متورط في هلكة ) (1) قالت الانصار كلها ( لا نبايع الا علياً ) وعلي غائب . قال بعض الانصار ( لا نبايع الا علياً ) (2) .
وسريعاً ابرم الامر للصديق رضي الله عنه ، ودعي علي لمبايعة ابي بكر ، فقال علي ( انا احق بهذا الامر منكم ، لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، اخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذونه منا غصباً اهل البيت . الستم زعمتم للانصار انكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الامارة ، وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار ، نحن اولى برسول الله حياً وميتاً ... ) الخ .

ص ـ الانقلاب وانفلات التيار الغلاب

وعمر على فراش الموت يتفكر بمستقبل امة محمد ، ويقلب الامر على وجوهه المختلفة قال ( لو ادركت ابا عبيدة باقياً استخلفته ووليته ، ولو ادركت معاذ بن جبل استخلفته ... ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته ، ولو ادركت سالما مولى ابي حذيفة وليته ... ) الخ .
وسالم من الموالي ، ولا يعرف له نسب في العرب ، ومعاذ من الانصار ويوم السقيفة لم يكن جائزاً تولية الانصار ، وخالد من بني مخزوم ، ومن الطبقة العاشرة من طبقات الصحابة ، حيث هاجر في الفترة الواقعة بين صلح الحديبية وفتح مكة .
قال عمر لابن عباس اثناء خلافته (يا ابن عباس اتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله ؟ ) قال ابن عباس ( فكرهت ان اجيبه ، فقلت : ان لم اكن ادري فان امير المؤمنين يدري ) فقال عمر ( كرهوا ان يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم ، فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت ) قال ( فقلت : يا امير المؤمنين ان تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت ) قال ( تكلم ) قال ابن عباس فقلت ( اما قولك يا امير المؤمنين اختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت فلو
____________
(1) راجع الامامة والسياسة ص 6 ـ 8 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 2 ص 266 .

( 262 )

ان قريشاً اختارت لانفسها من حيث اختيار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك : انهم ابوا ان تكون لنا النبوة والخلافة ، فان الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية فقال ( ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم ) فقال عمر ( هيهات يا ابن العباس قد كانت تبلغني عنك اشياء اكره ان اقرك عليها فتنزل منزلتك مني . فقلت : يا امير المؤمنين فان كان حقاً فما ينبغي ان تنزل منزلتي منك ، وان كان باطلاً فمثلي اماط الباطل عن نفسه ) فقال عمر ( بلغني انك تقول صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً ) قال ابن عباس ( فقلت : اما قولك يا امير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والحليم واما قولك حسدا فان آدم حسد ونحن ولده المحسودون ) فقال عمر ( هيهات هيهات ، ابت والله قلوبكم يا بني هاشم الا حسدا لا يزول ) . قال ( فقلت : يا امير المؤمنين مهلاً لا تصف بهذا قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ... (1) .
والواقعة التي يرويها المسعودي في كتابه مروج الذهب ، والتي جرت بين ابن عباس وبين الفاروق رضي الله عنهما تؤكد حدوث الانقلاب الفكري وانفلات التيار المغلوب الذي كان ساكناً في النفوس ، وملجوماً اثناء حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وقبل ان تتأسس دولة الخلافة الراشدة ، وسأورد النص الحرفي لهذه الواقعة .

النص الحرفي للقصة

ذكر عبد الله بن عباس ان عمر ارسل اليه فقال ( يا ابن عباس ، ان عامل حمص قد هلك وكان من اهل الخير ، واهل الخير قليل ، وقد رجوت ان تكون منهم ، وفي نفسي منك شيء ، واعياني ذلك فما رأيك في العمل ؟ ) قال ابن عباس ( لن اعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك ) . قال عمر ( ما تريد الى ذلك ؟ ) قال ابن عباس ( اريده ، فان كان شيء اخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، وان كنت بريئاً من مثله علمت اني لست من اهله ، فقبلت عملك هنالك ، فاني قلما رأيتك طلبت شيئا الا عالجته ) .
____________
(1) راجع الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 3 ص 107 اخرجه الامام احمد ابو الفضل بن ابي الطاهر في تاريخ بغداد ، راجع مجلد 2 ص 97 من شرح النهج وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
( 263 )

