الفصل الرابع

أدلة المانعين ... سراب


( 60 )


( 61 )

الميول ... والمشاعر
ونحن ... لا نستطيع أن نوافق المانعين في استدلالاتهم المتقدمة ! لأننا لا نجد فيها ما يكفي لتوفير الحدّ الأدنى من القناعة بما يريدون تكريسه كحكم شرعي ، إلهي ، له بعد عقائدي ، بنحو أو بآخر .

بل قد نجد في كلماتهم المتناثرة ، هنا وهناك ، ما يشعرنا بأن القضية لا تعدو عن أن تكون استسلاما لمشاعر طائفية ، أفرزت هذا الاصرار الذي يصل إلى حدّ التحدّي ، على إطلاق شعارات قوية ، وصاخبة ومبهمة كذلك ، بهدف التأثير على حالة التوازن العاطفي لدى الآخرين ، ليمكن من ثمّ إعطاء صفة الشرعية لأمر قد يكون عن منطق الشرع ، والعقل والفطرة ...

وحيث أن عمدة وأقصى ما يستندون إليه هو ما تقدم في الفصل السابق ، فإننا لابد وأن نذكّر القارئ ببعض مواضع الخلل فيها . وتلك قناعاتنا التي نلتزم بكل آثارها ، سواء كانت بالنسبة لكلام الآخرين ، تصير رداً وتفنيداً ، أو تتضمن قبولاً وتأييداً ...

هذا ... ومن أجل بيان مواضع الخلل في كلماتهم المتقدمة ، نتكلم في الموضوع على النحور التالي :


( 62 )

الاحتفالات والمواسم بدعة
قد تقدم أنهم يعتبرون المواسم والذكريات ، ونحوها بدعة .
وقد حاول البعض التخلص من هذا الاتهام ، والرد عليه ، فقال ابن حجر :
« عمل المولد بدعة ، لم تنقل عن احد من السلف الصالح ، من القرون الثلاثة ، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرّى في عملها المحاسن ، وتجنّب ضدها كان بدعة حسنة ، وإلا ، فلا » . 1

وقال الحلبي الشافعي : « ... جرت عادة كثير من الناس : إذا سمعوا بذكر وصفه ( ص ) 2 أن يقوموا تعظيماً له ( ص ) .

وهذا القيام بدعة ، لا أصل لها . أي ولكن هي بدعة حسنة ، لأنه ليس كل بدعة مذمومة ، وقد قال سيدنا عمر ( رض ) في اجتماع الناس لصلاة التراويح : نعمت البدعة هي . 3

وقد قال العزيز بن عبدالسلام : إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة ، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره .. 4 ولا ينافي ذلك قوله ( ص ) : « إيّاكم ومحدثات الأمور ، فان كل بدعة ضلالة » وقوله ( ص ) : « من أحدث في أمرنا ، أي شرعنا ، ما ليس منه ، فهو ردّ عليه » . لأن هذا عام أريد به خاص ، فقد قال إمامنا الشافعي قدس الله سره : ما أحدث وخالف كتاباً أو سنّة ، أو إجماعا أو أثراً ، فهو البدعة
____________
1 ـ رسالة حسن المقصد ، المطبوعة مع النعمة الكبرى على العالم | ص 88 ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين | ص 114 .
2 ـ كلام عمر موجود أيضا في : تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات | ج 1 | ص 23 ، ونصب الراية | ج 2 | ص 153 ، ودلائل الصدق | ج 3 | قسم 1 . وحول استحسان بعض البدع ، راجع : المصنف | ج 3 | ص 78 و 79 و 80 .
4 ـ راجع كلام العزيز بن عبدالسلام أيضا في تهذيب الأسماء واللغات | قسم اللغات | ج 1 | ص 22 | 23 ، وفي القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل | ص 47 عن قواعد الأحكام في مصالح الأنام | ج 2 | ص 172 ـ 174 ، وقريب منه كلام القرافي الذي نقله عنه الشاطبي في الاعتصام | ج 1 | ص 147 ـ 150 .

