الفصل السادس
بتنصيب الإمام كمل الدين وتمت النعمة

بعد ان نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً بن ابي طالب امام هذا الجمع الحاشد اماما وخليفة على امته كمل الدين وتمت النعمة الالهية ، فالمنظومة الحقوقية الالهية مكتملة ، والولي من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نصب ، فيمكن للنبي ان يترك الدنيا وهو مطمئن على دينه وعلى امته ، فما على الولي المنصب علي الا ان يتابع المشوار وفق المنهج الذي علمه النبي اياه طوال ثلاث وعشرين عاماً . وبعد ان نصب النبي خليفته من بعده نزلت آية الاكمال (1) :
( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً ) (2) .
____________
(1) ترجمة علي بن ابي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 75 ح 575 ـ 578 و 585 وشواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 157 ح 211 ـ 215 ومناقب علي لابن المغازلي ص 19 ح 24 وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 8 ص 290 والدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 259 والاتقان للسيوطي ج 1 ص 21 والمناقب للخوارزمي ص 80 وتذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص 30 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 14 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 115 وفرائد السمطين للحمويني ج 1 ص 72 و 74 و 315 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 35 والغدير للاميني ج 1 ص 230 وكتاب الولاية لابن جرير الطبري وصاحب التاريخ ، ومفتاح النجا للبدخشي ، وما نزل من القرآن في علي لابي نعيم الاصبهاني ، وكتاب الولاية لابي سعيد السجستاني والخصائص العلوية لابي الفتح النطنزي وتوضيح الدلائل على ترجيح الفضائل لشهاب الدين احمد وتاريخ ابن كثير الدمشقي ج 5 ص 210 والمناقب لعبيد الله الشافعي ص 106 مخطوط ، والكشف والبيان للثعلبي مخطوط وروح المعاني للآلوسي ج 6 ص 55 والبداية والنهاية لابن الاثير ج 5 ص 213 وج 7 ص 349 واما الشيعة فهم مجمعون على ذلك راجع ملحق المراجعات ص 188 ـ 189 .
(2) سورة المائدة آية 3 .

( 244 )

فلو ان النبي فارق الدنيا ولم ينصب الامام والخليفة من بعده ولم يبين كيفية انتقال منصب الإمام لنا في ذلك كمال الدين وتمام النعمة ، لان الامام هو القائم مقام النبي ، والنبي هو اساس نظام الدين ونظام الدنيا وهو محور كل تحرك .
وقد اكتشف الحكام ذلك ، فلم يصدف على الاطلاق ان مات حاكم دون ان يعين عمليا الحاكم الخليفة الذي يليه ، وقالوا ( ان هذا حق مطلق لهم ) انظر الى قول ابن خلدون عن الخليفة ( فهو وليهم والامين عليهم ينظر لهم ، ذلك في حياته ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولى امورهم كما كان هو يتولاهم ويثقون بنظره لهم في ذلك ، كما وثقوا به في ما قبل ... ) (1) .
فاذا لم يعين الخليفة القائم من يخلفه من بعده لكان موضع لوم ، انظر بربك الى قول عبد الله بن عمر لابيه ( يا امير المؤمنين استخلف على امة محمد ، فانه لو جاءك راعي ابلك او غنمك وترك ابله او غنمه لا راعي لها للمته وقلت له : كيف تركت امانتك ضائعة ، فكيف يا امير المؤمنين بأمة محمد ) (2) .
ثم انظر قول عائشة ام المؤمنين لعبد الله بن عمر ( يا بني ابلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع امة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فاني اخشى عليهم الغشة ) فأتى عبد الله فأعلمه فقال ( ومن تأمرني ان استخلف ؟ ... الخ ) (3) .
كل الخلفاء طوال التاريخ ادركوا بأن ترك الخليفة القائم للامة دون ان يعين من يخلفه ، عمل ينافي الحكمة ، ويفتح باب الفتنة ، ويعرض من يفعل ذلك اللوم ، كما يتعرض الراعي عندما يترك غنمه او ابله وعائشة ام المؤمنين امرأة ادركت ذلك ، وقد بينت ذلك في باب المرجعية ووثقته .
لهف نفسي على الاسلام فكيف يدرك كل هؤلاء الناس هذه الناحية ولا يدركها رسول الله ؟ !
____________
(1) راجع مقدمة ابن خلدون فصل 30 ص 120 .
(2) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 .
(3) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 23 .

( 245 )

كيف يؤتمن كل حاكم على تعيين من يليه ولا يؤتمن رسول الله ؟ !
كان امام الذين اعمالهم التقليد ، واحد من طريقين : اما دين محمد كما بينه للناس ، واما الدين كما فهمه الحكام ، فاختاروا دين الحكام لانهم مع من غلب ( نحن مع من غلب ) تلك مقولة عبد الله بن عمر التي تحولت الى نص شرعي ، ولا حول ولا قوة الا بالله ، فمن يعينه الحاكم من بعده سيحكم ومن يغلب كائناً من كان يحكم امة محمد !! ولله عاقبة الامور .

