ما هو سر هذا التشدد والصرامة عند اهل السنة ؟

ذلك ان الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وانما ادى الينا ذلك كله الصحابة . وهؤلاء الذين ينقصون احداً من الصحابة يريدون ان يخرجوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح اولى بهم وهم زنادقة (1) .

استذكار

يقصد اهل السنة بالصحابة ما قصده ابن حجر عند تعريفه للصحابي بدءاً من خديجة وعلي وزيد بن حارثة وابي بكر وانتهاءً بآخر طفل رأى الرسول او رآه الرسول ، ويستحسن ان نرجع لعرضنا لتحليل ابن حجر لتعريف الصحابي .

محاولة للتخفيف من هذا الغلو

قال المازري في شرح البرهان ( لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً او زاره لماماً ، او اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب ، وانما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصره واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون ) انتهى (2) .

استنكار المحاولة ودفنها

والجواب على ذلك ان التغييرات المذكورة خرجت مخرج الغالب والا فالمراد من اتصف بالاتفاق والقتال بالفعل او القوة . وأما كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء . وقال الشيخ صلاح العلاني ( هذا قول غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن العاص وغيرهم ممن وفد عليه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقم عنده الا قليلاً وانصرف . كذلك من لم يعرف الا برواية الحديث الواحد ولم يعرف مقدار اقامته من اعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر ) (3) .
____________
(1) راجع الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 و 18 .
(2) الاعراف ـ 157 ، راجع الاصابة في تمييز الصحابة ص 19 .
(3) راجع الاصابة في تمييز الصحابة ص 19 .

( 22 )

الآثار المترتبة على هذا التعميم

المساواة العشوائية ، فالصحابة حسب رأي أهل السنة متساوون بالعدالة ، فجميعهم عدول ، فالقاعد كالمجاهد ، والعالم كالجاهل ، ومن اسلم عن اقتناع تماماً كمن اسلم لينجو بروحه ، والسابق كاللاحق ، والمنفق كالمفتر ، والعاصي كالمطيع ، والطفل المميز تماماً كالراشد ، ومن قاتل الاسلام في كل المعارك تماما كمن قاتل مع الاسلام كل معاركه . فعلي عليه السلام الذي قاتل مع الاسلام كل معاركه هو تماماً كأبي سفيان الذي قاد كل الحروب ضد الاسلام ، وهو تماماً كمعاوية ابن ابي سفيان ! وحمزة عليه السلام وهو المقتول وسيد الشهداء تماماً مثل قاتله ( وحشي ) وعثمان بن عفان المبشر بالجنة هو تماماً مثل عمه الحكم بن العاص والد خلفاء بني امية ، وهو طريد رسول الله وطريد صاحبيه ، وقد لعنه الرسول ولعن ولده (1) وعبد الله بن أُبي سرح الذي افترى على الله الكذب وارتد عن الاسلام واباح الرسول دمه ولو تعلق باستار الكعبة (2) هو تماماً كأبي بكر ، وعبد الله بن ابي زعيم المنافقين تماماً كعمار بن ياسر ... الخ .
كيف لا ؟ فكلهم صحابة ، وكلهم عدول ، وكلهم في الجنة ، ولا يدخل احد منهم النار ابداً كما نقلنا !!

تساؤل واستنتاج

هل يعقل ان يكون العالم كالجاهل والقاعد كالمجاهد ، ومن اسلم عن اقتناع كمن اسلم خوفا ؟ هل من المعقول ان يتساوى القاتل والمقتول ؟ وهل يتساوى السابق باللاحق ، والمنفق بالمقتر ، والعاصي بالمطيع وصادق الايمان بالمتظاهر ؟ وان يتساوى المؤمن والمنافق ... الخ ؟ هل يعقل ان يكون معاويه مثل علي ؟
لا الشرع يقبل هذه المساواة ولا العقل ولا المنطق ، وهي ظلم صارخ وخلط فظيع ينفر منه العقل وتأباها الفطرة الانسانية السليمة (3) .
____________
(1 و 2) راجع كنز العمال ج 11 ص 358 ـ 361 وراجع المعارف لابن قتيبة ص 131 و 141 و 54 .
(3) راجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 106 وما فوق .

( 23 )

نقد رأي أهل السنة
الائتلاف والاختلاف

على ضوء المعنيين اللغوي والاصطلاحي لكلمة صحابة فانه لا بديل امام اتباع الاسلام ( الفرق الاسلامية ) من الاتفاق على ان اصطلاح الصحابة يشمل كل الذين اسلموا او تظاهروا بالاسلام وسمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم او جالسوه او شاهدوا ، ولكن الخلاف يكمن في التعميم ، فبينما يرى اهل السنة ان الصحابة بهذا المعنى الواسع كلهم عدول ، الا ان الفرق الاسلامية الآخرى لا تقر اهل السنة على ذلك ولا توافق على هذا التعميم .

محاولة للتوفيق

الصحابة بالمعنى الواسع الذي يركن اليه اهل السنة هم كل شعب دولة النبي ، او هم كل الامة الاسلامية التي دانت لدولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم اول المخاطبين المعنيين بآيات القرآن الكريم . فعليهم طبقت احكامه كلها ، فمن اعلن اسلامه وشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله اعتبر مسلماً ومواطناً في دولة النبي ، لان الله هو المطلع على الضمائر ، العالم بخائنة الاعين وما تخفي الصدور ، وهو وحده الذي يثيب على هذا الاسلام . وانطلاقاً من هذا الاعتقاد ، فقد كان النبي يكتفي بالظاهر ويترك البواطن لله ، وسلوك الانسان متروك للمستقبل ولرحمة الله وتأثير المجتمع المسلم عليه ، ولموقف الفرد من معارك الايمان مع الكفر تحت قيادة النبي او من ينتدبه . ومن الطبيعي ان النبي لم يقل لمنافق انت منافق ، بل كان يدعو الله ان يستر على عيوب خلقه وان يصلحهم ويهديهم ، مع ان القرآن الكريم حافل بالآيات التي تقرع بشدة المنافقين المنتشرين في عاصمته المدينة ومن حولها من الاعراب ، وقد كشفت هذه الآيات اسرارهم ، وفضحت اضغانهم ، وعالجت اموراً واقعية ، ووصفت وشخصت حالات فردية لاشخاص كانوا يعتبرون صحابة ، بل واقيمت الحدود على الكثير منهم .
والشريعة وضعت صفات موضوعية لاعمال البر والتقوى ولاعمال الفجور ، فمن توافرت فيه صفات معينة حشرته تلك الصفات باحدى هاتين المجموعتين ، وترجمة