( 63 )

الضلالة . وما أحدث من الخير ، ولم يخالف شيئا من ذلك ، فهو البدعة المحمودة . 1
وقد وجد القيام عند ذكر اسمه ( ص ) من عالم الأمة ، ومقتدى الأئمة ديناً ، وورعاً ، الإمام تقي الدين السبكي ، وتابعه على ذلك مشايخ الاسلام في عصره ، ... إلى أن قال : ويكفي مثل ذلك في الاقتداء .
وقد قال ابن حجر الهيثمي : والحاصل : أن البدعة الحسنة متفق على ندبها . وعمل المولد ، واجتماع الناس له ، كذلك ، أي بدعة حسنة .
ومن ثم قال الامام أبو شامة ، شيخ الامام النووي : ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده ( ص ) من الصدقات والمعروف ، وإظهار الزينة والسرور ، فإن ذلك مع مافيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته ( ص ) ، وتعظيمه في قلب فاعل ذلك ، وشكر الله على ما منّ به من إيجاد رسوله ( ص ) ، الذي أرسله رحمة للعالمين ... هذا كلامه . 2
وقال النووي : إن البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة . قال الامام المجمع على إمامته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته ، أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه ، في آخر كتاب القواعد : « البدعة منقسمة الى واجبة ومحرمة ، ومندوبة ، ومكروهة ، ومباحة الخ ... » 3 ثم نقل كلامه بطوله ...
ولكننا بدورنا نقول : إن هذا الكلام ضعيف ، لوجهين يظهر منهما أيضا دليلان على جواز إقامة هذه المراسم والمواسم .
فأولاً : إن ما ذكر من تقسيم البدعة إلى حسنة ومذمومة ، ومن كونها تنقسم الى الاحكام الخمسة ... ثم الاستشهاد بقول عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح : نعمت البدعة هي ...
ان ذلك كله ... ليس في محله ، ولا يستند إلى أساس صحيح .
وذلك ... لأن البدعة الشرعية هي : إدخال ما ليس من الدين في الدين .
____________
1 ـ راجع كلام الشافعي أيضا في تهذيب الأسماء واللغات | قسم اللغات | ج 1 | ص 23 .
2 ـ السيرة الحلبية | ج 1 | ص 83 | 84 ، وراجع : السيرة النبوية لزيني دحلان | ج 1 | ص 24 | 25 ، ورسالة حسن المقصد للسيوطي ، المطبوعة مع : النعمة الكبرى على العالم | ص 81 | 82 ، وراجع : جواهر البحار | ج 3 | ص 340 | 341 و 338 .
3 ـ تهذيب الأسماء واللغات ، قسم اللغات | ج 1 | ص 22 و 23 .

( 64 )