فقال ( يا ابن عباس اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت ( يعني موت عمر ) وانت في عملك فنقول : هلم الينا ، ولا هلم اليكم دون غيركم اني رأيت رسول الله استعمل الناس وترككم ) .
قال ( والله قد رأيت من ذلك فلم تراه فعل ذلك ؟ ) .
قال عمر ( والله ما ادري اضن بكم عن العمل فأهل ذلك انتم ، ام خشي ان تبايعوا بمنزلتكم منه فيصبح العتاب ولا بد من عتاب ، وقد فرغت لك من ذلك فما رأيك ) .
قال ابن عباس ( قلت : ارى الا اعمل لك ) قال ( ولم ؟ ) قلت ( ان عملت لك وفي نفسك ما فيها لم ابرح قذى في عينك ؟ ) قال ( فأشر علي ؟ ) قلت ( اني ارى ان تستعمل صحيحاً منك صحيحاً عليك ) (1) .
من فرط حرصه على مصلحة المسلمين يريد حتى بعد موته ان يتأكد بأن الهاشميين لن يسلطوا على رقاب الناس ، ولن يحكموا امة محمد !!
وبالاجمال تحولت هذه المقولة الى تيار غلاب افصح عن ذاته ، وفرض نفسه كقناعة عامة تؤمن بها السلطة ، وآمنت بها الاكثرية الساحقة ، على اعتبار ان هذه المقولة هي الوسيلة المثلى لمنع الاجحاف الهاشمي ، وانصاف البطون القريشية لتتداول الخلافة في ما بينها ، كرد على النبوة الهاشمية ، او كتعويض لها عن الاختصاص الهاشمي بالنبوة ، واخيرا على اعتبار ان هذه المقولة مظهر من مظاهر هداية قريش وتوفيقها على حد تفسير الفاروق .
وباستمالة ابي سفيان الى جانب السلطة ، وترك ما بيده من الصدقات التي جمعها ، وتولية ابنه يزيد قائدا على جيش الشام ، وتعيين ابنه الثاني قائدا من قواد يزيد ، ثم خلافته لاخيه يزيد كوال على الشام بعد وفاته ، كل هذا كون حلفا حقيقيا بين السلطة وبين الطلقاء ، لهم قناعة سياسية مشتركة تقوم على عدم تمكين الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، وبهذا التحالف قطع دابر المعارضة وحجمت . وتم تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة معا .
____________
(1) راجع المجلد الثاني ص 253 ـ 254 من مروج الذهب للمسعودي .
( 264 )

وهكذا فقدت العترة الطاهرة حتى نصيبها من امتيازات الشرف التي كانت مخصصة بموجب الصيغة السياسية التي سادت قبل الاسلام وعزلت تماما وحجمت ، انظر الى قول الفاروق مخاطبا العباس وبني هاشم ( اي والله واخرى انا لم نأتكم حاجة منا اليكم ، ولكن كرهنا ان يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم وبها ) (1) وبلغت الاستهانة بها حداً انه حتى عبد الله بن الزبير هم بأن يحرق بيوت الهاشميين على من فيها لولا ان تدخل اهل الخير .
ومعنى ذلك ان اي قبيلة من القبائل التي حاصرت الهاشميين في شعاب ابي طالب ثلاث سنين ، وارسلت مندوبها للاشتراك بقتل النبي ، هي اسعد حظاً من الهاشميين ، والفرد منها اولى واحق برئاسة الدولة من اي هاشمي ، فالرئاسة والولاية حلال لكل الناس ، وحرام على اي هاشمي من الناحية العملية ، كل ذلك من اجل عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين النبوة والخلافة ، وهل جزاء الاحسان الا الاحسان ؟

ض ـ التكييف الشرعي لمقولة : لا ينبغي ان يجمع
الهاشميون الخلافة مع النبوة

هذه مقولة جاهلية من كل الوجود ، وتتعارض معارضة تامة مع النصوص الشرعية ، ومع النظم السياسية المشتقة من العقائد الالهية ، فداود نبي وورثه ابنه سليمان ، فجمع كل واحد منهم النبوة والخلافة معا ، واوتي الانبياء وذرياتهم الحكم والنبوة والكتاب ، ولم يعترض عليهم احد لان الفضل بيد الله والخلافة منصب ديني وبالدرجة الاولى ودنيوي ، والخليفة قائم مقام النبي ، ومن مهام النبوة البيان والحكم ، وعملية البيان والحكم عملية فنية تماما واختصاص .
ومن هو على علم بالتقاطيع الاساسية الاسلامي تبين له بأقل جهد ممكن ان هذه المقولة نسفت نسفاً تاماً النظام السياسي الاسلامي كنظام الهي ، وفرغته تماما من مضمونه ، وحولته من الناحية العملية الى نظام وضعي لا يختلف عن الانظمه الوضعية الا بالشكل سياسياً بل والاهم من ذلك ان رئاسة الدولة صارت غنيمة ، وطعمة يأكلها
____________
(1) راجع الامامة والسياسة ص 15 .
( 265 )

الغالب والغالب وحده ، وبعد ان يغلب يجلس على كرسي النبي او حصيرته ويلبس جبة الاسلام فاذا هو خليفة ، فان غلب الطليق الذي قاتل الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط به فأسلم رغبة او رهبة فانه يتآمر على المهاجر الذي قاتل مع الاسلام كل معاركه ، ويصبح ولي الله المخصص شرعا لرئاسة الدولة الاسلامية مجرد مواطن عادي من رعاياه ، يتكلم الجاهل ، ويسكت العالم ، يتقدم المحاصر بالكسر ويتأخر المحاصر بالفتح . كل هذا من اجل انصاف القبائل الآخرى ومنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الخلافة ، او بتعبير ادق من اجل العودة عمليا الى الصيغة السياسية التي كانت سائدة قبل الاسلام ، ولكن بثوبها الجديد ، فالصيغة السياسية الجاهلية كان تقوم على اقتسام مناصب الشرف ، بحيث تأخذ كل قبيلة نصيبها من هذه المناصب ، وبتطبيق المقولة اصبحت القبائل تتداول رئاسة الدولة ، وبنفس الوقت تتشارك بالشرف والمناصب اثناء عملية التداول ، اما الاحكام الالهية المتعلقة بالنظام السياسي الاسلامي فهي موضوع اخر ، فهي لا تستجيب للصيغة السياسية التي وجدت قبل الاسلام في مكة .