( 24 )

الصفات وبيانها متروك لسلوك الانسان ميدانياً . فالصدام مع الكفر لم يتوقف طيلة حياة النبي ، والانسان بطبعه يعكس دائما حقيقة اعتقاده بسلوكه آجلاً ام عاجلاً . وبانتقال الرسول الى الرفيق الاعلى ، كان كل مسلم من مواطني الدولة الاسلامية يعرف حقيقة موقعه في حوض التقوى او في بؤرة الفجور ، وعرف الناس كلهم منازل بعضهم ، مع ان المجتمع المسلم ، خاصة مجتمع المدينة المنورة ، كان مجتمع صحابة ، ولكل واحد من افراده صفة صحابي لغة واصطلاحا . ثم من يأمن مكر الله ؟ وما معنى الامور بخواتمها ؟ انه لا بديل من تقسيم الصحابة الكرام الى مجموعتين كبيرتين :
1 ـ افاضل الصحابة : وهم الاخبار الذين قامت الدولة على اكتافهم وتحملوا سخرية واذى الاكثرية الكافرة حتى ظهر امر الله ، وتمسكوا بأمر الله ووالوا نبيه ووالوا من والاه ، وانتقلوا الى جوار ربهم وهم معتصمون بحبل الله ، فهؤلاء عدول بالاجماع ولا تشذ عن ذلك اية فرقة من الفرق الاسلامية .
2 ـ بقية الصحابة : وهم متفاوتون ، الله اعلم بهم ، فمنهم الصبي ، ومنهم المنافق . فالمنافقون الاشرار جعلهم الله في الدرك الاسفل من النار مع انهم كانوا يتظاهرون بالاسلام ويسمون ايضا صحابة بكل المعايير الموضوعية المعروفه عند اهل السنة .

ما هي الفائدة من هذا التقسيم ؟

ان معرفة افاضل الصحابة امر في غاية الاهمية ، فهم الذين يبايعون الامام البيعة الخاصة ، وهم ركن من اركان اهل الشورى ، وهم الذين ينفذون اوامر الاسلام ، وهم حكومة الامام الفعلية ، وهم الذين يقومون بتهيئة المجتمع لتلقي الذكر ولتطبيق الشريعة ولاعطاء البيعة العامة ، وبرضاهم يجب ان ترضى العامة ، وبسخطهم ان يسخطوا .
فاذا تحقق ذلك نجت الامة ونجوا ، وان لم يتحقق هلكت الامة وتأخروا ، ووسد الامر لمن يغلب . وفائدة هذا التقسيم الآن هو دراسة الماضي دراسة موضوعية لمعرفة سر اختلاف المسلمين وبعثرة كلمتهم وانهيار دولتهم ، تمهيداً لاستشراق مستقبلهم وتوثيق خطواتهم بحيث تبقى ضمن المقصود الشرعي كطريق اوحد لتوحيدهم ثانية واقامة دولتهم التي ينبغي ان تقوم على الاسس الشرعية ، حتى تدوم وتتحقق غايتها ولا تنهار ثانية .


( 25 )

ثم ان التفضيل ضروري لمعرفة الافضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة . يقول تعالى ( ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها ) وقد فسرها الطبري باسناد الولاية لمن هو جدير بها . وكيف يمكن تأدية هذه الامانات في هذا المجال دون اللجوء للتفاضل ؟ ان اول من سمع بذلك هم الصحابة ، ومن المعني بذلك غيرهم ؟ !

التفاضل سنة الهية

التفاضل سنة الهية ، ومنهج من مناهج الحياة ، وحافز من حوافز السمو بها تقتضيه طبيعة الحياة ، ويقتضيه التباين بين الخلق في القدرة والقوة والفهم ، وتحقيق العدل السياسي والوظيفي من حيث وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، المؤدي لتحقيق الغاية الشرعية . ووسيلة ذلك كله هو نظام التفاضل الشرعي في الاسلام ، على اعتبار ان التفضيل مكافأة وحافز الهي .

الدليل الشرعي للتفاضل

وسيلة التفاضل مكرسة بالشريعة الاسلامية وبروحها العامة ، قال تعالى ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وانفسهم على القاعدين ) ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) . والتفضيل وارد حتى على مستوى الاسر والاقوام ، فها هو سبحانه وتعالى يخاطب بني اسرائيل ( اني فضلتكم على العالمين ) ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً ) ( واسماعيل واليسع ويونس ولوطاً ) ( وللآخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا ) ( لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل اولئك اعظم درجة ) ... الخ .
والتفضيل ضرورة لمعرفة الافضل ومن هو المستحق لملء الوظائف العامة عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من ولّى على عصابة رجلاً وهو يجد من هو ارضى لله منه فقد خان الله ورسوله ) .

طبقات الصحابة

ان الصحابة شرعاً وعقلاً وواقعاً ليسوا بدرجة واحدة . فمنهم الصادقون وهم طبقات في صدقهم ، ومنهم الاقوياء وهم طبقات في قوتهم ، ومنهم الضعفاء وهم ايضا طبقات في درجات ضعفهم ، ومنهم المنافقون وهم ايضا طبقات في نفاقهم .