استناداً إلى ما روي عنه ( ص ) : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » 1 لأن قوله « في امرنا » معناه : أدخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منها ، بل لقد قال السيد الأمين عن البدعة : « لا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص ، لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى ، ولا التنقيص منها ، لا ختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه ، الذين لا يصدرون إلاّ عن أمره » . 2
فالبدعة في الشرع ، وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة ، بل هي من غير صاحب الشرع قبيحة مطلقا .
وأمّا الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد ، وأمور المعاش ، والحياة ، فهو الذي يقبل القسمة إلى الحسن والقبيح ، ويكون موضوعا للأحكام الخمسة : الوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ، والإباحة ... ( ويلاحظ : الخلط في الأمثلة التي ذكرها عبد العزيز بن عبدالاسلام بين هذا القسم وبين سابقه ) . 3
وعليه فالأمور العادية والحياتية ونحوها ، مما لم يرد من الشارع حكم متعلق بها بخصوصها ، أو بعموم يكون كل منها أحد أفراده ومصاديقه ، إن عملها المكلف وقام بها ، أو تركها ، بعنوان أنها من الدين ، فإن لم تكن منه ، فإنه يكون قد أبدع في الدين ، وأدخل فيه ما ليس منه .
وأما إذا قام بها ، وعملها ، أو تركها ، ملتزها بها أو غير ملتزم ، لا بعنوان أنها من الدين ، ولا يدّعي أن الله سبحانه قد شرع ذلك ، مع عدم منافاة ذلك لأيّ من أحكام الدين وتعاليمه ، فلا يكون ذلك بدعة في الدين ، ولا إدخالاً ما ليس منه ، فيه .
وما نحن فيه إنما هو من هذا القبيل ، كما هو ظاهر .
إذ لو كان اختيار الأساليب المختلفة للتعبير عن التقدير والاحتزام ، المطلوب لله سبحانه بدعة ... لكان كل جديد يجري العمل به في طول البلاد وعرضها من البدع المحرّمة .
____________
1 ـ راجع : سنن أبي داود | ج 4 | ص 200 ، وسنن أبي مسلم | ج 5 | ص 133 ، ومسند أحمد | ج 6 | ص 240 و 270 .
2 ـ كشف الارتياب | ص 98 .
3 ـ راجع أمثلته في تهذيب الأسماء واللغات | قسم اللغات | ج 1 | ص 22 .

( 65 )

وليكن حينئذ ... منصب وزير التجارة ووزير النفط ، واستعمال الراديو والتلفزيون ، والتلفون ، وركوب السيارة والقطار ، والطائرة ، من البدع .
وليكن كذلك اعتبار الجلوس كل يوم على الشرفة لاحتساء كوب من الشاي ، وكذا اطلاق القاب : جلالة الملل ، ومعالي الوزير ... الى غير ذلك مما لا مجال لتعداده ؛ من البدع المحرمة ، حيث لم يرد بها نص بخصوصها ، ولأنها من محدثات الأمور ، كما يدّعي هؤلاء .
هذا ... وقد صرّحوا هم أنفسهم بأن الأشياء ما عدا العبادات منها كلها على الإباحة حتى يرد ما يوجب رفع اليد عنها ، ولا سيما ما كان من قبيل العادات 1 ... الذي هو محل كلامنا بالفعل ، حيث قد جرت عادة الناس على إقامة الذكريات لعظمائهم ، وعلى اعتبار يوم ميلاد الشخص يوم فرح ومسرة ، فيهدون له فيه الهدايا ... ويقيمون المجالس ، وكذا يوم احتجامه ...
ومن ذلك ايضا : اعتبارهم يوم الاستقلال يوما عظيما ...
الى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه ...
وثانيا : إن الحقيقة هي : ان ما نحن فيه داخل في قسم ما أمر الله سبحانه به ، وأراده . فلا يكون بدعة ، لا بالمعنى الأول ، ولا بالمعنى الثاني .
وتوضيح ذلك : إن أوامر الشارع ونواهيه ، تارة تتعلق بالشيء ، بعنوانه الخاص به ، والذي يميزه عن كل من عداه .. وتارة بتعلق لا بعنوانه بخصوصه ، بل بعنوانه العام ، ويترك أمر تحقيق المصاديق واختيارها وملاحظة انطباق ذلك العنوان وعدمه إليه ..
فاختيار المكلف لهذا المصداق أو لذاك لا يعتبر بدعة ، ولا إحداثا في الدين ما ليس منه ... بل هو عين الامتثال والانقياد لأحكامه ، والانصياع لأوامره ، ويستحق على ذلك الأجر الجميل ، والثواب الجزيل .
وذلك ، كما او أمر الشارع بمعونة الفقراء ، وترك اختيار المورد والمصداق ، والكيفية ، والأسلوب إلى المكلف ، فباستطاعته أن يعينهم بالعمل لهم ، أو بقضاء حوائجهم ، أو مساعدتهم ماليا ... إلى غير ذلك مما يصدق عليه أنه معونة .. وإن لم ينص الشارع على مصداق أو كيفية بالخصوص .
____________
1 ـ راجع : اقضاء الصراط المستقيم | ص 269 وراجع : إرشاد الفحول ، الصفحات الأخيرة ..
( 66 )