النتائج التي ترتبت على تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة والخلافة
1 ـ النتيجة الاولى

زوال الفوارق نهائيا بين الذين قاتلوا الاسلام بكل فنون القتال حتى احيط بهم فأسلموا ، وبين اولئك الذين قاتلوا مع الاسلام كل معاركه حتى اعز الله دينه ونصر نبيه واقام دولة الايمان ، فالكل مسلم لا فرق من الناحية السياسية بين هذا وذاك ، فكلهم مسلم وكلهم في الجنة ، فالهاشمي الذي حاصرته قريش ثلاث سنين هو تماماً مثل اي شخص كان على الشرك واشترك بالحصار ، الم يسلم ذلك الشخص ؟ اليس الاسلام يجب ما قبله ؟ فلو ان حمزة سيد الشهداء رجع الى الدنيا فهو تماما كوحشي من الناحية العملية السياسية ، فالقاتل كالمقتول تماما ، والمهاجر كالطليق ، والجاهل كالعالم ، ولو غلب الجاهل لكانت لزاما على العالم ان يطيعه سياسيا وان يتبعه وينقاد اليه ، بل على العكس ، فلو كان هنالك هاشمي عالم كعلي بن ابي طالب وكان هنالك انصاري بدرجته او اقل علما منه ، فالانصاري العالم مقدم على الهاشمي . انظر الى قول الفاروق


( 266 )

رضي الله عنه بوجود علي بن ابي طالب وهو يقول ( لو ادركت معاذ بن جبل لوليته ، ولو ادركت خالد بن الوليد ) . خالد قاتل الاسلام في احد وفي اكثر من وقعة ، وعلي قاتل مع الاسلام في كل مواقعه ، مع هذا فالاولى هو خالد ، حتى ان الفاروق لو ادرك سالما مولى ابي حذيفة وهو من الموالي ، ولا يعرف له نسب في العرب ، لولاه الخلافة وامره على علي بن ابي طالب ، مع ان علي بن ابي طالب وهو ولي سالم وعمر ومولى ابي عبيدة ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الفاروق وباقراره ....

النتيجة الثانية : زرع بذرة الخلاف ونموها

طالما ان لا فرق بين المهاجر والطليق ، ولا بين القاتل والمقتول ، ولا بين المحاصر بالفتح والمحاصر بالكسر ومن حق كل واحد ان يفهم الاسلام وان يستقطب حول هذا الفهم ، فمعنى ذلك وجود مرجعيات متعددة ، ووجود مفاهيم متعددة ، وقناعات متعددة ، وكل فريق يزعم انه على الحق ، ففريق يذهب الى الشمال واخر الى اليمين وثالث الى الشرق ورابع الى الغرب وخامس الى الشمال بزواية كذا .... الخ ، ولا يوجد مرجع يعتبر كلامه حجة يقينية شرعية يقر بها الجميع ، بهذا الجور زرعت بذرة الخلاف ونمت بأرض خصبة ، فلو قال علي عليه السلام كلاماً وقال واحد من الطلقاء كلاما آخر ، فالذي يزن القولين هو السامع ، لانه عمليا لا فرق بين علي واي طليق ، فكلاهما في الجنة وكلاهما مسلم ، فهم صحابة ، اي لا يقرون عمليا بأي ترجيح شرعي لقول علي ، فكيف يرجح بين المتساويين وكيف يفرق بين المتعادلين تماماً ؟ فهذه قطعة ذهبية تتساوى حجما وشكلا ومقدارا وقيمة مع قطعة اخرى ، فخذ ما شئت واياك والتمييز ، فالوفاق الحاصل وفاق ظاهري ، وتحت هذا الظاهر ينمو الخلاف ويشب ، ثم يتحول الى سرطان عاجلا ام آجلا ، يمزق وحدة الامة ويخرجها من اطار الشرعية الى الغامض والمجهول .

النتيجة الثالثة : رئاسة الدولة حق للجميع الا لهاشمي

بمعنى انه لا شيء على الاطلاق يمنع اي مسلم من ان يتولى رئاسة الدولة الاسلامية ، شريطة ان يتمكن من الوصول اليها ، والاستحواذ عليها ، وانقياد الجميع له وتسليمهم له بالغلبة والسلطان ، شريطة ان لا يكون من بني هاشم ، لانهم اختصوا بالنبوة والنبوة تكفيهم .


( 267 )

هذا الحق حول الطمع برئاسة الدولة الى كابوس بغيض والى آلية مزعجة سلبت الامة قرارها واستقرارها ، وحولتها الى حقل تجارب لكل الطامعين بالرئاسة ، وعطلت نظامها السياسي والشرعي .
اما من اي قبيلة هذا الرئيس ؟ ما هو علمه ؟ ما هو دينه ؟ ما هي سابقته ؟ من الذين سيحكمهم ؟ تلك امور ثانوية لا قيمة لها من الناحية العملية ، ولا يعول عليها ، لان الغالب غالب ، والحصول على رضوان المغلوب فن قائم بذاته .
ما الذي يمنع يزيد بن معاوية ، وهو المشهور بعهره وفجوره ، من ان يكون رئيسا للدول الاسلامية ، لانه ابن معاوية الرئيس ، ومن الذي يمنع الحسين بن علي بن ابي طالب سيد شباب اهل الجنة في الجنة بالنص ، وريحانة النبي من هذه الامة بالنص ، والامام الشرعي لهذه الامة بالنص ، فما الذي يمنعه من ان يكون احد رعايا يزيد ، وأحد الذين يتأمر عليهم ، فكلاهما مسلم ، وكلاهما في الجنة ، يزيد القاتل المجرم في الجنة والحسين الامام المقتول في الجنة ، فكلاهما صحابي !!! ومن ينقد هذا الرأي فهو زنديق لا يؤاكل ولا يشارب ولا يصلى عليه .

