الفصل الثالث
ما هي الغاية من ابتداع نظرية كل الصحابة عدول

1 ـ التبرير

1 ـ تبرير غصب السلطة : معاوية طليق وابن طليق ومن المؤلفة قلوبهم ، وقد وجد نفسه رئيسا لدولة الاسلام او ان شئت فقل ملكا عليها ، والقائم بأعمال خليفة النبي بل هو رسميا الخليفة لرسول الله . هذا غير معقول !! ولا يصدق !! وبكل الموازين العقلية والشرعية الالهية والوضعية ، فأبوه هو رأس الاحزاب ومرجعية الشرك في كل معاركه ضد الاسلام . وقاوم ابو سفيان وبنوه ومن شايعهم الاسلام ونبيه بكل فنون المقاومة حتى احيط بهم فأسلموا ، ثم ها هو معاوية ابنه يتقدم على كل السابقين له والذين قام مجد الاسلام على اكتافهم .
لا بد من مبرر يبرر هذا الانقلاب ، وافضل وسيلة لتبريره هو القول بعدالة كل الصحابة ، وبما ان معاوية وشيعته هم صحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، وبما ان الصحابة كلهم عدول ، وكلهم في الجنة ، وأنه لن يدخل أحد منهم النار ، وأن لا فرق بيهم لانهم كلهم عدول وكلهم صحابة ، فما الذي يمنع من ان يكون معاوية هو الخليفة وهو ولي امر المسلمين . وما الذي يمنع شيعته وهم صحابة ايضا بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي من ان يكون بطانة لمعاوية ، طالما انهم كلهم عدول وكلهم من اهل الجنة ولا يدخل احد منهم النار ؟ فنظرية عدالة الصحابة بثوبها الفضفاض هي المبرر الامثل لملك معاوية ، والجبة الفضفاضة التي البست لنظرية عدالة الصحابة تدل على ان معاوية منظر حقيقي في فن الوقيعة والدهاء .


( 102 )

2 ـ تبرير افعال معاوية وشيعته : لقد انزل معاوية وشيعته اعظم النكبات بالاسلام والمسلمين ، فبشر بن ارطاة ومسلم بن عقبة فعلا الافاعيل التي ضجت منها السماء وادمت القلوب حتى ولو كانت من صلخد جلمود . فقد قتل في وقعة الحرة كل البدريين ولم يبق بعدها بدري واحد ، وقتل من قريش ومن الانصار سبعمائة ، ومن سائر الناس من الموالي والعرب عشرة الاف ، ولا شيء يمنع من قتل الاطفال كما فعل بشر بن ارطاة بطفلي عبيد الله بن عباس . ناهيك عن معارك معاوية مع الامام علي . ومن الكبر الاعظم الذي تولاه معاوية وشيعته عندما حاولوا ابادة آل محمد ابادة تامة واساليبه الملتوية بالقتل ، فقد سم معاوية الحسن ( عليه السلام ) ، وسم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ كما ورد في ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البر ـ وسم عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق ـ كما ورد في الاستيعاب ايضا ، وسم مالك بن الاشتر ، ولذلك قال عمرو بن العاص في ذلك ( ان لله جنوداً من عسل ... ) وفرق معاوية الناس وجعلهم شيعاً . فلو حاولت امة محمد ان تتفق لما استطاعت ـ كما يقول العقاد ـ وشوه الحكم الاسلامي . يقول الدكتور احمد امين ( فالحق ان الحكم الاموي لم يكون حكماً اسلامياً ... الخ ) .
كيف يمكن تبرير هذه الافعال بغير نظرية عدالة كل الصحابة ؟ فطالما ان معاوية وشيعته من الصحابة ، وطالما ان الصحابة كلهم عدول وكلهم في الجنة ، فان معاوية وشيعته لم يخطئوا ، فلو كانوا على خطأ لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( بزعمهم ) ( ان الصحابة كلهم في الجنة ) والنبي صادق مصدق لا ينطق عن الهوى ، وبالتالي فان معاوية كصحابي مجتهد وهو مأجور ، فان قتل وهو على الحق فله اجران ، وان قتل وهو على غير حق فله اجر واحد ، فمعاوية على الحق في حربه وسلمه ، في هجومه ودفاعه ، في اخذه واعطائه ، لماذا ؟ لانه صحابي والصحابي من العدول .

2 ـ التحصن ضد النقد والسب والشتم والانتقاص

علاوة على ان نظرية عدالة الصحابة تبرر غصب معاوية للسلطة ، وتبرر افعاله وافعال شيعته من بني امية ، فانها ايضا تمنحه الحصانة ضد اي نقد ولو كان بناء ، والحصانة ضد السب والشتم والانتقاص من قدره لانه صحابي ومن العدول ، ومن


( 103 )

يتنقص او يسب او يشتم اي صحابي عادي ، فكيف برئيس دولة ؟ من يفعل ذلك فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه ـ كما يروي الذهبي في ميزانه ـ وليس في الدنيا خطة يمكن ان تحصن معاوية مثل نظرية عدالة كل الصحابة .

