ان يأتي الدين عن طريق هاشمي ، وتكره ان تكون للهاشميين القيادة ، وان تهتز الصيغة السياسية ، واخيرا فوجىء ابو سفيان بجند الله قرب مكة ، ويوقفه العباس فيرى جند الله ، فيدخل الرعب في قلبه وينتزع منه فتيل المقاومة ويفصح قائد الحزب عن حقيقة تصوراته لدعوة محمد فيقول : ما رأيت ملكاً مثل هذا ، لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الاصفر(1) ويجره العباس الى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له ( ويحك يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم انه لا اله الا الله ؟ ) فيقول ابو سفيان : لقد ظننت انه لو كان مع الله اله غيره لما اغنى عني شيئا . قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم اني رسول الله ؟ ) قال ابو سفيان : اما والله فان في النفس حتى الآن منها شيء . صاح العباس : ويحك يا ابا سفيان اسلم واشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله قبل ان تضرب عنقك ، هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق وبعد الاحاطة وضعف الحيلة اسلم لينجو بنفسه . ودهش ابو سفيان وهو ينظر للنبي فقال في نفسه : ليت شعري بأي شيء غلبني ؟ فأوحى الله الى نبيه بما في صدر ابي سفيان ، فقال له الرسول ( غلبتك بالله ) (2) .
وادركت بطون قريش ان النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه ولا محيد عنه ، ولا علاقة لها باختيارها ، ولو كان لها اي دور بهذا الاختيار لما قبلت ابداً ان يكون النبي من بني هاشم ، والنبوة ظاهرة لن تتكرر ، وانه لن يلحق اي بطن من بطون قريش ببني هاشم ، فقد سبقوا تماماً ، وادركت بطون قريش ان صيغتها السياسية قد اهتزت ونسفت تماماً واضمرت العمل على وقف ما تعتبره زحفاً هاشمياً للجمع بين النبوة والملك وحيازة الشرف كله .

أكثر البطون اندفاعاً لوقف ما يسمى بالزحف الهاشمي

كل بطون قريش مجمعة على ان النبوة الهاشمية قد هزت هزاً عنيفاً الصيغة السياسية التي كانت قائمة على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل المكية . وكل البطون رفضت هذه النبوة الهاشمية باستثناء بني المطلب بن عبد مناف حيث وقفوا مع الهاشميين . لكن
____________
(1ـ 2) السيرة الحلبية ج 3 ص 79 وما فوق وراجعنا كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
( 82 )

اكثر البطون رفضا واندفاعاً لوقف الزحف الهاشمي والحيلولة بين جمع الهاشميين الملك والنبوة هم بنو امية وذلك لعدة اسباب :
1 ـ ماض طويل من الشحناء والعداوة والحسد لبني هاشم قبل الاسلام .
2 ـ بسبب النبوة الهاشمية فقد الامويون القيادة .
3 ـ الهاشميون قتلوا سادات بني امية فعتبة والوليد وشيبة قتلهم حمزة وعلي وعبيد الله ، فالامويون لا يكرهون الهاشميين فحسب بل يحقدون عليهم . وهند ام معاوية وزوجة ابي سفيان عكست مقدار هذا الحقد . فهي لم تكتف بقتل حمزة ، انما مثلت بجثمانه الطاهر . ولكن مع انتصار النبوة وشمول نور الاسلام وتأخر الامويين عن دخوله ، وذكريات باعهم الطويلة في محاربته ، فانه يتعذر عليهم الجهر والمناداة علناً بمنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الملك .

ي ـ التيار الغلاب

لقد تحولت مقولة لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة مع الملك الى تيار غلاب ، ولكنه ساكن ومستقر في النفوس وملجوم بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم ، وبالشرعية وبوحدة الصحابة الصادقين تحت قيادته . فلو فقد عنصر من هذه العناصر الثلاثة فستهتز الشرعية ، وسيتحول الصحابة الصادقون الى شعرة بيضاء في جلد ثور اسود ـ على حد تعبير معاوية ـ وسيأخذ الامر من يغلب .

ك ـ القرابة الطاهرة الاساس الشرعي للخلافة الراشدة

عندما دخل المهاجرون الثلاثة الى سقيفة بني ساعدة احتجوا بما يلي :
قال ابو بكر : نحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وانتم وزراؤه ، ووزراؤنا في الدين . وقال عمر : لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم ... لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة (1) .
____________
(1) راجع الامامة والسياسة ص 6 ـ 7 ـ 8 .
( 83 )

قالت الانصار كلها : لا نبايع الا علياً ، وعلي غائب . قال بعض الانصار : لا نبايع الا علياً (1) .
وسريعاً ، ابرم الامر للصديق رضي الله عنه ، ودعي علي لمبايعة ابي بكر فقال علي : ( انا احق بهذا الامر منكم ، لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، اخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذونه منا غصباً اهل البيت ؟ الستم زعمتم للانصار انكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الامارة ، وانا احتج عليكم ما احتججتم به على الانصار ، نحن اولى برسول الله حياً وميتاً ... ) الخ .