وكذا لو أمره باحترام الوالدين ، فيمكن أن يجسّد ذلك في ضمن المصداق ، الذي هو الوقوف لهما حين قدومهما ، وبإجلاسهما في صدر المجلس ، وبالجلوس بين أيديهما في حالة الخضوع والتأدب ، وبعدم التقدم عليهما في المشي وفي المجالس ، وبتقبيل أيديهما ، وبغير ذلك من امور .
وكذا الحال ... لو صدر الأمر باحترام النبيّ ، ومحبته ، وتعظيمه ، وإجلاله ، وتوقيره ، مع عدم التحديد المانع من الأغيار في نوع بخصوصه ... فبإمكان المكلف أن يختار ما شاء من المصاديق التي تنطبق عليها تلك العناوين ، ولا يكون ذلك بدعة ، ولا إدخالا لما ليس من الدين في الدين .
فيمكن تعظيمه صلّى الله عليه وآله وسلم ، وتوقيره وتبحيله ، بإقامة الذكريات له ، ويمكن أن يكون بنشر كراماته وفضائله ، وبالصلاة والتسليم عليه كلما ذكر ، وبتأليف الكتب عن حياته الشريفة ، وبإطلاق اسمه على الجامعات ، والمعاهد ، وغيرها ، وبغير ذلك من مصاديق التعظيم والتبجيل ، والالتزام بالوقت المخصوص لا حرج فيه مادام أنه لا يعتبر من الدين ، كما لا يعتبر توقيت درس الفقه مثلا بكونه بعد صلاة المغرب والعشاء ، كما يعترف به هؤلاء وينصحون به 1 ادخالا في الدين ما ليس منه ...
وهكذا يقال بالنسبة لما ورد من الحث على البكاء على الامام الحسين عليه الصلاة والسلام والتحزّن لما أصابه وصحبه الأبرار حيث يترك أمر اختيار الكيفية والوقت الى المكلفين .

ألسّنة الحسنة .. والسنّة السيّئة :
بقي أن نشير إلى أنّ الاستدلال على مشروعية عمل المولد بأنه سنّة حسنة ، وقد قال ( ص ) : « من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها الخ ... » 2
في غير محله أيضا ... وذلك لأن مورد الرواية ـ حسبما يقولون ـ هو التصدّق على اؤلئك الذين جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم بحالة يرثى
____________
1 ـ ألإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف ، ص 67 .
2 ـ نقل هذا الاستدلال في القول الفصل ص 43 | 44 عن : محمد بن علوي المالكي في مقدمته لطبقة مولد ابن الدبيع ص 13 وفي رسالته : حول الاحتفال بالمولد النبوي ص 18 وفي مقدمته للمورد المروي ص 17 .

( 67 )

لها ، فخطب صلّى الله عليه وآله وسلم النس ، وحثّهم على الصدقة ، فجاء أنصاري بصرّة ، ثم تتابع الناس بعده ، فقال صلّى الله عليه وآله : « من سنّ سنّة حسنه الخ ... » 1
فمعنى ذلك : هو أن مورد الرواية هو تعيين المورد والمصداق للنص الشرعي المتعلق بالعنوان العام ، حسبما تقدمت الإشارة اليه ، وليس موردها ما لا نص فيه أصلا .
هذا كله .. عدا عن أن ما نحن فيه ليس من السنّة التي معناها الإدخال في الشرع ، بل هو من الأمور المباحة ، كما تقدم .