( 26 )

انظر الى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن اشار عليه بقتل عبد الله بن اُبيّ رأس النفاق في المدينة ( لعمري لنحسنن صحبته ما دام بين اظهرنا ) (1) فزعيم المنافقين حسب هذا النص صحابي ، وهو صحابي بالموازين المتفق عليها عند اهل السنة . ولو جارينا اهل السنة بحرفية فهمهم لتجمدت الحياة ولتجمد الفكر تماما . وبالرغم من اهل السنة قد اجمعوا او اشاعوا الاجماع على ان الصحابة كلهم عدول ، الا ان هذا لم يمنعهم من ان يعترفوا ضمناً بأن هذا التعميم غير واقعي وغير منطقي ويتعارض مع المقصود الشرعي . ولعل تقسيمهم الصحابة الكرام الى طبقات اكبر شاهد على هذا الاعتراف ، حيث ان انتماء الصحابة لطبقة من الطبقات يحدد شرعاً دورة في الامور السياسية والحقوق (2) وهذه ليست مسألة اجتهادية لان الشرع الحنيف بقرآنه وسنته قد وضع معالم تلك الطبقات . ومن هنا فان ابن سعد تصدى لهذه الناحية فجميع الصحابة في خمس طبقات (3) وكذلك فان الحاكم في مستدركه قسم الصحابة الى اثنتي عشرة طبقة .

طبقات الصحابة كما ذكرهم الحاكم في مستدركه (4)

الطبقة الاولى : الذين اسلموا بمكة قبل الهجرة كالخلفاء الراشدين .
الطبقة الثانية : اصحاب دار الندوة .
الطبقة الثالثة : مهاجروا الحبشة .
الطبقة الرابعة : اصحاب العقبة الاولى .
الطبقة الخامسة : اصحاب العقبة الثانية .
الطبقة السادسة : اول المهاجرين الذين وصلوا بعد هجرة الرسول للمدينة .
الطبقة السابعة : أهل بدر .
الطبقة الثامنة : الذين هاجروا بين بدر والحديبية .
____________
(1) راجع الطبقات لابن سعد ج 6 ص 65 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 103 .
(2) راجع فتوح البلدان للبلاذري وانظر طريقة عمر بن الخطاب بتسلسل العطايا ومقدارها .
(3) ويمكن لمن اراد التوسع ان يراجع طبقات ابن سعد .
(4) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227 ـ 228 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 108 .

( 27 )

الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان .
الطبقة العاشرة : من هاجر بين الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
الطبقة الحادية عشرة : الطلقاء وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة كأبي سفيان ومعاوية .
الطبقة الثانية عشرة : صبيان واطفال رأوه يوم الفتح .
فأول الناس اسلاماً خديجة ثم علي عليه السلام ( تنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين واسلم علي يوم الثلاثاء ثم زيد بن حارثة ثم ابو بكر ) (1) .
وتقسيم الصحابة الى طبقات ، دخول واقعي في باب التفاضل ، فمن غير المنطقي ان يكون اول من اسلم بنفس الدرجة من العدالة التي يتمتع بها طليق اسلم يوم الفتح . وقد تنبه الى هذه الناحية الفاروق عند توزيع العطايا ، فأخذ بعين الاعتبار توزيع العطايا حسب الطبقة ، ولم يساو بين اول من اسلم وآخر من اسلم ، ولا ساوى بين من قاتل الاسلام بكل فنون القتال حتى حوصر بجزيرة الشرك مع الرجل الذي قاتل مع الإسلام كل معاكه حتى أعز الله دينه . وفي اجتماع السقيفة كانت حجة المهاجرين على الانصار هي انهم اول من عبد الله في الارض ( السابقة في الايمان ) وانهم اولياء الرسول وعشيرته واحق الناس بالامر من بعده ، ولا ينازعهم الا ظالم ، ولأن العرب تأبى ان تؤمر الانصار ونبيها من غيرهم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم .
وانظر الى قول عمر ( من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اهله وعشيرته ) هذا بالحرف ملخص ما قاله ابو بكر وعمر في السقيفة (2) الا ترى ان هذا تطبيق نظري دقيق لعملية التفاضل الشرعية وبالتالي نسف لكامل المقولة ان الصحابة كلهم بلا استثناء عدول ؟ فأذعن الانصار لتلك الحجج القوية وقالوا : طالما ان الامر هكذا فاننا لا نبايع الا علياً (3) وعند ما واجه الإمام علي القوم بحجته بعد البيعة قال بشير بن سعد الذي شق اجماع الانصار وبايع ابا بكر مخاطباً علياً : لو كان هذا الكلام سمعته الانصار منك يا علي قبل بيعتها لابي بكر ما اختلف عليك اثنان ، وما كان بالامكان الوصول الى هذه القناعات لولا
____________
(1) راجع تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 227 .
(2 و 3) راجع كتاب الطبري ج 7 ص 198 وراجع الامامة والسياسة لابن قتيبة وراجع ج 2 ص 326 من شرح النهج وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 126 و 133 .

( 28 )

اعمال نظام التفاضل كوسيلة لتقديم الاعلم والافضل والانسب لكل امر تحتاجه الامة . ونظام التفاضل يتعارض بطبيعته مع مقولة ( كل الصحابة عدول ) لانه لو صحت هذه المقولة لما كانت هنالك دواع لوجود هذا النظام ولا لسلوك منهج التفاضل باعتبار ان الجميع متساوون بالعدالة .