3 ـ مقارعة خصوم معاوية وشعيته

نظرية عدالة كل الصحابة تؤمن فوز معاوية في اي مقارعة بينه وبين خصومه او تؤمن ـ على الاقل ـ المساواة بينه وبين هؤلاء الخصوم . فلو قال آل محمد انهم هم الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، لانبرى معاوية وشيعته الى الرد الفوري عليهم : نحن اصحاب محمد العدول لا يجوز علينا الكذب ، ولا يجوز علينا الخطأ لاننا في الجنة ولا يدخل احد منا النار .
ولو قال آل محمد ( من عادانا فقد عادى الله ) لرد معاوية وشيعته ( ونحن الصحابة ايضا ) قال النبي فينا ( من آذى صحابياً فقد آذاني ... الخ ) ويختلط الحق بالباطل والعاصي بالمطيع والمحسن بالمسيء !

4 ـ التفريق بين المسلمين

اذا تمكن معاوية وشيعته من تأصيل هذه النظرية بثوبها الفضفاض هذا واشاعتها بين المسلمين ، فستتبناها طائفة منهم وستعارضها طائفة اخرى ، وينشب الجدل اظافره في افكار الطائفتين ، ويتعصب كل فريق لرأيه ويختلفان وتدون آراء كل طائفة ويتبناها اللاحقون بحكم التقليد وبحكم الدفاع عن الحق او وجهات النظر . فالذين يؤيدون النظرية لم يقصدوا تأييد معاوية ، انما قصدوا تأييد الصحابة ، والذين يعارضون النظرية لم يقصدوا معاداة الصحابة انما قصدوا كشف الاحابيل والالاعيب السياسية الخافية على الفريق الآخر . لكن عملياً كل فريق وقف وجهاً لوجه ضد الفريق الآخر وشغلوا عن معاوية بينما معاوية هانىء يتفرج على المتصارعين ، وهو مستعد ليكون حكماً بينهم .
هذا هو الفن الذي اشار اليه العقاد في كتابه الرائع ( معاوية في الميزان ) .


( 104 )

نشوء نظرية عدالة كل الصحابة

روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من اكابر المحدثين ـ ان اكثر الاحاديث في فضائل الصحابة افتعلت في ايام بني امية تقرباً اليهم بما يظنون انهم يرغمون انوف بني هاشم . وقد صفت هذه الاحاديث بأسلوب يجعل من كل صحابي ( بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي آنفي الذكر ) قدوة صالحة لاهل الارض وتصب اللعنات على كل من سب احداً منهم او اتهمه بسوء (1) .
وقد اجمع الباحثون على ان نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما كان في اواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي اودت بحياته ، ثم اتسع الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي ، فانه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الاموي ليغصب الحق من صاحبه ، ويجعلها اموية وتوالت الاحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا ، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها امر السلطان الى الامويين . غير ان بناء الجماعة قد انصدع وانفصمت عرى الوحدة بينهم ، وتفرقت المذاهب في الخلافة ، واخذت الاحزاب في تأييد آرائهم كل ينصر رأيه على رأي خصمه بالقول والعمل . وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل وغلا كل قبيل فافترق الناس . ولم يزرأ الاسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون اليه ، وما احدثه الغلاة من المفتريات عليه . فذلك ما جلب الفساد على عقول المسلمين واساء ظنون غيرهم في ما بُنِيَ عليه الدين ، وان عموم البلوى بالاكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة بني امية ، فكثر الناقلون وقل الصادقون ، وامتنع كثير من اجلاء الصحابة عن الحديث الا لمن يثقون بحفظه (2) .
واشار الامام محمد عبده الى ما صنعه معاوية لنفسه ، بأن وضع قوماً من الصحابة والتابعين على رواية اخبار قبيحة على علي ( عليه السلام ) تقضي الطعن فيه
____________
(1) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص 85 للسيد مرتضى الرضوي .
(2) مقدمة الامام محمد عبده على رسالة التوحيد ص 7 ـ 8 وراجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 201 ـ 203 .

( 105 )

والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلفوا على ما ارضاه ، منهم ابو هريرة (1) .
ويقول الدكتور احمد امين في كتابه ضحى الاسلام ( ويسوقنا هذا الى ان نذكر هنا ان الامويين فعلاً قد وضعوا او وضعت لهم احاديث تخدم سياستهم من نواحي متعددة (2) وقد بذل معاوية للصحابي ابي سمرة بن جندب خمسمائة الف درهم ليروي له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان اية ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الد الخصام ) ... نزلت في علي بن ابي طالب . وان الاية ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد ) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لانه قتل علياً ( عليه السلام ) ) (3) .

رواة الاحاديث

ابو هريرة الدوسي ، احد اصحاب معاوية وشيعته ، روى عن النبي خمسة الاف وثلاثمائة واربعة وسبعين حديثاً . روى منها البخاري اربعمائة وستة واربعين حديثاً ، وابو هريرة هذا لم تتجاوز صحبته للنبي سنة وبضعة اشهر ، بينما كبار الصحابة الذين لازموا النبي من يوم بعثته الى لحظة انتقاله للرفيق الاعلى لم يرووا عنه ما يزيد عن مائة حديث رواها البخاري ، وهؤلاء الكبار هم : ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله ومعاذ بن جبل وسلمان وزيد بن ثابت واُبي بن كعب . ان في ذلك لعبرة !!!

فضائل معاوية

قال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة ، وفيها تحقق على انه لم يصح في فضائل معاوية حديث .
____________
(1) مقدمة الامام محمد عبده على رسالة التوحيد ص 7 ـ 8 وراجع شيخ المضيرة للاستاذ محمود ابو رية ص 201 ـ 203 .
(2) ضحى الاسلام ج 2 ص 123 لاحمد امين وراجع شيخ المضيرة للاستاذ ابو رية .
(3) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي ص 85 ـ 86 .