النتيجة الرابعة : اختلاط الاوراق

اختلط الحابل بالنابل ، والحق بالباطل ، والخير بالشر ، والعلقم بالشهد ، واصبح المتأخر كالمتقدم ، واللاحق كالسابق ، والمجاهد كالقاعد ، والقاتل كالمقتول ، والمحاصر كالمحاصر بالفتح والكسر ومن وقف مع الاسلام تماما مثل من وقف ضده ، ومن قاتل الاسلام تماما كمن قاتل معه . لقد دخل الجميع بدين الله ، وشاهد النبي او شاهدوه ، فكلهم صحابة ، وكلهم في الجنة .
وضاع الصادقون ، وتفرقوا في الامصار واصبحوا على حد تفسير معاوية كالشعرة البيضاء في جلد ثور اسود وانهار النظام السياسي الإسلامي وتأخر المتقدمون وتقدم المتأخرون ، ولله عاقبة الامور .


( 268 )



( 269 )

الفصل الثامن
مقدمات الانقلاب

1 ـ مع النبي على فراش الموت
النبي في بيته ، يجلس على فراش الموت ، وجبريل الامين لا ينقطع عن زيارته . النبي على علم بمستقبل هذه الامة ، وقد ادى دوره كاملا ، وبلغ رسالات ربه ، وبين للمسلمين كل شيء على الاطلاق ، وهو على علم تام بما يجري حوله ، ومدرك انه السكون الذي يسبق العاصفة ، والصمت الذي يسبق الانفجار ، فاذا ثارت العاصفة ، وحدث الانفجار ستنسف الشرعية السياسية ، ونسفها سيجرد الاسلام من سلاحه الجبار ، ويتعطل المولد الاساسي للدعوة والدولة .
لكن مثل النبي لا ينحني امام العاصفة ، ولايسكت حتى يحدث الانفجار ، ولا يقعده شيء عن متابعة احساسه العيمق بالرأفة والرحمة لهذه الامة ، وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة والبيان الالهي الشامل لكل شيء تحتاجه الامة ، بما فيه كيف يتبول المسلم وكيف يتغوط .
الا انه اراد ان يلخص الموقف لامته حتى تهتدي بعده وحتى لا تضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتتنظر موت النبي لتفتح اشداقها ، فتعكر صفو الاسلام ، وتعيق حركته وتغير مساره .


( 270 )

بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغص بعواده من اكابر الصحابة فاغتنم النبي الفرصة واراد ان يلخص الموقف لامته ويذكر بالخط المستقبلي لمسيرة الإسلام ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم ( قربوا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابداً ) ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي ؟ من يرفض التأمين ضد الضلالة ؟ ولماذ ولمصلحة من ؟ ثم ان من حق كل مسلم ان يوصي ، ومن حق اي مسلم ان يقول ما يشاء قبيل موته ، والذين يسمعون قوله احرار فيما بعد باعمال هذا القول او اهماله ، هذا اذا افترضنا ان محمداً مجرد مسلم عادي وليس نبيا وقائداً للامة . فتصدى عمر بن الخطاب له ، ووجه كلامه للحضور وقال ( ان النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ) فاختلف اهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول ( قربوا يكتب لكم رسول الله كتاب لا تضلوا بعده ابداً ) ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله ( قوموا عني ) (1) .
وفي رواية ثانية ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال ( ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ) تنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا ( هجر رسول الله ) قال النبي ( دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ) (2) .
وفي رواية ثالثة : قال النبي صلى الله عليه وآله ( ائتوني بالكتف والدواة او اللوح والدواة اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابداً ) ( إن رسول الله يهجر )(3) .
وفي رواية ثالثة للبخاري أن النبي قال ( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ) قال عمر بن الخطاب ( ان النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ) فاختلفوا واكثروا اللغط ، قال النبي ( قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ... ) (4) .
____________
(1) صحيح بخاري كتاب المرض باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 90 وراجع صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95 ومسند الامام احمد ج 4 ص 356 ح 2992 وشرح النهج لابن ابي الحديد ج 6 ص 51 .
(2) راجع صحيح بخاري ج 4 ص 31 وصحيح مسلم ج 2 ص 16 بشرح النووي ومسند الامام احمد ج 1 ص 2 وج 3 ص 286 .
(3) راجع صحيح مسلم ج 2 ص 16 وج 11 ص 94 ـ 95 بشرح النووي ومسند الامام احمد ج 1 ص 355 وتاريخ الطبري ج 2 ص 193 والكامل لابن الاثير ج 2 ص 320 .
(4) راجع صحيح بخاري ج 1 ص 37 .

( 271 )

رواية بلفظ رابع للبخاري : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ائتوني اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا ) فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ( ما شأنه اهجر ؟ استفهموه ) فذهبوا يردون عليه فقال ( ذروني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ... ) (1) .
رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ائتوني بكتف اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابداً ) فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا ( ما له اهجر ؟ استفهموه ) فقال النبي ( ذروني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ... ) (2) .
رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ) قال عمر ( ان النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ) واختلف اهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ( قربوا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ) ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما اكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال ( قوموا عني ) (3) .
وفي رواية ان عمر بن الخطاب قال : ( ان النبي يهجر ... ) (4) وقد اعترف الفاروق انه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الامر لعلي (5) .

