالنسبة إلى استدلاله بآية : ( فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه ) . 2

آية المائدة
واستدل أيضا بقوله تعالى : ( ربنا أنزل علينا مائدة من السّماء ، تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ) . 3
فقد اعتبر يوم نزول المائدة السّماوية عيداً وآية ، مع أنها لأجل إشباع
____________
1 و 2 ـ راجع : تفسير الميزان | ج 16 | ص 166 .
2 ـ سورة المائدة | 114 .

( 41 )

البطون . فيوم ميلاده ( ص ) ، ويوم بعثته ، الذي هو مبدأ تكامل فكر الأمم على مدى التاريخ ؛ أعظم من هذه الآية ، وأجل من ذلك العيد ، فاتخاذه عيداً يكون بطريق أولى ... 1
ويمكن الجواب عن ذلك : بأن العيد المشار إليه في الآية ، قد جاء على وفق الحالة الطبيعية للأعياد عادة ، لأن المائدة تنزل في وقت معين ، وقد طلب عود نزولها واستمرارها ، ثم يجتمع الناس عليها للاستفادة منها ، ولا بدّ من ان يحصل الفرح والابتهاج بها ، فكل الخصوصيات المعتبرة في العيد ، لابدّ وأن تحصل بتبرع منا ، مع عدم المساهمة الشرعية لا في حصولها ، ولا في إمضانها وجعل المشروعية لها .

السنّة الحسنة والسنّة السيئة
وأمّا الاستدلال على مشروعية الاحتفالات والمواسم بأنها من السنن الحسنة فسيأتي حين الرّد على ما يتذرع به المانعون أنه لايصلح للاستدلال به ، فلا حاجة إلى التكرار هنا ...

والضحى ...
واستدلوا أيضا على مشروعية الاحتفالات والمواسم بأن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بالضحى ، وباللّيل إذا سجى ، وقد روي أن المراد ليلة المولد ، أو ليلة المعراج . 2
والجواب أن ذلك يدل على أهمية هذه الليلة وامتيازها ، ولكنه لا يدلّ على مشروعية إقامة الموالد والمواسم في زمان معين ، أو في مكان معين ، بل ليس فيها إنّه إشارة إلى أيّ نحو من أنحاء التجمعات ، لا نفياً ولا اثباتاً .
____________
1 ـ راجع : آئين وهابيت ص 182 | 183 .
2 ـ ستأتي الروايات ومصادرها حين الردّ على ما يتذرع به المانعون فلا حاجة الى ذكرها هنا ايضا .