الترتيب الالهي لانتقال منصب الامام بعد وفاة الولي

الله انزل القرآن كرسالة وعقيدة الهية الى بني البشر ، وكضرورة من ضرورات بيان وتوضيح هذه العقيدة ، انزل هذا القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات لانه المعد من قبل الله ليكون الاعلم بالعقيدة والافهم لاحكامها ، تلك العقيدة التي هي بمثابة المجموعة القانونية النافذة ولانه هو الافضل من بين اتباع هذه العقيدة ، ولانه من جهة ثالثة هو الانسب لقيادة هؤلاء الاتباع في الحال والمآل . ومن هنا فقد كان النبي هو مرشد الدعوة وعندما تمخضت الدعوة عن دولة ترأس محمد الدعوة نفسه . وسيرة محمد سنة وجزء من العقيدة سواء قوله او فعله او تقريره ولا احد في الدنيا كلها ينوب عن محمد بهذه المهمة ولا احد يغني عنه او يسد مسده اثناء حياته المباركة . محمد كمرشد للدعوة ، وكقائد للدولة هو مركز الدائرة وقائد الامة ومرجعها في كافة الشؤون الدينية والدنيوية .

من هو صاحب الاختصاص بتعيين النبي للامام ؟

ان صاحب الاختصاص بتعيين الامام هو الله سبحانه وتعالى لان اول ولي وامام ورئيس للدولة الاسلامية هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد عينه الله في هذا المنصب ، لانه هو الاعلم بالعقيدة والافهم لاحكامها ، والافضل بين اتباعها ، والانسب لقيادة هؤلاء الاتباع وتطبيق احكام العقيدة عليهم ، ولانه لا احد يعرف على وجه الجزم واليقين المتصف بهذه الصفات الا الله ، لذلك حصر بنفسه حق اختيار هذا الامام ، او المرجع او الولي وتقديمه للناس ، وخول هذا الامام صلاحية بيان العقيدة في


( 246 )

كل زمان وصلاحية المرجعية وصلاحية الجمع بين الولاية على الاتباع والمرجعية في الدين والدنيا ، والحكم بين الناس على ضوء احكام هذا الدين عليه .

من هو هذا الامام ؟

امام الامة في كل زمان هو عميد اهل بيت النبوة ، لماذا عمادة اهل البيت بالذات ؟ لان القرآن ثقل واهل البيت ثقل اخر ، وان الهداية لا تدرك الا بالتمسك بالثقلين ، والضلالة على المدى البعيد ، وبالنتيجة لا يمكن تجنبها الا بالتمسك بالثقلين ، وهذا ليس اجتهاداً ، انما هو نص شرعي ثابت في القرآن والسنة بفروعها الثلاثة القول والفعل والتقرير (1) ولان الله يبين لنا انهم للمسلمين بمثابة سفينة نوح من ركبها في كل زمان نجا ومن تخلف عنها غرق (2) ولانهم من جهة ثالثة الامان من الاختلاف وقد اعدهم الله لذلك (3) ولانهم ذرية محمد ، فكل نبي من الانبياء جعل الله ذريته في صلبه ، وجعل ذرية محمد في صلب علي ومن بطن فاطمة (4) .
من هو صاحب الاختصاص بتعيين الخليفة من بعد النبي الامام ؟ الاعلم بالعقيدة والافهم لاحكامها ، والأفضل بين اتباعها والانسب لقيادة هؤلاء الاتباع ، وتطبيق
____________
(1) راجع على سبيل المثال :
راجع صحيح الترمذي ج 5 ص 328 ، وصحيح مسلم باب فضائل علي ج 2 ص 362 و 15 ص 181 بشرح النووي وتفسير ابن كثير ج 4 ص 113 ومصابيح السنة للبغوي ص 206 وجامع الاصول لابن الاثير ج 1 ص 187 واحياء الميت للسيوطي بهامش الاتحاف ص 114 والفتح الكبير للنبهاني ج 1 ص 503 والصواعق المحرقة لابن حجر 147 و 226 والدر المنثور للسيوطي ج 6 و 306 وذخائر العقبى للطبري ص 16 والمعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 135 وكنز العمال ج 1 ص 154 والطبقات لابن سعد ج 2 ص 194 والسيرة الحلبية ج 3 ص 321 الهامش لزيني دحلان وخصائص امير المؤمنين للنسائي ص 21 ... الخ .
(2) راجع على سبيل المثال : تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك والصواعق المحرقة لابن حجر ص 184 و 234 وتاريخ الخلفاء للسيوطي واسعاف الراغبين للصبان الشافعي ص 109 ومجمع الزوائد للهيثمي ج 9 ص 168 والمعجم الصغير للطبراني ج 2 ص 22 وحلية الاولياء لابي نعيم ج 4 ص 306 والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 132 ومسند الامام احمد ج 5 ص 92 الهامش .
(3) راجع الصواعق المحرقة لابن حجر ص 140 واحياء الميت للسيوطي بهامش وذخائر العقبى للطبري ص 17 والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 161 والفتح الكبير للنبهاني ج 3 ص 367 ومسند الامام احمد ج 5 ص 92 واسعاف الراغبين للصبان الشافعي بهامش نور الابصار ص 128 ... الخ .
(4) راجع الصواعق المحرقة ص 112 وج 3 ص 164 من الحاكم وقال انه جمع ، وراجع كنز العمال ج 6 ص 152 والمناقب للخوارزمي ص 27 .