تحليل المواجهة
1 ـ اطراف المواجهة

الطرف الاول : هو محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم وامام الدولة الاسلامية رئيسها .
____________
(1) راجع صحيح بخاري ج 5 ص 137 وتاريخ الطبري ج 3 ص 192 ـ 193 .
(2) راجع صحيح بخاري ج 2 ص 132 وج 4 ص 65 ـ 66 .
(3) صحيح بخاري ج 8 ص 161 .
(4) راجع تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي الحنفي ص 62 وراجع سر العالمين وكشف ما في الدارين لابي حامد الغزالي ص 21 .
(5) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 3 ص 114 سطر 27 الطبعة الاولى مصر وبيروت . وج 12 ص 79 سطر 3 ، بتحقيق محمد ابو الفضل وج 3 ص 803 دار مكتبة الحياة وج 3 ص 167 دار الفكر .

( 272 )

الطرف الثاني : هو عمر بن الخطاب احد كبار الصحابة ووزير من ابرز وزراء دولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد .
مكان المواجهة : بيت النبي .
شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم .

النتائج الاولية للمواجهة
1 ـ الانقسام

ان الحاضرين قد انقسموا الى قسمين :
القسم الاول : يؤيد الفاروق في ما ذهب اليه من الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد ، وحجة هذا الفريق ان الفاروق من كبار الصحابة ، واحد وزراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشفق على الاسلام ، وان النبي مريض وبالتالي فلا داعي لازعاجه بكتابة هذا الكتاب . ثم ان القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ولا داعي لاي كتاب آخر يكتبه النبي .
القسم الثاني : يرفض المواجهة اصلا بين التابع والمتبوع ، وبين نبي ومسلم ، وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت ، وبين واحد من وزرائه ، ويرى هذا القسم ان تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكاتبه ما يريد ، لانه نبي وما زال نبيا حتى يتوفاه الله ، ولانه رئيس الدولة وما زال رئيسا للدولة حتى يتوفاه الله ويحل ، رئيس آخر محله . ثم على الاقل لانه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه ان يقول ما يشاء ، وان يكتب ما يشاء ثم ان الاحداث والمواجهة تجري في بيته ، فهو صاحب البيت ، ومن حق اي انسان ان يقول ما يشاء في بيته .

2 ـ بروز قوة هائلة جديدة

برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت ان تحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، واستطاعت ان تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور


( 273 )

النبي نفسه (1) واستطاع ان يحرك الاحداث وان يقودها بكفاءة ، ولحد الآن لا احد يدري على وجه اليقين من الذي اوحى للانصار بفكرة الاجتماع بسقيفة بني ساعدة ، ولا كيف التم شمل هذا الاجتماع ، ولا من الذي دعا اليه ؟ ولا احد يدري كيف علم به عمر من دون كل المهاجرين ، فالثابت ان الذين حضروا هذا الاجتماع من المهاجرين ثلاثة فقط ، هم ابو بكر الصديق وعمر وابو عبيدة ، والثابت ايضا ان ابا بكر رضي الله عنه كان يساعد العترة الطاهرة بتجهيز النبي ، والثابت ايضا ان عمر رضي الله عنه هو الذي دعا ابا بكر واخبره بحادث اجتماع السقيفة ، والثابت ايضا ان ابا بكر وعمر وجدا وهما في طريقهما الى السقيفة ابا عبيدة بالصدفة ؟
فالفاروق كان يعيش في صميم الاحداث ، ويتابعها متابعة دقيقة ، دقيقة بدقيقة ، وفي داخل السقيفة كان له الدور الاعظم ، فلو اراد لكان هو الخليفة ، وبعد الخروج من السقيفة ومبايعة الاكثرية الحاضرة لابي بكر الصديق ، هو بنفسه الذي قاد عملية اتمام البيعة ، وهو الذي صاح بالمهاجرين ( انه قد بايع الصديق وبايعه الانصار ، وان عليهم ان يقوموا فيبايعوا ) فنهض عثمان ومن معه من بني امية فبايعوا الصديق . وعثمان والامويون بأغلبيتهم هم اول من بايع الصديق ، وعمر بن الخطاب نفسه هو الذي نظم الذين بايعوا ابا بكر في السقيفة ، وجهز منهم سرية اخرجت عليا ومن معه من بيت فاطمة الزهراء ليبايعوا الصديق (2) وهو نفسه الذي احضر الحطب وهم باحراق بيت فاطمة ان لم يخرج المعتصمون به (3) وهو نفسه الذي هدد عليا بالقتل ان لم يبايع (4) وهو نفسه الذي اشار على ابي بكر الصديق بأن يترك لابي سفيان ما بيده من الصدقات ليضمن ولاءه (5) واشار عليه بأن يعين يزيد بن ابي سفيان قائدا لجيش الشام . وهو القوة الهائلة التي وضعت الاستقرار لدولة ابي بكر ، ولم يطل بقاء الصديق في الحكم طويلا ، فانتقل الى جوار ربه ، وورث عمر دولة آمنة مستقرة ، وانتقلت اليه
____________
(1) راجع مراجع يوم الرزية وكيف اجمعت على ان الفاروق هو الذي قال حسبنا كتاب الله .
(2) راجع على سبيل المثال الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 5 وما فوق .
(3) راجع مراجع التحريق التي ذكرناها اكثر من مرة .
(4) الامامة والسياسة ص 13 .
(5) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 1 ص 306 ـ 307 تحقيق حسين تميمي مكتبة الحياة .

