الاستيلاء على السلطة
1 ـ استذكار وربط الاحداث

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما اسلفنا ( هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابداً ) ولما اتم النبي هذه الجملة قال الفاروق موجها كلامه لمن حضر ( ان النبي قد اشتد به الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) وعلى الفور انقسم الحاضرون الى قسمين : القسم الاول يقول ( قربوا يكتب لكم رسول الله ) والقسم الآخر يقول ما قاله عمر ، فأكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، حتى بلغ الامر بالقسم الذي ايد عمر ان قالوا ( حاشا للرسول ، هجر رسول الله ان رسول الله يهجر ) ورسول الله يسمع ويرى ، عندئذ قال رسول الله (دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ) (1) .

2 ـ النجاح الساحق

نجح الفاروق بشق الحاضرين الى قسمين : 1 ـ جماعة تؤيده وهو التابع ، وجماعة تؤيد النبي وهو المتبوع ، فأزال الفوارق بين التابع والمتبوع . ونجح الفاروق ومؤيدوه بالحيلولة بين النبي وبين كتابة ما يريد .

الخياران

فاذا اصر النبي على كتابة الكتاب الذي يريد ، ففريق الفاروق يرى ان النبي حاشا له : هجر ، يهجر وفي ذلك كارثة على الدين كله ، واذا عدل النبي عن كتابة الكتاب الذي اراد ففريق الفاروق عندئذ يرى ان الرسول قد اشتد به الوجع وحسبنا كتاب الله ، فاختار النبي العدول عن كتابة الكتاب ، وصدم خاطرة الشريف هذا القول الموجع هجر يهجر فقال : (دعوني ... ) .
____________
(1) نحن اهل السنة نعتبر صحيحي بخاري ومسلم من اصح كتب الحديث على الاطلاق وقد روى البخاري تلك الحادثة الاليمة بست روايات ولها كلها نفس المضمون ورواها مسلم ايضا ، وراجع ان شئت صحيح بخاري ج 7 ص 9 ، وصحيح مسلم ج 5 ص 75 وج 11 ص 95 بشرح النووي وج 4 ص 85 صحيح بخاري وصحيح مسلم ج 5 ص 75 وج 11 ص 89 ـ 94 بشرح النووي .
( 281 )

ثوب الشرعية

الفاروق لم يخرج عن اطار الشرعية من حيث الشكل ، فهو لا يدعو الى باطل ، فهو يقول مخاطبا من حضر : عندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اشتد به الوجع ، فهو حريص على ان لا يكتب النبي هذا الكتاب ، وحريص على تقديم واجبات الاحترام الرسمية للنبي حيث قال : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد اشتد به الوجع ... وحريص على التمسك بالقرآن ، وهو وحده يكفي ولاحاجة لكتاب النبي ، فكامل هذه التصرفات ترتدي ثوب الشرعية .
وهذا عين موقف فريق امير المؤمنين عمر .

* *


( 282 )



( 283 )

الفصل التاسع
مقاصد الفاروق واهدافه
لقد قاومت بطون قريش النبوة الهاشمية بكل فنون المقاومة ، وحاربتها بكل وسائل الحرب ، لا حباً بالاصنام ولا كراهية للاسلام ، فليس في الاسلام ما تعافه الفطرة فيكره ، لكن قريش لا تريد ان تغير صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف ، ولا تريد ان يتميز البطن الهاشمي عن بقية البطون ، ولا ان يتفوق هذا البطن عليها ، وقد تصورت بطون قريش ان التفاف الهاشميين حول النبوة ، ودفاعهم المستميت عن النبي هو اصرار هاشمي على التمييز ، ورغبة هاشمية بالتفوق على الجميع ، فحاصرت بطون قريش مجتمعة الهاشميين ، وتآمرت بطون قريش مجتمعة على قتل النبي ، وتعاونت بطون قريش مجتمعة على حرب النبي ، ففشل الحصار ، وفشلت المؤامرة ، وهزمت البطون في حروبها ، واحيط بها فأسلمت ، وادركت ان النبوة الهاشمية قدر محتوم لا مفر منه ولا محيد ، وطالما ان النبوة قدر محتوم ، ولا طاقة للبطون بمواجهة هذا القدر ومنعه ، فلتكن النبوة للهاشميين خالصة لهم لا يشاركهم بالنبوة احد من البطون ، وليتوقف الزحف الهاشمي على حقوق البطون الأخرى ، فالنبي قد اعد العدة لتكون الخلافة لعلي الهاشمي ولذرية النبي من بعد علي ، لانهم يعلم الله الاعلم بالاسلام ، والافهم بأحكامه ، والافضل من اتباعه ، والانسب لقيادة الامة ، والاطيب لنفوس الجميع .


( 284 )

الحل المثالي

لقد دخلت كل البطون في الاسلام ، والاسلام يجب ما قبله ، وتوحيد قريش في ظلال الاسلام مصلحة شرعية ، وضرورة من ضرورات انتصاره وشيوعه ، وانتشاره في البلدان ، ولا يحقق ذلك الا :
1 ـ ان تكون النبوة خالصة لبني هاشم لا يشاركهم بها احد غيرهم كائنا من كان .
2 ـ ان تكون الخلافة لبطون قريش تتداولها فيما بينها لا يشاركها في الخلافة اي هاشمي على الاطلاق ، ولا حرج لو تداولها مع البطون من غيرهم كالانصار ، وكالموالي ، لان اشتراك هذا الغير يتداول الخلافة لا يخدم التمييز والتفوق الهاشمي ، واستقرت بأذهانهم نهائيا مقولة ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ) وتحولت هذه المقولة الى تيار غلاب مستقر في النفوس .

استكشاف الحل

قريش وبالاجماع قبلت النبوة الهاشمية باعتبار انها قدر لا مفر منه ، وهي تتمنى لو تحقق حلمها بالحل المثالي ، فلا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، ولكن هذه الاماني ملجومة بوجود النبي ، وامكانية تحقيقها بعد وفاته واردة ومتاحة .