( 106 )

ان ابن الجوزي بعد ان اورد الاحاديث الواردة في معاوية في باب الموضوعات ساق عن اسحاق بن راهويه ( شيخ البخاري ) انه قال ( لم يصح في فضائل معاوية شيء ) .
وللنسائي قصة مشهورة في امر فضائل معاوية . قال الدار قطني : خرج النسائي حاجاً فامتحن بدمشق وادرك الشهادة ، فقال : احملوني الى مكة وتوفي بالرملة ، وكان اصحابه في دمشق قد سألوه عن فضائل معاوية فقال ( الا يرضى رأساً برأس لي حتى يفضل ؟ ) فما زالوا يدفعونه حتى اخرج من المسجد (1) .

رأي الشافعي في معاوية

روى ابو الفدا عن الشافعي انه اسر الى الربيع ان لا تقبل شهادة اربعة من الصحابة وهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد (2) وربما كان هذا هو السر الذي دفع ابن معين للقول عندما سئل عن الشافعي قال : انه ليس بثقة .

قول الحسن البصري

روى الطبري ان الحسن البصري كان يقول : اربع خصال كن في معاوية ولو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة .
1 ـ انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزوها امرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة .
2 ـ استخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب الطنابير .
3 ـ ادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر .
4 ـ وقتله حجراً واصحابه ، ويل له من حجر واصحابه ، ويل له من حجر واصحابه .
____________
(1) راجع شيخ المضيرة ابو هريرة للاستاذ ابو رية ص 183 .
(2) راجع تاريخ الطبري حوادث سنة 51 وابن الاثير ج 3 ص 202 ـ 209 وابن عساكر ج 2 ص 379 وشيخ المضيرة للاستاذ ابو رية ص 185 .

( 107 )

نظرية عدالة كل الصحابة تحمل الطابع الاموي

مع ان كل الصحابة وفق هذه النظرية عدول ، فيفترض ان يكون آل محمد بوصفهم صحابة عدولا ، وان يكف الامويين عن الانتقاص منهم والإساءة اليهم .
الا ان معاوية زعيم الفئة الباغية وقف من الامام على موقف ابي سفيان من النبي ، وجاء يزيد فوقف من الحسين موقف جده من النبي وموقف ابيه من علي . وقد كان اول عمل لمعاوية بعد ان استولى على الحكم ان كتب الى عماله في جميع الآفاق بان يلعنوا علياً في صلواتهم وعلى منابرهم ، ولم يقف الامر عند ذلك بل كانت مجالس الوعاظ في الشام تختم بشتم علي وان لا يجيزوا لاحد من شيعته واهل بيته شهادة ، وان يمحوا من الديوان كل من يظهر حبه لعلي واولاده وان يسقطوا عطاءهم ورزقهم (1) .
يقول العقاد في كتاب معاوية بن ابي سفيان في الميزان ( واذا لم يرجح من اخبار هذه الفترة الا الخبر الراجح عن لعن علي على المنابر بأمر من معاوية لكان فيه الكفاية لاثبات ما عداه ما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان ) (2) .
____________
(1) راجع شيخ المضيرة للاستاذ ابو رية ص 180 وقد نقلها عن ابن عساكر ج 3 ص 407 .
(2) معاوية بن ابي سفيان في الميزان لعباس محمود العقاد وراجع المرجع السابق .

( 108 )



( 109 )

الفصل الرابع
الجذور الفقهية لنظرية عدالة كل الصحابة

الذين اوجدوا نظرية عدالة كل الصحابة صاغوها ونظروها بصورة تضمن الحماية التامة لماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، وتضفي على احوالهم في الازمان الثلاثة رداء الشرعية والمشروعية ، وفصلوا لها من الاثواب ما يضمن حضورها الفعال في كل امر من الامور يمكن :
1 ـ ان يمسهم من قريب او بعيد .
2 ـ او يؤثر على قربهم او بعدهم من الشرعية .
3 ـ او يؤصل ويجذر مواقع الخلاف في معسكر خصومهم .
4 ـ او يفرق الخصوم في بحار من الشك والحيرة والاضطراب .
والمثير حقا ان النظرية ترمز عند عشاقها ومؤيديها اليوم لحبهم لمحمد ولاصحابه ، وهم يتولون الدفاع عن هذا الرمز ويصارعون نيابة عن مخترعي هذه النظرية الذين وقفوا خارج الحلبة كأنهم لا علاقة لهم بما يجري .
أما الذين يطالبون بتعديل هذه النظرية فهم لا يقلون حبا لمحمد واصحابه المخلصين عن اولئك المؤيدين لنظرية عدالة كل الصحابة ، ولكنهم يطالبون باعتماد القواعد الشرعية والعقلية لترشيد هذا الحب ليبقى دائماً في اطار الاسلام ، وترك التقليد


( 110 )

والتعصب الاعمى الذي يعطل العقل ونعمة الحوار الهادف الذي خص به الصفوة من عباده الصالحين .