ل ـ الانقلاب وانفلات التيار الغلاب

وعمر على فراش الموت يتفكر بمستقبل امة محمد ، ويقلب الامر على وجوهه المختلفة قال : لو ادركت ابا عبيدة باقياً استخلفته ووليته ، ولو ادركت معاذ بن جبل استخلفته ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته ولو ادركت سالما مولى ابي حذيفة وليته ...
وسالم من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب ، ومعاذ من الانصار ، ويوم السقيفة لم يكن جائزاً تولية الانصار ! وخالد من بني مخزوم ومن الطبقة العاشرة من طبقات الصحابة حيث هاجر في الفترة الواقعة بين صلح الحديبية وفتح مكة .
قال عمر لابن عباس اثناء خلافته : يا ابن عباس اتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال ابن عباس : فكرهت ان اجيبه ، فقلت : ان لم اكن ادري فان امير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا ان يجمعوا لكم النبوة والخلافة ، فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت ، قال : فقلت : يا امير المؤمنين ان تأذن لي في الكلام وتحط عني الغضب تكلمت ، قال : تكلم . قال ابن عباس فقلت : اما قولك يا امير المؤمنين ( اختارت لانفسها فأصابت ووفقت ) فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك ( انهم ابوا ان تكون لنا النبوة والخلافة ) فان الله عز وجل
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 2 ص 266 .
( 84 )

وصف قوماً بالكراهية فقال ( ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط أعمالهم ) فقال عمر : هيهات يا ابن العباس قد كانت تبلغني عنك اشياء اكره ان اقرك عليها فتزيل منزلتك مني ، فقلت : يا اميرالمؤمنين فان كان حقاً فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك ، وان كان باطلاً فمثلي اماط الباطل عن نفسه . فقال عمر : بلغني انك تقول : صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً ، قال ابن عباس : فقلت : اما قولك يا امير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم ، واما قولك حسدا فان آدم حسد ونحن ولده المحسودون . فقال عمر : هيهات هيهات ، ابت والله قلوبكم يا بني هاشم الا حسداً لا يزول . قال : فقلت يا امير المؤمنين مهلاً لا تصف بهذا قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً (1) .
والواقعة التي يرويها المسعودي في كتابه مروج الذهب والتي جرت بين ابن عباس وبين الفاروق رضي الله عنهما ، تؤكد حدوث الانقلاب الفكري وانفلات التيار الغلاب الذي كان ساكناً في النفوس وملجوماً اثناء حياته صلى الله عليه وآله وسلم وقبل ان تتأس دولة الخلافة الراشدة . وسأورد النص الحرفي لهذه الواقعة .

النص الحرفي للقصة

ذكر عبد الله بن عباس ان عمر ارسل اليه فقال : يا ابن عباس ان عامل حمص قد هلك وكان من اهل الخير ، واهل الخير قليل ، وقد رجوت ان تكون منهم وفي نفسي منك شيء واعياني ذلك فما رأيك في العمل ؟ قال ابن عباس : لن اعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك . قال عمر : وما تريد الى ذلك ؟ قال ابن عباس : اريده ، فان كان شيئاً اخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وان كنت بريئاً من مثله علمت اني لست من اهله ، فقبلت عملك هنالك ، فاني قلما رأيتك طلبت شيئا الا عالجته .
فقال : يا ابن عباس ، اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت ( يعني موت عمر ) وانت في عملك فتقول هلم الينا ، ولا هلم اليكم دون غيركم ، اني رأيت رسول الله
____________
(1) راجع الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 3 ص 107 اخرجه الامام احمد ابو الفضل بن ابي الطاهر في تاريخ بغداد راجع مجلد 2 ص 97 من شرح النهج وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 141 .
( 85 )

استعمل الناس وترككم . قال : والله قد رأيت من ذلك فلم تره فعل ذلك ؟ قال عمر : والله ما ادري اضن بكم عن العمل فأهل ذلك انتم ، ام خشي ان تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب ولا بد من عتاب ، وقد فرغت لك من ذلك فما رأيك ؟ قال ابن عباس : ارى الا اعمل لك . قال : ولم ؟ قلت : ان عملت لك وفي نفسك ما فيها لم ابرح قذى في عينك ، قال : فأشر علي . قلت : اني ارى ان تستعمل صحيحاً منك صحيحاً لك (1) .
من فرط حرصه على مصلحة المسلمين يريد حتى بعد موته ان يتأكد بأن الهاشميين لن يسلطوا على رقاب الناس ، ولن يحكموا امة محمد .
وبالاجمال تحولت هذه المقولة الى تيار غلاب افصح عن ذاته ، وفرض نفسه كقناعة عامة تؤمن بها السلطة وآمنت بها الاكثريه الساحقة على اعتبار ان هذه المقولة هي الوسيلة المثلى لمنع الاجحاف الهاشمي ، وانصاف البطون القريشية لتتداول الخلافة في ما بينها كرد على النبوة الهاشمية او كتعويض لها عن الاختصاص الهاشمي بالنبوة ، واخيراً على اعتبار ان هذه المقولة مظهر من مظاهر هداية قريش وتوفيقها ، على حد تعبير الفاروق .
وباستمالة ابي سفيان الى جانب السلطة ، وترك ما بيده من الصدقات التي جمعها وتولية ابنه يزيد قائداً على جيش الشام وتعيين ابنه الثاني معاوية قائداً من قواد يزيد ، ثم خلافته لاخيه يزيد كوال على الشام بعد وفاته ، كل هذا كون حلفاً حقيقياً بين السلطة وبين الطلقاء لهم قناعة سياسية مشتركة تقوم على عدم تمكين الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، وبهذا التحالف قطع دابر المعارضة ، وحجمت وتم تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة معاً .
وهكذا فقدت العترة الطاهرة حتى نصيبها من امتيازات الشرف التي كانت مخصصة لها بموجب الصيغة السياسية التي سادت مكة قبل الاسلام ، وعزلت تماماً وحجمت . انظر الى قول الفاروق مخاطباً العباس وبني هاشم ( اي والله واخرى إنا لم نأتكم حاجة منا اليكم ، ولكن كرهنا ان يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب
____________
(1) الامامة والسياسة ص 15 .
( 86 )