اقتناع الفاروق بالمقولة وتطويرها على يديه

لسوء الحظ ان الفاروق قد اقتنع بالمقولة القريشية ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ) وهو يلتقي هنا مع التيار الغلاب الساكن في نفوس قريش ، والمتأهب للظهور بعد وفاة النبي . واضفى عليها الفاروق ثوب الشرعية فوصفها بأنها الصواب والتوفيق ، وان الغاية منها منع الاجحاف الهاشمي على بطون قريش ، وهكذا طور الفاروق هذه النظرية ، والبسها ثوب الشرعية ، فشقت طريقها بيسر وسهولة ، وبلا حرج تختال بثوبها الشرعي مخفية احساسيسها الجاهلية ، لان شعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ) شعار جاهلي من كل الوجوه ، تجد جذوره مستقرة وواضحة في الصيغة الجاهلية التي سادت مكة قبل ظهور الاسلام ، والقائمة اصلا على اقتسام البطون القريشية لمناصب الشرف ، ومن جهة اخرى فان الخليفة المقترح من النبي


( 285 )

صلى الله عليه وآله وسلم وهو علي بالذات نكل ببطون قريش ، فليس فيها بطن الا وله دم عند علي ، فهو قاتل سادات بني امية في بدر ، وقاتل حنظلة بن ابي سفيان ، وقاتل العاص بن هشام بن المغيرة ، وهشام هذا هو خال امير المؤمنين (1) ثم ان عليا هو الذي كفى رسول الله كفار العرب بسيفه ورمحه ، فكيف يرضى ابو سفيان عن قاتل ابنه واولاد عمومته ؟ وكيف تتقبل هند وابنها معاوية رئاسة الذين قتلوا الاهل والاحبة ؟ عمر قد يقبل قاتل خاله ، ولكن غيره لا يتقبل ولا يقبل ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا لو عليه ، فهو لم يقتل بيديه ، انما كان القاتل علي ، فعصبت قريش دماءها بعلي ، ووجهت لومها وكراهيتها له ، مع الاحتفاظ بهويتها الإسلامية ، وولائها للنبي بالذات ، فلو اخذت قريش بما تسميه بالفضائل التي اضفاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علي وسلمت له الخلافة فان قريشا لن تتحد في ظل حكمه بل ستفترق وتختلف وسينعكس هذا الافتراق وهذا الاختلاف على مستقبل الاسلام ومستقبل الولاء للنبي بالذات ، وقد تقع الفتنة مع ما تجره من عواقب وخيمة على الاسلام والمسلمين . بهذا وحده يمكن ان نفسر الاندفاع الهائل لامير المؤمنين في هذا التوجه ، ونفسر سر الائتلاف بينه وبين بطون قريش على شعار لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، حتى تحول امير المؤمنين عمر الى مخطط ومنظر حقيقي واوحد لهذا التيار .

قريش تتحد ضد الولي كما اتحدت ضد النبي

وحدة الرؤى الرئيسية وحدت قريشا كلها خلف شعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ) فقد وقفت كل بطون قريش بلا استثناء (2) ضد النبوة الهاشمية ، واشتركت كل بطون قريش في مقاطعة بني هاشم ثلاث سنين بهدف القضاء على هذه النبوة وفشل الحصار ، وتآمرت كل بطون قريش على قتل النبي ، وعبرت عن وحدتها بهذا التآمر بارسال احد رجالها للاشتراك في قتله ، وفشلت المؤامرة ونجا النبي ثم جهزت كل بطون قريش الجيوش وحاربت النبي وفشلت ، واحيط بها فاستسلمت وادركت ان النبوة قدر لا مفر منه وسلمت بها لبني هاشم .
____________
(1) الطبقات : ج 2 ص 17 ـ 18 .
(2) الامامة والسياسة ص 70 ـ 72 .

( 286 )

لكنها عزمت وجزمت على ان لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، فوقفت وقفة رجل واحد ضد علي ، كما وقفت كل بطونها وقفة رجل واحد ضد النبي ، وغايتها محددة ، وهي ان لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، وبنفس الوقت الاحتفاظ بالهوية الاسلامية والولاء للنبوة الهاشمية بالقدر الذي لا يتعارض مع نجاح المقولة .

قريش تخطط والهاشميون يرزحون في مصابها

قريش مدركة ان النبي ميت لا محالة في مرضه هذا ، وقد اخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وهم يصدقون النبي ، وهي مدركة ايضا ان ترك الامور على طبيعتها يؤدي حتما لفوز علي بالخلافة عندئذ يقع المحظور ، فيجمع الهاشميون مع الخلافة النبوة لذلك ، فلا غنى لها عن التحرك بالخفاء لمنع وقوع المحظور .
والهاشميون كذلك وعلي بالذات مشغولون بمصابهم ، فالنبي ميت لا محالة في مرضه هذا ، وهو يعاني الالم ، والمه المهم لانه النبي والسيد ، وهم الاتباع المخلصون ، ولانه ألاخ والقريب وابن العام والحبيب فال أخ مثله ، ولا قريب يعني عنه ، ولا ابن عم يتحلى بمزاياه ، ولا حبيب نظير له على الاطلاق ، لذلك انصرفوا له بكليتهم ، وانشغلوا به عمن سواه مفترضين ان الآخرين مثلهم .

التخطيط المحكم

كيف علم عمر بأن النبي سيوصي ذلك اليوم بالذات فحضر ؟ ومن الذي اخبره ؟ وكيف تجمع هذا الفريق الذي ما ان سمع النبي يقول ( هلم اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) حتى سمعوا الفاروق يرد فورا على النبي موجها الكلام لمن حضر ( ان النبي قد اشتد به الوجع وحسبنا كتاب الله ) فردد هذا الفريق فورا ( القول ما قاله عمر ) وزادوا ( رسول الله هجر !! استفهموه انه يهجر ) كما اسلفنا واثبتنا ، فقول النبي لا يمكن ان يخلق هذا النفور الفوري . والرد العمري الفوري بجملته الشهيرة ( إن الوجع قد اشتد برسول الله حسبنا كتاب الله ) لا يمكن ان يخلق الاقناع الفوري .
ان مثل هذا الاقتناع الذي حمل اصحابه على اللفظ والخلاف والتنازع في حضرة رسول الله ، والاقرب الى الذهن والمنطق والعقل ان هنالك معرفة يقينية مسبقة لدى


( 287 )

هذا الفريق بمضون الكتاب الذي اراد الرسول ان يكتبه ، وان هنالك نوعا من الاتفاق المسبق للحيولة بين النبي وبين كتابة هذا الكتاب ، ولو ادى ذلك الى مواجهة مع النبي نفسه ، والقول بأنه يهجر او هجر حاشا لله ، والاقرب الى التفكير ايضا بأن هنالك رابطا او اتفاقا يضمن تماسك هذا الفريق ووحدته حتى بمواجهة مع النبي نفسه ، اما هل هذا الاتفاق عفوي ام ثمرة تخطيط ، الله وحده يعلم ، لكن المؤكد ان ظهر الشرعية قد قصم تماما في هذه المواجهة .

