الباب الثالث
المرجعية



( 142 )



( 143 )

الفصل الاول
المرجعية

يبدو واضحا ان نظرية عدالة كل الصحابة قد اوجدت مرجعية واقعية تركت بصماتها على الحياة الفقهية والسياسية الاسلامية ، وصارت بحكم النقل والتقليد كأنها هي المرجعية الشرعية التي حددها الله وبينها رسوله . اما المرجعية الشرعية نفسها فأصبحت غريبة لكثرة تناسيها وابراز المرجعية البديلة لها ، وظن بعض الناس ـ وان بعض الظن اثم ـ ان المرجعية الشرعية هي غير شرعية ، وان المرجعية البديلة هي نفسها الشرعية . وفي سبيل بيان الحقائق الشرعية المجردة لا بد من افراد باب خاص لهذه الناحية .

ما معنى المرجعية

تعني المرجعية تلك الجهة المختصة ببيان احكام وقواعد العقيدة الاسلامية الالهية لا على سبيل الافتراض والتخمين ، انما على سبيل الجزم واليقين ، بحيث يكون بيانها هذا هو عين المقصود الالهي من هذه الاحكام ، وبالتالي يتقبل الانسان المؤمن بهذه العقيدة بيان تلك المرجعية على انه حقيقة ايمانية او عقلية تصلح كمنطلق فكري او كقاعدة يبنى فوقها او كطريق يسار عليها . فالنبي ، هو المرجع لكل المسلمين خلال حياته ، يرجعون اليه في امور عقيدتهم ، وقوله الفصل لانه هو الاعلم بأحكام العقيدة ، وعميد اهل بيت النبوة ـ الامام ـ بعد وفاة النبي هو المرجع لانه الاعلم بأحكام العقيدة ـ حسب رأي الشيعة ـ والصحابة مجتمعين ومنفردين هم المرجع او المراجع لبيان احكام العقيدة


( 144 )

بعد وفاة النبي ، فهم مجتمعين عدول كلهم ، وكل واحد منهم من العدول وهم من اهل الجنة وهم الشهود الذين نقلوا لنا هذا الدين (1) لذلك فهم المرجعية الشرعية . فالاقتداء بأي منهم يقود للهداية حتماً . وبموت الصحابة فالمرجع هو الحاكم ينظر بالآراء والاجتهادات المطروحة امامه ثم يختار منها ما يريد وهذه الاجتهادات المعروضة هي اقوال سابقة للصحابة في مسائل طرحت في ازمانهم . والحاكم المرجع أي حاكم لان المسلمين مع من غلب (2) نحن مع من غلب (3) وهذا قول مشهور للصحابي عبد الله بن عمر وهذا رأي اهل السنة ، فالغالب هو المرجع يجتهد بنفسه حتى ولو لم يكن مجتهداً او يأخذ برأي من شاء من المجتهدين ، حتى لو لم يكونوا مجتهدين بالحق والحقيقة كما سنرى .

تلازم المرجعية مع العقيدة

تتلازم المرجعية مع العقيدة وترتبط معها ارتباطاً عضوياً . فالمرجعية تنهل من العقيدة ، فلا عقيدة بدون مرجعية ولا مرجعية الا في عقيدة ، لان المهمة الاساسية للمرجعية هي بيان العقيدة الالهية . فالنبي يبين هذه العقيدة عين البيان الذي يريد الله تعالى ، والمرجع بعد النبي بين هذه العقيدة عين البيان الذي اراده الله وبينه النبي فالعقيدة الالهية حددت معاني الاقوال والافعال ، وحددت الاهداف ووسائل بلوغها ، ونظمت العلاقات بين المؤمنين بها وعلى كل الاصعدة . فيكون دور المرجع منحصراً ببيان العقيدة بياناً كاملاً وتكييفها على الوقائع المستجدة .
فالمرجع هو المسؤول عن ترجمة نصوص وقواعد وغايات تلك العقيدة من النظر الى التطبيق ، ومن الكلمة الى الحركة على صعيدي الدعوة والدولة معاً . فبيان النبي للعقيدة الالهية هو جزء منها ويحسب من جملة مضامين العقيدة لانه نبي ، ولكن بيان علي او الحسن او الحسين او زين العابدين او جعفر الصادق ، او اي امام لا يعتبر جزءاً من العقيدة انما يعتبر سوابق دستورية وضرورية لمن يريد ان يلتقي عمله مع المقصود الالهي ، ولكن بيانه يلزم كل المؤمنين بمرجعيته ولا يجوز مخالفته شرعا لانه الامام الشرعي القائم مقام النبي وطاعته هي طاعة للنبي .
____________
(1) راجع الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني وبهامشها الاستيعاب لابن عبد البر ص 5 وما فوق .
(2 و 3) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 244 ـ 245 .

( 145 )

المرجعية اختصاص وعمل فني تماماً

فالعقيدة هي السفينة ، والمرجع بمثابة القبطان لهذه السفينة . والعقيدة هي المخططات اللازمة لمشروع الانقاذ الالهي ، والمرجع هو المهندس الذي يتولى عملية توضيح وشرح هذه المخططات وبيانها وترجمتها مرحلياً الى واقع مادي ملموس ومحسوس . فالمرجع هو معلم البناء ، ومن الجنون تحضير المواد الاولية اللازمة للبناء والشروع بالبناء دون مشورة وعلم المهندس او معلم البناء . وعلى صعيد العقيدة الاسلامية يجب ان يكون المرجع اعلم اهل زمانه بهذه العقيدة ، واكثر اهل زمانه اخلاصا لها ، واكثرهم اعتصاما بالله وافضل الموجودين وانسبهم للقيادة والمرجعية لان المرجع هو الحكم ( بفتح الحاء والكاف ) وهو الناطق بالحكم الالهي . ويفترض ان ما تتبناه هذه المرجعية هو عين المقصود الالهي .