الذكريات عبادة لصاحب الذكرى
واستدلوا أيضا على حرمة الموالد والذكريات للأولياء ، بأنها نوع من العبادة لهم وتعظيمهم .
ونقول : إن ابن تيمية قد خلط بين العبادة والتعظيم وصار يكفّر الناس استنادا الى ذلك ، ونحن نعرض الفرق بينهما ليتضح زيف هذا الكلام .. فنقول :
قال السيد الامين رحمه الله تعالى :
« العبادة بمعناها اللغوي ، الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد ، ليست شركاً ولا كفراً قطعاً ، وإلاّ لزم كفر الناس جميعا من لدن آدم إلى يومنا هذا ، لأن العبادة بمعنى الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد ، فليزم كفر المملوك ، والزوجة ، والولد ، والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود ، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى ، والزوج ، والأب ، والمخدوم ، والمستأجر ، والملك ، والأمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضا . بل كفر الأنبياء ، لإطاعتهم آباءهم ، وخضوعهم لهم ، وقد أوجب الله إطاعة أوامر الابوين ، وخفض جناج الذل لهما ، وقال لرسوله ( ص ) « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » ( وأمر بتعزير النبي ( ص ) وتوقيره ) وأمر بإطاعة الزوجة لزوجها ... وأوجب طاعة العبيد لمواليهم ، وسمّاهم عبيداً .
____________
1 ـ راجع : صحيح مسلم | ج 3 | ص 87 ، والسنن الكبرى | ج 4 | ص 175 و 176 وسنن النسائي | ج 5 | ص 75 ـ 77 ومسند أحمد | ج 4 | ص 359 و 360 و 361 ، والزهد والرقائق ص 513 | 514 ، والمسند للحميدي | ج 2 ص 352 | 353 ، والمعتصر من المختصر | ج 2 | ص 251 | 252 .
( 68 )

وأطلق على العاصي أنه عبد الشيطان ، وعبد الهوى ، وأن الإنسان عبد الشهوات ، إلى غير ذلك ممّا لا مجال له .. ولا ريب في أن هذه ، الأمور التي هي طاعة وخضوع ، وكذلك ما أشير إليه من تسمية ما ذكر عبادة ؛ لا يوجب الكفر والارتداد ، وإلاّ لم يسلم منه أحد ، ولاضرورة قاضية بخلافه ، السجود هو منتهى التذلل والخضوع فقد يكون حراما اذا كان على نحو العبادة للشخص وقد لا يكون كذلك مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، وسجود يعقوب وزوجته وبنيه ليوسف ، كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم ، فدل ذلك على ان السجود ليس موجباً للكفر والشرك مطلقا ليكون نظير اتخاذ شريك للباري ، وإلاّ لم يأمر الله به ملائكته ، ولا حكاه عن أنبيائه وغيرهم . وعلم من ذلك ايضا : أن مطلق الخضوع والتعظيم ، حتى السجود لغير الله ، ليس في نفسه شركا وكفرا ، حتى ولو اطلق عليه اسم « العبادة » لغة ... إلا إذا دلّ دليل على تحريمه ، مثل السجود ، الذي اتفقت كلمة المسلمين على تحريم ما كان منه لغير الله سبحانه .
ونسوق هنا مثالا آخر ، وهو أنه قد أطلق لفظ « العبادة » على الدعاء ، قال تعالى : ,لا.« أدعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي الخ ... » 1 . وعنه ( ص ) : « الدعاء مخ العبادة » .
والمراد بالدعاء ، ليس مطلق أن ينادي الانسان شخصا ما ، وإلاّ لكان كل من نادى أحداً فقد عبده ... بل المراد : سؤال الله تعالى الحاجة ، مع الخضوع والتذلل ، واعتباره الفاعل المختار ، والمالك الحقيقي لأمور الدنيا والآخرة .
وأما ما ورد : « من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان ينطق عن الله ، فقد عبدالله ، وإن كان ينطق عن غير الله ، فقد عبد غير الله » فهو من باب التنزيل والادّعاء ، ليس إلاّ ..
والخلاصة : ان ما يترتب عليه الكفر ، أو الشرك ليس هو التعظيم ، ومطلق التعظيم ليس عبادة ..
وإنما الذي يترتب عليه الكفر والشرك هو الخضوع والانقياد الخاص ، والذي صرح الشارع بالنهي عنه ، أو كان معه اعتقاد : ان غير الله هو المالك المختار ،
____________
1 ـ غافر : 60 .
( 69 )