الثمرة الاولى لهذا التخطيط

تمكن هذا الفريق من ان يحول بين النبي وبين كتابة ما يريد ، وبرز عمر بن الخطاب كأقوى رجل في هذا الفريق على الاطلاق ، فهو الذي خاطب الحاضرين ( ان النبي قد اشتد به الوجع حسبنا كتاب الله ) بمعنى انه لا حاجة لنا بكتاب النبي ، هذا معنا حسبنا يكفينا ، وما زاد عن الكفاية فهو لغو ولا ضرورة له . مما شجع مؤيدي هذا الرأي على القول ( رسول الله هجر استفموه انه يهجر ) حاشا لك يا رسول الله . والخلاصة ان الثمرة الاولى للتخطيط كانت الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما يريد ، ولنفترض جدلا ان النبي قد اصر على رأيه ولخص الموقف وقال ( لا تنسوا بأن الخليفة من بعدي علياً ) فان هذا القول سيعقد مهمة الفريق وسيضطره في ما بعد لاثبات الهجر مع ما يجره ذلك على الدين نفسه من ويلات وكوارث ، فلو رفعوا شعار الهجر فيما بعد لكان الدين نفسه في خطر ، ولما امكن التفريق بين ما قاله النبي في هجره المزعوم ، وصحوه المؤكد ، ففضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يعدل عن كتابة الكتاب ليصون الاهم ، وهو الدين بدلا من صيانة المهم وهو خلافة علي ، فقال لهم ( قوموا عني ما انا فيه خير مما تدعوني اليه ) وخرج هذا الفريق وهو يتصور انه المنتصر ، وانه قطف الثمرة ، وان العقبة الكبرى في طريق تحقيق الهدف قد زالت .

التخطيط لهزيمة الهاشميين

بمواجهة متكافئة وعادلة وشريفة بين قريش والهاشميين ، فان الفائز المؤكد هم بنو هاشم وقد اثبتت وقائع التاريخ ذلك ، فقد حاصرت كل بطون قريش مجتمعة بني هاشم


( 288 )

ثلاث سنين ، وفشل الحصار وانتصر الهاشميون ، وقد تآمرت كل بطون قريش على قتل محمد ، واختارت من كل بطن منها رجلا ليشتركوا بقتل النبي مجتمعين ، فيضيع دمه بين القبائل ، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه ، وفشلت المؤامرة ونجا النبي وانتصر الهاشميون .
وجيشت بطون قريش الجيوش وحاربت محمداً وبني هاشم ، وانتصر محمد وانتصر الهاشميون بانتصاره ، وهزمت كل بطون قريش واحيط بها ، واسلمت واعترفت بالنبوة ، وادركت انها قدر لا مفر ولا محيد عنه . فانصب هدف بطون قريش على مسامحة الهاشميين بالنبوة ، والاقرار بتفرد الهاشميين بها وحدهم دون ان يشاركهم بها احد ، مقابل ان تأخذ بطون قريش الخلافة وتتداولها في ما بينها ، ولا مانع من خروج الرئاسة منهم الى غير قريش موقتاً على ان لا تؤول الى هاشمي ، لانه اذا آلت لبني هاشم فلن تخرج منهم ، ويقع المحظور بجمع الهاشميين للخلافة مع النبوة ، لكن وقائع التاريخ اثبتت ان الهاشميين هم الفائزون بأي مواجهة .

الترجيح بمرجح لتحقيق الهدف

ادركت قريش ان سر الانتصارات المتوالية للهاشميين على بطون قريش ، وسر التميز والتفوق الهاشمي يكمن في وجود المرجح الذي ساهم بترجيح الكفة الهاشمية على كفة بطون قريش ، فالمرجح للهاشميين في صراعهم ضد بطون قريش هو الله الناصر اولا واسبابه بالترجيح ثانيا ، فاجماع قريش على مقاطعة الهاشميين ظلم صارخ اخل بالتوازن ، وتزويد الله للهاشميين بالصبر والاخذ بيدهم وتزويدهم بمن يؤيدهم من صفوف بطون قريش ويطلب فك هذا الحصار مرجح ادى لفشل الحصار .
ومؤامرة قريش لقتل النبي افساد في الارض وقتل دون سبب موجب ذلك ، ونوم علي بن ابي طالب في فراش النبي ، ونجاة النبي واستقراره في يثرب سبب مرجح ادى لفشل مؤامرة القتل .
وتجييش بطون قريش الجيوش ومحاربة النبي وملاحقته بلا كلل ولا ملل ، تماد بالباطل واصرار عليه ، والتفاف الانصار حول النبي واحتضانه ومحاربتهم الى جانبه


( 289 )

وجانب الهاشميين ، سبب مرجح ادى لفشل كل الحروب التي شنتها بطون قريش ، واسفر عن هزيمة ساحقة ادت في النهاية لانهيار الزعامة المشركة واستسلامها بالكامل .

التكافؤ والفرصة والموضوعية

اذا كان هنالك تكافؤ بالفرض بين رأي قريش وبين رأي بني هاشم ، فان الرأي الهاشمي سيسمو على رأي قريش ، ويثبت انه الاصوب والاجدر ، واذا كان هنالك فرصة موضوعية لتقرع الحجة بالحجة ، فان الولي من بعد النبي سيفرغ بحجته الباهرة حجة غيره ، لان الولي مع القرآن والقرآن معه بالنص ، والحق مع الولي والولي مع الحق بالنص ، كما اثبتنا ، واذا كانت هنالك مبارزة شريفة بين الولي وبين اي كان ، فان الولي سيفوز ، لانه المنصور باذن الله ، ولكن الولي لا يستطيع ان يخطط في الظلام ولا يمكنه التآمر ، ولا يمكنه معصية الله .