بكم وبهم ) وبلغت الاستهانة بهم حداً انه حتى عبد الله بن الزبير هم بأن يحرق بيوت الهاشميين على من فيها لولا ان تدخل اهل الخير .
ومعنى ذلك ان اي قبيلة من القبائل التي حاصرت الهاشميين في شعاب ابي طالب ثلاث سنين وارسلت مندوبها للاشتراك بقتل النبي هي اسعد حظاً من الهاشميين ، والفرد منها اولى واحق برئاسة الدولة من اي هاشمي . فالرئاسة والولاية حلال لكل الناس وحرام على اي هاشمي من الناحية العملية ، كل ذلك من اجل عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين النبوة والخلافة ، وهل جزاء الاحسان الا الاحسان ؟ .

م ـ التكييف الشرعي لمقولة لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة

هذه مقولة جاهلية من كل الوجوه ، وتتعارض معارضة تامة مع النصوص الشرعية ومع النظم السياسية المشتقة من العقائد الالهية . فداود النبي ، ورَثه ابنه سليمان فجمع كل واحد منهم النبوة والخلافة معاً ، واوتي الانبياء وذرياتهم الحكم والنبوة والكتاب ، ولم يعترض عليهم احد ، لان الفصل بيد الله ، والخلافة منصب ديني وبالدرجة الاولى دنيوي والخليفة قائم مقام النبي ، ومن مهام البيان والحكم وعملية البيان والحكم عملية فنية تماماً واختصاصاً .
ومن هو على علم بالتقاطيع الاساسية للنظام السياسي الاسلامي يتبين له بأقل جهد ممكن ، ان هذه المقولة نسفت نسفاً تاماً النظام السياسي الاسلامي كنظام الهي وفرغته تماماً من مضمونه وحولته من الناحية العملية الى نظام وضعي لا يختلف عن الانظمة الوضعية الا بالشكل ( سياسياً ) ، بل والاهم من ذلك ان رئاسة الدولة صارت غنيمة وطعمة يأكلها الغالب والغالب وحده ، وبعد ان يغلب يجلس على كرسي النبي ( او حصيرته ) ، ويلبس جبة الاسلام فاذا هو خليفة ، فان غلب الطليق الذي قاتل الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط به فأسلم رغبة او رهبة ، فانه يتأمر على المهاجر الذي قاتل مع الاسلام كل معاركه ، ويصبح ولي الله المخصص شرعاً لرئاسة الدولة الاسلامية بمجرد مواطن عادي من رعاياه ، يتكلم الجاهل ، ويسكت العالم ، يتقدم المحاصر ـ بالكسر ـ ويتأخر المحاصر ـ بالفتح ـ كل هذا من اجل انصاف القبائل الآخرى


( 87 )

ومنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، او بتعبير ادق من اجل العودة عملياً الى الصيغة السياسية التي كانت سائدة قبل الاسلام ، ولكن بثوبها الجديد . فالصيغة السياسية الجاهلية كانت تقوم على اقتسام مناصب الشرف بحيث تأخذ كل قبيلة نصيبها من هذه المناصب ، وبتطبيق المقولة اصبحت القبائل تتداول رئاسة الدولة وبنفس الوقت تتشارك بالشرف والمناصب اثناء عملية التداول ، اما الاحكام الالهيه المتعلقة بالنظام السياسي الاسلامي فهي موضوع آخر ، فهي لا تستجيب للصيغة السياسية التي وجدت قبل الاسلام في مكة .

ن ـ النتائج التي ترتبت على تكريس مبدأ عدم
جواز جمع الهاشميين النبوة والخلافة

النتيجة الاولى : زوال الفوارق نهائيا بين الذين قاتلوا الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط بهم فأسلموا ، وبين اولئك الذين قاتلوا مع الاسلام كل معاركه حتى اعز الله دينه ونصر نبيه واقام دولة الايمان . فالكل مسلم لا فرق من الناحية السياسية بين هذا او ذاك ، فكلهم مسلم وكله في الجنة ، فالهاشمي الذي حاصرته قريش ثلاث سنين هو تماماً مثل اي شخص كان على الشرك واشترك بالحصار ، الم يسلم ذلك الشخص ؟ اليس الاسلام يجب ما قبله ؟ فلو ان حمزة سيد الشهداء رجع الى الدنيا فهو تماماً كوحشي من الناحية العملية السياسية ، فالقاتل كالمقتول تماماً ، والمهاجر كالطليق ، والجاهل كالعالم ، ولو غلب الجاهل لكان لزاماً على العالم ان يطيعه سياسياً ، وان يتبعه وينقاد اليه ، بل على العكس ، فلو كان هنالك هاشمي عالم كعلي بن ابي طالب ، وكان هنالك انصاري بدرجته او اقل علماً منه فالانصاري العالم مقدم على الهاشمي . انظر الى قول الفاروق رضي الله عنه بوجود علي بن ابي طالب وهو يقول : لو ادركت معاذ بن جبل لوليته ، ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته . خالد قاتل الاسلام في احد وفي اكثر من وقعة ، وعلي قاتل مع الاسلام في كل مواقعه ، ومع هذا فالاولى هو خالد . حتى ان الفاروق لو ادرك سالما مولى ابي حذيفة وهو من الموالي ولا يعرف له نسب في العرب لولاه الخلافة وامره على علي بن ابي طالب ، مع ان علياً هو مولى عمر ومولى ابي عبيدة ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الفاروق واقراره .