نظام التفاضل في الاسلام

تجنباً للخلاف والاختلاف ، واستبعاداً لدور المزاج والهوى ، وتقزيماً لاي واقع متجبر سيفرض على الامة ، فقد حدد الاسلام بنصوص قاطعة لا تحتمل الانكار والتأويل الاركان الاساسية لنظام التفاضل في الاسلام وحصرها في خمسة اركان ، لتكون مسارب للفضل والعدالة وطرقا لمنازل الخير ، وهي التي تحدد موقع الانسان المسلم وتبين دوره وتحدد حجم اعتباره . وهي مجتمعة تقدم الجواب الشرعي الامثل لكل سؤال يتعلق بالمنازل والكرامات ، وهي بالتالي الطريق الاوحد لمعرفة الاعلم والافضل والانسب في كل امر من الامور .
فاذا كان الصحابة كلهم بلا استثناء عدولاً لا فرق بين واحد وآخر ، فما الداعي لايجاد نظام التفاضل في الاسلام ؟ وما الداعي لتشريع الحدود ووضع الاحكام ؟

أركان التفاضل او مسارب العدالة

باستقراء أحكام العقيدة الالهية الاسلامية ، يتبين لنا ان التفاضل يقوم على خمسة اركان ، وهذه الاركان بمثابة موازين او معايير شرعية تحدد حجم الاعتبار لكل مسلم وتبين منزلته .
الركن الاول والاهم : القرابة الطاهرة ، فهم قيادة الامة السياسية والروحية بعد نبيها الكريم بالنص الشرعي القاطع . أما لماذا هم بالذات ؟ هذا فضل الله يؤتيه من يشاء . لماذا انزل الله الوحي على محمد واختاره للرسالة ؟ لماذا محمد بالذات ؟ لماذا موسى بالذات ؟ هذا امر بيد الله تعالى . هذه القرابة هي مركز الدائرة بالنص وهي سفينة النجاة بالنص ، وهم باب حطة بالنص ، وهم نجوم الهدى بالنص ، وهم الاسبق بالايمان بالنص ، وهم الاتقى بالنص ، وهم الاعلم بالنص ، وهم الاكثر بلاء بالنص ، ومحبتهم


( 29 )

مفروضة على الجميع بالنص ، وعميدهم في كل زمان هو الامام الشرعي للامة وهو مرجعها ... فالنبي اولاً والكتاب ثانياً ، والهادي اولاً والهداية ثانياً ... فمتى بعث الله رسالة بدون رسول ؟ ومتى انزل الله كتاباً الا على عبد ؟ وسأثبت ذلك في حينه ، فهم محط الولاية ومحورها .
الركن الثاني : السابقة في الايمان .
الركن الثالث : التقوى .
الركن الرابع : العلم .
الركن الخامس : تقييم الرسول القائد او الامام الشرعي ( المعين شرعاً ) ليقوم مقامه والذي بايعته الامة المسلمة بالرضى وبمحض اختيارها بدون اكراه ولا إغراء ولا لف ولا دوران ( بدون غلبة ) .

الحكم على هذه الموازين

تلك موازين شرعية موضوعية مستمدة من الشريعة ومن الشريعة وحدها ، وهي تبين معالم العدالة لدى كل فرد . وما سواها مع عميق الاحترام ليس الا مواءمة بين واقع مفروض ومثال الهي آخذ بالاعناق ، وهذه الموازين معترف بها ، وكان حجة لا تعلوها حجة في نظام الخلافة التاريخي .
فعلى سبيل المثال ارجع الى حجة ابي بكر على الانصار في سقيفة بني ساعدة (1) وارجع الى حجة عمر في السقيفة (2) وارجع الى حجة ابي عبيدة (3) قد قالوا انهم الاولى بمحمد :
1 ـ لان العرب تأبى ان تولي الخلافة الا من كانت النبوة فيهم .
____________
(1) راجع الامامة والسياسة ص 5 ـ 7 .
(2) راجع الامامة والسياسة ص 7 ـ 8 .
(3) راجع الامامة والسياسة ص 8 .

( 30 )

2 ـ ان اهل محمد وعشيرته هم اولى بميراثه وسلطانه ( وهذا معيار القرابة بعينه ) وقالوا : انهم اول من عبد الله في الارض ، وهذا معيار السابقة في الايمان والتقوى ... الخ . ثم طريقة عمر بتوزيع الاعطيات . لقد اخذ بأكثر هذه المعايير (1) .

تساؤلات

فاذا كان الصحابة كلهم عدولاً وكلهم في الجنة ولا يدخل احد منهم النار ، وان الله ساوى بينهم ، فما الذي منع الانصار من ان يتولوا الخلافة ؟ ولماذا اقتنعت اكثريتهم واعطوا القيادة للمهاجرين الثلاثة عن قناعة ؟ لماذا فرق الخليفة العادل عمر ولم يساو بينهم بالعطايا مع انهم صحابة وكلهم عدول ولا فرق بين واحد وآخر ؟ لماذا اقيمت الحدود على بعضهم ؟ وهل يسرق العادل النزيه المضمون دخوله في الجنة ؟
انتم لستم افقه من الشيخين في الدين ، وكفى بفقههما عندكم حجة ، ليجب كل واحد منكم على هذه التساؤلات او ليحاول ، فمتى كان التقليد الاعمى طريقا للهدى ؟ لقد انبأنا الله انه طريق الى النار ، وقد انعم الله علينا بالعقل لنستثمره في طاعة ومعرفة مقاصد الشريعة (2) .
____________
(1) راجع فتوح البلدان للبلاذري .
(2) راجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 101 وما فوق فقد فصلنا هذه الموازين بالقدر الذي يفهم .


( 31 )

الفصل الثالث

نقض النظرية
من حيث الكل حجة اهل السنة منقوضة شكلاً من وجهين :

الوجه الاول : حول الشهادة والشهود

ان القرآن الكريم هو الذكر ، وما جاء به النبي هو بيان لهذا الذكر وترجمة له وهو من مستلزماته ، وقد تكفل الله جلت قدرته بحفظه على مر الازمان ( انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ) فحفظ الذكر مضمون بضمانة الهية ولا علاقة للصحابة الكرام بهذا الحفظ . فالدين محفوظ وثابت وبدون شهود لان الله هو الشاهد والمتكفل باثباته ، ولان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقل الى الرفيق الاعلى الا بعد ان اكمل الله الدين واتم النعمة . فالشاهد على المسلمين هو محمد ، والمسلمون في كل زمان هم شهداء على الناس . ثم ان كتاب الله منزل من عند الله وليس بامكان احد كائناً من كان ان يزيد فيه حرفاً او ينقص منه حرفاً او ان يبدل فيه حرفاً ، لانه ترتيب الهي . فقد كانت الكوكبة من آيات القرآن الكريم تتنزل على رسول الله مع التوجيه الالهي بأي سورة توضع ، وعند ما انتقل الرسول الى جوار ربه ، كان القرآن كله مرتباً بالصورة التي بين ايدينا ومكتوباً كاملاً وليس في صدور الرجال فحسب كما يزعم بعض اخواننا . فالقول بأن الصحابة كلهم عدول لا يزيد الثابت ثباتاً ولا المحفوظ حفظاً ، والقول بأن المخلصين من الصحابة فقط هم العدول لا يهز هذا الثابت ولا يؤثر