تعددية المراجع

لايوجد في العقيدة الالهية الواحدة إلاّ مرجع واحد ، فالنبي هو المرجع الاعلى لكل ما يتعلق بالاسلام . وموسى هو المرجع الاعلى في زمانه ، فاذا افترق عن هارون يصبح هارون مرجعاً مرتبطاً بموسى وتابعاً له ، واذا اجتمعا فالمرجع هو موسى . وهكذا عيسى فهو المرجع في كل الامور المتعلقة بالديانة المسيحية ، لان تعدد المراجع في العقيدة الواحدة يؤدي بصورة حتمية لتفسخ العقيدة وتفرق اتباعها ، واستنباط عقائد جديدة من الناحية الواقعية .
فالمرجعية في الاسلام هي مرجعية واحدة وهي اختصاص من اعظم ضرورات الدين . فاذا انعدمت المرجعية الشرعية يركب كل مسلم رأسه ، او تركب كل مجموعة من المسلمين رأسها ، وتعتقد لكثرة ممارستها للخطأ ان الحق معها ، وتتفرق الكلمة ، ويتشتت شمل الامة ولا يلمها ثانية الا وجود مرجع واحد تعتبر كلمته حقيقة عقلية وايمانية يتقبلها المسلمون عن رضى خاطر . وهذه هي السبيل الوحيد لتوحيد المسلمين .

الفارق بين العقيدة والمرجعية

هو الفارق بين الدعوة وبين الداعية ، فالدعوة المحمدية تقوم على اساسين : القرآن الكريم والسنة المطهرة بفروعها الثلاثة : القول والفعل والتقرير ، وهذه خاصية لمحمد


( 146 )

صلى الله عليه وآله . فالعقيدة هي القرآن الكريم ، وبيان هذا القرآن المتمثل بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره على اعتبار ان الشخص المبين وهو الرسول جزء لا يتجزأ من العقيدة والوثوق به وموالاته والتسليم بصحة فهمه للدين جزء لا يتجزأ من الدين . لذلك فقوله فصل في كل امر من الامور لانه الاعلم والافهم بالعقيدة والافضل والانسب لقيادة اتباعها .
ثم اكتمل الدين وتمت النعمة الالهية ، وبين القرآن كل شيء ، وانتقل الرسول الى جوار ربه ، فترك العقيدة ، وهي القرآن الكريم ، والبيان وهو قول الرسول وفعله وتقريره . أما المرجعية بعده فموضوع آخر حيث تكون مهمتها بيان العقيدة الالهية وتكييفها على الوقائع الحياتية في زمن ذلك المرجع .
وللتوضيح نقول : ان العقيدة هي بمثابة السفينة ، وان المرجع هو بمثابة القبطان ، وان العقيدة هي بمثابة المخططات العامة والتفصيلية ، وان المرجع هو بمثابة المهندس المختص بفهم هذه المخططات . ان العقيدة هي المواد الاولية اللازمة لبناء الصرح المنشود ، وان المرجع هو معلم البناء . ان العقيدة بناء فكري ، او ان شئت فقل شخص اعتباري قائم بذاته ، وان المرجع هو المعبر عن موقف هذا الشخص الاعتباري من القضايا المطروحة . ولك ان تقول : ان العقيدة هي الصيدلية الكبرى التي تحوي العلاج الشافي من كل داء ، وان المرجع هو الطبيب والصيدلاني الذي يشخص المرض ويصرف العلاج اللازم المناسب تماماً لهذا المرض من الصيدلية الكبرى ، وهي العقيدة .

تجذير الحكمة من وجود المرجعية

اذا اوحى الله تبارك وتعالى لكل انسان وجره الى الخير جراً ، وخصص له ملكاً من السماء يرافقه ويقومه ، فان هذا الانسان لا يستحق الاجر لانه مكره على الفعل او مكره على الامتناع عنه . والامر الذي يتناسب مع نظرية الابتلاء الالهية هو ان يرزق الانسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل بعد ان بين له الله الحق من الباطل ويؤتيه القدرة على فعل الحق وفعل الباطل . ثم يبين له الله الحق من الباطل والمباح والحلال والحرام ، ثم يعطي الانسان بعد ذلك الحرية ليعمل الحق بارادته وحريته ورضاه او يأتي


( 147 )

الباطل بحريته ورضاه وارادته . هنا فقط يستحق الانسان المكلف الثواب اذا اصاب والعقاب اذا اخطأ .
تلك هي الارضية التي انطلقت منها فكرة الرسالات الالهية التي بني البشر ، وانطلقت منها فكرة المرجعية كضرورة من ضرورات بيان الرسالات الالهية ، فدارت فكرة الرسالة الالهية حول محورين :
1 ـ رسول يبلغ الرسالة وهي مرجعها الارضي .
2 ـ رسالة لها مضمون يتعذر تبليغها بدون رسول او مرجع . وهذه الرسالة معدة من قبل الله وهي مشروع هداية إلهية . فالله تعالى هو المرجع الاعلى للرسول في كل ما يتعلق بالرسالة ومضمونها وبيانها .
فالخطوة الاولى هي اختيار الرسول او المرجع .
والخطوة الثانية هي افهام الرسول مضامين هذه الرسالة الالهية ( العقيدة ) .
والخطوة الثالثة هي قيام الرسول بتبليغ هذه الرسالة لاصحابها وبيانها بياناً كاملاً ، ورصد ردة فعلهم عليها ليكون هو الشاهد . الناس يرجعون الى الرسول بوصفه المرجع الذي يفهم الرسالة فهماً يقينياً ، وما اشكل على الرسول من امور الرسالة يرجع به الى الله . تلك حقيقة لا يجادل بها إلاّ جاهل .
كان الرسول ـ اي رسول ـ هو المرجع لمن اتبعه ليوضح وليبين للاتباع ومن بلغ مضامين الرسالة وكيف تتحول هذه المضامين الالهية من النصوص النظرية الى التطبيق العملي ، وكيف تنفذ على الوجه الذي يرضى الله تعالى .
فاذا مات الرسول ـ اي رسول ـ فان العقيدة باقية بالضرورة ما دام لها اتباع ، ويستدعي بالضرورة وجود مرجع ليقوم بدور البيان والشهادة . وهذا من ضرورات الرسالة ، وعملية الابتلاء ان يكون للعقيدة الواحدة مرجع واحد ليقوم بقيادة مسيرة قافلة الايمان ، سواء اكانت على مستوى الدعوى او مستوى الدولة ان نجحت المرجعية بتحويل الدعوة الى دولته .