( 247 )

احكام العقيدة ، ولا احد يعرفه على وجه الجزم واليقين الا الله سبحانه وتعالى ، لذلك فهو المختص بتعيين الخليفة من بعد النبي ، ومن هنا فان الله قد اختار علياً بن ابي طالب خليفة واماما ومرجعا للامة بعد نبيها ، وامر الله رسوله ان يعد خليفته وان يوطد له ، حتى اصبح الاعلم بعد النبي ، والافهم بعد النبي والافضل بعد النبي والانسب بعد النبي ، وهو المؤهل والمخول بممارسة كافة الوظائف الدينية والدنيوية التي كان يمارسها الرسول باستثناء النبوة فلا نبي بعده ، وقد بين الله لنا من خلال رسوله ان عليا مع الحق والحق مع علي ، يدور حيث دار ، لذلك ، هو موضع ثقة على حد تفسير ابن خلدون في الفصل 30 من مقدمته .

من هو المختص بتعيين الخليفة الذي يلي خليفة النبي

طالما ان الخليفة بعد النبي مباشرة علي بن ابي طالب على الحق ومع الحق ، وان الحق معه يدور حيث دار ، وطالما انه مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا الحوض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وطالما انه الافضل والانسب بين الاتباع ، والاعلم والافهم بشهادة الله ورسوله فهو المخول بتعيين الخليفة الذي يليه ، وكل امام يعين بنص من سبقه فهم ابناء النبي بنص القرآن الكريم ، وآية المباهلة تصفع كل مكابر على وجهه وتلوي انفه ، فعندما نزل قوله تعالى ( فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) (1) وقد اجمعت الامة على ان هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (2) فالحسن والحسين بحكم هذه الاية وحدهما اولاده ، فبأي
____________
(1) آية 61 من سورة آل عمران .
(2) راجع صحيح مسلم ب فضائل علي ج 2 ص 360 وج 15 ص 176 بشرح النووي وصحيح الترمذي ج 4 ص 293 والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج 3 ص 150 وصححه ومسند الامام احمد ج 1 ص 185 وترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 21 وتفسير الطبري ج 3 ص 299 و 300 والكشاف للزمخشري ج 1 ص 368 ـ 370 وتفسير ابن كثير ج 1 ص 370 ـ 371 وتفسير القرطبي ج 4 ص 104 واحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 295 ـ 296 واسباب النزول للواحدي ص 59 واحكام القرآن لابن العربي ج 1 ص 275 والتسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ج 1 ص 109 وزاد المسير لابن الجوزي ج 1 ص 399 وفتح القدير للشوكاني ج 1 ص 347 وتفسير الفخر الرازي ج 2 ص 699 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 196 والدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 38 ـ 39 والصواعق المحرقة لابن حجر ص 72 والمناقب للخوارزمي ص 60 و 96 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 110 واسد الغابة لابن الاثير ج 4 ص 26 والاصابة لابن حجر العسقلاني ج 2 ص 509 ومشكاة المصابيح للعمري ... الخ .

( 248 )

حديث بعده تؤمنون ؟ ! واي لغة يمكن ان تحملنا على ترك التقليد واتباع الحق واعمال العقل !!
ولانهم على الاقل من قريش ، وقريش عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلافة في قريش (1) وناصية قريش بالنص الشرعي هم بنو هاشم ، وناصية هاشم هم بنو عبد المطلب ، وناصية عبد المطلب هم محمد واهل بيته (2) لان الله قد طهرهم ، وآية التطهير لا تخفى على احد ، فان قالوا انها في النساء فكيف تكون ازواج الرجل طاهرات واولاده غير ذلك !! او على الاقل من باب رد الاحسان ، لانهم حوصروا ثلاث سنين في شعاب ابي طالب .
وهؤلاء الائمة اثنا عشر (3) وهؤلاء هم الائمة الاطهار وليسوا الحكام ، لان الحكام من قريش بالمئات وليسوا اثني عشر فقط (4) .

الحكمة من حصر الامامة بأولاد محمد

لان الله طهرهم واعدهم لذلك فلا خطر على الأمة منهم ، ولقطع دابر التنافس والخلاف على منصب الامامة ، اذ بغيرهم يتحول الملك لمن غلب ، فيحكم امة محمد الغالب بغض النظر عن دينه وعلمه وامانته ، فاذا كان منصب الامام محصورا بعمادة اهل البيت تطيب نفوس الجميع ، لان حاكمهم هو ابن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيعم الاستقرار وتهنأ النفوس وتهدأ الاطماع .