( 32 )

على هذا المحفوظ ، واقحامهم للقرآن وحفظه لاثبات عدالة كل الصحابة لا مبرر له ، لان الفضل في ذلك كله والمنة والشكر لله تعالى ، والفخر لمحمد ولآل محمد وللصادقين من الصحابة الذين التفوا حولهم . فلو ان الآل الكرام سلموا محمداً لزعامة قريش او خلوا بينها وبينه لقتلوه كما قتل كثير من الانبياء من قبل ، ولما تحمل الآل الكرام كل سني الحصار والعذاب والالم . وبالمناسبة فانني اتساءل : اين كان كل الصحابة والهاشميون محصورون في شعاب ابي طالب يأكلون ورق الشجر من الجوع ويمص اطفالهم الرمال من العطش ؟ هل من العدالة الوضعية اوالسماوية ان يتساوى المحاصَر مع المحاصِر ( مالكم كيف تحكمون ) .

الوجه الثاني

أما القول بأن هؤلاء الذين ينقصون احداً من الصحابة ( زنادقة ) فلا يستقيم لعدة وجوه ، لان الاسلام بوصفه آخر الاديان السماوية ، وبوصفه الصيغة النهائية لدين الله معد ومصاغ ليفهم منه كل انسان على قدر فهمه ، والفهم الامثل هو ما يتطابق مع المقصود الشرعي او الغاية الشرعية من النص ، بحيث يكون الفهم هو عين ما اراد الله ، وتلك مهمة عسيرة بل واختصاص فني تماماً ، والا فما الداعي لارسال الرسل مع الكتب وابتعاث الهادي مع الهداية ؟ وما هي الغاية اذن من وجود الائمة ومن رئاسات الانبياء لدول الايمان ؟ ومن هنا فان الاسلام شيء وفهمنا له شيء آخر يختلف حسب ثقافتنا .
فاختلاف الرأي وتباين الافهام ليس زندقة ، وهنالك من الصحابة من عاب النبي نفسه وطعن في عدالته . انظر الى قول ابن الخويصرة ( اعدل يا محمد والله ما اردت بهذه القسمة وجه الله ! ) لم يقل له النبي : انت زنديق او منافق ، قال له : ويحك من يعدل ان لم اعدل . فهل للصحابي مكانة اعظم من مكانة النبوة ؟ فاذا كان سيد البشر محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( انا بشر اصيب واخطيء ) فكيف تعممون العدالة على جميع الصحابة وتعتبرون من ناقشكم بالامر زنديقاً ؟
يجمع اهل السنة او يتظاهرون بالاجماع على القول وبالحرف : ان الرسول حق والقرآن حق وما جاء به النبي حق ، وانما ادى الينا ذلك كله الصحابة ، فهم الشهود وهؤلاء الذين ينقصون احداً من الصحابة ـ اي واحد ـ يريدون ان يخرجوا شهودنا


( 33 )

ليبطلوا الكتاب والسنة وهؤلاء زنادقة (1) فمن عابهم ان انتقص منهم فلا تؤاكلوه ولا تشاربوه ولا تصلوا عليه (2) .

قراءة أولية ـ أولاً : الخلط

القول بأن النبي حق والقرآن حق وما جاء به النبي حق ، هذا قول لا غبار عليه ولا اختلاف فيه ، وهو قدر مشترك بين كل المسلمين من سنة بمختلف فرقهم ومن شيعة بمختلف فرقها ، وهم يتساوون بالانتماء لهذا الدين ولحمل هويته الخالدة . والدين يتكون من مقطعين : 1 ـ نبي الله بذاته وقوله وفعله وتقريره 2 ـ كتاب الله المنزل من عند الله . هذا اجماع كل المسلمين ، والخلاف منحصر بفهم المقصود الشرعي لهذا الدين ، فلا ينبغي الخلط بين الدين وبين مفاهميمنا له ، فالدين هو المركز الثابت ومفاهيمنا هي المتحركات والمتغيرات من حوله . فالدين شيء ومفاهيمنا له شيء آخر ، هذه المفاهيم عملياً تختلف من فرد الى فرد ، ومن جماعة الى جماعة حسب درجة العلم وقدرة الفهم والطاقة والتجرد من الهوى .
ولو كان مجدياً فرض فهم واحد لفرضه الله تعالى ولما كان هنالك داع للاجماع ولما كان هنالك داع للفهم اصلاً . فعندما نفهم نصاً معيناً بفهم ما ، ويفهم الآخر النص نفسه بفهم آخر ثم يدعى كل منهما ان فهمه هو المقصود الشرعي ، فمعنى ذلك انه لا بد للاثنين من دراسة النص دراسة ثانية وثالثة ... الخ . حتى يصلا الى مفهوم واحد للنص لان النص الشرعي الواحد له مقصد شرعي واحد وهو عين المقصود الالهي ، اذ لو قلنا بغير ذلك لاضفينا طابع الشرعية على الفرقة والاختلاف ، ولذهبت كل جماعة باتجاه مع ان مصلحة الامة تتحقق بوحدتها لا يفرقها ، ثم انه لا مصلحة لك ولا مصلحة لي ـ اذا كانت النفوس خالصة لله ـ ان يصح هذا الفهم او ذاك ، انما مصلحتنا تتحقق بفهم المقصود الالهي الامثل والعمل به .
فمن غير الجائز ان نخلط افهامنا بالدين وبنوايا مختلفة حسنت ام ساءت ونقول : ان هذه الافهمام هي الدين ، ثم نضع عقوبة لمن يخالفنا بهذه الافهمام فنتجاوز دائرة الاتباع
____________
(1) الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ص 17 ـ 19 .
(2) كتاب الكبائر للحافظ الذهبي ص 238 .