( 148 )

المرجعية اكبر من ان تنكر

قلت في مقال نشر في عدد جريدة اللواء الاردنية رقم 955 تاريخ 17 صفر عام 1412 هـ ما يلي : الاحزاب الدينية العربية لا تجهل ان الرسالات الالهية لبني البشر لم تتوقف طوال تاريخ الجنس البشري على الارض . فهل تتفضل الاحزاب الدينية العربية مشكورة ومأجورة فتبين للمسلمين متى ارسل الله رسالة بدون رسول ؟ ومتى خصهم بعقيدة من دون مرجع ؟ معكم الدنيا طولاً وعرضاً ، فوقاً وتحتاً من لدن آدم حتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فان لم تفعلوا ولن تفعلوا باذن الله فقد آن الاوان ان تتركوا التقليد الاعمى وان تتقوا الله في دينكم وانفسكم ، وفي امتكم وفي الجنس البشري الذي يعلق ضميره كبير الامال على دينكم لينقذه والعالم من براثن المادية المقرفة الى رحابة التكييف الالهي للاحداث والاحكام .
فالعقيدة الاسلامية لها مرجع وهو رسول الله ، وبعد موته بينت هذه العقيدة المرجعية من بعده ، لان المرجعية ضرورة من ضرورات الحياة .
فالاسرة لها مرجع ، والدولة لها مرجع ، والنظام له مرجع . وكل عقيدة الهية او وضعية لها مرجع بالضرورة ، لان المرجع عنصر اساسي لكل دعوة ولكل تجمع بشري ولكل عقيدة ولكل دولة . وسبب المصائب التي حلت بالمسلمين يعود في جوهره الى استبعاد المرجعية الشرعية التي عينها الله ، والتمسك بالمرجعية البديلة التي فرضتها الغلبة واستكان الناس لها بحكم التقليد .

* *


( 149 )

الفصل الثاني
العقيدة

الرابطة بين العقيدة وبين المرجعية رابطة عضوية . فحيثما وجدت العقيدة يستتبع بالضرورة وجود مرجعية لان التلازم والتكامل حاصل وبالضرورة بين العقيدة والمرجعية ، ولتوضيح المرجعية توضيحا كافياً لا بد من بحث موضوع العقيدة اذ يتعذر فهم احداهما دون فهم الآخر .
ما معنى العقيدة ؟ تعني العقيدة عموماً مجموعة الافكار والقواعد والمبادىء والقيم المترابطة والمتكاملة والتي تقدم تصورا للوجود لما هو كائن ، ولما ينبغي ان يكون او تصورا للحال وللمآل بغض النظر عن صحة هذا التصور او فساده ، عن شموليته او محدوديته ، عن كماله اوقصوره . فتجتذب هذه العقيدة جماعة معينة تقتنع بهذا التصور ، فتحدد هذه الجماعة قناعاتها واهدافها وطرق بلوغ تلك الاهداف وفق مقاييس تلك العقيدة ، فتكون هذه العقيدة هي القائدة وهي الموجهة ومنبع الشرعية والمشروعية في حياة تلك الجماعة وهي منبع خيرها العام .
ومن الطبيعي ان كل عقيدة بهذا المفهوم تدعي القدرة على سياسة حياة معتنقيها ، والقدرة على تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم ، واستشراق المستقبل الافضل لهم ، وتزعم انها تمتلك الوسيلة لتحقيق الخير العام لهذه الجماعة . وما تزال تلك العقيدة تعتمل في نفوس معتنقيها وتحرك ارادتهم حتى يقدموها كمذهب سياسي له الجاهزية على اثبات دعوى القدرة تلك ، او عدم اثباتها من خلال سلطة تسوس الجماعة وفق تصورات تلك العقيدة ، لان المذهب السياسي هو بمثابة البرنامج السياسي المتكامل


( 150 )

الذي تقدمه تلك العقيدة ، وهو بمثابة الاعلان عن جاهزية فكر وفلسفة ومبادىء هذه العقيدة لتوضع كلها موضع المحك والتطبيق ، وهو يتناول الاهداف والوسائل اللازمة لتحقيق تلك الاهداف ، وكل ذلك يرتبط عمليا بوجود سلطة دولة او حكم لينقل هذا البرنامج من عالم النظر القانوني الى عالم الواقع القانوني . وبهذا المفهوم فان الرأسمالية التحررية عقيدة وان الماركسية الشيوعية عقيدة .

نوعا العقائد

عرفت البشرية نوعين من العقائد : 1 ـ عقائد الهية من صنع الله . 2 ـ عقائد وضعية من صنع فرد من مجموعة من الافراد او ان شئت فقل من تجميع فرد او مجموعة من الافراد .