الذي بيده مقاليد كل شيء أوّلاً وبالذات .
وعليه فكل ما لم يكن كذلك من مصاديق التعظيم لم يكن عبادة ، فضلا عن ان يكون عبادة محرّمة ، بل قد يكون تعظيماً مباحاً مثلاً : الإنحناء ، ورفع الجندي يده لقائده ، ورفع القبّعه عند الإفرنج ، وحتى السجود أحيانا ، وقد يكون تعظيماً مطلوباً مثل تعظيم الحجر الأسود بتقبيله ، وكذا تعظيم الكعبة ، وتعظيم النبيّ والإمام ، والوالدين ، والعلماء وغير ذلك .. 1
وتعظيم النبيّ ( ص ) مطلوب ومحبوب لله سبحانه ... ، وقد كان المسلمون يعظمون النبيّ ( ص ) غاية التعظيم ، حتى أنهم كانوا لا يحدّون النظر إليه تعظيماً له .. 2
وكتاب التبرك « تبرّك الصحابة والتابعين بآثار الانبياء والصالحين » للعالم العلامة الشيخ على الاحمدي حفظه الله لخير شاهد وأوفى دليل على شدة تعظيم الصحابة له صلّى الله عليه وآله وسلم .. وكذلك على تعظيم العلماء والصلحاء .
ولسنا بحاجة إلى إثبات لزوم تعظيم النبيّ ( ص ) ، ويكفي أن نشير هنا إلى قوله تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ) 3
وقوله تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ ، ولا تجهروا له بالقول ، كجهر بعضكم لبعض ) 4 .
بل .. إذا كان يجب احترام كل مؤمن وتعظيمه ، انطلاقا مما ورد في الحديث من أن المؤمن أعظم حرمة من الكعبة . 5
ولزوم تعظيم الكعبة وتكريمها أظهر من الشمس ، وأبين من الأمس ... فكيف يكون الحال بالنسبة لسيد الخلق أجمعين وأفضل كل ولد آدم على الاطلاق من الأولين والآخرين ، فهل يكون تعظيمه وتوقيره واحترامه عبادةً له ، وحراماً شرعاً ؟ معاذ الله .. ( كبرت كلمة تخرج وأفواههم ) .
____________
1 ـ كشف الارتياب | ص 103 ـ 106 بتصرف ، وتلخيص .
2 ـ البحار | ج 1 | ص 32 عن الشفاء لعياض .
3 ـ النور | 63 .
4 ـ الحجرات : 2 .
5 ـ الجامع الصحيح للترمذي | ج 4 | ص 378 ، وسنن ابن ماجة | ج 2 | ص 297 ، و راجع المصنف لعبد الرزاق | ج 5 | ص 139 ، وكشف الارتياب | ص 446 | 477 .

( 70 )

والضحى ، والليل إذا سجى
وبالنسبة لتعظيم خصوص ليلة مولده ( ص ) وليلة المعراج ، نوردها هنا نصّاً يشير إلى هذا التعظيم من قبل الله سبحانه ، فقد قال الحلبي وغيره :
« ... وقد أقسم الله بليلة مولده في قوله تعالى : « والضّحى ، واللّيل » وقيل المراد ليلة الإسراء . ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما ، أي استعمل اللّيل فيهما » . 1
وفي بعض المصادر : أن المراد بالضّحى هو الساعة التي خرّ فيها السحرة سجّداً ، وباللّيل ليلة المعراج .
وعن الصادق عليه السلام ، وقتادة ، ومقاتل : أن المراد بالضحى ، الضحى الذي كلّم الله فيه موسى ، وباللّيل ليلة المعراج . 2