( 274 )

السلطة بيسر وسهولة ، وبدون معارضة ، وكان الانتقال خطوة طبيعية تتبع خطوة ، وعاجلاً ام آجلاً سيكشف الباحثون ان للفاروق قدرة هائلة على التخطيط والتنظير ما توفرت لاحد قط من اقرانه ، فقد قام بدور الهيئة التأسيسية لعصر ما بعد النبوة ، ورتب كل شيء لمستقبل الحكم في الاسلام ، فلن يجمع الهاشميون الخلافة والنبوة ابدا ، وستكون الخلافة تداولا في غيرهم ، وحقا خالصا لمن غلب بغض النظر عن شرعية او عدم شرعية وسائل الغلبة .

3 ـ بروز فكرة التغلب وترجيح التابع على المتبوع

نبتت بهذا المواجهة فكرة التغلب ، وترجيح التابع على المتبوع ، او المساواة بين التابع والمتبوع ، وخلق حالة من الشبهات والحيرة مع من يكون الصواب ، هل هو مع التابع او مع المتبوع ؟
فحجة الفاروق ان النبي قد اشتد به الوجع وكتابة الكتاب بمثل هذه الحالة قد تشكل خطرا ، وشايع الفاروق بذلك مجموعة من الصحابة ، وهذا شك ، وحجة الطرف الآخر ان محمداً ما زال نبيا وسيبقى نبيا حتى تصعد روحه الطاهرة الى باريها ، وانه لا ينطق عن الهوى وهذا يقين ، فترك اليقين الى الشك غير معقول !! والمرض ليس مانعاً من القول .

حادثتان مشابهتان

الاولى : لقد مرض الصديق واشتد به الوجع كما يجمع على ذلك كل اتباع الملة : فلما تم لأبي بكر ما اراد من المشورة دعا عثمان خاليا ـ اي وحدة ـ وقال له ( اكتب اما بعد ) ثم اغمي عليه من شدة الوجع فكتب عثمان ( فاني استخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً ) فلما افاق ابو بكر من اغمائه قال لعثمان ( اقرأ علي ) فقرأ عليه ما كتب فقال ابو بكر ( اراك خفت ان يختلف الناس ان اقتتلت نفسي في غشيتي ؟ ) قال عثمان ( نعم ) قال ابو بكر ( جزاك الله خيراً عن الاسلام واهله ) واقرها ابو بكر (1) تلك حقيقة بالاجماع .
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 429 وص 176 من نظام الحكم للقاسمي وص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي وج 2 ص 85 من تاريخ ابن خلدون وص 120 من كتابنا النظام السياسي في الاسلام على سبيل المثال فقط .
( 275 )

الثانية : مرض عمر نفسه . قال طبيبه ( لا ارى ان تمسي ، فما كنت فاعلا فافعل فقال لابنه عبد الله ( ناولني الكتف ) فمحاها ، وقال من شدة الوجع ( والله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع ) وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله ، فقال لابنه ( ضع خدي بالارض ) فلم يفعل ، فلحظه وقال ( ضع خدي بالارض لا ام لك الويل لعمر ولام عمر ان لم يغفر الله لعمر ) (1) .
وبالرغم من شدة وجع ابي بكر فقد اوصى وكتب ما اراد ، وبالرغم من شدة وجع عمر فقد اوصى وكتب ما اراد ، ورتب امر الشورى ، واطمأن ان عثمان سيكون الخليفة ، واطمأن انه لا يسلط هاشمي على رقاب الناس حتى ولو كان ذا قوة وذا امانة ونفذت بدقة وصية الاثنين ، وسمح لهما بقولها ، وسمح لهما بالتوصية ، وبالرغم من اشتداد الوجع بكل واحد منهما ، فعندما كتب كل واحد منهما وصيته كان ما زال رسميا على رأس عمله خليفة للمسلمين ، ومن حقه ان يمارس عمله ما دام حيا او لم يعزل .
تلك حقيقة مسلم بها بالاجماع ، وقول واحد لا خلاف عليه ، فكيف يسمح لابي بكر ولعمر بالتوصية وكتابة ما اراد ، مع ان المرض قد اشتد بكل واحد منهما اكثر من اشتداده برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحال بين الرسول وبين كتابة ما اراد !
الا يحق لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يحق لابي بكر وعمر رضي الله عنهما هذا مع الافتراض ان محمدا على قدم المساواة مع ابي بكر وعمر !! وهذا افتراض مرفوض شكلا وموضوعا ، لان محمداً نبي مرسل من الله وامام ، بينما ابو بكر وعمر من الاتباع ، ومحمد يوحى اليه ، وقد اكد وقال اكثر من مرة ( ان اكثر ما كان يأتيه الوحي كان يأتيه وهو مريض ) (2) .
والله يقول ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ويقول ( وما صاحبكم بمجنون ) ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ( ان هو الا وحي يوحى ) فكيف يتحول بطرفة عين من كانت هذه صفاته وملكاته الى رجل حاشا له يهجر ؟ ! ولايؤمن على كتابة وصية !!
____________
(1) راجع الامامة والسياسة ص 21 ـ 31 والطبقات لابن سعد وص 120 ـ 121 من كتابنا النظام السياسي على سبيل المثال .
(2) راجع الطبقات لابن سعد ج 2 ص 193 .

( 276 )

ومع ان هذه حقائق دامغة ، لا قوة في الارض تستطيع ان تنكرها او تدافع عنها ، ومع ان هذه الواقعة نسفت مستقبل الاسلام كله ، وكانت هي البذرة التي انطلقت منها كل المآسي والنكبات التي حلت بالمسلمين ، الا ان اهل السنة يتجاهلونها تماما ولا يفكرون بها ، الا انها مجرد قصة .
وهكذا ، وعمليا رجح قول التابع على قول المتبوع ، فأصبح التابع مرجعا والمتبوع متفرجا ، وتم للتابع ما اراد ، وغلبت مشيئته واستقطب الناس لها ووجدت واقعيا فكرة الغلبة واثمرت ، واعتبرت الغلبة فيما بعد مبدأ شرعيا ، واجيز للامة ان تتفرج على الصراع بين متغالبين ، ثم تقف في النهاية مع الغالب ، مهما كانت صفاته ومهما كان دينه ؟ (1) فطمع المتبوع بالتابع وتقدم المفضول على الافضل ، ومن هنا فلا ينبغي ان ندهش اذا رأينا معاوية بن ابي سفيان يعتلي سدة الخلافة وهو الطليق ابن الطليق ومن المؤلفة قلوبهم وينازع بالخلافة اول من اسلم وولي الله بالنص ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة بالنص ، ويحاول ان يقنع المسلمين بأنه افضل من علي واصلح للامة منه ، ولا ينبغي ان نندهش اذا وجدنا في عصور الاسلام من يقول ( هذا مجتهد وهذا مجتهد وكلاهما في الجنة ) .
وما ينبغي ان ندهش عندما طالب مروان بن الحكم بالخلافة ، وهو ابن الحكم بن العاص الذي كان محظورا عليه ان يدخل المدينة في زمن الرسول وابي بكر وعمر ، حتى تولى الخلافة عثمان ، فأدخله معززاً مكرماً ، واتخذ ابنه مروان رئيسا لوزرائه وزوجا لابنته .
لقد تداعت الفوارق بين التابع والمتبوع ، وبين المتقدم عند الله وفي الاسلام ، والمتأخر في موازين الله والاسلام ، فالوليد بين عقبة يتأمر على الحسين بن علي ، والوليد يعظ ، وعلى الحسين ان يسمع وعظ هذا الوعظ ، والوليد يصلي بالناس صلاة الصبح اربعا وهو سكران ، ويسأل المأمومين ان كانوا يرغبون بالزيادة ، وبعد ذلك فانه لا حرج ان يكون هذا الرجل اماما للحسين بن علي بن ابي طالب ، واميراً عليه ، ومرجعاً يمكن للحسين اذا اراد ان يسأله في امور دينه ودنياه !!!
____________
(1) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 244 ـ 245 وكتابنا النظام السياسي ص 153 .
( 277 )

4 ـ ظفر الغالب ونجاحه

اصبح الغالب ـ اي غالب وأياً كان ـ هو الظافر ، وهو سيد الموقف ، وهو امام المسلمين ، ورئيس دولتهم وهو مرجعهم في كل الامور الدينية والدنيوية ، وهو الحائز لكل وسائل القوة ، بيده السيطرة الكاملة على كل موارد الدولة يعطي لمن يشاء ويمنع العطاء عمن يشاء ، لا رقيب عليه الا الله ومقدار دينه ، وهو القائد العام لجيوش الاسلام يستعملها لتحقيق الامنين الخارجي والداخلي ، ولتطويع الرعية رغبة ورهبة ، وهو المسيطر سيطرة تامة على وسائل الاعلام ، فلو شاء جعل الابيض اسود ، ولو شاء جعل الاسود ابيض ، ويمكنه بسيطرته على وسائل الاعلام ان يجعل القزم عملاقا وان يحول العملاق الى قزم ، وتحول مؤيدوه الى واجهة له بيدهم الحل والعقد ، ومع الايام اصبحوا مراجع ، فهم يتبنون وجهة نظر الغالب ويستعملون وسائله المرجعية ، فهم سادات المجتمع وهم الفراقد المتألقة ، واذا سار معهم اي واحد قادوه الى نقطة الارتكاز ومحور الهداية ـ اي عين ما يراه الغالب ـ وعزف العامة على ذات الوتر ، واتحدت الامة على هذه الشاكلة ، وكلما مضت سنة ترسخت هذه السنة وتوطدت ، وكلما مر عقد ضربت جذورها في الارض واصبحت رأيا عاما وقناعة وعقيدة سياسية .

عزل العترة الطاهرة

بهذا المناخ نادت العترة الطاهرة بالشرعية ، وقالت ان لها حقا وتطالب به ، ولكن الناس يحولون بينها وبين حقها الشرعي ، كانت معارضة ابي الحسن لابي بكر معارضة متحضرة ، وشرعية ومنطقية جداً ، بشهادة بشير بن سعد اول من بايع ابا بكر حيث قال عندما سمع حجة الامام ( لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار يا علي قبل بيعتها لابي بكر ما اختلف عليك اثنان ) (1) ولكن تبقى السلطة سلطة ، وتبقى المعارضة معارضة ، ولايمكن بالفطرة للقائمين على السلطة بأي مقياس ان تثق سياسيا بالمعارضة ولا ان تسلم للمعارضة مكتسباتها ، ولكن لان فاطمة بنت محمد بجانب الامام علي ، فقد رؤي عدم قتله ، بالرغم من انه هدد بالقتل ان لم يبايع ورؤي عدم اكراهه على البيعة تقديراً لفاطمة .
____________
(1) الامامة والسياسة ص 12 على سبيل المثال .
( 278 )

ولم تتخذ اية اجراءات فعالة ضد الامام وزوجته الزهراء عندما كانا يطوفان ليلا في مجالس الانصار ويسألان النصرة فكان الانصار يقولون ( يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل ابي بكر ما عدلنا به ) فيقول علي ( افكنت ادع رسول الله في بيته لم اؤمنه واخرج انازع الناس سلطانه ؟ ) فتقول فاطمة ( ما صنع ابو حسن الا ما كان ينبغي ولقد صنعوا ما الله حسبهم عليه وطالبهم ) (1) .
ومع هذا فالنتيجة المنطقية كانت عزل الامام بعد وفاة فاطمة وعزل شيعته ، وتجلت الرغبة بعزل الامام عن بني هاشم خاصة محاولة السلطة اجتذاب العباس اليها باغرائه ببعض الامر له ولعقبه ، ولكن العباس رفض ذلك رفضا قاطعا ورد ردا حاسما على السلطة (2) .
وبالمعيار الموضوعي فانه اذا قدر للشخص العادي ان يختار بين السلطة وبين خصومها ، فانه سيختار جانب السلطة ، لانها هي الجانب الاقوى خاصة ، وان معارضات اهل البيت تتابعت وكاد حبل الود ان ينقطع نهائيا بينهم وبين السلطة عندما هم عمر باحراق بين فاطمة على من فيه ولكن الله سلم (3) .
ولقد سلم من حجم القناعة لدى السلطة انها اقتنعت بأنه لا يجوز لبني هاشم ان يجمعوا مع النبوة الخلافة كوسيلة لمنع الاجحاف الهاشمي ، وآمنت السلطة ان قريشا قد اهتدت عندما اخذت بهذا المبدأ (4) .
والاهم من ذلك انه قد وضع شرطا بأنه لا يجوز ان يسلط هاشمي على رقاب الناس حتى ولو كان ذا قوة وامانة ، وقد نفذ هذا الشرط بدقة في عهدي ابي بكر وعمر ، وكان عمر يحرص على ان لا يتولى اعماله اي مؤيد لهم .
____________
(1) الامامة والسياسة ص 12 على سبيل المثال .
(2) الامامة والسياسة ص 15 ـ 16 .
(3) راجع مراجع التحريق .
(4) راجع الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23 ، وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد مجلد 3 ص 97 و 107 وقد نقلها عن الامام احمد بن ابي طاهر في تاريخ بغداد ، وراجع كتابنا النظام السياسي ص 149 وما فوق ص 6 ، ومروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 .

( 279 )

فعزل علي وعزل شيعته ، وتعايش الامام مع الشيخين وتعايشت شيعته ، وقدم اهل البيت في زمنهما على الجميع في العطايا ، فكانوا يبدأون بآل محمد ثم ببقية الناس ، وامن الامام واهل البيت وشيعتهم على ارواحهم واموالهم ، وكانا يستشيران الامام ويرجعان اليه في كثير من الامور ، واستقرت الاحوال وساعد على استقرارها فتوح البلدان وعدم تدنس الشيخين بشهوة .
وبعد فترة من استلام عثمان للخلافة بدأ الصحابة يتراجعون من حوله ، وبدأ الامويون ينزلون في بلاطه ، فانفض الصحابة جميعا من حوله ، والتف الامويون عليه وغص بهم بلاطه .
ولم يأت الامويون بجديد ، فآل البيت وشيعتهم حرموا الاعمال في زمن الشيخين ، وغير وارد ان يتولوها في زمن عثمان ، ولان الامام وشيعته لا يمكن ان يسكتوا على اخطاء بني امية وهم حاشية عثمان وعماله ، اعتبروا ان امر اهل البيت بالمعروف ونهيهم عن المنكر معارضة للامويين لانهم امويون ، فلذلك ضاقوا ذرعا بعلي وبشيعته وتراكمت هذه المعارضة مع تركات الماضي بين الهاشميين والامويين ، وما زالت تكبر وتكبر حتى حدثت المواجهة المسلحة بين الامويين برئاسة معاوية والي الشام وبين الامة برئاسة امامها ووليها علي ، وانتصرت القوة على الشرعية وتوج معاوية ملكا حقيقيا على الامة ، وسمي العام بعام الجماعة .
وبدأ عهد جديد لمطاردة آل محمد مليء بالدمع والدم ، فأبيدوا الا من كتبت له الحياة ، وفرضت مسبتهم وشتمهم في الامصار ، ورددت الامة المسبات والشتائم وراء الحكام . وطوردت شيعة آل محمد ، ولم يجيزوا لاحد من اهل البيت او لاحد من شيعتهم شهادة ، ومحوا من الديوان كل من يظهر حبه لعلي واولاده واسقطوا عطاءهم ورزقهم (1) .
____________
(1) راجع تاريخ ابن عساكر ج 3 ص 407 وراجع معاوية في الميزان للعقاد ص 16 ، وراجع شيخ المضيرة للشيخ محمود ابو رية ص 180 .