صناعة العقائد ولوازم ايجادها

ومن يتعمق بالموضوع يكتشف ان بامكان الانسان ان يفهم عقيدة ـ اي عقيدة صالحة كانت ام طالحة ، ولكن الانسان عاجز عن صنع وايجاد عقيدة صحيحة ، وهو بطبعه غير مؤهل لايجادها ، بل ويمكنك القول بكل ارتياح ان الجنس البشري لو اجتمع كله على صعيد واحد لما استطاع ان يصنع عقيدة صحيحة ويقينية ، مع ان اجتماع الجنس البشري كله على صعيد واحد غير وارد وغير ممكن ، وبالتالي فايجاد العقيدة الصحيحة امر فوق مستوى البشر ، وفوق طاقتهم لان هذا يتطلب معرفة يقينية بماضي الجنس البشري وبتفاصيل تجاربه ، وهذا ركن اساسي يبنى فوقه ، ويتطلب ايجاد العقيدة الصحيحة معرفة يقينية بالفطرة الانسانية وحاجات الانسان ودوافعه وميوله ، بالاضافة الى معرفة يقينية بالمستقبل لانه هو الذي سيشهد زمنيا نجاح او فشل هذه العقيدة او تلك ، ويتطلب اخيراً معرفة بالكون المحيط بالانسان معرفة يقينية وهذه المعارف لا يدعيها فرد ولا تدعيها جماعة ولا يدعيها الجنس البشري كله .
فالعقيدة التي يضعها بشر ستنهار عاجلاً ام آجلاً لسبب بسيط هو ان الانسان غير مؤهل بطبعه لايجاد عقيدة . والعقيدة اليقينية التي تصلح ان تكون اساساً دائماً للسلطة هي العقيدة التي وضعها الله الخالق وهي عقيدة الاسلام التي كانت بالفعل هي اساس السلطة لدولة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .


( 151 )

ملامح عقيدة الاسلام

1 ـ على الصعيد العملي : الاسلام هو الانقياد التام لله جل وعلا في كل شأن من شؤون الحياتين الدنيا والآخرة ، بحيث يكون عمل الانسان وعمل الجماعة المسلمة وعمل الدولة المسلمة ـ وعلى كافة الاصعدة ـ خاضعا لموازين الاوامر والنواهي الالهية المحددة بالرسالة الالهية ( العقيدة ) النافذة المفعول وهي رسالة الاسلام ، ومتجها لتحقيق غاياتها الشرعية ، ونعني بالعمل : الحركة المضبوطة بالفكرة الشرعية والنية الشرعية .
2 ـ على الصعيد النظري : تعني العقيدة الاسلامية مجموعة القواعد والاحكام والمبادىء والاوامر والنواهي والمعلومات العامة والتفصيلية التي انزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقام هذا النبي ببيانها للناس نظرياً عبر دعوة وعبر دولة . ثم وضعها موضع التطبيق من خلال دعوة قادها بنفسه ومن خلال دولة ترأسها بنفسه .
فالعقيدة تشمل ما انزله الله واوحاه الى نبيه ، وتشمل قول النبي وفعله وتقريره . وهذه العقيدة بمجموعها تبين كيف وجدت الحياة ؟ ولماذا ؟ وكيف تنتهي ؟ ومتى ؟ وما هي مآلاتها ؟ وتنظم العلاقات بين الاحياء على الاطلاق ، علاقات الكائنات الحية مع الخالق ومع بعضها ومع الكون الضروري لوجودها والمسخر لخدمتها ، وتبين كيفية انتهاء دورة الحياة كلها ، وكيف تنتهي الدورة الحياتية لكل كائن حي مخلوق ، وتكشف عن وجود حياة اخرى هي بمثابة قاعدة محاكمة لكل الذين مروا بدورة الحياة الدنيا على ما قدموه ، وهي بمثابة نتيجة فيأخذ المصيب اجره كاملاً ويلقى المخطىء عقابه .
وهذه العقيدة سجل حافل لتاريخ الخلق عامة والجنس البشري خاصة حفظت تجاربهم بصدق وموضوعية تصل الى درجة التصوير الفني المشاهد صوتاً وشكلاً وحركة ، ظاهراً وباطناً .
وهي نظام للفرد كفرد ، وللمجتمع كمجتمع ، وللسلطة كسلطة ، وللجنس البشري كله ، تنظم حياة كل واحد منهم على انفراد ، وتنظم علاقاتهم مع بعضهم وعلاقاتهم مع خالقهم ، وعلاقاتهم مع العالم المحيط بهم ، وترفدهم جميعا بدعوة ، وتعزز الدعوة بدولة ، وتعزز الدولة بأهداف ومثل عليا .
وهذه العقيدة غائية ، بمعنى انها تحدد الاهداف . فلكل قاعدة من قواعدها هدف وجدت من اجله ورصدت عليه ، وللفرد هدف وللمجتمع هدف ، وللسلطة هدف ، وللجنس البشري هدف . وهذه الاهداف كلها تصب في مكان واحد هو نفس الهدف


( 152 )

العالم للاسلام . وهذه الاهداف محددة و ( معيرة ) بشكل تعكس طوعياً كامل الطاقة الكامنة في ذات الفرد وذات الجماعة وذات السلطة وذات الجنس البشري وذات الكائنات المحيطة بهم والمسخرة لخدمتهم ، كامل الطاقة لا زيادة ولانقصان ، لان الشيء لا يملك الا طاقته ولم تكتف العقيدة الاسلامية بتحديد الاهداف ، انما حددت الوسائل والسبل والطرق اللازمة لتحقيق هذه الاهداف وبينتها على وجه يزيل كل غموض .