( 88 )

النتيجة الثانية ـ زرع بذرة الخلاف ونموها

طالماً انه لا فرق بين المهاجر والطليق ، ولا بين القاتل والمقتول ، ولا بين المحاصر ـ بالفتح ـ والمحاصر ـ بالكسر ـ ومن حق كل واحد ان يفهم الاسلام وان يستقطب حول هذا الفهم ، فمعنى ذلك وجود مرجعيات متعددة ووجود مفاهيم متعددة وقناعات متعددة وكل فريق يزعم انه على الحق . ففريق يذهب الى الشمال واخر الى اليمين ، وثالث الى الشرق ورابع الى الغرب وخامس الى الشمال بزاوية كذا ... الخ . ولا يوجد مرجع يعتبر كلامه حجة يقينية شرعية يقر بها الجميع . بهذا الجور زرعت بذرة الخلاف ونمت بأرض خصبة . فلو قال علي عليه السلام كلاماً وقال واحد من الطلقاء كلاماً آخر فالذي يزن القولين هو السامع ، لانه عملياً لا فرق بين علي واي طليق ، فكلاهما في الجنة وكلاهما مسلم فهم صحابة ، اي لا يقرون عملياً بأي ترجيح شرعي لقول علي ، فكيف يرجح بين المتساوين وكيف يفرق بين المتعادلين تماماً ؟ فهذه قطعة ذهبية تتساوى حجماً وشكلاً ومقداراً وقيمة مع قطعة اخرى فخذ ما شئت واياك والتمييز . فالوفاق الحاصل وفاق ظاهري وتحت هذا الظاهر ينمو الخلاف ويشب ثم يتحول الى سرطان عاجلاً ام آجلاً ، يمزق وحدة الامة ويخرجها من اطار الشرعية الى الغامض والمجهول .

النتيجة الثالثة ـ رئاسة الدولة حق للجميع الا لهاشمي

بمعنى انه لا شيء على الاطلاق يمنع اي مسلم من ان يتولى رئاسة الدولة الاسلامية شريطة ان يتمكن من الوصول اليها والاستحواذ عليها ، وانقياد الجميع له وتسليمهم له بالغلبة والسلطان ، شريطة ان لا يكون من بني هاشم لانهم اختصوا بالنبوة ، والنبوة تكفيهم .
هذا الحق حول الطمع برئاسة الدولة الى كابوس بغيض ، والى آلية مزعجة سلبت الامة قرارها واستقرارها ، وحولتها الى حقل تجارب لكل الطامعين بالرئاسة ، وعطلت نظامها السياسي الشرعي .


( 89 )

أما من أي قبيلة هذا الرئيس ؟ ما هو عمله ؟ ما هو دينه ؟ ما هي سابقته ؟ من الذين سيحكمهم ؟ تلك امور ثانوية لا قيمة لها من الناحية العملية ، ولا يعول عليها ، لان الغالب غالب والحصول على رضوان المغلوب فن قائم بذاته .
ما الذي يمنع يزيد بن معاوية وهو المشهور بعهره وفجوره من ان يكون رئيساً للدولة الاسلامية لانه ابن معاوية الرئيس ، ومن الذي يمنع الحسين بن علي بن ابي طالب سيد شباب اهل الجنة في الجنة بالنص وريحانة النبي من هذه الامة بالنص والامام الشرعي لهذه الامة بالنص ، فما الذي يمنعه من ان يكون احد رعايا يزيد ، وأحد الذين يتأمر عليهم ؟ فكلاهما مسلم وكلاهما في الجنة . يزيد القاتل المجرم في الجنة ، والحسين الامام المقتول في الجنة ، فكلاهما صحابي ! ومن ينقد هذا الرأي فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه .

النتيجة الرابعة ـ اختلاط الاوراق

اختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل والخير بالشر والعلقم بالشهد ، واصبح المتأخر كالمتقدم واللاحق كالسابق والمجاهد كالقاعد والقاتل كالمقتول والمحاصَر كالمحاصِر ، ومن وقف مع الاسلام تماما مثل من وقف ضده ، ومن قاتل الإسلام تماماً كمن قاتل معه . لقد دخل الجميع بدين الله وشاهد النبي او شاهدوه ، فكلهم صحابة وكلهم في الجنة !!
وضاع الصادقون وتفرقوا في الامصار واصبحوا ـ على حد تعبير معاوية ـ كالشعرة البيضاء في جلد ثور اسود ، وانهار النظام السياسي الاسلامي وتأخر المتقدمون وتقدم المتأخرون ، ولله عاقبة الامور .