( 34 )

الى دائرة التشريع المخصصة لله تعالى . فحكم الزندقة وقرار عدم المؤاكلة والمشاربة وعدم الصلاة على من يخالفك الرأي هو قرار لا يقره الدين ، وهو عقوبة بغير نص ، وتصرف ممن لا يملك في ملك الغير ، وهو باطل من اساسه ولا يعادل شروى نقير .

ثانياً : كلمات للتلقين

الاسلام كلمة محددة ولفظ يدل على معنى بعينه وهو يعني : نبي الله محمداً بذاته وقوله وفعله وتقريره ، ويعني القرآن الكريم على الصعيدين النظري والعملي ، وهو مجموعة البنى الحقوقية المتكاملة التي اوحاها الله لنبيه وبينها النبي للناس ، انه العقيدة الالهية التي ارادها الله ان تكون دينه ودين المطيعين من خلقه . وهو معنى قائم بذاته ومستقل عن غيره .
2 ـ الصحابة الكرام اتبعوا هذا الذين ووالوا نبيه على صعيدي الدعوة والدولة ، هم اتباع للدين وليسوا ديناً او جزءاً من الدين .
3 ـ المسلمون كلهم هم الذي اتبعوا الاسلام وآمنوا به ، لكنهم ليسوا هم الاسلام ، انهم اتباع ، وشتان ما بين العقيدة والمعتقد بها وما بين القانون والشعب ، وما بين القضاة والمتقاضين .

ثالثاً : الحماية والتستر

قلنا : ان مصلحة الاسلام والمسلمين تتحقق بفهم المقصود الشرعي بالذات وهو عين المقصود الذي قصده الله تبارك وتعالى ، والوقوف على هذا المقصود يحتاج الى اختصاص وملكات خاصة والوقوف عليه مطلب الجميع وغايتهم ، ولكن اناساً انزلوا انفسهم منازل ليست لهم واجتهدوا ، وهذا حق لهم ، ثم حاولوا رغبة او رهبة ان يفرضوا هذا الاجتهاد على ابناء المللّة واغلقوا طريق البحث عن الحقيقة الشرعية ، واوصدوا مسالك التحري عن المقصود الشرعي ، واعلنوا بأن رأيهم هو الدين ومن يعارضهم زنديق ... الخ . وهذا ليس من حقهم لانهم شيء والدين شيء آخر ، ومخالفتهم بالرأي او بالإجتهاد او بالفهم ليس مخالفة للدين لان القول بغير ذلك ترجيح بغير مرجح ، ووصاية من غير اذن شرعي بالوصاية مما يحول العملية كلها الى تستر بالدين ، واحتماء به لنصرة على رأي او مذهب على مذهب .


( 35 )

فاختلافك معي بفهم نص من النصوص الشرعية لا يجعل منك زنديقاً ولا يجعل مني مرجعاً وقديساً ، فذلك ترجيح بغير مرجح ، وتقبيح بغير سند ، وخدمة لاولئك الذين غلبوا هذه الامة وفرقوها الى شيع واحزاب بأحابيلهم السياسية الملتوية ، وبمساعدة السذج من علماء السوء الذين يقفون في كل زمان ضد تفاهم هذه الامة ووحدتها ، فيقولون : هذا زنديق ، وهذا رافضي ، وهذا شيعي ، وهذا سني ، وهذا جعفري ، وهذا مالكي ، وذلك كفر ، وتلك زندقة ... الخ .
وتلك الفاظ يعافها الذوق السليم ، وتنفر منها الفطرة النقية ، وقد ترفع عن مثل هذه الامور حتى الكفرة من اهل الكتاب ، وبالتالي هي تعبر عن ضيق الصدر وتتعارض مع مباديء الاخوة الاسلامية وروح الاسلام العامة .
الله وحده يعلم كم هو مؤذ للتعصب ومثير للقرف . يقول الذهبي في رسالته التي الفها في الرواة الثقات ( قال ابو عمر بن عبد البر : روينا عن محمد بن وضاح قال : سألت يحيى بن معين ـ يحيى بن معين هذا من كبار ائمة الجرح والتعديل الذي جعلوا قوله في الرجال حجة قاطعة ـ سألته عن الشافعي فقال : ليس ثقة . وجعفر بن محمد الصادق وثقه ابو حاتم والنسائي الا ان البخاري لم يحتج به (1) .
انت تلاحظ ان يحيى بن معين وهو العملاق الشهير يزعم ان الشافعي ليس ثقة ، مثلما تلاحظ ان البخاري لم يحتج بالامام جعفر الصادق واحتج بمن هو اقل من الامام جعفر ! وجعفر عليه السلام هو صاحب مذهب اهل البيت الكرام ، وهو استاذ اصحاب المذاهب الاربعة ، وهو العالم الالمعي الذي لا يشق له غبار ، والذي تخرج على يديه أربعة آلاف فقيه ومحدث ، وفوق ذلك كله هو الامام السادس من ائمة اهل البيت الكرام ، فهو جعفر بن محمد بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، ومع هذا لم يحتج به البخاري ولم يوثقه ! وتجافى عن روايات اهل البيت مع انهم صحابة بالمعنى الذي يقصده اهل السنة ، والصحابة كلهم عدول .