التصور اليقيني

بمعنى ان الاسلام كعقيدة يقدم تصوراً يقينياً شاملاً وكاملاً ويقيناً يقوم على الجزم واليقين . وهذا التصور اليقيني يغطي بالكامل ساحة الاهداف والوسائل العامة والخاصة وفي كافة نواحي الحياة وعلى كافة الاصعدة الفردية والجماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية ... الخ . وهذا التصور اليقيني هو بمثابة مخططات عامة وتفصيلية دقيقة لواقع ما هو كائن ومستقبل هذا الكائن في دائرة الواقع ، وما ينبغي ان يكون عليه هذا الكائن في دائرة المنى الذي سيتحول الى واقع بحيث تتودك هذه المخططات درجة درجة وخطوة خطوة حتى تصل بك الى الغاية الشرعية من اقصر الطرق وبأقل التكاليف ، وفي كل امر من الامور . عندئذ تكون العقيدة هي القائدة والموجهة ، وهي منبع الشرعية ، وتستقر كبنية فكرية كاملة ، وتدعم هذا الاستقرار القناعة الذاتية والرضا بهذه العقيدة القائمة على الجزم واليقين ، بعكس العقائد الوضعية التي تقوم على الافتراض والتخمين والتي ستنهار في النهاية عاجلاً ام آجلاً .

المنظومة الحقوقية الالهية

بمعنى ان العقيدة الاسلامية هي مجموعة القواعد والاحكام والمبادىء والاوامر والنواهي والمعلومات العامة والتفصيلية التي انزلها الله تبارك وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقام هذا النبي ببيانها للناس عبر دعوة قادها بنفسه ، وعبر دولة ترأسها بنفسه . فالمنزل من عند الله والمبين من رسول الله بالقول والفعل والتقرير يشكل منظومة حقوقية الهية هي بمثابة القانون النافذ ، الصالح لكل زمان . ومنظر هذه المجموعة ومبينها بعد وفاة النبي هو المرجع الشرعي .

* *


( 153 )

الفصل الثالث
من هو المختص بتعيين المرجعية

قلنا : ان كل عقيدة الهية على الاطلاق لا بد لها بالضرورة من مرجعية شرعية تتلازم معها وتتكامل . ومن المستحيل ان تكون هنالك عقيدة الهية بدون مرجعية تتولى بيان هذه العقيدة الالهية . وهذا المرجع يجب ان يكون بالضرورة هو الاعلم في هذه العقيدة ، والاكثر فهماً لها ، والاكثر اخلاصا لها ، وخير الموجودين وافضلهم وانسبهم لا على سبيل الافتراض والتخمين ، انما على سبيل الجزم واليقين . وتلك امور خفية لا يعلمها العلم اليقيني الا الله العالم بالسر واخفى . ومن هنا اختص تعالى بتعيين هذه المرجعية واختيارها ، تلك حقيقة لا يجادل فيها الا جاهل .
وهذه الصفات مجتمعة اعلنت العناية الالهية انها متوفرة في كل الانبياء الذين اختارهم الله وحده عبر التاريخ البشري لتبليغ رسالات ربهم . ولم يحفل باعتراضات المعترضين ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ( هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) لان هذه الاعتراضات على الحكم الالهي تنبع من الافتراض والتخمين ، بينما الحكم الالهي باختيار هؤلاء الانبياء وتعيينهم مراجع قائم على الجزم واليقين بأنهم الاعلم والافهم والاكثر اخلاصاً ، والاخير والافضل والانسب لبيان العقيدة الالهية وقيادة سفينة الاسلام والولاية على الاتباع .


( 154 )

والخلاصة ان الله جلت قدرته هو الذي اختص بتعيين المراجع التي تولت بيان العقائد الالهية طوال التاريخ ، لانه هو وحده الذي يعلم من هو المؤهل لبيان هذه العقائد . ولم يصدف في التاريخ البشري كله ان ترك امر تعيينهم واختيارهم الى اهواء الناس او آرائهم .

ما هي المهام والوظائف المناطة بالمرجع الذي عينه الله ؟

لا خلاف بأن الانبياء الكرام مراجع عينهم الله كلهم بلا استثناء ، واختارهم بنفسه واعلن هذا الاختيار . والسؤال : ما هي المهام والوظائف المناطة بهؤلاء المراجع الكرام ؟
1 ـ البيان : من المهام المشتركة بين كل الانبياء والموكولة لكل الانبياء كمراجع بيان قواعد العقيدة الالهية ، ومن صميم مهمة كل مرجع توضيح كامل العقيدة الالهية ، توضيحاً كاملاً على الصعيدين النظري والعملي من خلال دعوة بالضرورة تتمخض عن دولة ، كما حدث لمحمد ولدعوة الاسلام . وقد لا تتمخض هذه الدعوة عن دولة كما حدث للكثير من الانبياء ، فالمرجع يبين القاعدة الالهية نظرياً كما تلقاها من الله بالضبط لا زيادة ولا نقصان ، ثم يقوم بترجمة هذه القاعدة من عالم النظر الى الحركة والتطبيق . فيكون البيان كاملا من الوجهتين النظرية والتطبيقية . فهو الذي يكيف النص على الواقعة بنفس التكييف الالهي ، وهو الذي يتأكد ان النص الالهي قد حقق الغاية من وجوده على هذه الواقعة وعلى كل واقعة .
2 ـ تحديد دائرة الشرعية والمشروعية : يختص النبي المرجع ببيان حدود دائرة الشرعية والمشروعية ، وقد حددها كل نبي مرجع بـ :
1 ـ عقيدة الهية تشكل مركز دائرة الشرعية والمشروعية ، وهي ما انزله الله على المرجع سواء باللفظ والمعنى معاً كالتوراة والانجيل والقرآن ، او بالمعنى كالحديث القدسي .
2 ـ بيان النبي المرجع لهذه العقيدة الالهية بشقيه النظري والعملي .
3 ـ وحدة العقيدة مع بيان المرجع ، اذ يتعذر الفصل بينهما . فالعقيدة الالهية والبيان وجهان لعملة واحدة ، اذ يتعذر فهم العقيدة بدون بيان ، ويتعذر استيعاب البيان دون الرجوع لاساسه فلما انزل الله هو الاساس وبناء الهدى والبيان هو ابواب هذا البناء .