* *


( 90 )



( 91 )

الفصل الثاني
الجذور السياسية لنظرية عدالة كل الصحابة

أ ـ اختلاف الواقع عن المثال

النظام السياسي الذي تم تطبيقه في التاريخ السياسي الاسلامي بدءاً من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان ، يختلف تماماً عن النظام السياسي الاسلامي الالهي الذي انزله الله تعالى على عبده محمد ليسوس المسلمين في كل الازمان .
ومع الاصرار على الوجود المؤكد لهذا الاختلاف فلا بد من التوضيح بأن حجم هذا الاختلاف متفاوت من شخص الى شخص ومن عهد الى عهد . ومن نافلة القول ان نؤكد بأن هذا الاختلاف لا يخفى على ذي بصيرة لو تركنا التقليد الاعمى ، لانه لو طبق النظام السياسي الاسلامي بعد وفاة الرسول بالشكل والمضمون الالهيين لما : 1 ـ انهارت دولة الاسلام 2 ـ ولما حدثت تلك الفتن والمذابح . 3 ـ ولما تفرقت الامة الاسلامية . 4 ـ ولما توقف المد الاسلامي المبارك عند هذا الحد ولعم الاسلام العالم كله ، فغير تغييراً جذرياً مجرى التاريخ البشري .
في كتاب تجربة في التاريخ العام ( يقول الفيلسوف الانجليزي ولز ، وهو احد ابرز مفكري العصر الحديث : لو ان الاسلام سار سيرته الاولى ولم تنشب الفتن لفتح العالم


( 92 )

اجمع ) (1) وعلماء العالم العربي يعتقدون ـ وهذا مبلغهم من العلم ـ ان نظام الخلافة هو عينه النظام السياسي الاسلامي ، وهو عينه الذي يطالبون باعادة تطبيقه ، مع ان النظام السياسي الاسلامي تكون بصورته النهائية وطبق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ان يتكون نظام الخلافة ، لان الخلافة تعني خلافة النبي . فاذا كان النظام السياسي الاسلامي هو نظام الخلافة ، فما هو النظام الذي طبقه النبي ؟ ان النظام الذي طبقه النبي هو النظام السياسي الالهي السابق لنظام الخلافة والذي طبق بحذافيره قبل ان يعرف نظام الخلافة ، وهو الاصل وهو المثال ، وما سواه فروع واشكال تتمدد وتتكيف بحسب قربها او بعدها من الاصل والمثال .

ب ـ النظام السياسي الاسلامي

هو النظام الذي طبقه النبي ابان الدعوة على علاقته بتابعيه ، ثم طبقه في عصره الراشد بعد ان تحولت الدعوة الى دولة وخلال رئاسته المباركة للدولة والتي استمرت عشر سنين .
وقبل ان ينتقل الى الرفيق الاعلى اكمل الله الدين واتم النعمة وبين كل شيء ـ كل شيء ـ على الاطلاق . وباستقرائه تجد انه نظام الهي معد ومصاغ ليكون النظام العالمي الامثل لعالم امثل ، لانه النظام الالهي بصورته المثلى وبصياغته الاخيرة والنهائية .

ج ـ اركان النظام السياسي الاسلامي

يقوم النظام السياسي الاسلامي على اربعة اركان متصلة مع بعضها اتصالاً عضوياً يتعذر الفصل بينها . واذا وقع الفصل بينها يفقد النظام صفته الاسلامية بحجم مقدار هذا الفصل ، وعاجلاً ام آجلاً سيتداعى النظام ، لان هذه الاركان هي التي تميزه عن غيره وتكاملها هو وحده الذي يعطي الثمرة المرجوة من تطبيق هذا النظام .

الركن الاول ـ القيادة السياسية

القيادة السياسية في العقائد الالهية عامة ومنها الاسلام تعين ، او ان شئت فقل : ( ترشح ) من قبل الله مباشرة ، كما حدث لداود وسليمان ومحمد . فالله سبحانه هو
____________
(1) راجع كتاب شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 173 .
( 93 )

نفسه الذي اختارهم انبياء ورؤساء لدول الايمان ، وتبلغوا القرار الالهي بالذات او غير مباشر كاختياره تعالى لطالوت ليكون القائد السياسي لبني اسرائيل ، فقام نبي بني اسرائيل باخبار الاسرائيليين بأن الله قد اختار لكم طالوت ملكاً ، فاحتج الاسرائيليون فزعموا ان طالوت غير جدير بالملك ، فبين الله انه اهل لذلك لاسباب كثيرة منها : ان الله زاده بسطة في العلم والجسم ، ثم ان الفضل بيد الله وهو الاعلم بمن هو جدير بهذا الفضل ، وكاختياره تعالى لعلي بن ابي طالب ليكون ولياً للامة بعد وفاة وليها ، وتبليغه بهذا الاختيار بواسطة محمد على مرأى ومسمع من مأة الف مسلم في حجة الوداع .

ما هي الغاية من الترشيح الالهي للقيادة السياسية ؟

لان هدف المحكومين المصفى من الغرض والشهوة هو ان يتولى قيادتهم الاعلم والافضل والانسب على وجه الجزم واليقين ، وتلك امور خافية عليهم ويتعذر وفق امكانياتهم ان يجزموا جميعاً بأن هذا او ذاك هو الاعلم والافضل والانسب على وجه الجزم واليقين . فرحمة من الله تعالى بخلقه المؤمنين بين لهم بأن مرادهم هو فلان ... اذا كانوا حقيقة صادقين بالبحث عن الافضل والاعلم والانسب ، لان القيادة عملية فنية واختصاص وهي في الغالب خلافة لنبوة ، ومن مهام النبوة القدوة والتبليغ والبيان وسعة الصدر بالمحكومين ، والقول الفصل ، بحيث يلتقي فهمه تماما مع المقصود الالهي من كل قاعدة من قواعد المنظمومة الحقوقية الالهية ... وتلك امور لا يمكن ان تترك لاهواء الناس المتباينة وامزجتهم المختلفة .
وهذا الركن هو الفارق العملي الوحيد الذي يميز الانظمة الوضعية عن النظام السياسي الاسلامي . فالانظمة الوضعية تترك الامر لاهواء الناس واجتهاداتهم لاختيار القيادة السياسية الاعلم والافضل والانسب على سبيل الفرض والتخمين لاعلى سبيل الجزم واليقين الذي يتحصل باتباع النمط الالهي .