دور الامة بتعيين الامام

الامة المؤمنة الجادة الصادقة الواعية تبحث عن الاعلم بالعقيدة والافهم لاحكامها ، لان هذه العقيدة هي المنظومة الحقوقية الالهية ، وهي بمثابة القانون النافذ والمسؤول
____________
(1) راجع كنز العمال ج 12 ص 25 نقله عن احمد في مسنده وعن الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن وعن الحاكم في المستدرك وقد روى قرابة مائة حديث تفيد ان الامر في قريش وقد روى هذه الاحاديث كل اصحاب السنن راجع الاحاديث 33789 ـ 33890 ج 12 من الكنز .
(2) كنز العمال ج 2 ص 43 نقله عن الحاكم في مستدركه وعن البيهقي في سننه وعن الطبراني في الكبير وعن ابن عساكر فراجع ج 12 ص 43 و 58 من الكنز للمتقي الهندي .
(3) راجع كنز العمال ج 12 ص 24 وقد نقله عن البخاري ومسلم .
(4) ويمكن لمن اراد معرفة اسماء حكام قريش وعددهم ان يراجع مروج الذهب للمسعودي .

( 249 )

الاول عن تطبيق هذا القانون هو الامام ، فاذا لم يكن الامام هو الاعلم والافهم فيقع المحظور .
والامة من جهة ثانية تبحث عن افضل افرادها ، لان من مصلحة الجميع ومن بواعث فخر الجميع ان يحكم الافضل ، والامة العاقلة المؤمنة الواعية تبحث عن الانسب ليقودها على درب الله .
ولا يستطيع اي فرد من افرادها ، ولا اي جماعة من جماعاتها ولا هي مجتمعة ان تعرف على سبيل الجزم واليقين من هو الاعلم والافهم والافضل والانسب .
ان من يعرف ذلك على وجه الجزم واليقين هو الله سبحانه وتعالى ، لذلك رحمة بعباده المؤمنين يتلطف فيخبرهم على وجه الجزم واليقين ان هذا هو صاحبكم الذي تبحثون عنه ، وهو المؤهل لقيادتكم وقيادة مسيرة الايمان في العالم .
وكأمة مؤمنة عاقلة واعية تقبل التكييف الالهي بأن هذا هو الاعلم والافهم والافضل والانسب ، وتفرح لانها عثرت على بغيتها فتقبل عليه وتبايعه بالرضا لا بالاكراه ليكون اماما وقائدا لمسيرتها ، وبمجرد تمام البيعة يصبح الامام الذي رشحه الله هو القائد الشرعي والفعلي للامة ، ويتعاون مع الامة لوضع المنظومة الحقوقية الالهية موضع التطبيق .

الانفكاك بين الواقع والشرعية

اما اذا لم تقبل الامة بالتكييف الالهي بأن هذا الذي قدمه الله هو الأعلم والأفهم الافضل والانسب لقيادتها ، وفتشت لنفسها وبقدراتها عن شخص آخر اعتقدت انه الافضل والانسب لقيادتها ، عند اذ تحدث عملية انفكاك بين الشرعية والواقع فيكون الحاكم القابض على مقاليد الامور فعليا شخص والامام المعين من قبل الله شخص آخر لا سلطة بيديه ، ويتعذر عليه ان يتأمر على اناس لا يقبلون به ، ودينه يمنعه من اللجوء الى اساليب غير شرعية للوصول الى السلطة ، ومع الايام يستحوذ الحاكم على السلطة والمرجعية ، فيزعم بأنه خليفة النبي والقائم مقامه ، ومن يعارض ذلك يهز الحاكم بوجهه عصا السلطة .


( 250 )

فالحسين بن علي بن ابي طالب إمام بالنص ، وولي بالنص ، ومرجع بالنص ، وهوالقدوة في زمانه بالنص . ولكن الامة رغبة او رهبة بايعت يزيد بن معاوية فأصبح يزيد هو الحاكم الواقعي ( الخليفة ) . اما الحسين فهو الامام الشرعي ولكنه غير قادر على ممارسة صلاحياته ، لان يزيد استولى عليها بالقوة والغصب ، وسكتت الامة عليه وبايعته طوعاً او كرها وادارت ظهرها لامامها الشرعي ، وعلى الحسين ان يقبل بالامر الواقع او يواجه قوة السلطة التي تتدرج بالضغط عليه بكل وسائل الدولة وامكانياتها التي قد تصل الى انزال عقوبة الموت بالامام . فالسلطة بمثابة زوجة شرعية للامام الحسين ولكل امام معين وفق الشرع ، وهذه الزوجة الفاتنة تحب زوجها وتخلص له لانه اهل لها .
فجاء الحاكم وبالقوة والغلبة والقهر ، واغتصب الزوجة من زوجها واجبرها على معاشرته بالقوة ، لان الحاكم يدرك ان جسد الزوجة له وقلبها معلق بزوجها الشرعي ، فان هذا الحاكم لن يهنأ قبل ان يموت هذا الزوج الشرعي ، حتى يستحوذ على قلب زوجته وجسدها معا ، وحتى لا تعود الزوجة لزوجها الشرعي خلسة .