( 155 )

3 ـ الولاية على الاتباع : ومن مهام النبي المرجع ان يكون الولي والامام على اتباع العقيدة يصرف امورهم ويسوسهم وفق احكام وقواعد العقيدة الالهية . وهذا ما تأكد بالنسبة العملية . فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المرجع الديني لاتباعه وهو الولي والامام الزمني لهؤلاء الاتباع . فولاية المرجع دينية وزمنية معاً بالشرع والعقل معاً . فهو نفسه الذي قاد الدعوة ، وهو نفسه الذي ترأس الدولة ، وهو نفسه الذي انزل عليه الذكر ، وهو نفسه الذي بين هذا الذكر وطبقه .
4 ـ منع حدوث الضلالة : في عهد النبي المرجع يتحقق الهدى وتختفي الضلالة بتوفر ركنين : 1 ـ ركن عقائدي حقوقي وهو اتباع قواعد العقيدة الالهية ( المنظومة الحقوقية الالهية ) وبيان النبي المرجع لهذه المنظومة . 2 ـ ركن شخصي وهو الولاية والامامة للنبي المرجع بحيث يسوس هذا النبي المرجع اتباعه ويطبق عليهم العقيدة الالهية بنفس الفهم والكيفية التي يتلقاها من الله ، والمحافظة على وحدة هذين الركنين ضمانة لسيادة الهدى والشرعية ، واي خلل تطبيقي فيهما او بأحدهما يؤدي حتماً الى الضلالة ، لان الركن الشخصي تماماً كالركن العقائدي ، وهما معا صفقة واحدة . فغير ممكن لشخص ان يؤمن بالعقيدة الالهية ويرفض ولاية محمد ، لان الولاية جزء لا يتجزأمن العقيدة ، واي محاولة للتجزئة تدخل صاحبها بالضلالة بحجم تلك المحاولة .
5 ـ سفينة نجاة : النبي المرجع سفينة نجاة ، من يركب معه فقد نجا ومن يتخلف عنه او يركب بأي سفينة اخرى يغرق لا محالة .
6 ـ النبي المرجع باب للمغفرة : من دخله غفر الله له ، ومن ابى دخول هذا الباب بقي حاملاً لاوزاره .
7 ـ النبي المرجع يقود اتباعه للهدى : فمن يتبع النبي ويطعه فكأنما اطاع الله ، لان طاعة النبي طاعة لله ، وطاعة الله هي الهدى ، ومن يعص الله ويتبع سواه فقد عصى الله ، ومن عصى الله فقد ضل ضلالاً بعيداً .
8 ـ النبي المرجع أمان للأمة المؤمنة ومانع للخلاف : فعندما تتبع الامة المؤمنة النبي المرجع فانها سلك طريق الامان ، لانها تسير على طريق واحد فهمه النبي ووعاه لي قبل ان


( 156 )

يسلكه . فالطريق التي يسلكها مأمونة تماماً ولا يتعثر بها احد . وبغياب هذه المرجعية يقع الخلاف ويختفي الامان ويضيع الناس فيتبعون ( كل ناعق ) ، ويميلون مع الريح . فوجود مرجع واحد للامة يفهم فهما مثاليا القواعد الالهية عصمة للامة من الاختلاف وتذكرة امان للجميع .
9 ـ المرجع ثقل لاتباعه يتمسكون به فلا يسقطون ولا يضيعون .
10 ـ المرجع هو القدوة في العلم والتقوى والالتزام والحكم ، وهو النموذج المتحرك للرباني المتمسك بالعقيدة الالهية .
11 ـ تكثيف الجهود وتنسيق الطاقات المؤمنة لتعميم الهداية على الجنس البشري كله .

المرجعية خلال حياة النبي

طاعة الله تتمثل باتباع اوامره واجتناب نواهيه . والذي يعرف كنه الاوامر والنواهي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فطاعة الرسول عملياً هي طاعة الله ، ومعصية الرسول عملياً هي معصية الله . وقد تكادت هذه الحقيقة في القرآن الكريم تسع مرات ، لان الرسول هو القيم على هذا الدين ، وهو العالم بأسراره ، المطلع على خفاياه ، والقادر على تخصيص العام من احكامه وبيان المعنى المطلوب ان تعددت المعاني في النص الواحد ، وبالتالي فان المرجعية اثناء حياة الرسول محصورة به وبه وحده ، لان الله عصمه واصطفاه لهذه الغاية ، ولايمكن لاحد من اتباعه ان يفهم اوامر الله ونواهيه كما فهمها الرسول بالتمام ، لان الرسول مميز ويجب ان يكون الاعلم والافهم والافضل ليرجع اليه اتباعه . فخلال حياته هو المرجع المختص ببيان الاسلام وبقيادة المسلمين بالاجماع ، ولا احد يخالف هذه الحقيقة لانها ايمانية وعقلية معاً .