الركن الثاني ـ الصلة العضوية بين العقيدة الالهية وقيادتها

ما انزل الله كتاباً الا على عبد ، ولا خص البشرية بهداية الا ومعها هاد ، ولا ارسل رسالة الا برسول . فالصلة عضوية بين الكتاب والهداية والرسالة من جهة وبين


( 94 )

العبد والهادي والرسول من جهة اخرى . فلا بد من بيان الكتاب وتوضيح الهداية والرسالة وسياسة الاتباع بمقتضاها ، ولتكون الفسحة الواقعة بين البداية والنتيجة محطة ترجمة ونقل للمضامين من النص الى التطبيق ، وبالتالي تجربة غنية تثري الرسالة والكتاب والهداية وتبين ما فيها ولو كان مجدياً العكس لأرسل الله نسخا من كتبه السماوية لكل واحد من المكلفين ، لكنها عملية فنية واختصاص . فمحمد بالذات هو الفني وهو المختص الاوحد ببيان الاسلام بياناً يقينياً يتطابق مع المقصود الالهي في كل نص من النصوص ، وهو بالذات الاعلم بالرسالة والكتاب والهداية ، وهو افضل اتباعها وهو الانسب لقيادة هؤلاء الاتباع سياسياً ، وسياستهم وفق احكامها ومن ينسبه النبي لخلافته بناءً على امر ربه هو بالذات المؤهل لادامة هذه الصلة العضوية بين العقيدة الالهية وبين قيادتها السياسية .

الركن الثالث ـ المنظومة الحقوقية الالهية

الامام او القائد السياسي في النظام السياسي الاسلامي ليس حراً ليحكم برأيه انما هو مقيد بالمنظومة الحقوقية الالهية ، بحيث يكون حكمه في اي امر من الامور متطابقاً تماماً مع الادارة الالهية بحيث يكون التكييف هو عين التكييف الالهي والمضمون عين الحكم الالهي ، لان المنظومة الحقوقية هي من صنع الله وهي بمثابة القانون النافذ الواجب تطبيقه على كل الداخلين في ولاية الامام او القيادة السياسية ، وهذه المنظومة الحقوقية ليست من صنع القائد ولا من صنع المحكومين ، انما هي من صنع الله . وما يبدو لنا انه من قول محمد ما هو في الحقيقة الا ثمرة وحي الهي وبيان لما انزله الله . وهذا فارق آخر بين النظام السياسي الاسلامي وبين الانظمة الوضعية . فالانظمة تسن بنفسها قوانينها وتلزم المحكومين على اتباعها ، بينما في النظام الاسلامي الله هو الذي يضع المنظومة الحقوقية ويلتزم الحاكم والمحكوم باتباعها تحت اشراف الله . فالذين ينفذون القوانين ليسوا عبيداً للحاكم ، انما الحكام والمحكومين عبيد الله ينفذون اوامره ، ويخضعون له وحده ولا لسواه .


( 95 )

الركن الرابع : موافقة المحكومين ورضاهم

الشعب يبحث عن منظومة حقوقية مثلى تحدد له الاهداف العامة والخاصة ، وتبين له وسائل بلوغ تلك الاهداف ويبحث عن قيادة سياسية تكون هي الاعلم بالمنظومة الحقوقية ، وهي الافضل بين كل الموجودين ، وهي الانسب لقيادته وهو حاضر بأمره . فجاءت العناية الالهية لتنقذه من هذه الحيرة وتبين له ان المنظومة الحقوقية التي تحقق ما يريد هي الاسلام بقرآنه وسنة نبيه قوله وفعله وتقريره . اما القائد الاعلم بهذه المنظومة والافضل من بين الموجودين والانسب لقيادة الشعب فهو محمد ، وبعد موته هو الذي ينسبه محمد بأمر من ربه ، ثم الذي يليه ثم يليه ... الخ .
فان وافق الشعب على هذا التكييف الالهي للمنظومة الحقوقية وللقيادة السياسية فقد اهتدى ، ودخل الخير من اوسع الابواب بعد ان قبل بهذا التكييف الالهي . وبالتالي يطبقون المنظومة ويوالون القيادة . وان ابى فان الله لن يجره جراً الى الخير انما يتركه ليجرب ويذوق وبال المعصية ، وليحيا حياة ضنكاً لانه عبر عن رفضة للتكليف الالهي بموالاته لقيادة سياسية غير القيادة التي ارادها ورشحها .

بساطة النظام السياسي الاسلامي

كيف تعرف انك سائر على الدرب الالهي ؟ من يوالي القيادة السياسية التي عينها الله تعالى هو مع الله . فالذين والوا محمداً هم من حزب الله ، والذين عادوا محمداً ووالوا غيره هم من حزب الشيطان حتى لو صلوا الليل كله وصاموا العمر كله ، لان الولاية والموالاة هي القول الفصل بعضوية الحزبين ، كذلك من يوالي وليه من بعده او يعاديه يتحدد موقعه بأحد الحزبين وبحجم هذه الموالاة سلباً كانت ام ايجاباً .
لقد كانت الموالاة لمحمد هي الميزان الحق بين الصادق والكاذب . فقد بنى اناس المساجد وصلوا وانفقوا واعتذروا عن عدم خروجهم مع الرسول ، ولكنه تعالى وسمهم بالنفاق لان ولاءهم لمحمد ليس صحيحاً .