المرجع الذي سيهزم الولي والخطة المثلي

اهتدت قريش الى مفصل الامور وفيصلها ... اهتدت الى الانصار . اذا استطاعت قريش ان تضمن ولاء الانصار لموقفها فقد حققت النصر الساحق ، وتحقيق هدفها الاعظم بمنع الهاشميين من ان يجمعوا مع الخلافة النبوة ، ومنع الولي من ان يكون هو الخليفة ، لانه اذا تولى علي الخلافة فسوف يقترح الحسن ليخلفه من بعده ، فالامام الحسن امام مسمى من قبل الله وقبل رسوله ، ومن له مكانة ابن بنت رسول الله حتى يعترض يوم تسميته ، وبالتالي سيكون الخليفة من بعد ابيه ، فاذا تولى الحسن الامامة فسيقترح الحسين إماماً من بعده ، وليس بامكان احد ان يعترض عليه ... الخ وهكذا تبقى الامور بيد ابناء النبي الهاشميين ويجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، فيكون فوزهم على البطون ساحقا .
ووسيلة منع ذلك كله تكمن في المرجع وفي انعدام تكافؤ الفرص ، وفي السرعة والحزم :
1 ـ المرجع الاعظم واقعيا هم الانصار ، فاذا وقفت الانصار مع علي فقد هزمت قريش وفق موازينها ووقع المحظور ، فجمع الهاشميون الخلافة والنبوة ، واذا وقفت الانصار مع قريش ومع هدفها هذا فان هزيمة الهاشميين وهزيمة الولي مؤكدة وفق هذه الموازين .


( 290 )

واذا امكن تحييد الانصار فلا يقفوا مع الولي فان هذا انجاز ، وامكانية تحقيق هدف قريش واردة بكل الموازين الموضوعية .
2 ـ النقطة الثانية انعدام تكافؤ الفرص ، فاذا وقف الولي على قدم المساواة مع قريش ومع اي زعيم من زعمائها ، في فرصة متكافئة ، فان الولي سيغلب وسيقيم الحجة الشرعية على قريش مجتمعة ، وعلى اي زعيم من زعمائها ، والمهم بهذه الحالة ان لا يتكلم معه الزعيم القرشي بصفته الشخصية ، ولكن يتكلم معه باسم جمع ، باسم المهاجرين ، باسم اكثرية الامة ، فاذا فعل الزعيم القرشي ذلك فامكانية هزيمة الولي وفق موازينهم واردة .
3 ـ السرعة القصوى بحيث يتم البت بموضوع الخلافة خلال فترة انشغال العترة الطاهرة بتجهيز النبي ودفنه ، فلا يحضر منهم احد على الاطلاق ويتم تنصيب الخليفة بغيابهم كلهم ، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر ، ولا مبرر للاعتراض الا الفتنة ومواجهة دولة حقيقية لها رئيسها ونائبها وجيشها ، وهم اتباع الخليفة الجديد ومبايعوه .

اجتماع السقيفة

مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، غاب القمر المنير الذي اضاء الوجود بنوره ، وشاع الخبر ، وهرع سكان العاصمة وتجمعوا في بيت النبي واحاطوا به ، يبكون نبيهم ووليهم وامامهم الاعظم ، والآل الكرام وعلى رأسهم الولي والخليفة بعد النبي منصرفون كلهم وبكليتهم الى مصابهم الذي لا مصاب مثله ، ومشغولون بتجهيز النبي لمواراته في ضريحه الاقدس .
في هذا الوقت بالذات انعقد الاجتماع في سقيفة بني ساعدة .

اسئلة بدون اجوبة

لماذا انعقد هذا الاجتماع بهذا الوقت بالذات ؟ ومن الذي دعا اليه ؟ وكيف امكن عقده بهذا الوقت بالذات ؟ ومتى بدأ التحضير له ؟ ومن حضره على وجه اليقين من الانصار ؟ فالسقيفة لا تتسع لكل الانصار ، وقسم كبير منهم كان بحكم المنطق في بيت


( 291 )

النبي او متحلقا حوله ؟ لان من المستحيل ان يغيبوا كلهم عن النبي دفعة واحدة ؟ ومن الذي بدأ بالتحضير لهذا الاجتماع ؟ وكم استغرق التحضير له ؟ ولماذا لم يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين الا عمر بالذات ؟ ومن الذي اخبره ؟ لان عمر لم يكن في بيت النبي ولا مع المتحلقين حوله ، انما كان في مكان ما وهو يعلم ان ابا بكر في منزل النبي بالضرورة ، فأتى عمر فأرسل الى ابي بكر ( ان اخرج الي ) فأرسل اليه ( اني منشغل ) فأرسل اليه ( انه حدث امر لابد من حضوره ) فخرج ابو بكر اليه فقال ( اما علمت ان الانصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون ان يولوا هذا الامر سعد بن عبادة ) واحسنهم مقالة من يقول ( منا امير ومن قريش امير ) فمضيا مسرعين ، فلقيا ابا عبيدة بن الجراح فتماشوا اليهم ثلاثتهم (1) .

من الذي اتى بالخبر

يقول الطبري ( ان اول من سمع خبر اجتماع الانصار هو عمر ) (2) وفي رواية اخرى ( ابا بكر بلغه الخبر ) وفي رواية ابن هشام ( فأتى آت الى ابي بكر وعمر ) اما من هو هذا الذي اتى بالخبر ؟ فلا احد يعرفه على الاطلاق لان اسم هذا المخبر ضاع (3) .