المرجعية بعد وفاة النبي ـ قراءة اولية للواقع

حقيقة انه قبل ان ينتقل الرسول الى جوار ربه . اكتمل الدين وتمت النعمة ، وترسخت العقيدة ، وطبعت الاحكام ، وقام نظام الدولة وترأسها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة عشر سنوات .


( 157 )

لكن طبيعة الاسلام كآخر دين ، وطبيعة قواعده المتعمقة بالعموم والشمول ، وطبيعة المهمة الملقاة على عاتق المسلمين والمتمثلة بتقليص رقعة الكفر ، وهداية الجنس البشري تقتضي بالضرورة وجود مرجعية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا امر من البداهة بحيث انه لايحتاج الى دليل لولا التقليد الاعمى ، والتسليم بالواقع ، وفطرة اغلبية الناس باطاعة الغالب .
سيقول البعض ـ وخاصة الاحزاب الدينية العربية ـ ان علماء المسلمين هم المرجع بالمعنى الذي تقصده . والخليفة هو مرجع المراجع ايضا . ونحن نجيبهم بأن قولكم الاول غير عملي ، فماذا يكون الموقف لو ان علماء المسلمين ـ على فرض امكانية جمعهم في مكان واحد ـ قد افترقوا على فرقتين او ثلاثة او اكثر ، وكل مجموعة لها وجهة نظر مستندة الى ظاهر من الشرعية ، وكلهم عمالقة بفقههم ، واصر كل فريق على رأيه ، فأي فريق نتبع ؟ واي رأي ننفذ ؟ ستقول الاحزاب الدينية العربية : ان الحاكم يتبنى الرأي الذي يراه مناسباً من هذه الآراء خلال فترة حكمه !! اذن هم يعترفون ان الحاكم هو المرجع او هو الذي يقوم بدور المرجع بوصفه خليفة النبي ، ولكنكم تعلمون انه قد توالى على رئاسة الدولة اعداد لا حصر لها من الخلفاء منهم التقي كعلي وابي بكر ، ومنهم ايضا مروان بن الحكم ومعاوية بن ابي سفيان ويزيد ابنه ، ومنهم ترأس الدولة بالطريقة الشرعية ، ومنهم ترأس الدولة ودانت له الناس لانه الغالب وبحكم الحال والاضطرار . فمروان ليس عالما وغير مؤهل لاختيار الحكم الامثل .

الحاجة لمرجعية بعد وفاة النبي

رأينا ان كل نبي على الاطلاق مرجع بالضرورة ، كلفه الله تعالى بمهام ووظائف وسيد الانبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاد الدعوة الى الله فنجحت دعوته ، واسفرت عن دولة طبقت قواعد العقيدة الالهية بياناً كاملاً نظرياً وعملياً ، واعلن الله انه قد اكمل للمسلمين دينهم واتم عليهم نعتمه . وخير النبي فاختار ما عند الله . ولم يفاجئه الموت ، انما مرض ثم انتقل الى جوار ربه تاركاً دعوة قائمة ودولة مائلة ، وديناً يباهي به الدنيا ، انه تبيان لكل شيء ( تبيانا لكل شيء ) على الاطلاق . من هو المرجع من بعده ؟ ومن الذي سيقوم بالوظائف التي كان يقوم بها ؟ من الذي


( 158 )

يبين للناس احكام العقيدة الالهية ؟ ومن الذي يحدد دائرة الشرعية والمشروعية ؟ من هو ولي الامة وركن مجدها القائم مقامه ؟ من هو سفينة النجاة ؟ من هو باب المغفرة ؟ من هو الامان المخلص لهذه الامة ؟ من هو ثقلها ؟ من هو مثلها الاعلى بعده ؟ من الذي يقود موكب المؤمنين لتحرير سكان العالم وانتشالهم من الظلمات الى النور ؟

تساؤلات تحتاج الى أجوبة

فإذا قال المسلمون إنه لم يعين المرجع من بعده ، ولم يحدد من الذي سيقوم بوظائفه ، ولا حدد من سيبين للناس أحكام العقيدة ، ولا من الذي يحدد لهم دائرة الشرعية والمشروعية ولا بين من هو ولي الأمة من بعده ، ولا من هو ركن مجدها القائم مقامة ، ولا من هو ثقلها ؟ ولا من مثلها الأعلى : ولا من هو الذي سيقود معركة تحرير البشرية وإنقاذها .
فإذا قال المسلمون ذلك ، فإن قولهم هذا يناقض كمال الدين وتمام النعمة ، لأن هذه الأمور من صلب الدين ومن صميم النعمة ؟ ومن المحال أن تغفلها العقيدة الإلهية ، ثم إنهم لو أصروا على ذلك لوجدوا أن العقيدة الإلهية تتحدى إصرارهم هذه وتعيبه ولا تقره ، وأن هذا الإصرار يتعارض مع المنطق والعقل وأساسيات الحياة فضلا عن تناقضه الصارخ مع قواعد العقيدة الإلهية .