( 96 )

المناخ السياسي الذي نشأت فيه نظرية عدالة كل الصحابة

بعد مقتل الفاروق آلت الامور الى عثمان بن عفان ، وهو بطبعه مولع بحب اقاربه . وبتولية عثمان بدأ بنو امية ينزون حوله واحداً بعد الآخر ، وبدأ هو بتجميعهم حتى اصبحوا رجال الخليفة ومستشاريه ، واصبحت مقاليد الامور عملياً بيد مروان بن الحكم ، حتى ان مروان امر بقتل محمد بن ابي بكر وطائفة من الصحابة دون ان يستشير الخليفة حتى مجرد استشارة ، وختم الامر بخاتم الخليفة والخليفة لا يدري ، وبتعبير علي عليه السلام ( صار عثمان سيفه بيد مروان يسوقه حيث شاء بعد كبر السن وصحبته الرسول ) (1) .
وما ادراك ما مروان ؟ انه طليق ، ومن المؤلفة قلوبهم ، وابوه الحكم بن العاص كان محرماً عليه ان يدخل المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وفي زمن ابي بكر وعمر . وعندما تولى عثمان ادخله معززاً مكرماً واعطاه مائة الف درهم .
ومما ساعد حزب الطلقاء ايضاً على تكوين دولتهم عبد الله بن ابي سرح والي مصر بكل خيراتها . وما ادراك ما عبد الله بن ابي سرح ؟ انه الذي افترى على الله الكذب ، واباح الرسول دمه حتى ولو تعلق بأستار الكعبة ـ كما يروي صاحب السيرة الحلبية في باب فتح مكة ـ وجاء به عثمان يوم الفتح يطلب الامان له ، وسكت الرسول على امل ان يقتل عبد الله خلال فترة سكوته ، ولما لم يقتل اعطاه الامان . ثم ان الغرسة التي زرعت في زمن ابي بكر ، وهي معاوية ، ضربت جذورها في الارض ، فقد ضل والياً على الشام عشرين عاماً يجمع كما يشاء عملياً ويعطي كما يشاء .
مروان الطليق ، ومعاوية الطليق ، وعبد الله بن ابي سرح الطليق ، والوليد بن عقبة الطليق ايضا صلى الصبح اربعا وهو والى الكوفة ، كلهم على مدرسة ابي سفيان حتى ان ابا سفيان حاول ان يخرج عثمان من مدرسته فقال يوما لعثمان : روى الجوهري انه لما بويع لعثمان قال ابو سفيان : كان الامر في تيم وانى لتيم هذا الامر ، ثم صارت لعدي فأبعد وابعد ، ثم رجعت لمنازلها واستقر الامر قراره فتلقفوها تلقف الكرة . وقال
____________
(1) راجع تاريخ ابن الاثير وراجع تاريخ الطبري باب مقتل عثمان وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 175 وما فوق .
( 97 )

لعثمان يوماً : بأبي انت وامي ، انفق ولا تكن كأبي حجر وتداولوها يا بني امية تداول الولدان الكرة ، فوالله ما من جنة ولانار . وكان الزبير حاضراً فقال عثمان لابي سفيان ( اغرب ) فقال ابو سفيان ( يا بني أهاهنا احدا ؟ ) فقال الزبير ( نعم والله لا كتمتها عليك ) (1) .
وبايجاز قال مروان بن الحكم عمليا وبحق ـ كما يروي ابن الاثير في تاريخه الجزء الثالث قبيل مقتل عثمان ـ شاهت الوجوه تريدون ان تسلبوا منا ملكنا ، فقد اصبحت الخلافة في اواخر عهد عثمان ملكا امويا ، فلا تجد مصراً الا وواليه اموي طليق او موال لبني امية . فأي خليفة سيأتي بعد عثمان اما ان يصبح اداة بيد الامويين او يدخل ليلاً مظلماً ويسير على ارض مليئة بالعثرات والالغام .
ونتيجة الفتوحات كثر عدد المسلمين الاحداث والمنتفعين من الدولة كدولة ، وقل عدد الصحابة الاجلاء الذين قامت الدولة المحمدية على اكتافهم ، واصبح الصحابة السابقون كشعرة بيضاء في جلد ثور اسود من حيث العدد ، ومن حيث المصائب المتربصة بهم اصبحوا كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ـ على حد تعبير الامام شرف الدين العاملي ـ وتلك امور لم تكن خافية على معاوية الذكي ، فقال معاوية مهدداً قبل قتل عثمان ( ما انتم في الناس الا كالشامة السوداء في الثور الابيض ) .
كل الولايات اموية او موالية لبني امية ، ومعاوية بن ابي سفيان قائد الاحزاب ورضيع هند بنت عتبة اصبح قطب الرحى . فهو والي الشام كلها ، ومركز الدائرة ، وهو الوصي على بني امية ، ومن اعطى نفسه الحق بالمطالبة بدم عثمان او ان شئت فقل : رفع شعار المطالبة بدم عثمان ليضمن استمرار الملك الاموي ، لان القضية ليست قضية قتل عثمان ، فهذا عمر قتل وسارت الامور من بعده ، انها قضية الملك الاموي . هذا الملك الذي نشأ عملياً من الناحية الفعلية يوم ولى ابو بكر يزيد بن ابي سفيان . وتوطد الامر لمعاوية ولبني امية وانقلب في آخر عهد عثمان الى ملك حقيقي . وهذا معنى قول مروان : شاهت الوجوه تريدون ان تسلبوا منا ملكنا !
____________
(1) راجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 1 ص 307 و 326 و 327 وكتابنا النظام السياسي في الاسلام .
( 98 )