اثنان من الانصار

عندما سار الثلاثة باتجاه السقيفة وجدا عويم بن ساعدة الانصاري ومعن بن عدي (4) وهما من صفوة الانصار ، وفي رواية ثانية للطبري ( فلقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة ، وهما صحابيان قد شهدا بدراً ) .
وفي رواية انهما قالا للثلاثة ( ارجعوا واقضوا امركم بينكم ) وفي رواية ثانية ( ارجعوا فانه لن يكون ما تريدون ) .
الملفت للانتباه : انهما من الانصار وشهدا بدراً ، ومع هذا لم يحضرا اجتماع السقيفة ، ولا كانا متوجهين اليه مع علمهم بالاجتماع ، انما كان اتجاه مسيرهما
____________
(1 و 2) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 219 .
(3) نظام الحكم للقاسمي ص 126 .
(4) تاريخ الطبري ج 3 ص 206 .

( 292 )

معاكس لاتجاه مسير الثلاثة ، فقد تبادل الاثنان الحديث مع الثلاثة المهاجرين ، ومضى كل نفر في دربه . لانه لم يشر احد ان الخمسة ساروا معاً باتجاه اجتماع السقيفة . ثم مضمون الحوار فمرة قالوا للثلاثة ( ارجعوا واقضوا امركم بينكم ) بمعنى انه لا علاقة للانصار بهذا الامر ، ومرة اخرى قالا ( انه لن يكون الذي تريدون ) بمعنى ان الانصار لن توليكم . فأي الروايتين اولى بالتصديق ؟

* *


( 293 )

الفصل العاشر
تحليل موضوعي ونفي الصدفة

هنالك اجماع بين مؤرخي اهل السنة بأن اول من سمع بخبر الاجتماع هو عمر (1) وفي رواية اخرى له ان ابا بكر بلغه الخبر (2) وبلوغ الخبر لابي بكر لا ينفي كون عمر هو اول من سمع الخبر وفي رواية ابن هشام ( فأتى آت الى ابي بكر وعمر فقال ... ) (3) ثم انه لا احد يعرف اسم الذي اتى بالخبر لحد الان !! انه ليس صدفة ان يضيع اسم المخبر ، مع ان هذا المخبر شخص بارز في المجتمع ، لانه يعلم ما يدور في الخفاء ، ولانه اخبر عمر وابا بكر ، ومما يدل على بروز هذا الشخص ان عمر وابا بكر اصغيا اليه وصدقاه وكلماه ، فمخبر بهذا الوزن لامر بهذه الاهمية لا يمكن ان يضيع اسمه ان وجد ، مما يلقي ظلالا من الشك على وجود حقيقي لمثل هذا المخبر .
ثم انه ليس صدفة ان تجتمع الانصار وهم الاغلبية الساحقة من سكان العاصمة ( المدينة ) ولا يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين كلهم الا عمر وحده !! ثم لماذا ينادي عمر ابا بكر وحده ولا ينادي غيره من المهاجرين ، مع ان المهاجرين كلهم يلقون نظرة الوداع على نبيهم وامامهم ويشاركون الآل الكرام مصابهم الفادح ؟ وهذا ليس
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 219 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 201 .
(3) ابن هشام ج 2 ص 656 .

( 294 )

صدفة ايضا ، ثم اين كان الفاروق الذي لم تتحمله رجلاه عندما سمع بخبر وفاة النبي ، وتوعد بالموت وتقطيع اطراف من يزعم موت النبي (1) ؟ ولما تأكد له الموت من المفترض انه ذهب الى بيت نبيه وامامه ليلقي عليه نظرة ، وليشارك الامة مصابها . فلو كان ذهب الى بيت نبيه ورئيسه ، فكيف جاءه الخبر من دون الناس ؟ ومن الذي اتاه بهذا الخبر ، وكيف اهتدى اليه من بين الالوف المتواجدين في البيت المبارك او حوله ؟ فمن المؤكد ان هذا ليس صدفة .
ومن المؤكد قطعا ان الانصار لم يجتمعوا جميعا فالذين اشتركوا في بدر هم الخيار ، كما ورد بنص الشرع ، ومن غير الممكن ان يتم اجتماع الانصار ولا يحضره البدريون وهم الخيار ، فاللذان صادفا المهاجرين الثلاثة هما من اهل بدر ، ولو كانت غاية الاجتماع اختيار خليفة لحضره هذان البدريان ، او على الاقل لما كانا خارج الاجتماع بتلك اللحظة . ثم ان النبي قد فارق الحياة وهو مسجى في بيته الطاهر ، فهل يعقل ان يتركه الانصار ، ولا يذهب منهم احد لالقاء نظرة الوداع عليه ، بالوقت الذي تتأهب فيه العترة الطاهرة لمواراته في ضريحه المقدس ؟ هذا امر لا يمكن تصديقه الا بحكم التقليد الاعمى .
ثم ان الانصار على فرض اجتماعهم كلهم من اجل انتخاب خليفة عرفوا احكام الشرع ، وعرفوا ان محمداً من قريش ، وان الائمة من قريش ، وعرفوا الاحكام الواردة في اهل بيت النبوة ، وشهدوا تنصيب الولي والخليفة من بعد النبي في غدير خم ، واوصاهم النبي بعلي وبأهل بيته ، وخاطبهم مجتمعين ذات مرة قائلا لهم ( يا معشر الانصار الا ادلكم على ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعده ابداً ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال ( هذا علي فأحبوه بحبي واكرموه بكرامتي فان جبريل امرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل ) (2)
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 197 .
(2) راجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 9 ص 170 تحقيق محمد ابو الفضل وحلية الاولياء لابي نعيم ج 1 ص 63 ومجمع الزوائد ج 9 ص 132 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 210 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 313 وكنز العمال ج 15 ص 126 والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 233 وفضائل الخمسة ج 2 ص 98 ومطالب السؤول لابن طلحة ج 1 ص 60 وفرائد السمطين ج 1 ص 197 ح 154 .