الائمة الشرعيون

1 ـ علي بن ابي طالب .
2 ـ الحسن بن علي .
3 ـ الحسين بن علي .
4 ـ زين العابدين بن الحسين .
5 ـ ابنه محمد الباقر
6 ـ ابنه جعفر الصادق .
7 ـ ابنه موسى الكاظم .
8 ـ ابنه علي الرضا .
9 ـ ابنه محمد الجواد .
10 ـ ابنه علي الهادي .
11 ـ ابنه الحسن العسكري .
12 ـ ابنه محمد بن الحسن المهدي .


استكشاف المستقبل امام الولي وخليفة النبي

ادى رسول الله الامانة ، وبلغ الرسالة ، وبين كل شيء ، ونصب ولي عهده وخليفته من بعده ، كما امره الله ، وبلغ افراد الامة وجماعاتها بذلك ، ثم اعلن القرار


( 251 )

الالهي امام مائة الف مسلم ، وهنأ الجميع عليا بذلك ، وعلى رأس المهنئين عمر بن الخطاب ، ولاح ان كل شيء في مكانه الصحيح ، وان الامور ستجري رخاء وبريح ملائمة . ولم يكتف النبي بذلك ، إنما نقل اصحابه ذهنيا معه وكشف امامهم بعض مضايق المستقبل ، فقال امام كبار اصحابه وفيهم ابو بكر وعمر ( ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) فاستشرف لها القوم وفيهم ابو بكر وعمر . قال ابو بكر ( انا هو ؟ ) قال النبي ( لا ) قال عمر ( أنا هو ؟ ) قال النبي ( لا ولكنه خاصف النعل يعني عليا ) قال ابو سعيد الخدري ( فبشرناه فلم يرفع رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) . (1)
وها هو النبي يكشف لخليفته الامور فيقول له ( اما انت ستلقى بعدي جهداً ) فقال علي ( في سلامة ديني ؟ ) قال النبي ( نعم في سلامة دينك ) (2) .
ولم يكتف النبي بذلك ، انما اخبر وليه وخليفته من بعده ( ان الامة ستغدر به بعد وفاته ) (3) .
والاهم انه سيقاتل ، اذ قال له النبي ( يا علي ستقاتلك الباغية وانت على الحق ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني ) (4) .
____________
(1) راجع مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي ج 1 ص 64 والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 183 ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 115 وترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 3 ص 137 وقريب منه في خصائص النسائي ص 131 ومسند الامام احمد ج 5 ص 37 الهامش وحلية الاولياء ج 1 ص 67 واسد الغابة ج 3 ص 282 والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 252 و 253 وذخائر العقبى ص 67 ومناقب علي لابن المغازلي ص 298 وشرح النهج لابن ابي الحديد بتحقيق محمد ابو الفضل ج 2 ص 277 ومجمع الزوائد ج 9 ص 33 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 173 والصواعق المحرقة لابن حجر ص 74 والاصابة للعسقلاني ج 2 ص 392 وكنز العمال ج 15 ص 94 ... الخ وراجع ملحق المراجعات ص 161 ـ 162 .
(2) راجع المستدرك للحاكم ج 3 ص 140 وتلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 118 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند الامام احمد ج 5 ص 34 وفضائل الخمسة ج 3 ص 53 والملحق ص 161 .
(3) راجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 6 ص 45 بتحقيق محمد ابو الفضل والبداية والنهاية لابن كثير ج 6 ص 218 وفضائل الخمسة ج 3 ص 51 وتلخيص الشافي للطوسي ج 3 ص 51 .
(4) ترجمة الامام علي بن ابي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 3 ص 171 والغدير للاميني ج 3 ص 193 ومنتخب الكنز ج 5 ص 32 من مسند الامام احمد الهامش .

( 252 )

ويحاول النبي بكل جهوده لتنبيه الامة فيقول مرة لاحد اصحابه ( يا ابا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا ، حق على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ) (1) .