لا تجعلوا قبري عيداً
وبعد .. فإن اهمّ دليل اعتمد عليه هؤلاء هو الرواية المنسوبة إلى النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم ، والتي تضمّنت النهي عن جعل قبره صلّى الله عليه وآله وسلم عيداً .
وقد « قال الحافظ المنذري : يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره ( ص ) ، وأن لا يهمل حتى يكون كالعيد ، الذي لا يؤتى في العام إلاّ مرّتين . قال : ويؤيده قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها .. » 3 .
____________
1 ـ راجع : السيرة الحلبية | ج 1 | ص 58 ، والسيرة النبوية لدحلان | ج 1 | ص 21 | ، وقد نبّهني إلى وجود هذا النص في السيرة الحلبية أحد الفضلاء من الاخوة ، فنشكره على ذلك .
2 ـ فتح القدير | ج 5 | ص 457 ، وراجع المصادر التالية : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي | ج 2 | ص 91 ، والتفسير الكبير للرازي | ج 31 | ص 208 ، وراجع ص 109 ، وغرائب القرآن للنيسابوري ، بهامش الطبري | ج 30 | ص 107 ، والكشاف للزمخشري | ج 4 | ص 765 ، ومدارك التنزيل للنسقي ، بهامش تفسير الخازن | ج 4 | ص 385 .
3 ـ كشف الارتياب | ص 449 عن السمهودي ، والصارم المنكي | ص 297 ، وراجع ص 300 ، وعوان المعبود | ج 6 | هامش ص 31 | 32 ، وشفاء السقام | ص 67 ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيين | ص 122 ، وزيارة القبور الشرعية والشركية | ص 15 .

( 71 )

ونحن ... وان كنا نحتمل المعنى الذي ذكره المنذري ، إلا أن ما جعله مؤيدا ، لا يصلح للتأييد ، إذ ان الظاهر هو : ان هذه الفقرة في صدر بيان كراهة جعل القبور في بيوتهم . وان دفن النبي ( ص ) في بيت ابنته فاطمة 1 إنما كان لمصلحة خاصة اقتضت ذلك ، فليس لهم أن يتخذوا ذلك مؤشرا على رجحان الدفن في البيوت . « وذلك لان للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم ، وهي انهم يدفنون حيث يقبضون » . 2
فلا يصح ما ذكروه من انه ( ص ) لم يدفن في الصحراء ، لئلا يصلّى عند قبره ، ويتخذ مسجداً فيتخذ قبره وثناً . 3
وذلك لما قدّمناه من الرواية المقتضية للخصوصية .. هذا بالاضافة إلى أن دفنه في بيته أدعى لأن يتّخذ مسجداً ، خصوصا وأنه متصل بالمسجد النبوي ، ولو كان في الصّحراء ، لأمكن المنع عنه بصورة أسهل .. وقد منع عمر من الصلاة عند شجرة بيعة الرضوان ، فامتنع الناس ، ولذلك نظائر أخرى . 4
وأمّا بالنسبة لفقرة : « لا تتخذوا قبري عيدا .. » .. فيحتمل قويّاً : أن يكون المراد : ان اجتماعهم عند قبره ( ص ) ينبغي أن يكو مصحوبا بالخشوع والتأمل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته واحترامه ( ص ) ، فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً .. فلا يكون ذلك مصحوبا باللهو واللعب والغفلة والمزاح ، وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم .. ولعل هذا هو مراد السبكي حينما قال :
« ويحتمل : لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك ، بل لايؤتى
____________
1 ـ لقد نشرنا مقالاً أثبتنا فيه أنه ( ص ) دفن في بيت فاطمة ، لا في بيت عائشة فراجع كتابنا : دراسات و حوث في التاريخ والاسلام | ج 1 .
2 ـ مقدمه شفاء السفام | ص 125 | 126 والتوسل بالنبيّ وجهله الوهابيّين .
3 ـ راجع : مقدمة شفاء السقام ، المسماة : تظهير الفؤاد من دنس الاعتقاد | ص 118 ، والصارم المنكي | ص 261 | 262 ، والتوسل بالنبيّ وجهلة الوهابيّين | ص 151 .
4 ـ راجع : الدر المنثور | ج 6 | ص 73 ، عن مصنف ابن أبي شيبة ، وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي | ص 144 و 145 ، والسيرة الحلبية | ج 3 | ص 25 ، وفتح الباري | ج 1 | ص 469 ، وج 7 | ص 345 ، وإرشاد الساري | ج 6 | ص 350 ، وطبقات ابن سعد | ج 2 ، قسم 1 | ص 73 ، وشرح النهج للمعتزلي | ج 1 | ص 178 ، وراجع الغدير | ج 6 | ص 146 و 147 عن من تقدم وعن غيره ، وكذا كتاب التبرك | ص 226 ـ 235 عن من تقدم وغيره .