( 295 )

فكيف ينسون هذا النص او يتناسونه جميعا ؟ كيف ينسون قضية التنصيب ، وما هي علاقتهم بشعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ) ، فهم ليسوا من قريش ولا مصلحة لهم بابعاد آل محمد ، كيف ينسون قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن علي ( انه وليكم بعدي ، وانه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعده ... ) الخ ، ما هي مصلحتهم بتجاهل هذه النصوص الواضحة القاطعة وامثالها ؟ فالانصار لم تجتمع لاختيار خليفة منها ، وهذا امر عسير تصديقه بكل الموازين ، لان الانصار يعرفون الولي ويعرفون الخليفة ، بدليل انهم وفي غياب علي وعندما ادركوا ان الامر سيفلت من ايديهم قالوا ( لا نبايع الا عليا ) وفي رواية قال بعض الانصار ( لا نبايع الا عليا ) (1) مما يدل على ان بعض الموجودين ارادوا مبايعة غيره ، ان صدقت الرواية الثانية ، لكن من المؤكد ان احدى الروايتين صادقة ، وعندما غلب الانصار على امرهم وراجعتهم فاطمة الزهراء عليها السلام طالبة النصرة فكانوا يقولون لها ( يا بنت رسول الله ـ قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل ابي بكر ما عدلنا به ) فيقول علي كرم الله وجهه ( افكنت ادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم ادفنه واخرج انازع الناس سلطانه ؟ ) فتقول فاطمة ( ما صنع ابو حسن الا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم ومطالبهم ) (2) .
وبشير بن سعد ـ الذي خرج عن اجماع الانصار وكان اول من بايع ابا بكر ـ لما سمع حجة الامام واحتجاجه قال مخاطبا عليا ( لو كان هذا الكلام سمعته الانصار منك يا علي قبل بيعتها لابي بكر ما اختلف عليك اثنان ) (3) .
من كان هذا تفكيرهم لا يعقل ان يعقدوا اجتماعا بقصد انتخاب خليفة للنبي في غياب الولي الذي نصبه النبي وليا لهم من بعده امام اعينهم في غدير خم ، وقدموا بأنفسهم له التهاني ، وسمعوا النبي مرات ومرات وهو يقول لهم ( انه وليكم من بعدي ، وانه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعدي ) .
____________
(1) راجع على سبيل المثال ج 3 ص 198 والامامة والسياسة لابن قتيبة ص 8 وشرح النهج لابن ابي الحديد ج 2 ص 266 .
(2) راجع الامامة والسياسة ص 12 .
(3) الامامة والسياسة ص 12 وص 8 .

( 296 )

ثم ان سعد بن عبادة الصحابي الجليل ، وسيد الخزرج ، وصاحب المواقف التي لا تعرف المهادنة اكبر من ان يقبل الخلافة من بعده ، في وجود الولي واهل بيته ، وشيوخ المهاجرين ، ثم انه كان مريضا بالاجماع ولا يقوى على النهوض ، ولو كان قادرا على النهوض لما ترك وليه ونبيه دون ان يلقي عليه نظرة الوداع . ومن المؤكد ان منزل سعد ملتصق بهذا المكان ، حيث حملوه فأدخلوه داره كما يروي ابن قتيبة ، ومن الممكن ان هذه المجموعة من الانصار كانوا من عواده ، واخبروه بموت النبي ، وليس من المستبعد ان يكون قد جرى حوار هاديء بين المجتمعين ، ومن الممكن جدا ان يكون هذا الحوار قد تناول عصر ما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

دخول المهاجرين الثلاثة

اخذ الاجتماع طابعا خاصا بدخول المهاجرين الثلاثة ومن الطبيعي ان الحديث سينقطع بعد دخول هؤلاء المهاجرين ، من الذي بدأ الحديث ؟ من الذي فتح المناقشة بعد دخولهم ؟ لا احد في الدنيا من اهل الملة يعرفه على وجه التحديد ، لكن الفاروق يتصور ان هؤلاء يريدون ان يختزلونا من اصلنا ويغصبونا الامر (1) وان الفاروق نفسه كان يتوقع قدوم جدد وانضمامهم الى هذا الاجتماع . واقبلت اسلم بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا ابا بكر فكان عمر يقول ( ما هو الا ان رأيت اسلم فأيقنت بالنصر ) (2) بمعنى انه يعلم اسم مؤيده سلفا .
واسلم بطن كبير من بطون الانصار كثير العدد كما يبدو ، ومع هذا لم يكونوا في الاجتماع ، هذا مما يؤكد ان اجتماع الانصار لم يكن له طابع سياسي ابدا ، ثم قول الفاروق ( فأيقنت بالنصر ) النصر على من ؟ والنصر بماذا ؟ وكل هذا يؤكد المهمة الترجيحية التي فرضت على الانصار بالمعنى الذي نوهنا عنه آنفا .

الغاية من قدوم المهاجرين الثلاثة

كان الهدف من ذهاب المهاجرين الثلاثة الى الانصار هو بالتحديد تنصيب خليفة للنبي ، وذلك بغياب قريش كلها ، فرأي قريش هو عينه رأي الثلاثة ، وهو ينصب
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 201 ـ 218 .
(2) الطبري ج 3 ص 222 .

( 297 )

بالدرجة الاولى والاخيرة على عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة ، وبهذه الحالة فلا داعي لوجود قريش ، لانها ممثلة بهؤلاء الثلاثة او على الاقل ممثلة بعمر المؤمن ايمانا تاما بهذه المقولة ، والغاية ايضا ان يجري تنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة كلها وخاصة عميدها علي بن ابي طالب ، لانه ان حضرت العترة الطاهرة او حضر العميد ، تتغير حتما النتائج ، ويقيم الحجة عليهم ويقنع الانصار . فاذا غابت العترة الطاهرة وغاب عميدها ، فمن المؤكد ان الجو سيصفوا لهم ويتمكنوا من تعيين احدهم خليفة ، فبايعه مؤيدوهم من الانصار ، واذا بايع اناس من الاوس فبالضرورة ستبايع الخزرج ، حتى تتقاسم المجموعتان هذا الشرف . وعندما يتم ذلك تواجه العترة الطاهرة ويواجه عميدها بمرجع بايعته الانصار ، واذا بايعت الانصار فلن ترجع عن بيعتها . واي مواجهة من العميد او من العترة لن تكون بين علي وابي بكر ، او بين علي وعمر ، او بين علي وابي عبيدة كأشخاص ، انما تكون مواجهة بين خليفة حاكم واحد رعاياه ، او بين احد نائبي الخليفة واحد الرعايا المحكومين للدولة ، وهي مواجهة معرفة النتائج . فبمواجهة منطقية متكافئة لا قدرة للفاروق على الولي ، لأن الولي باب الحكمة اللدنية ، وبمواجهة متكافئة بين الفاروق والولي فان الولي سيحسمها على مستوى القوة ، لان افعال الفاروق بالقتال ليست كأفعال الولي ، ففي معركة الخندق مثلا نادى عمرو بن عبد ود حتى بح صوته ، والصحابة ومنهم الفاروق يسمعون ، ولم يقو على التصدي الا الولي . لكن عندما يكون الفاروق نائبا للخليفة فلا داعي ليواجه الولي بنفسه ، انما يرسل له سرية مجتمعة ، وتجر الولي الى الفاروق جرا كما حدث فعلا .
والوقت الذي اختاره الثلاثة لتنصيب الخليفة ملائم جدا لهدفهمم ، وهو وقت تجهيز النبي والاعداد لمواراته في ضريحه ، وهذا الوقت المثالي لتنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة وغياب عميدها ، فهم منصرفون بكليتهم الى مصابهم ، وذاهلون حتى عن انفسهم بهذه الفاجعة الاليمة ، بل ان المسلمين انفسهم في حالة ذهول ... وبالتالي هذا هو الوقت المناسب لتنصيب خليفة بالصورة التي تتمناها بطون قريش .
ثم ان اختيار الانصار بالذات للترجيح اختيار موفق ودقيق ، فغاية بطون قريش ان لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، وهذه البطون لا تحفظ لها على اي شخص اذا لم