**


( 159 )

الفصل الرابع
مواقف المسلمين من المرجعية بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم

وحول المرجعية بعد وفاة النبي انقسم المسلمون الى قسمين رئيسيين ، وكل قسم من هذين القسمين يزعم انه على الحق المبين :
1 ـ التاريخيون : وهم الذين سوغوا ما جرى في التاريخ السياسي الاسلامي واعتبروه شرعياً من كل الوجوه ، وبشكل خاص عهد الخلفاء الراشدين ، ويعرفون بأهل السنة ، واصطلاح التسنن واهل السنة نشأ في العهد الاموي ، وبالتحديد في زمن معاوية حيث انتصرت القوة على الشرعية ، واستقر الامر نهائيا لمن غلب ، ودانت الاكثرية الساحقة لهذا الغالب . ومن هنا سمي ذلك العام بعام الجماعة ، وسمي الذين دانوا لمن غلب بالجماعة وهم حزب الدولة ، فهم وان اختلفوا معها في بعض المواقف الا ان السمة الغالبة هي موالاة الدولة ، لان بيدها الارزاق ، فهي تعطيها لهم وتمنعها عمن يوالي غيرها ، ومن جهة ثانية فانهم قد اعتبروا الدولة رمزاً لوحدة المسلمين .
2 ـ الشرعيون : وهم الذين عارضوا ما جرى في التاريخ واعتبروه غير شرعي مع اختلاف بحجم المعارضة ونسبة الخروج على الشرعية . فعصر الخلفاء الراشدين عصر ذهبي بالنسبة لعصر بني امية ، ولا مجال للمقارنة بين العصرين . وعصر بني العباس اكثر


( 160 )

سوءاً من العصر الاموي ، وهم يعتقدون ان العقيدة الالهية عينت المرجع بعد وفاة النبي ، وان الله لم يترك الامر سدى ، انما رشح المرجعية للناس وحولها صلاحية الجمع بين الحكم والمرجعية ، وان المرجع المعين شرعا بعد وفاة النبي هو علي بن ابي طالب عليه السلام . وقد رتب الشرع طريقة تعيين المرجعية بنص كل مرجع على الذي يليه ، ويعرفون بالشيعة . وقد نشأ التشيع في زمن النبي ، والشيعة هم حزب المعارضة طوال التاريخ ، وقد طوردوا من قبل الحكام طوال العهدين الاموي والعباسي خاصة ، وحرموا من كافة حقوقهم ، ولم تقبل شهاداتهم ، وشطبت اسماؤهم من دواوين العطاء ، ولاحقتهم لعنة الحكام طوال التاريخ .
وسنقوم ببيان رأي الفريقين بالمرجعية بعد وفاة النبي وايراد حجة كل واحد منها تباعاً .

من هو المرجع بعد وفاة النبي ؟
زعم ترك النبي الامة بدون خلف ولا مرجعية

يقول اهل السنة ان النبي قد ترك الامة بدون خلف ولا مرجعية ، وانه لم يبين للمسلمين الامام او الولي الذي سيخلفه من بعده ويقوم بوظائفه الدنيوية والأخروية ، ومنها المرجعية من بعده . وقد استدلوا على ذلك برد الخليفة عمر بن الخطاب على الذين اشاروا عليه ان يستخلف من بعده على المسلمين فقال ( ان استخلف فقد استخلف من هو خير مني ) يعني ابا بكر ( وان ادع فقد ودع من هو خير مني ) يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1) .
ثم ان النبي برأيهم لم يوص لاحد قط بأن يقوم بوظائفه الدنيوية والآخروية ، ومنها المرجعية من بعده ، ويستدلون على ذلك بقول السيدة ام المؤمنين عائشة ( بأن النبي مات بين سحرها ونحرها ورأسه على فخذها ، ولو انه قد اوصى لسمعته ) ومن هنا فقد انكر بخاري ومسلم الوصية بهذا الشأن مستندين الى قول ام المؤمنين .
____________
(1) راجع الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 23 وراجع تاريخ الطبري مجلد 3 ص 34 وراجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 .
( 161 )

ومن المؤكد حسب رأيهم ان النبي اذا بين هذا الامام والولي والمرجعية من بعده فانه قطعاً ليس علياً بن ابي طالب كما تزعم الشيعة ، لانه لو كان علياً لما كان من المعقول ان يتجاهل الصحابة الكرام بيان النبي هذا ويولوا ويوالوا غيره ، لماذا ؟ لانهم عدول ومن اهل الجنة ومن يشك بترتيب الخلفاء ( ابا بكر وعمر وعثمان وعلي ) فقد ازرى على 12 الف صحابي (1) .
والخلاصة ان النبي ترك ولاية وامامة المسلمين ومرجعية الدين للمسلمين انفسهم على اعتبار ان خلافة النبي شأن من شؤون المسلمين ، والامامة والمرجعية تتبعان بالضرورة لرئاسة الدولة .

تلاشي عملية ترك الامة بدون مرجع

وقد اكتشف اهل السنة ان ترك الامام القائم الامة دون ان يسمي ولياً للعهد من بعده خطر ما حق ما بعده خطر ، وان من مصلحة المسلمين ومصلحة الاسلام ان يقوم الحاكم باختيار ولي عهده ليخلفه من بعده .
انظر الى قول السيدة عائشة مخاطبة عبد الله بن عمر ( يا بني ابلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع امة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملاً ، فاني اخشى عليهم الفتنة ) فأتى عبد الله فأعلم الخليفة بما قالت ام المؤمنين (2) لقد اصابت ام المؤمنين لان ترك الامة بدون راع ولا مرجعية يؤدي للفتنة ويترك الناس هملاً .
وقد انتبه لهذه الناحية ابنه عبد الله بن عمر فدخل عليه وهو يجود بنفسه ، فقال : ( يا امير المؤمنين ، استخلف على امة محمد ، فانه لو جاءك راعي إبلك او غنمك وترك ابله وغنمه لا راعي لها للمته وقلت له : كيف تركت امانتك ضائعة ؟ فكيف يا امير المؤمنين بأمة محمد ؟ ) فأجابه الفاروق بمقالته السابقه ( ان ادع فقد ودع من هو خير مني ... الخ ) (3) .
____________
(1) راجع الاصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 8 وما فوق وبهامشها الاستيعاب لابن عبد البر .
(2) راجع الامامة والسياسة ص 23 .
(3) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 وراجع الامامة والسياسة ص 23 وتاريخ الطبري ص 34 .