نسف الصيغة السياسية الجاهلية

الترتيبات الالهية المتعلقة بمنصب رئاسة الدولة نسفت تماما الصيغة السياسية الجاهلية ، فالقيادة في نظر الاسلام اختصاص وعمل فني تماما ، يتصدى له الاعلم والافهم ، والافضل والانسب للقيادة من بين اتباعه ، بغض النظر عن بطنه او قبيلته .
بينما الصيغة السياسية الجاهلية قائمة على اعتبار القيادة بمثابة شركة لكل بطن هذه البطون سهم في هذه الشركة ، فقد توصلت هذه البطون الى صيغة سياسية قائمة على اقتسام مناصب الشرف المناصب السياسية في ما بينها من قيادة ورفادة وسقاية ولواء وسفارة .... الخ .
ولاح لهذه البطون انها افضل صيغة ، اذ ليس فيها غالب ولا مغلوب ، فالمناصب السياسية قدر مشترك بين البطون وفق هذه الصيغة ، ولا مصلحة لاي بطن في تغيير هذه الصيغة ، مما جعلها عنوان عقيدة سياسية ، واثراً مأثوراً مما تركه الاولون ، ومن غير الجائز الخروج عليه ، وحاولت القبائل المكية ان تمنع ظهور نبي من بني هاشم ، وقاومت بكل قواها ولكنها فشلت ، فكان نبوة بني هاشم قدر لا مفر منه ، فاذا اخد الهاشميون النبوة فهذا قدر لا محيد عنه ، فهل تكون الخلافة او الملك قدراً ايضا ، فمن غير المعقول ان يعطي الله الهاشميين النبوة والخلافة معاً ؟ ومن هنا فان الترتيبات الالهية المتعلقة بالخلافة من بعد النبي اثارت حفيظة قريش وحدها ، وتمخض هذا الحسد عن شعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة مع الخلافة ) ولكن هذا الشعار كان ملجوماً بوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الفرصة مهيأة لظهوره . وربطاً منهجياً للموضوع فانني اسوق معالجتي التاريخية لهذا الموضوع مرة ثانية في هذا الباب ، لتكتمل الصورة ، وليتم استيعاب الموضوع .
____________
(1) راجع مجمع الزوائد ج 3 ص 134 وترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 3 ص 123 وذكره عنهم في احقاق الحق ج 7 ص 343 راجع ملحق المراجعات ص 164 .

( 253 )

الانقلاب



( 254 )



( 255 )

الفصل السابع
المناخ التاريخي الذي ساعد على نجاح الانقلاب وتقويض الشرعية

أ ـ بطون قريش
تتكون قريش من خمسة وعشرون بطنا (1) واشرف هذه البطون على الاطلاق وافضلها بالنص الشرعي ( بنو هاشم بن عبد مناف ) (2) ويليهم بالشرف بنو عبد المطلب بن عبد مناف ، وبنو الحارث بن عبد مناف . وبنو امية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وبنو نوفل بن عبد مناف ... وهم سادة قريش ، فقد ساروا بعد ابيهم ويقال لهم المجبرون ، وهم اول من اخذ العصم لقريش فانتشروا من الحرم ، فقد اخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام ، وأخذ عبد شمس حبلا من النجاشي ، وأخذ نوفل حبلاً من الاكاسرة ، واخذ المطلب حبلاً من حمير ، فاختلف قريش بهذه الاسباب الى بلاد العالم ، وكان يقال لهم : اقداح النضار لفخرهم وسيادتهم على العرب (3) .
____________
(1) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 291 .
(2) راجع السيرة الحلبية ج 1 ص 3 ـ 4 لعلي برهان الدين الحلبي ، وراجع الجامع للاصول في احاديث الرسول لعلي ناصيف مجلد 3 ص 419 وما فوق وراجع السيرة الدحلانية بهامش السيرة الحلبية ج 1 ص 4 ـ 11 وراجع الطبقات لابن سعد ، وراجع الخطية 185 ص 156 ج 2 من شرح النهج لابن ابي الحديد .
(3) راجع الطبقات ج 1 ص 75 وتاريخ الطبري ج 2 ص 180 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 93 .

( 256 )

ب ـ الصيغة السياسية

وصلت بطون قريش الى صيغة سياسية قائمة على اقتسام مناصب الشرف في ما بينها ( المناصب السياسية ) من قيادة ولواء وندوة وسقاية ورفادة وسفارة لاسهم السياسية المحددة في هذه الصيغة اقصى ما استطاعت البطون ان تنتزعه ، ولاح لهذه البطون انها افضل صيغة سياسية على الاطلاق ، اذ ليس فيها غالب ولا مغلوب ، فالمناصب السياسية قدر مشترك بين البطون ولا مصلحة لاي بطن بتغيير هذه الصيغة ، لانه لو حاول التغيير فلا يعرف على وجه الجزم واليقين عواقب محاولته فقد يفقد حقه ، ثم ان الامور قد استقامت ونظمت امور ولاية البيت الحرام ، فارتاحت كل البطون لهذه الصيغة ، ومع الايام اصبحت عنوان عقيدة سياسية واثرا مأثورا مما تركه الاولون ومن غير الجائز الخروج عليه من قبل اي كان .

ت ـ محاولات لزعزعة الصيغة

في السنين العجاف لم يكن لمكة غير هاشم ، يطعم الناس ويساعدهم ، وقيل له ابو البطحاء وسيد البطحاء ، ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء ، وكان يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف (1) فخشي امية بن عبد شمس وحسده ، فتكلف ان يصنع ما يصنع هاشم فعجز عن ذلك ، فعيرته قريش ، فدعا هاشما للمنافرة فأبى ، ثم تنافرا على خمسين ناقة وعلى الجلاء عن مكة عشر سنين ، فقضى الحكم بأن هاشما اشرف من امية ، فنحرت النوق وجلى امية الى الشام ، فكانت هذه بذرة العداء الاولى بين البيتين الهاشمي والاموي ، ولعل الذي دفع امية هو الحسد لهاشم ، والخشية من ان يشكل هاشم خطراً على هذه الصيغة ، لان القيادة بيد بني عبد شمس ، وبروز نجم مثل هاشم قد يزعزع الصيغة كلها ، ويستخف الناس (2) .