( 298 )

يكن هاشميا ، فمعارضة قريش غير واردة ، فأول من بايع الخليفة هو عثمان الاموي ومن معه من بني امية ، ثم سعد بن ابي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة (1) ولفهم دقة الاختيار لو ان قريشا كلها بايعت ابا بكر ولم يبايعه الانصار لما كان لبيعة قريش ادنى قيمة واقعية ، ولامكن الامام في ما بعد ان يقيم الحجة على قريش ، وان ترجح كفته بالانصار . ومن هنا فلا معنى لتحضير قريش ، لانها فريق والثلاثة يقومون مقامها ويحققون اهدافها .
وهكذا ولاول مرة في التاريخ بقيت العترة الطاهرة خاصة ، والهاشميون عامة ، بدون مرجح واقعي يضمن لهم الفوز على بطون قريش ، بعد ان تمكن الثلاثة من الانفراد بالانصار ، والتعبير عن ضمير البطون القرشية ، واستبعاد الهاشميين بالكامل عن الخلافة والولاية والاعمال فيما بعد .
ومن هنا نفهم سر اسلوب عمر بأخذ بيعة المهاجرين والعترة الطاهرة وعميدها بعد خروج الثلاثة من السقيفة : كان الناس في المسجد الشريف مجتمعين ، فلما اقبل عليهم ابو بكر وابو عبيدة وقد بايع الانصار ابا بكر ، قال لهم عمر ( مالي اراكم مجتمعين حلقا شتى ! قوموا فبايعوا ابا بكر فقد بايعته وبايعه الانصار ) . فقام عثمان ومن معه من نبي امية فبايعوا ، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما من بني زهرة فبايعوا . واما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهم من بني هاشم فانصرفوا الى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، فذهب اليهم عمر في عصابة ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا ابا بكر ، فأبوا ... .
انظر الى لهجة الفاروق واسلوبه بأخذ البيعة ... .

في السقيفة

الجالسون في السقيفة مجرد جماعة من جماعات الانصار ، وليسوا كل الانصار ولا نصفهم ، ولا ثلثهم ولا ربعهم ، ولا حتى عشرهم ، لان الاكثرية الساحقة من سكان المدينة من الانصار ، والقسم الاكبر منهم كان في بيت النبي او حوله بالعقل والضرورة ، وحتى الذين شاهدوا سعد بن عبادة ومن حوله لم ينضموا اليهم ( الرجلان الصالحان )
____________
(1) راجع على سبيل المثال الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 11 .
( 299 )

اللذان شهدا بدرا وهما عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة برواية للطبري ، وبرواية اخرى عويم بن ساعدة ومعن بن عدي (1) ، فلو كان اجتماعا للانصار لما تركاه ، ثم ان ( اسلم ) التي اقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك لم تكن موجودة ، ويبدو أن عمر كان يتوقع قدومها وموقن من تأييدها بدليل قوله ( ما هو الا ان رأيت اسلم فأيقنت النصر ) هؤلاء جاءوا بعد المبايعة مما يدل على ان موضوع اختيار الخليفة من بعد النبي ولد بقدوم المهاجرين الثلاثة وفرضه المهاجرون الثلاثة .
لان الذي جاء بخبر اجتماع الانصار ما زال مجهولا للآن ولا يعلم به احد ، ولان الذي فتح المناظرة بعد قدوم المهاجرين الثلاثة ما زال مجهولا ، فعندما يدخل هؤلاء المهاجرون لا بد ان يطرحوا السلام ولا بد من تكلم بعد طرح السلام . فمن هو هذا المتكلم الذي فتح المناظرة ؟ انه تماما كالذي جاء بخبر اجتماع الانصار وما زال مجهولا ، مع ان الذين لهم ادوار اقل من دور ناقل خبر الاجتماع ، ومن دور فتح باب المناظرة عرفوا . كل هذا يؤكد ان هنالك مقاطع من الحقيقة مقصوصة ، وجوانب من الروايات مبتورة ، بالرغم من تعدد الروايات وتعدد الرواة . والحقيقة ان قصة اجتماع السقيفة صيغت وارخت تحت اشراف مؤيدي الفاروق والصديق ، وتم تناول القصة وطرحها بالطريقة التي لا تثير حفيظة الحكام ولا تستفز المؤيدين والتي تصور هؤلاء الثلاثة كرواد وكأبطال لقصة تاريخية ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعدد الروايات ومضامين هذه الروايات ، وتناقضها مع بعضها احيانا ، فما قاله ( الصالحان البدريان ) ورد مضمونه بروايتين متناقضتين مثلا (2) وسعد بن عبادة يصور في رواية كطالب للخلافة ومنافس عنيد للثلاثة يثير غضب الجموع وتوشك ان تقتله ، بل ويقال ( اقتلوه قتله الله ) (3) ويصور في رواية ثانية كرجل اقام الفاروق عليه الحجة فسكن واقتنع وبايع (4) ولا ترى تمردا من الحباب او من غيره ، لان الامور استقرت في مكانها الصحيح .... الخ .
____________
(1) تاريخ الطبري ج 3 ص 205 ـ 206 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 205 .
(3) الامامة والسياسة ص 10 .
(4) تاريخ الطبري ج 3 ص 203 .