المرجعية الفقهية

في فصل الجذور السياسية لنظرية عدالة الصحابة اثبتنا ان الاكثرية الساحقة من الاحاديث الواردة في فضائل الصحابة افتعلت في ايام بني امية تقرباً اليهم بما يظنون انهم يرغمون انوف بني هاشم ، كما روى ابن عرفة وهو من اكابر المحدثين ، وتبين لنا ايضا ان الباحثين قد اجمعوا على ان نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله ، انما كان في اواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي اودت بحياته ، ثم اتسع الاختراع واستفاض حتى مبايعة علي ( عليه السلام ) ، فما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الاموي ليغصب الحق من صاحبه ، وبأيلولة الامر الى بني امية تشذب فن الاختراع ووضع الحديث ، حتى جعلت الدولة الاموية لمن يتعاطون فن الاختراع ووضع الحديث جعلا يرغب في مثله ـ على حد تعبير الامام محمد عبده (1) .
هذه المرويات من المخترعات والموضوعات بقيت الى جانب غيرها من مرويات عدول الصحابة مرجعاً للجمهور على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم الفقهية في التشريع وغيره من الامور (2) .

المرجعيتان
1 ـ كل الصحابة مرجعية لاهل السنة

الذين اعتبروا كل الصحابة ـ بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ـ عدولاً ، اخذوا كافة مروياتهم عن الصحابة الصادقين العدول بالاضافة الى المرويات الآخرى والتي وضعت في زمن الفتنة واخذت صورتها النهائية في العهد الاموي ، ولم يفرقوا بين صحابي وصحابي لانهم كلهم عدول ، وكلهم في الجنة ومن المحال عقلا ان يتعمد الكذب رجل من اهل الجنة . فمرجعية هؤلاء هم الصحابة وقد غلب عليهم اسم اهل السنة ، فأهل السنة هؤلاء عرفوا الدين وفهموه عن طريق الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي .
____________
(1) تاريخ محمد عبده ج 2 ص 347 راجع شيخ المضيرة للشيخ محمود ابو رية ص 201 ـ 202 .
(2) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم للسيد مرتضى الرضوي ص 86 .

( 111 )

والصحابة الذين نالوا حظوة في البلاط الاموي كانوا من اكثر الصحابة حديثاً . فقد ذكر ابو محمد بن حزم ان مسند ابي عبد الرحمن بن مخلد الاندلسي قد احتوى من حديث ابي هريرة على ( 5374 ) حديثا ، روى البخاري منها ( 446 ) حديثا . وغني عن البيان ان ابا هريرة من اقرب المقربين الى معاوية ، وان مدة صحبة ابي هريرة للنبي لا تتجاوز السنة وبضعة اشهر . والخلاصة ان اي حديث يرويه اي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي محترم ومصان ، وهو جزء من الدين عند اهل السنة طالما ثبت انه صحابي ، لان الصحابة كلهم عدول وكلهم في الجنة ولا يجوز عليهم تعمد الكذب . وحتى يكون الراوي اهلا للثقة يجب ان لا يكون متهما بالتشيع لعلي او لاهل البيت ، فاذا ثبت ذلك فهو ليس بثقة من حيث المبدأ .
قال يحيى بن معين ( وقيل له في سعيد بن خالد البجلي حين وثقه : هذا شيعي . قال شيعي وثقة !!! ولم يعرف الجمهور بهذا الوصف ( اهل السنة ) قبل اواخر القرن الاول لان التسنن من الأحداث الطارئة ) (1) .

ما هو السند الشرعي لاهل السنة بمرجعيتهم للصحابة ؟

يقول اهل السنة : ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ( اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وفي رواية ( فأيهم اخذتم بقوله ... ) .
يقول ابن تيمية شيخ الحنابلة ، ويلقب عند الجمهور بشيخ الاسلام ( وحديث اصحابي كالنجوم ضعفه ائمة الحديث فلا حجة فيه . راجع ص 551 من كتاب حجة المنتقى للذهبي . وهذا الحديث باطل بالاجماع ) (2) .

أئمة اهل البيت وثقات الصحابة هم مرجعية اهل الشيعة

اهل السنة اتخذوا مرجعاً فقهياً لهم الصحابة كلهم بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي في مقابل الشيعة الذين رجعوا الى الائمة من اهل البيت ، والى ما رواه ثقات الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاضافة الى كتاب الله في جميع ما جاء به الاسلام من
____________
(1و 2) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص 92 وراجع اضواء على السنة المحمدية ص 341 ـ 344 وص 89 .
( 112 )

أصول وفروع . وقد ورثوا فقههم واصولهم وجميع تعاليمهم في جميع مراحله وفصوله عن جدهم امير المؤمنين الذي وصفه رسول الله بأنه باب مدينة العلم ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن اراد المدينة فليأت الباب ) . وكان لهذه المرجعية ضوابط ثابتة ، فقد كان الائمة عليهم السلام يقولون ( إنا اذا حدثنا لا نحدث الا بما يوافق كتاب الله ، وكل حديث ينسب الينا لا يوافق كتاب الله فاطرحوه ) .
كما كان الامام الصادق عليه السلام يقول ( حديثي حديث ابي ، وحديث ابي حديث جدي ، وحديث جدي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله ) (1) .