نقض نظرية كل الصحابة عدول من حيث الموضوع

يؤمن اهل السنة بالنظرية القائلة بأن كل الصحابة بلا استثناء عدول ، تلك النظرية التي ابتدعها رجال السياسة الغالبون ، كما سنثبت ذلك ، ولغاية في نفس يعقوب ،
____________
(1) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن للسيد مرتضى الرضوي ص 97 ـ 98 .
( 36 )

وألقوا في روع الغافلين الذين يحبون هذا الدين ، بأن هذه النظرية جزء لا يتجزأ من دين الاسلام وفصل ثابت من فصول العقيدة الالهية ، من شك فيها او خرج عليها او ناقشها فهو زنديق ، لا ينبغي ان يؤاكل او يشارب او يصلى عليه اذا مات !
حقيقة ان الصحبة شرف عظيم ومراتبها عالية ، ولكنها بالمعنى اللغوي وبالمعنى الاصطلاحي المتفق عليه عند اهل الملة ، هذه الصحبة تشمل كل المسلمين الذين عاصروا رسول الله ، بمعنى ان كل شعب دولة النبي كانوا صحابة ، لان العبرة والمعول عليه هو :
1 ـ الالتقاء بالنبي . 2 ـ الايمان الصادق به كحال الصحابة الصادقين ، او التظاهر بهذا الايمان ، كحال المنافقين وحال الذين حاربوا الاسلام بكل وسائل الحرب ثم احيطوا واضطروا للاسلام ، لان كل الابواب قد اوصدت في وجوههم الا باب الاسلام فولجوه ، والله وحده اعلم بنواياهم .
3 ـ الموت وهو على هذه الحال .
ان هؤلاء المؤمنين الصادقين ، والمنافقين المتظاهرين ، ومن لم يدخل الايمان في قلوبهم ، لم يكونوا بدرجة واحدة حتى يقال بأنهم جميعاً عدول ، بل ان منهم من كان يظهر الايمان ويبطن الكفر والعصيان ، وهم الفئة المنافقة من المسلمين الذين عاصروا النبي ومات النبي وهم على قيد الحياة .
وقد كشف القرآن الكريم بأن افراد هذه الفئة مردوا على النفاق وخانوا ، وغدروا ، ووعدوا فأخلفوا ، وحدثوا فكذبوا ، وابتغوا الفتنة وآذوا النبي ، وقلبوا الامور .
وكانت راية الاسلام ترتفع كل يوم حتى بسطت دولة النبي سلطانها المبارك على الجزيرة ، واضفت هيبتها على الجميع واكمل الله الدين ، واتم النعمة ، وانتقل النبي الى جوار ربه ، وتلك الفئة المنافقة على حالها ، والمسلمون متفاوتون بايمانهم وتضحياتهم ومنازلهم .

العجب العجاب

وبدون مقدمات او بمقدمات سياسية اصبح كل رعايا دولة النبي عدولاً بحجة انهم كلهم صحابة شاهدهم النبي او شاهدوه ، وآمنوا به او تظاهروا بالايمان ، وانهم ماتوا


( 37 )

على هذا الايمان مع ان النظرية قد ابتدعت في العصر الاموي ( عصر خلافة الطلقاء ) وقبل ان يموت جيل الصحابة بالمفهوم الآنف الذكر ، اي انهم قد حكموا بالعدالة قبل ان يتأكدوا من حسن الخاتمة ، وهذه النظرية منقوضة من اساسها .

وجوه النقض

1 ـ انها تتعارض مع النصوص القرآنية القاطعة .
2 ـ انها تتعارض مع السنة النبوية بفروعها الثلاثة : القول والفعل والتقرير .
3 ـ نظرية عدالة كل الصحابة ينقضها واقع الحال .
4 ـ انها تتعارض مع روح الاسلام العامة ومع حسن الخاتمة ومع الغاية من الحياة نفسها .

تفصيل واثبات وجوه النقض
1 ـ نظرية عدالة كل الصحابة تتعارض مع النصوص القرآنية القاطعة
ظاهرة النفاق

شاعت ظاهرة النفاق في زمن النبي ، وبرز المنافقون كقوة حقيقية يحسب حسابها ، والمنافقون هم فئة آمنت بالظاهر ، فهم بأفواههم يشهدون ان لا اله الا الله ، وان محمداً رسول الله ويرددون نفس الالفاظ والمصطلحات التي يرددها المسلمون خداعاً واستهزاءً ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ... يخادعون الله والذين آمنوا ... ) وهم يجاهرون بذلك ويحرصون على ان يسمعه النبي والذين آمنوا ( واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ... ) ولا تقتصر ظاهرة النفاق على القول بل تتعداها الى العمل ، فقد كانوا يصلّون وينفقون ويقدمون الاعذار اذا تخلفوا عن الخروج مع النبي ، ويكررون مزاعمهم بالايمان .
سلوك الانسان يعكس عاجلاً ام آجلاً حقيقة اعتقاده ، لكن النوايا لله ، والنبي يعني بالظاهر والسلوك وبكل البواطن لله ، وهو بطبيعته رؤوف رحيم خلوق ونموذج فرد


( 38 )

للانسان الكامل ، ولكنهم تجازوا الحدود فبدأت الآيات القرآنية تتنزل وتكشف حقائق هذه الفئة . من ذلك :
( ... وما هم بمؤمنين .... يخادعون الله والذين آمنوا ... ) .
( ... واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزءون ... ) .
( ... ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالى ولا ينفقون الا وهم كارهون ... ) .
( ... ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم .... ) .
( ... لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ... ) .
( ... ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ...) .
( ... ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الا في الفتنة سقطوا ... ) .

الحكم الالهي القاطع

بعد ان كشف حقيقتهم ، وعرى بواطنهم ، اصدر حكمه العادل الذي يتلاءم وجريمتهم بالكذب على الناس وعلى الله ، وكلف نبيه ان يبلغهم مضمون هذا القرار الالهي وحيثياته واسباب صدوره ( قل انفقوا طوعا او كرها لن يتقبل منكم ) .
لماذا ؟ لانهم يخادعون الله والذين آمنوا ، ومزاعمهم بالايمان غير صحيحة واستهزاء ، وبالتالي فانهم قد كفروا بالله ورسوله بالرغم من كل مزاعمهم . واذاع النبي القرار الالهي واسبابه وحيثياته ووضع كل الحقائق امام الجميع . ومع هذا لطبيعته الفذة كان يستغفر لهم ويسأل الله لهم الهداية فجاءه الرد الالهي واضحاً ( استغفر لهم او لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .

أمثلة على تعارض نظرية عدالة كل الصحابة مع القرآن الكريم

المثال الاول : قال تعالى ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه ) ( سورة التوبة )


( 39 )

انها قصة ثعلبة ، ذلك الصحابي المعدم الذي سأل الرسول ان يدعوا الله له حتى يرزقه المال ، فقال له الرسول ( ويحك يا ثعلبة ، قليل تشكره خير من كثير لاتطيقه ) فقال ثعلبة : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فيرزقني مالاً لاعطين كل ذي حق حقه . فقال الرسول ( اللهم ارزق ثعلبة مالاً ) فرزقه الله ونماه له ، وعندما طلب منه الرسول زكاة امواله بخل ثعلبة معللاً بخله بأن هذه الزكاة جزية وامتنع عن دفعها ! ومات النبي وثعلبة على قيد الحياة ، فأرسل زكاة امواله الى ابي بكر الصديق فرفضها ، وارسلها الى عمر فرفضها ، وهلك ثعلبة في زمن عثمان (1) .
المثال الثاني : قال تعالى ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لايستوون . أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون . وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ) ( سورة السجدة )
المؤمن هو علي بن أبي طالب ، والفاسق هو الوليد بن عقبة ، وقد تولى الكوفة لعثمان ، وتولى المدينة لمعاوية ولابنه يزيد (2)
____________
(1) راجع على سبيل تفسير فتح القدير للشوكاني علي بن محمد مجلد 2 ص 185 وراجع تفسير ابن كثير لاسماعيل بن كثير الدمشقي مجلد 2 ص 373 . وراجع تفسير الخازن لعلاء الدين علي بن ابراهيم البغدادي مجلد 2 ص 125 . وراجع تفسير البغوي محمد بن الحسن بن مسعود الفرا مجلد 2 ص 125 بهامش تفسير الخازن . وراجع تفسير الطبري لابي جعفر محمد بن جرير الطبري مجلد 6 ص 131 .
(2) راجع شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج 445 ، 453 ، 610 و 624 وراجع مناقب علي بن ابي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 324 و 370 و 371 وراجع تفسير الطبري ج 21 ص 107 وراجع الكشاف للزمخشري ج 3 ص 514 وراجع فتح القدير للشوكاني ج 4 ص 255 وراجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 462 وراجع اسباب النزول للواحدي ص 200 راجع اسباب النزول للسيوطي مطبوع بهامش تفسير الجلالين ص 550 وراجع احكام القرآن لابن عربي ج 3 ص 1489 وراجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 4 ص 80 وج 6 ص 292 وراجع كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 140 وراجع الدر المنثور للسيوطي ج 5 ص 178 وراجع كفاية العقبى للطبري الشافعي ص 88 وراجع المناقب للخوارزمي الحنفي ص 197 وراجع نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 92 ، وراجع تذكرة الخواص للسبط الجوزي الحنفي ص 207 وراجع مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي وراجع ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 250 وراجع زاد المسير لابن الجوزي الحنبلي ج 6 ص 340 وراجع انساب الاشراف للبلاذري ج 2 ص 148 ح 150 ، وراجع تفسير الخازن ج 3 ص 470 وج 5 ص 187 وراجع معالم التنزيل للبغوي الشافعي بهامش الخازن ج 5 ص 187 وراجع السيرة الحلبية للحلي الشافعي ج 2 ص 85 وراجع تخريج الكشاف لابن حجر العسقلاني مطبوع بذيل الكشاف ج3 ص 514 وراجع الانتصاف في ما تضمنه الكشاف بذيل الكشاف ج 3 ص 244 وراجع احقاق الحق ج 3 ص 273 وراجع فضائل الخمسة ج 1 ص 268 وراجع المراجعات ص 64 حسين الراضي .

( 40 )

المثال الثالث : قال تعالى ( ومن اظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى الى الاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين ) ( سورة الصف )
نزلت هذه الآية في عبد الله بن ابي سرح وهو والي عثمان على مصر ، فهو الذي افترى على الله الكذب ، واباح الرسول دمه ولو تعلق بأستار الكعبة كما يروي صاحب السيرة الحلبية الشافعي في باب فتح مكة ، وجاء به عثمان يوم الفتح يطلب الامان له كما يروي صاحب السيرة ، وسكت الرسول على امل ان يقتل خلال سكوته كما اوضح رسول الله ، ولما لم يقتل اعطاه الامان (1) .

تحليل الامثلة الثلاث ـ 1 ـ حكم الله في الثلاث

في المثال الاول : حكم الله بنفاق قلب ثعلبة وانه من الكاذبين .
وفي المثال الثاني : بين الله ان الوليد بن عقبة فاسق وانه من اهل النار وانه لا محيد له عنها ولا مخرج له منها .
وفي المثال الثالث : بين الله ان عبد الله بن ابي سرح افترى على الله الكذب ، وحاول ان يحرف كتاب الله ، وهو من اكثر الخلق ظلماً ، وبين ان من المحال ان يهتدي لان الله لا يهدي القوم الظالمين .

2 ـ حكم أهل السنة في الثلاث

هؤلاء الثلاثة من الصحابة ، فشروط الصحبة قد توفرت فيهم بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي وبما انهم صحابة فهم عدول لا يجوز عليهم الكذب ومحكوم بنزاهتهم ، وهم من اهل الجنة ولا يدخل احد منهم النار ، كيف لا وعبد الله بن ابي سرح وهو والي مصر لعثمان وأحد وزرائه ، وكذلك الوليد بن عقبة فهو والي الكوفة والذي صلى الصبح اربعاً ولو طلبوا الزيادة لزادهم ! وهو وزير عثمان ووالي معاوية على المدينة . ومن ينتقص من هؤلاء الثلاثة فهو زنديق ، ولا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه اذا مات !!
____________
(1) راجع السيرة الحلبية باب فتح مكة .