قتل عثمان ليس قضية ، ومعاقبة القتلة ليس هو المحور ، لان معاوية اصبح الخليفة فيما بعد ولم يعاقب القتلة ، القضية هي الملك ! قتل الروح المؤمنة ليس بذي قيمة ، الم يصدر مروان بن الحكم امرا بقتل محمد بن ابي بكر ومن معه من الصحابة بدون جريرة وذنب ؟ أليس معاوية هو قاتل الحضرمي الذي كتب فيه ابن زياد انه على دين علي ؟ الي معاوية هو قاتل عمرو بن الحمق الذي اخلقت العبادة وجهه ؟ اليس معاوية هو قاتل حجر بن عدي واصحابه العابدين المخبتين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟ او ليس معاوي هو الذي سلط ابن زياد الذي قتل عباد الله وصلبهم في جذوع النخل . المهم عند معاوية الملك بالدرجة الاولى والانتقام من قاتل جده وخاله وابن خاله واخيه .
وقد انتهز معاوية فرصة حروب الجمل فأخذ يحرض طلحة والزبير وعائشة ويظاهرهم ، وكان يعد طلحة والزبير بالبصرة والكوفة بأن يحكم كل واحد منهما احداهما ، حتى اذا انتهت الحرب بهزيمة من اثاروها اشعل الحرب بينه وبين علي ... (1) .
يقول الاستاذ عباس العقاد في كتابه معاوية في الميزان : كانت لمعاوية حيلته التي كررها واتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومة في الدولة من المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة العلم الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومة بالقاء الشبهات بينهم ، واثارة الاحن فيهم ، ومنهم من كان من اهل بيته وذوي قرباه . كان لا يطيق ان يرى رجلين ذوي خلط على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الاخطار مما يعنيه على الايقاع بينهم (2) .
ومضى معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظاً كبيراً من الحيلة والرؤية . فلو انه استطاع ان يجعل من كل رجل في دولته حزباً منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل ، ولو حاسبه التاريخ الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات ، ولكن العبرة لقارىء التاريخ في زنة الاعمال والرجال ان نجد من المؤرخين من يسمّي عامه حين انفرد بالدولة ( عام الجماعة ) لانه فرق الامة شيعاً ، فلا تعرف كيف تتفق
____________
(1) راجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 174 ـ 175 .
(2) راجع معاوية في الميزان لعباس محمود العقاد ص 64 و 66 .

( 99 )

اذا حاولت الاتفاق ، وما لبث ان تركها بعده تختلف في عهد كل خليفة شيعاً شيعاً بين ولاة العهود (1) .
واستعمل معاوية بشر بن أرطاة وبعثه الى المدينة والقى الرعب في قلوب الصحابة واذلهم (2) .
وباختصار حصل معاوية على البيعة بالتقتيل والتدمير والتحريق والتفريق بين الناس ، وشتمه انصار رسول الله واصحابه ، واستغل اموال المسلمين التي جمعها خلال عشرين عاما بولايته على الشام لتوطيد سلطانه بعد ان اخرج اموال المسلمين عن مصارفها الشرعية ، ورتب معاوية عطاء اسمه عطاء البيعة ( رزق البيعة ) يعطى للجند عند تعيين خليفة جديد .

تجاهل الهدف المعلن للخروج على الشرعية

لقد عصى معاوية الخليفة الشرعي مطالبا بمعاقبة قتلة عثمان ، وخرجت عائشة ام المؤمنين للمطالبة بمعاقبة قتلة عثمان ، وعندما استولى معاوية بالقوة على امر المسلمين واغتصب رئاستهم ، لم يعاقب قتلة عثمان ولم تخرج عليه ام المؤمنين ولم تطالبه بمعاقبة قتلة عثمان .

الصحوة من الغفلة

استقام الامر لمعاوية واصبح هو القائم مقام النبي ، وهو خليفته على امة محمد ، مع انه الطليق ابن الطليق ، وقاتل هو وابوه الاسلام بكل فنون القتال ، حتى احيط بهما وبمن شايعهما ، فأسلموا رغبة ورهبة .
كيف حدث هذا الانقلاب ؟ كيف هزم الحق ؟ كيف اصبح المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً ؟ كيف اصبح الطليق افضل من المهاجر ؟ كيف اصبح الذي حاصر الاسلام وابناؤه افضل من الذي تحمل الحصار في سبيل الاسلام ؟
____________
(1) راجع نظام الحكم للقاسمي وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
(2) راجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 187 ـ 188 .

( 100 )

ومن عجيب ان العام الذي هزمت فيه الشرعية وانتصرت فيه القوة سمي عام الجماعة !!! واسقط بيد الصادقين ، وعمهم شعور عميق بالندم والاحباط ، وندموا ولات مندم ، لكأنهم كانوا في غفلة ثم استفاقوا على اثر حلم مرعب ، ولما فتحوا اعينهم وصحوا ، تبين لهم ان الحلم المرعب حقيقة .

نظريات في خدمة الواقع

انشغل الناس بتحليل ما جرى ، وبرزت نظريات وافكار ذهبت بأصحابها مذاهب شتى ، كفكرة التصوف وفكرة الارجاء وفكرة الجبر ونظرية عدالة كل الصحابة ، وكان الامويون ومن والاهم وراء هذه النظريات والافكار ، واعتبروها بمثابة اسلحة استغلوها بكفاءة عالية بما يخدم الملك الاموي ، ويشتت جهد خصومه ويوقع بينهم ، وبما يثبت دعائم الحكم الاموي ويبرر شرعيته .

* *