( 72 )

إلاّ للزيارة والسلام والدعاء » . 1
أمّا الرقص والغناء وغير ذلك من المحرّمات ، فهي من الأمور الممنوع عنها من الأساس فلا يبقى مجال للإشكال بها ، حسبما ورد في كلام ابن الحاج وابن تيمية ...
وأمّا قوله ( ص ) : وصلوّا عليّ حيث ما كنتم ، فهو بيان لأمر ثالث آخر ، وهو : أنّ الصلاة على النبيّ ( ص ) لا يجب أن يراعى فيها الحضور عنده ، بل هي تصله عن بعد ، كما تصله عن قرب .
وأمّا احتمال : أن يكون المعنى لقوله : لا تتخذوا قبري عيداً .. لا تتخذوا له وقتا مخصوصا 2 ؛ فهو بعيد عن مساق الكلام ، وعن ظاهره ، بل يكون أشبه بالأحاجي والألغاز ، كما ذكره البعض . 3
وبعد كل ما تقدم ، وبعد أن كان الظاهر من العبارة هو المعنى الذي أشرنا إليه ، مع احتمال أن يكون كلام المنذري أيضا مراداً .. فلا تبقى الرواية صالحة للاستدلال بها على المنع من الاجتماعات ، وإقامة الموالد والذكريات والدعاء والزيارة في أوقات معينة ، كما يريد ابن تيمية وأتباعه إثباته .. إذ يكفي لرد الاستدلال ورود الاحتمال العقلائي فيه ، فكيف إذا كان هذا الاحتمال من القوة بحيث يصير صالحاً لأن يدّعى أنه هو الظاهر من الرواية دون سواه ؟ ولو سلّمنا : أن احتمال إرادة المنع عن الموالد والذكريات والاجتماعات وارد في الرواية ، فإنها لاأقل تصير مجملة لا ظهور فيها ، فتسقط عن صلاحيتها للاستدلال بها .. هذا كله .. بالاضافة الى أن الرواية خاصة بالتجمع عند القبور ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى غيرها من المواضع ، ولعل لقبر النبيّ ( ص ) خصوصية في المقام ، وهي : أنه يمكن أن يؤدى بهم الأمر إلى نحو من العبادة له ، فمنع الشارع من التجمع عنده احتياطاً لذلك ، بخلاف قبر غيره ( ص ) ، فان احتمال ذلك أبعد ..
____________
1 ـ كشف الارتياب | ص 449 عن السمهودي في وفاء ، وشفاء السقام | ص 67 ، والتوسل بالنبي وجهلة الوهابيّين | ص 122 ، والصارم المنكي | ص 297 .
2 ـ المصادر المتقدمة ...
3 ـ راجع : عون المعبود | ج 6 | ص 31 | 32 ، وراجع الصارم المنكي | ص 297 .