ث ـ اشاعة النبوة

اشيع في مكة نبيا سيبعث ، وانه سيكون من سلالة عبد مناف . وممن استقرت في اذهانهم هذه الاشاعة ابو سفيان ، فقد كان على علاقة وطيدة بأمية بن ابي الصلت ،
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 180 والسيرة الحلبية ج 1 ص 5 والطبقات لابن سعد ج 1 ص 76 ، وج 2 ص 279 من تاريخ الطبري .
(2) راجع السيرة الحلبية ج 1 ص 15 وكتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 170 ـ 172 .

( 257 )

وابو سفيان موقن ان هذا النبي سينسف الصيغة السياسية ، وسيأخذ منه القيادة ، وطالما ان القيادة لبني امية فان هذه النبوة من اكبر الاخطار ، ولكنه اطمأن بعد عذاب ومعاناة ، فالشائعة تقول ( ان النبي من بني عبد مناف ولا يوجد حسب رأيه من هو جدير بالنبوة سواه (1) فمن المؤكد انه سيكون النبي المرتقب .

ج ـ اعلان النبوة

اعلن محمد الهاشمي انه النبي المرتقب الذي اختاره الله لهداية العرب خاصة ، والجنس البشري عامة ، وان برهانه على هذه النبوة هو كلام الله ، واتبعه نفر قليل ممن عرفوا بالحصافة وبعد النظر او من اولئك الذين مستهم البشرية مساً اليماً .

ح ـ احتضان الهاشميين للنبي

احتضن الهاشميون محمداً بكل قوة ، وهددت زعامة قريش بفشل محمد ، واشيع انه قد قتل ، فجمع ابو طالب بني هاشم واعطى كل واحد منهم حديدة صارمة ، وسار مع الهاشميين والمطلبيين ، ونادى ( يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ؟ ) قالوا ( لا ) فأخبر الخبر وقال للفتيان ( اكشفوا عما في ايديكم ) فكشفوا ، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة ، فقال ابو طالب ( والله لو قتلتموه ما ابقيت منكم احداً حتى نتفانى واياكم ) فانكسر القوم ، وكان اشدهم انكساراً ابو جهل (2) .

خ ـ حفاظاً على الصيغة السياسية وحسداً لا حباً بالاصنام

قاومت بطون قريش بقيادة ابي سفيان محمداً وبكل اساليب المقاومة ، ولم ينثن وامام اصرار ورفض بني هاشم لفكرة تسليمه ، اتفقت بطون قريش بدون استثناء وعلى ما يلي :
1 ـ مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة ، فقاطعتهم قريش كلها بما فيهم بني عدي وبني تيم ، وحصروهم في شعاب ابي طالب ثلاث سنين ، واضطروهم ان يأكلوا ورق
____________
(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 80 .
(2) راجع الطبقات لابن سعد ج 1 ص 202 ـ 203 .

( 258 )

الشجر من الجوع ، واضطر اطفالهم ان يمصوا الرمال من العطش . تلك حقيقة كالشمس لا يجادل بها احد ، ولم يركع محمد ولم يركع الهاشميون ، وابطل الله كيد بطون قريش وزعامتهم ، وفشل الحصار بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنين .
2 ـ عندما سمعت قريش ان محمداً سيهاجر الى يثرب بعد ان تمكن من ايجاد قاعدة له ، قررت بطون مكة بالاجماع ان تقتل محمداً ، فاختاروا من كل قبيلة رجلا حتى يضربه هؤلاء الرجال دفعة واحدة ، فيضيع دمه بين القبائل ، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه ، لانه ان ذهب الى يثرب نجح ، وسلبهم القيادة والشرف ، وباللحظة التي اجمعوا امرهم دخلوا فوجدوا علياً ابن ابي طالب نائماً في فراشه ، وجن جنون القيادة المكية وخصصت الجوائز لمن يقبض على محمد حياً او ميتاً .
وفي الطرف الآخر كان محمد وصاحبه ودليلهما المشرك يشقون طريقهم سالمين باذن الله ، وتلك حقيقة ساطعة كالشمس لا تحتاج الى دليل (1) .

د ـ حروب من اجل الصيغة السياسية وحسداً لا حباً بالاصنام

لم تيأس بطون قريش وقيادتها من هزيمة محمد وبني هاشم ودينهم ، ولم ييأس محمد والهاشميون واصحابه من هزيمة الشرك وقيادته ، وانقسم العرب اثلاثا ، قسم مع قريش وقيادتها المشركة ، وقسم قليل مع محمد ، والقسم الثالث تربص يتبع الغالب ، واشتعلت الحروب في بدر واُحد ، وجيشت زعامة قريش بالتحالف مع اليهود جيش الاحزاب ، وزحفت الى المدينة المنورة ، فاعتصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة وفشلت الاحزاب وفوجئت قريش وقيادة الشرك بجند الله يدخل مكة عاصمة الشرك ، وركعت زعامة مكة واضطرت للدخول في الاسلام ، وبركوعها ركع كل العرب ، ودانت الجزيرة لدولة النبي ، واخذ العرب يدخلون في دين الله افواجاً .