ما هو السند الشرعي لاهل الشيعة بمرجعيتهم لائمة اهل البيت ؟

السند الشرعي هو النصوص الشرعية القاطعة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة بفروعها الثلاثة ، وهي موضع اتفاق بين اهل السنة واهل الشيعة . فأئمة اهل البيت الكرام هم من الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (2) بالنص القرآني والقران هو الثقل الاكبر وهم الثقل الاصغر بالنص الشرعي ، والهداية لا يمكن ان تدرك الا بالتمسك بالثقلين ، والضلالة لا يمكن تجنبها الا بالتمسك بالثقلين (3) وهم لهذه الامة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ، بالنص الشرعي ايضا (4) وهم امان لأمة
____________
(1) آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القران الكريم ص 89 .
(2) ارجع الى آية التطهير واقرأ تفسيرها في تفسير فتح القدير للشوكاني وتفسير ابن كثير وتفسير الطبري وتفسير الخازن واي تفسير ترغب به .
(3) راجع صحيح الترمذي ج 5 ص 328 ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 232 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 33 و 45 و 445 وكنز العمال للمتقي الهندي ج 1 ص 153 وتفسي ابن كثير ج 4 ص 113 ومصابيح السنة للبغوي ص 206 وجامع الاصول لابن الاثير ص 137 ومشكاة المصابيح ج 3 ص 258 واحياء الميت للسيوطي بهامش الاتحاف ص 114 والفتح الكبير للنبهاني ج 1 ص 503 وج 3 ص 385 والدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 7 و 306 والصواعق المحرقة ص 147 لابن حجر والمعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 135 ومنتخب تاريخ ابن عساكر ج 5 ص 436 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 104 والطبقات الكبرى لابن سعد ج 2 ص 194 ... الخ .
(4) تلخيص المستدرك للذهبي والصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234 وتاريخ الخلفاء للسيوطي واسعاف الراغبين للصبان الشافعي ص 109 ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 235 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 378 ... الخ .

( 113 )

محمد ، من الاختلاف بالنص الشرعي ايضا (1) ونسوق بأدناه طائفة من الادلة على كل نص ثم نوردها مجتمعة في باب الميزان .

دور المرجعيتين

دور المرجعية عند اهل السنة : قلنا ان مرجعية اهل السنة لفهم البيان القرآني هم الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، كل الصحابة لا فرق بين واحد وآخر لانهم كلهم عدول وكلهم في الجنة . وكانت رواياتهم في الدرجه الاولى لا تتعدى اقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وافعاله عند المتقدمين . وعندما تعددت المذاهب وتوزعت في الامصار شملت الروايات اقوال الرسول وافعاله واقوال الصحابي وافعاله ، واصبحت آراء الصحابة في الحوادث المصدر الثالث من مصادر التشريع : القرآن ، السنة ، رأي الصحابي . والمذاهب الثلاثة : الاحناف والمالكية والحنابلة اكثر تعصبا لآراء الصحابة من الشوافع . ومع ان ابا حنيفة كان متحمسا للقياس ، ويراه من افضل المصادر بعد القرآن ، الا انه كان يقدم رأي الصحابة عليه اذا تعارضت في مورد من الموارد . وقد جاء عن ابي حنيفة ( ان لم اجد نصا في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، اخذت بقول اصحابه ، فان اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذ بقول شئت وادع من شئت ولا اخرج من قولهم الى قول غيرهم من التابعين ) (2) .
وجاء في اعلام الموقعين لابن القيم ( ان اصول الاحكام عند الامام احمد خمسة : الاول النص والثاني فتوى الصحابة ، وان الاحناف والحنابلة قد ذهبوا الى تخصيص كتاب الله بعمل الصحابي ، لان الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب الا لدليل ، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلاً على التخصيص وقوله بمنزلة عمله ) (3) .
____________
(1) راجع الصواعق المحرقة ص 91 و 140 واحياء الميت للسيوطي بهامش الاتحاف ص 114 ومنتخب الكنز بهامش مسند الامام احمد ج 5 ص 93 ... الخ .
(2) راجع ابا حنيفة لابي زهرة ص 304 والامام زيد ص 418 وراجع آراء علماء المسلمين ص 87 و 88 للسيد مرتضى الرضوي .
(3) راجع المدخل الى علم اصول الفقه لمعروف الدواليبي ص 217 وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص 88 .

( 114 )

فأنت تلاحظ ان اهل السنة قد امعنوا بالغلو في تقديس الصحابة ، هذا التقديس الذي لا يختلف عن العصمة في شيء (1) .
وعندما انتشرت المذاهب الفقية ، استغل هذا الغلو المفرط في محاربة التشيع لأئمة اهل البيت (2) واقوال الصحابة تعامل كأنها وحي من السماء فيخصصون بها عموم الكتاب ويقيدون بها مطلقاته .
2 ـ دور المرجعية عند اهل الشيعة : القرآن الكريم قد جاء تبيانا لكل شيء ، وما ثبت عن النبي ثبوتا قطعيا لا يرقى اليه شك هو بمثابة النص ، وما عدا ذلك لا يجوز الاعتماد على السنة في مقام التشريع الا اذا تأيدت بآية من القرآن لانه فيه تبيان كل شيء ، وقد نزل بلغة العرب وبأسلوب يفهمه كل عربي ، وذلك لان السنة رواها عن الرسول جماعة يجوز عليهم الخطأ والكذب ، وكانوا لا يقبلون مرويات بعضهم احيانا ويعمل كل واحد منهم بما يوحيه اليه اجتهاده . وقد تراشقوا بأسوا التهم واستحل بعضهم دماء البعض الآخر (3) .
وباختصار فان القول الفصل عند الشيعة هو القرآن الكريم المبين لكل شيء ، وما ثبت من البيان ( سنة الرسول القولية والفعلية والتقريرية ) ثبوتا يقينيا لا يرقى اليه الشك .

اختلاف المنطلقين يؤدي لاختلاف النتائج

1 ـ انطلق اهل السنة من منطلق مفاده ان الصحابة ـ كل الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي بما فيه الاطفال الذين شاهدوا النبي او شاهدهم النبي ـ هؤلاء كلهم عدول ، لا يجوز عليهم الكذب ولا يجوز عليهم التزوير ، فهم جميعا من اهل الجنة ، ولا يدخل احد منهم النار كلهم بلا استثناء بما فيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله وطريد صاحبيه ، وبما فيهم عبد الله بن ابي سرح الذي افترى على الله الكذب ، وبما فيهم معاوية . فكانت النتيجة من جنس المنطلق ، فما يقوله الصحابي الذي ثبتت
____________
(1 و 2) راجع المدخل الى علم اصول الفقه المعروف الدواليبي ص 217 وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص 88 .
(3) انظر تاريخ الفقه الاسلامي للدكتور محمد يوسف موسى عن كتاب الامة للشافعي ص 228 وراجع كتاب السيد مرتضى الرضوي ص 88 .

( 115 )

صحبته صحيح لا يأتيه الباطل لانه من العدول ، فاذا تعددت اقوال الصحابة في المسألة الواحدة فالمجتهد حر ليأخذ بقول اي صحابي شاء ولا حرج عليه (1) فلو قال الحكم بن العاص قولاً في مسألة ، وقال ابو هريرة قولاً اخر في ذات المسألة ، وقال حذيفة بن اليمان قولا ثالثا في ذات المسألة ، وقال ابو بكر قولا رابعا في ذات المسألة ، فالمجتهد مخير ليأخذ بأي قول من هذه الاقوال ، لماذا ؟ لانهم صحابة ، وكل الصحابة عدول ، ولا يجوز جرحهم او الطعن فيهم كما يفعل اهل السنة بالرواة من غيرهم .
والاهم من ذلك ان الاحناف والحنابلة قد ذهبوا الى تخصيص القرآن نفسه بعمل الصحابي وقوله ، لانه ـ حسب رأيهم ـ لا يمكن ان يترك الصحابي العمل بعموم النص الا لدليل ، فيكون عمل الصحابي على خلاف عموم النص دليلا على التخصيص وقول الصحابي بمنزله عمله (2) .
وما يثير الدهشة حقا هو انهم يقصدون بالصحابي ـ اي صحابي ـ على الاطلاق المعنيين اللغوي والاصطلاحي . وهذا مرتبة ترقى بالصحابي الى درجة العصمة ، وتجعل منه مشرعا حقيقيا او شريكا بالتشريع .
أما أهل الشيعة فالامر مختلف جدا عندهم من هذه الناحية ، فالشيعة يوالون اصحاب محمد الذين ابلوا البلاء الحسن في نصرة الدين ، وجاهدوا بأنفسهم واموالهم . والدعاء الذي تردده الشيعة لاصحاب محمد لهو دليل قاطع على حسن الولاء واخلاص المودة ، وقد جاء فيه ( ... واصحاب محمد خاصه الذين احسنوا الصحبة ، والذين ابلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه واسرعوا الى قيادته ، وسابقوا الى دعوته ، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الارواح والاولاد في اظهار كلمته ، وقاتلوا الاباء في تثبيت نبوته ، والذين هجرتهم العشائر اذ تعلقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات اذ سكنوا في ظل قرابته ، اللهم ما تركوا لك وفيك وارضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك ، وكانوا من ذلك لك واليك ، واشكرهم على هجرتهم فيك ... ) (3) .
____________
(1) انظر : ابا حنيفة لابي زهرة ص 304 .
(2 و 3) وقد ورد دعاء طويل في الصحيفة السجادية وثقناه ، وراجع كتاب السيد الرضوي ص 93 ـ 94 .

( 116 )

هؤلاء هم اصحاب محمد الذين تعظمهم شيعة آل محمد ويدينون بموالاتهم ، ويأخذون تعاليم الاسلام فيما صح وروده عنهم (1) .
والخلاصة : ان الشيعة لا يثبتون العدالة الا لمن اتصف بها ، وكانت فيه تلك الملكة . واصالة العدالة لكل صحابي لا دليل عليه ولايمكن اثباته . فالشيعة تناقش اعمال ذوي الشذوذ منهم بحرية فكر ، وتزن كل واحد منهم بميزان عمله ، فلا يوادون من حاد الله ورسوله ، ويتبرأون ممن اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله . والشيعة بهذا لا يخالفون كتاب الله وسنة رسوله وعمل السلف الصالح في تمييز الصحابة ومن هو مصداق هذا الاسم حقيقة . ومن هنا فتحت على الشيعة باب الاتهامات الكاذبة (2) ولان الشيعة انطلقوا من هذا المنطلق المختلف عن منطلق اهل السنة ، فانهم قد توصلوا لنتائج مختلفة عن النتائج التي توصل لها اهل السنة .

تعدد المرجعيات

في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كثيراً ما كانت تختلف الآراء حول المسألة الواحدة وتتعدد ، فيسمعها النبي كلها ولا يضيق بها صدره ، ثم يبسط حكم الشرع في هذه المسألة سواء اكانت نصا قرآنيا ام سنة محمدية ، فيقبل الصادقون هذا الحكم فيوحدهم بعد اختلاف ، ويدخلهم حظيرة اليقين بعد شك في هذه المسألة . وتتكرر الحادثات ، وتتكرر احكام الحلول مما يجعل الخلاف بوجهات النظر وتعدد هذه الوجهات مظهرا من مظاهر اثراء الفكر ، ولونا من الوانه ، لماذا ؟ لان للناس مرجعية واحدة قولها الفصل وحكمها العدل . فوحدة المرجعية هي الاساس الذي تقوم عليه وحدة المجتمع ووحدة العقيدة ، فاذا تعددت المرجعيات يقع الخلاف المحظور . والاختلاف والوحدة نقيضان فيضطر الحاكم لمصادرة حق الناس بطرح افكارهم ليضمن وحدتهم .
ونتيجة نظرية عدالة كل الصحابة تعددت من الناحية العلمية المراجع . فكان في المجتمع الاسلامي عشرات الالوف من المراجع ، كل مرجع له رأيه وتصوره وفهمه .
____________
(1) وقد ورد دعاء طويل في الصحيفة السجادية وثقناه ، وراجع كتاب السيد الرضوي ص 93 ـ 94 .
(2) راجع آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم ص 100 .

( 117 )

وبتعدد هذه المراجع انقسمت هذه الامة الى شيع واحزاب ، كل شيعة تؤيد مرجعها وتعتقد انه المصيب والموصل الى رضوان الله تعالى . ولكن عملياً ، وبما ان السلطة الحاكمة خاصة عندما تخرج من اطار الشرعية هي المسيطرة على وسائل الاعلام ، فان بامكانها ان تسلط الاضواء على المرجع او تلك المراجع المتحدة وتصورها على انها وحدها هي الفئة الناجية ، وانها على الحق المبين ، فتنشر فتاوى هذه المرجعية وتحيطها بهالة من الانبهار ، وبعملها هذا تدعوا الناس بطريقة غير مباشرة للوثوق بهذه المرجعية بغض النظر عن اهلية تلك المرجعية او عدم اهليتها . فأبو هريرة صحابي مغمور لم يكن له دور في عهد الخلفاء الراشدين ، وكان يخدم الناس مقابل قوت بطنه ، ولم تتجاوز صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة وبضعة اشهر ، لكن نتيجة لقربه من البلاط الاموي وحظوته فيه تحول الى مرجعية هائلة ، وتحولت اقواله على كثرتها الى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وروى من الاحاديث ما ينوف على سبعمائة ضعف ما رواه كبار الصحابة ، لماذا ؟ لان الدولة تبنته ورشحته ليكون مندوبها في مرجعية تستقطب كل المرجعيات .

حكم الشرع في تعدد المرجعيات

ما من دين على الاطلاق الا وله مرجعية . وما من عقيدة الا ولها مرجعية . فمحمد هو المرجعية الوحيدة لدين الاسلام ولعقيدته ، فقوله الفصل ، واذا وجدت مرجعية ثانية بأمر الله ، فانها مرتبطة به بالدرجة الاولى بوصفه الاعلم والافهم بالعقيدة ومرتبطة بالعقيدة .
والديانة اليهودية لها مرجعية واحدة . فموسى عليه السلام هو المرجع ، وهارون تابع له ، واذا انفرد موسى عن هارون فهو خليفته ، فاذا عاد موسى عادت تبعية هارون له .
والديانة المسيحية لها مرجع وهو عيسى عليه السلام ، والحواريون مرتبطون به ومسخرون لخدمة الدين تحت امرته . فاذا انتقل محمد وموسى وهارون وعيسى الى الرفيق الاعلى ، فيستتبع بالضرورة وجود مرجعية واحدة لكل عقيدة من هذه العقائد


( 118 )

الثلاث معينة من قبل المرجعية الاولى بأمر ربها ، وترك الدين والعقيدة بلا مرجعية ، تفريط تترفع عنه ملكات الانبياء ، ويتناقض مع كمال الديانات .
وفي الاسلام ، فان مرجعية المسلمين بالنصوص الشرعية القاطعة هم اهل بيت محمد ، وبالتحديد عميد هذا البيت الطاهر في كل زمان . أما لماذا اهل بيت النبوة ؟ فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، ومن جهة ثانية فقد اعدهم الرسول اعداداً علمياً ، وقد احتضنوا الرسول واحتضنوا دعوته . وقد بين لنا الله انهم هم الافضل في كل زمان ، وتلك من لوازم المرجعية . وكان واضحا بعد وفاة النبي ان مرجعية المسلمين هو عميد اهل بيت النبوة وهو علي بن ابي طالب عليه السلام . فكل مسلم قد تبلغ بأن علياً هو مولاه ومولى كل مسلم ومسلمة . انظر الى قول الفاروق ( هذا مولاي ومولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة ) . تلك هي المرجعية الشرعية .

الغاء المرجعية الشرعية يستتبع بالضرورة ايجاد مرجعية بديلة

تلاحظ ان المرجعية الشرعية في الاسلام قد عطلت بعد موت نبيه ، فصار المرجع الرسمي ، او القائم مقام المرجع الشرعي هو الخليفة . ودارت الايام ، فعاد المرجع الشرعي ليقوم بعمله ووظيفته كولي للامة ومرجع شرعي لها . فقامت الدنيا ولم تقعد الا بعد ان قتل ، وجاء الحسن فأدرك ان الدنيا ما زالت قائمة وانها لن تقعد الا بقتله ، فترك الامر ، واحيط بالحسين في كربلاء فقتل وابيد من حضر معه من اهل بيته الطاهرين ، فأصبحت الامة بغير مرجعية شرعية . وبما ان المرجعية ضرورة من ضرورات وحدة المجتمع ، ركز الحاكمون الامويون ليكونوا هم المرجعية وليقنعوا الامة انهم المرجعية الشرعية ، ومن الطبيعي ان يكون للكثير من طلاب الدنيا مصلحة بالتعاون معهم لتحقيق هذه الغاية .

نظرية عدالة كل الصحابة هي الطريق الفرد لايجاد المرجعية البديلة

فصلت نظرية عدالة كل الصحابة لغة واصطلاحاً بحيث تتسع بالحاكمين والأمويين ، ثم اضيفت صفة العدالة على الصحابي ـ اي صحابي على الاطلاق ـ وبما ان المرجع الشرعي عادل ولا يجوز عليه الكذب ، وبما ان الصحابي عادل ولا يجوز عليه الكذب


( 119 )

وهو من اهل الجنة ، فمعنى ذلك ان الحاكم الاموي عادل ومؤهل ليكون المرجع الشرعي لامة محمد ، وهذا هو مفتاح سير الاحداث .

لو جاءت النظرية عن طريق غير الحاكمين لفشلت

لو نادى بنظرية عدالة كل الصحابة اشخاص عاديون لفشلت تماما . ولكن نادى بها صحابة بتأييد مادي ومعنوي من الحكام ، فقد خصصوا جعلا لمن يضع الاحاديث للطعن بالمرجعية الشرعية بعد وفاة النبي ، وقربوا القائلين بنظرية عدالة كل الصحابة ، وبذلوا لهم المال والجاه ، وسخروا كل وسائل اعلام الدولة للترويج لهذه النظرية .
ومن الطبيعي ان لا تخفى هذه الاساليب على ذوي البصيرة من الصحابة الكرام ، لكن اياديهم مغلولة ، والامة متفرقة ، وقد غلبت على امرها ، فاستنكرها كبار الصحابة بالقول والفعل ، لكن هذا الاستنكار كان يموت لحظة ولادته في زوايا البيوت ، بينما كان تأييد هذه النظرية يعمم بكل وسائل الاعلام ، وبدعم الدولة نفسها . فعمليات التنقيص من ولي الامة ومرجعها الشرعي ولعنه وشتمه كانت اموراً يومية تمارسها الامة بقوة السلاح ، وعنفاً عن ادارتها ، ومن يعارض ذلك فمصيره مصير حجر بن عدي ، وهو القتل وحرمانه من العطايا الشهرية او لقمة العيش .
وبنفس الوقت ، كانت عملية ايجاد المرجعية البديلة تشق طريقها بريح ملائمة .

المرجعية البديلة اصبحت شرعية

مات جيل الصحابة الكرام ، ومات التابعون الصادقون ، وماتت المعارضة ، واختفت حجة هؤلاء جميعا ، ولم يبق منها الا النزر اليسير . وبقيت كافة المعلومات الضرورية لاضفاء الشرعية على المرجعية المزيفة والبديلة موجودة بكامل تفاصيلها ، لانها جزء من وثائق الدولة المحفوظة ، وبالتالي اصبحت شرعية حقيقية من حيث الظاهر بعد ان مات كل الذين يعرفون الحقيقة ، واخفيت حجتهم ومعارضتهم ، ولم يبق منها الا اليسير ، فاعتقد اللاحقون ان المرجعية الشرعية التي امر الله بها واوجدها هي عينها التي نقلت إليهم عن طريق الدولة من اسلافهم ، فأصبحت معارضة هذه النظرية معارضة للدين نفسه لا معارضة للذين اوجدوها ، واصبحت تقليداً لا تقبل


( 120 )

المناقشة ، ومن يناقشها او يعارضها او ينتقص من الذين وضعوها فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ... الخ ، ولان الشيعة بزعامة اهل البيت يعارضون ذلك ولا يقبلون به ، فمن الطبيعي ان تصب عليهم كل اللعنات وان يصوروا كأنهم اعداء للدين وكفار مجرمون . وهذا ما استقر بذهن العامة ، وبذهن العلماء الذين تخرجوا من جامعات هذه النظرية ، ورووا التاريخ من خلالها .

الحل

انه لا بديل عن الصبر ، ولا بديل عن الاقتداء بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد قاومه كل الناس ولم يركع ، بل استطاع بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالاساليب الشرعية ، وبالحجة القاطعة والبراهين الساطعة ان يهتك حجب التقليد ، وان يزيح عن وجه الحقيقة كل ما علق بها . واقتنع الناس في النهايه ، وتلك هي الوسيلة الوحيدة امام عشاق الحقيقة الشرعية .

في غياب المرجعية الشرعية

انقسم الناس الى شيع واحزاب متنافرة متعارضة كل حزب يدعي انه على الحق ، وان غيره على الباطل ، وهم جميعا يعلمون ان الامة في غياب المرجعية الشرعية ستنقسم الى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار الا واحدة ، وهم يعلمون انه لا يوجد الا حق واحد وهو الذي تسير عليه هذه الفرقة الناجية ، والفرقة الناجية هي التي تتبع المرجعية الشرعية ، وهذا الانقسام كان واحداً من المبررات التي وجدت من اجلها نظرية عدالة كل الصحابة .

الانقسام الفقهي

في غياب المرجعية الشرعية المخصصة لبيان المقصود الشرعي من النص وتكييف النص على الوقائع انقسم المسلمون الى عشرات الشيع والاحزاب الفقهية والتي تحمل في ثناياها طابعاً سياسياً بالضرورة ، وتمركزت هذه الاقسام بخمسة قوى :
1 ـ مذهب أهل البيت الكرام : وهو اول المذاهب الاسلامية على الاطلاق ، وهو مذهب الفئة الناجية كما سنثبت ذلك ، وقد اطلق عليه المذهب الجعفري نسبة الى جعفر الصادق عليه السلام .