( 300 )

اعظم ثروة فكرية انسانية

لو ان المهاجرين الثلاثة شاركوا العترة الطاهرة والمسلمين في تجهيز النبي لمواراته في ضريحه المقدس ، وبعد مواراته اتجهت جموع المشيعين الى المسجد فأدت الصلاة المفروضة بإمامة مولى الثلاثة ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الثلاثة ، وبعد ان فرغت من صلاتها قام كل واحد من هؤلاء الثلاثة فتكلم بما يحلوا له ، ويبين تصوره وطرح فكره ، واتيحت الفرصة ليقول كل ذي رأي رأيه . وبعد ذلك قام الولي ببيان رأيه وحكم الشرع في كل الآراء المطروحة باعتباره هو الهادي بنص الشرع ، وهو المبين للامة بعد النبي كل امر تختلف عليه بنص الشرع ، والانصار وجموع المسلمين يسمعون كل ذلك ويعونه ، ويقومون بدور المرجح ثم يبايعون الامام الذي ارادهم الله بالنص ان يبايعوه ، لو حدث ذلك لكانت ثمرة هذه المناظرة اعظم ثروة فكرية انسانية على الاطلاق ، ولتغير مجرى التاريخ تماما ، ولامكن تطبيق النظام السياسي الاسلامي الذي انزله الله على عبده ، ولامكن من خلاله انتشال الجنس البشري كله ، وتكوين الدولة العالمية التي تحكم الكرة الارضية وفق احكام الشرع . تلك امنية ، ما تحققت لاننا تركنا النص واجتهدنا ، وامة تترك النصوص الشرعية وتعمل باجتهادها امة هالكة لا محالة ، وذائقة وبال امرها ، جزاء وفاقا لتبديلها نعمة الله وهدايته ، وتأويلها للواضحات من اوامر الله لا لشيء الا ليتوافق هذا التأويل مع ما تهوى الانفس .

الحجج الشرعية لاطراف السقيفة

عاجلاً ام آجلاً سيكتشف الباحثون ان لقاء جماعة من الانصار مع سعد بن عبادة هو لقاء عادي من كل الوجوه ، وليس له اي طابع سياسي ، وان جرى فيه حديث سياسي فما هو الا مجرد تبادل بوجهات النظر بين اناس اجتمعوا عند مريض .
لكن الذي اعطى لقاء هذه الجماعة هذا الطابع السياسي والتأسيسي هو قدوم المهاجرين الثلاثة ، لقد حوله هؤلاء المهاجرون الى لقاء سياسي وتأسيس اتخذوه اساساً لتنصيب الخليفة من بعد النبي بالصورة التي ارادوها . وطالما ان هذا اللقاء اصبح سياسيا وتأسيسيا فما هي الحجج الشرعية التي طرحت فيه ، حتى فاز بموجبها من فاز ؟


( 301 )

حجة المتواجدين من الانصار

لم تكن غاية المتواجدين من الانصار ان ينصبوا خليفة منهم كما يحلو للرواة التركيز على ذلك ، لان كل الانصار تعلم ان الخلافة ليست فيهم ، ومن غير الوارد ان يبدلوا جميعا عهد الله وعهد رسوله ، والنبي لم يدفن بعد . وهم يعلمون ايضا أن النبي نصب الولي من بعده ، وان التهاني قد قدمت لهذا الولي حال حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل مسلم على الاطلاق بما فيه الثلاثة يعلمون ان عليا مولى المؤمنين ووليهم مجتمعين من بعد النبي ، ومولى وولي كل مؤمن ومؤمنة على انفراد بما فيهم الثلاثة المهاجرين . وبالتالي وحيث ان المتواجدين لا غاية لهم ، ولا مطمع بتنصيب خليفة منهم ، ولم يطرح ذلك اصلا قبل حضور الثلاثة ، فمن الطبيعي ان لا تكون حجة بذلك ، والحجج المنسوبة اليهم لا تخلو من روح المواءمة والتسوية ، ومستلزمات خراج القصة وتتويج ابطالها ، وتبرير ما فعلوه ، ثم تداولت الامة القصة تحت اشراف الابطال ، وبالكيفية التي اقروها وتداولتها وسائل الاعلام الرسمية واهملت الروايات المتناقضة معها ثم اخذتها الاجيال اللاحقة كحقيقة مكرسة رسميا وشعبيا ، ونفرت واستنكرت من كل ما يعيبها باعتباره خارجا على اجماع الامة .

غاية المهاجرين الثلاثة

المقاصد الحقيقية للثلاثة هي : ان ينصبوا خليفة من بعد النبي ، وبهذا الوقت بالذات وفي غياب العترة الطاهرة ، واثناء انشغال الجميع بتجهيز النبي ودفنه ، وان يحصلوا على بيعة من حضر ، فاذا بايعهم اناس من الاوس ، فبالضرورة سيبايع الحاضرون الخزرج حتى لا ينال الاوس الشرف وحده . وتصبح للمبايعين مصلحة بتثبيت الخليفة الجديد ، فيخرج من يبايعه الحاضرون كخليفة ، ويخرج المهاجران الاثنان كنائبين للخليفة ، وخلف الثلاثة يسير الذين بايعوا الخليفة كجيش له يأتمر بأمره ، ومن يتصدى لمن بايعوه او يعارضه فانه لا يعارض شخصا عاديا ، انما يعراض خليفة النبي ، ويخرج عن طاعة ولي أمرها ، ومن يفعل ذلك فلا غضاضة على الخليفة لو قتله حتى قتلا باعتباره خارجا على الجماعة وشاقا لعصا الطاعة ، وطامع بالسلطة وحريص عليها وموقف الشرع واضح ( لا نولي هذا الامر من طلبه ... ) الخ وهذا ما حدث بالضبط