ز ـ النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه

رفضت بطون قريش بزعامتها الاموية الدين المحمدي ، ونبوة محمد الهاشمي بكل اصناف الرفض والوانه ، وقاومت بكل فنون المقاومة لا وفاء للاصنام ، ولكنها تكره ان
____________
(1) راجع على سبيل المثال السيرة الحلبية ج 1 ص 80 والطبقات لابن سعد ج 1 ص 208 ـ 209 والسيرة الحلبية ج 1 ص 332 .
( 259 )

يأتي الدين عن طريق هاشمي وتكره ان تكون للهاشميين القيادة ، وان تهز الصيغة السياسية ، واخيراً فوجىء ابو سفيان بجند الله قرب مكة ، ويوقفه العباس فيرى جند الله ، فيدخل الرعب في قلبه ، وينتزع منه فتيل المقاومة ويفصح قائد الحزب عن حقيقة تصوراته لدعوة محمد فيقول ( ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الاصفر ) (1) ويجره العباس الى محمد فيقول صلى الله عليه وآله وسلم ( ويحك يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم انه لا اله الا الله ) فيقول ابو سفيان ( لقد ظننت انه لو كان مع الله اله غيره لما اغنى عني شيئاً ) قال صلى الله عليه وآله وسلم ( يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم اني رسول الله ؟ ) قال ابو سفيان ( أما والله فان في النفس حتى الان منها شيء ) . صاح العباس ( ويحك يا ابا سفيان اسلم واشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله قبل ان تضرب عنقك ) هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق ، وبعد الاحاطة ، وضعف الحيلة اسلم ، لينجو بنفسه ، ودهش ابو سفيان وهو ينظر للنبي فقال في نفسه ( ليت شعري بأي شيء غلبني ) فأوحى الله الى نبيه بما في صدر ابي سفيان فقال له الرسول ( غلبتك بالله ) .
وادركت بطون قريش ان النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه ولا محيد عنه ، ولا علاقة لها باختيارها ، ولو كان لها اي دور بهذا الاختيار لما قبلت ابداً ان يكون النبي من بني هاشم ، والنبوة الطاهرة لن تتكرر ، وانه لن يلحق اي بطن من بطون قريش ببني هاشم ، فقد سبقوا تماماً وادركت بطون قريش ان صيغتها السياسية قد اهتزت ونسفت تماما ، واضمرت العمل على وقف ما تعتبره زحفا هاشميا للجميع بين النبوة والملك وحيازة الشرف كله .

اكثر البطون اندفاعاً لوقف ما يسمى بالزحف الهاشمي

كل بطون قريش مجمعة على ان النبوة الهاشمية قد هزت هزاً عنيفاً الصيغة السياسية التي كانت قائمة على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل المكية . وكل البطون رفضت هذه النبوة الهاشمية باستثناء بني المطلب بن عبد مناف حيث وقفوا مع الهاشميين ، لكن
____________
(1) السيرة الحلبية ج 3 ص 79 وما فوق ، وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
( 260 )

اكثر البطون رفضا واندفاعا لوقف الزحف الهاشمي ، والحيلولة بين جمع الهاشميين الملك والنبوة ، هم بنو امية ، وذلك لعدة اسباب منها :
1 ـ ماض طويل من الشحناء والعداوة والحسد لبني هاشم حتى قبل الاسلام .
2 ـ بسبب النبوة الهاشمية فقد الامويون القيادة .
3 ـ الهاشميون قتلوا سادات بن امية فهم لا يكرهونهم فحسب ، بل يحقدون عليهم ، وهند ام معاوية وزوجة ابي سفيان عكست مقدار هذا الحقد ، فهي لم تكتف بقتل حمزة انما مثلت بجثمانه الطاهر ، ولكن مع انتصار النبوة وشمول نور الاسلام ، وتأخر الامويين عن دخوله ، وذكريات مساعيهم الطويلة في محاربته ، يتعذر عليهم الجهر والمناداة علناً بمنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الملك .

ز ـ التيار الغلاب

لقد تحولت مقولة لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة مع الملك الى تيار غلاب ولكنه ساكن ومستقر في النفوس ، وملجوم بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم وبالشرعية وبوحدة الصحابة الصادقين تحت قيادته ، فلو فقد عنصر من هذه العناصر الثلاثة فستهتز الشرعية ، وسيتحول الصحابة الصادقون الى شعرة بيضاء في جلد ثور أسود ، على حد تعبير معاوية وسيأخذ الامر من يغلب .

س ـ القرابة الطاهرة الاساس الشرعي للخلافة الراشدة

عندما دخل المهاجرون الثلاثة الى سقيفة بني ساعدة احتجوا بما يلي : فقال ابو بكر ( نحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وانتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ... ) .
قال عمر ( لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم ... لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه نحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم او