ما هي الحجة الشرعية لهؤلاء الثلاثة

بماذا احتج هؤلاء الثلاثة حتى اعطتهم الانصار المقادة ؟ وهل كانت حجتهم شرعية فعلا ؟ بمعنى ان لها وجودا في الشرع ؟ احتج ابو بكر وعمر بالقرابة من النبي وان اقارب النبي هم اولى بسلطانه .

ملخص حجة ابي بكر التي احتج بها على من حضر من الانصار

قال ابو بكر ( فكنا معشر المهاجرين اول الناس اسلاما ، والناس تبع لنا ، ونحن عشيرة رسول الله ، ونحن مع ذلك اوسط العرب انسابا ليست قبيلة من قبائل العرب الا ولقريش فيها ولادة ) .

ملخص حجة عمر التي احتج بها على من حضر من الانصار

( انه والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيها واولو الامر منهم ، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم ، او متورط في هلكة ) (1) .

جواب الانصار

قالت الانصار ( لا نبايع الا عليا ) قال بعض الانصار ( لا نبايع الا عليا ) (2) حدث هذا وعلي غائب باجماع الامة ، فكيف لو كان حاضرا لهذا الاجتماع ؟

تمن وتبرير

لو ان الثلاثة المهاجرين قبلوا خلافة علي لما حدث اي اشكال ، ولسار النظام السياسي الاسلامي سيرا طبيعيا ، ولكن يتعذر عليهم ذلك ، فلا يجوز ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، فقد اخذوا النبوة وهي لهم خالصة لا يشاركهم بها احد ، ويجب ان تكون الخلافة لبطون قريش خالصة لا يشاركهم بها هاشمي قط .
____________
(1) راجع فيما تقدم على سبيل المثال الامامة والسياسة ص 6 .
(2) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 2 ص 265 .

( 303 )

الخليفة واحد من ثلاثة

تجاهل الثلاثة قول الانصار ( لا نبايع الا علياً ) وقال ابو بكر ( اني ناصح لكم في احد هذين الرجلين : ابي عبيدة بن الجراح او عمر ، فبايعوا من شئتم ) فقال عمر ( معاذ الله ان يكون ذلك وانت بين اظهرنا ... ابسط يدك ابايعك ) .

اول من بايع

لما رأى بشير بن سعد ان المهاجرين الثلاثة لم يقبلوا بولاية علي ، ادرك ان البيعة واقعة لا محالة ، فأراد ان يكون له السبق فقال ( ان محمداً رسول الله رجل من قريش وقومه احق بميراثه ، وتولي سلطانه ... ) ثم قفز وكان اول من بايع ابا بكر (1) ويجدر بالذكر ان بشيرا هذا هو ثاني اثنين من الانصار وقفا مع معاوية ضد علي فيما بعد .

تنصيب الخليفة ومبايعته

لما رأت الاوس موقف سعد بن عبادة سيد الخزرج ورأت موقف المهاجرين الثلاثة وما آلت اليه الامور ادرك اسيد بن حضير ان ابا بكر سيكون الخليفة فقال لجماعته ( قوموا بايعوا ابا بكر ) ففعلت الاوس ذلك ، وحتى ينال الخزرج جزءاً من هذا الشرف ولا يأخذه الاوس وحدهم بايع اكثرية من حضر .

المكافأة

اصبح بشير بن سعد من اقرب مستشاري الخليفة ونائبيه ، فهو نفسه الذي اشار على ابي بكر وعمر بعدم قتل سعد بن عبادة ، واصبح اسيد بن حضير قائد قوى الامن الداخلي ـ ان صح التعبير ـ فهو نفسه الذي ساعد عمر بقيادة السرية التي ذهبت لتطويع بني هاشم والزبير والممتنعين عن البيعة واخرجتهم بالقوة ، يساعده في ذلك سلمة بن اسلم (2) .
____________
(1) راجع في كل ما تقدم الامامة والسياسة ص 8 ـ 9 .
(2) راجع الامامة والسياسة ص 9 وما فوق .

( 304 )

شيوع الخبر والمبايعة

اقبل الخليفة وابو عبيدة وعمر ، وقد بايع الصديق من بايع ، وكان الناس مجتمعين في المسجد الشريف فصاح بهم عمر ( ما لي اراكم حلقا شتى ، قوموا بايعوا ابا بكر فقد بايعته وبايعه الانصار ) فقام عثمان ومن معه من بني امية فبايعوا ، وقام سعد بن ابي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا ... ومن الطبيعي ان من كان في المسجد من الانصار بايعوا ايضا عندما اشيع ان الانصار قد بايعت ، خاصة وهم يرون بشير بن سعد ، واسيد بن حضير ، وسلمة بن اسلم يتصرفون وكأنهم جزء من السلطة الجديدة ...
اما علي والعباس ومن معهم من بني هاشم فانصرفوا الى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، مما اضطر نائب الخليفة ان يتحرك بسرية من المؤيدين فيهم اسيد بن حضير ، وسلمة بن اسلم ، ويذهبوا لاخراجهم للبيعة بالقوة ، ولو استدعى الامر ان يحرقوا بيت فاطمة بنت محمد الذي اجتمعوا فيه . ولكن الله سلم وخرجوا لما شاهدوا الحطب ، وادركوا عزم عمر على احراق بيت فاطمة فبايعوا . وقد اثبتنا حادثة التحريق اكثر من مرة ، ولا عجب في ذلك ، فان فاطمة ليست اعظم من ابيها محمد رسول الله ، ومع هذا حيل بينه وبين كتابة ما يريد ، وقيل عنه حاشا له ( هجر استفهموه انه يهجر ) كما وثقنا ذلك .

المواجهة الغير متكافئة بين الولي والسلطة الجديدة

الولي من بعد النبي قد جرد من كل سلطاته ، واتي به الى ابي بكر بالقوة وهو يقول ( انا عبد الله واخو رسوله ) فقيل له ( بايع ابا بكر ) فقال ( انا احق بهذا الامر منكم وانتم اولى بالبيعة لي ، اخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذونه منا اهل البيت غصباً ؟ الستم زعمتم للانصار انكم اولى بهذا الامر لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الامارة وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار ، نحن اولى برسول الله حياً وميتاً فأنصفونا ان كنتم تؤمنون والا فبوؤوا بالظلم وانتم تعلمون ) .


( 305 )

كلام الولي هذا لا يستحق حتى رد السلطة ، فقال له عمر على الفور ( انك لست متروكاً حتى تبايع ) فقال له علي ( احلب حلب لك شطره واشدد له اليوم امره يردده عليك غداً ) ثم قال ( والله يا عمر لا اقبل قولك ولا ابايعه ) . فقال ابو عبيدة بن الجراح لعلي كرم الله وجهه ( يا ابن عم انك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور ، ارى ابا بكر اقوى على هذا الامر منك ، واشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لابي بكر ، فانك ان تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الامر خليق ، وبه حقيق في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ونسبك وصهرك ) . فقال علي عليه السلام ( الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم ولا تدافعوا اهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن اولى بهذا الامر ما كان فينا القاريء لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، والمدافع عنهم الامور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله انه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى ، فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعداً ) .

حكم لاول من بايع

من الطبيعي ان السلطة لا تملك ردا على حجة الامام لانها قاطعة ، وكان بشير بن سعد اول من بايع ابا بكر حاضرا لمواجهة الامام المنطقية مع السلطة ، فقال لعلي في حضرة اركان السلطة الجديدة ( لو كان هذا الكلام سمعته الانصار منك قبل بيعتها لابي بكر ما اختلف عليك اثنان ) (1) .

تحرك

خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة عليها السلام على دابة ليلا في مجالس الانصار يسألهم النصرة ، فكانوا يقولون ( قد سبقت بيعتنا لهذا الرجل ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل ابي بكر ما عدلنا عنه ) فيقول علي ( افكنت ادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم ادفنه واخرج انازع الناس سلطانه ؟ ) فقالت فاطمة ( ما صنع ابو الحسن الا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم ) (2) وادرك الامام ان الامة قد غدرت به كما يبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
____________
(1 و 2) راجع على سبيل المثال الامامة والسياسة ص 11 ـ 12 .
( 306 )

اذلال الولي وتهديده بالقتل ان لم يبايع

هددت السلطة ـ كما اسلفنا ـ بحرق بيت فاطمة على من فيها ان لم يخرج المتعاطفون مع الولي ، فقيل لعمر ( ان في البيت فاطمة ) فقال ( وان ) وادرك المتواجدون في بيت علي ان عمر جاد في عزمه على حرق بيت فاطمة ، فخرجوا فبايعوا بالقوة ، الا عليا صاحب البيت ، فوقفت فاطمة على باب بيتها فقالت ( لا عهد لي بقوم حضروا اسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله جنازة بين ايدينا وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا ... ) وارسل ابو بكر من يدعو عليا وعلي يرفض ، ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى اتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت اصواتهم نادت بأعلى صوتها ( يا ابت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن ابي قحافة ؟ ) فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تتصدع ، واكبادهم تتقطر . الا ان عمر القوي الذي لا يعرف اللين ، ولا تأخذه في الحق لومة لائم ، بقي ومعه قوم فأخرجوا عليا فمضوا به الى ابي بكر فقالوا ( بايع ) فقال ( ان لم افعل فمه ؟ ) قالوا ( اذاً والله الذي لا اله الا هو نضرب عنقك ) . قال علي ( اذا تقتلون عبد الله واخا رسوله ) قال عمر ( اما عبد الله فنعم واما اخو رسوله فلا ) ( اخوة النبي لعلي ثابتة ) فقال عمر ( الا تأمر فيه بأمرك ؟ ) فقال ( لا اكرهه على شيء ما كانت فاطمة الى جانبه ) فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي ( يا ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني ) .

محاولة لاسترضاء الزهراء

بعد الحاح تمكن الفاروق والصديق من مقابلة الزهراء ، فقالت لهما نشدتكما الله الم تسمعا رسول الله يقول ( رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن احب فاطمة ابنتي فقد احبني ومن ارضى فاطمة فقد ارضاني ومن اسخط فاطمة فقد اسخطني ) قالا ( نعم سمعناه ) قالت ( فاني اشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما ارضيتماني ، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما اليه ) فأخذ ابو بكر ينتحب وهي تقول ( والله لادعون عليك في كل صلاة اصليها ثم خرج باكياً ) (1) .
____________
(1) راجع فيما تقدم الامامة والسياسة ص 12 ـ 13 .
( 307 )

ابو بكر يهم التنازل عن الخلافة

فاجتمع الناس اليه لما خرج فقال لهم ( يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله وتركتموني وما انا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم اقيلوني بيعتي ) .
ومن الطبيعي ان من حوله سيرفضون ذلك ويعللون هذا الرفض تعليلا شرعيا (1) .

الموقف النهائي للولي

لقد استقر الامر للسلطة الجديدة ، واصبح الولي مجرد مواطن عادي لا حق له على احد ، ان شاءت السلطة قربته منها وان شاءت ابعدته عنها ، فهي صاحبة الحق الواقعي بذلك بحكم الغلبة ، لقد ضاعت الخلافة منه مع انها حق خالص من الله ورسوله له . واستمراره بالمعارضة قد يؤدي لقتله ، ومبررات القتل كثيرة ، فيمكن ان يسند له جرم شق عصا الطاعة والخروج على الجماعة ومنازعة الامر اهله .... الخ .
ثم انه لا احد معه الا اهل بيته ، وهو يصف حاله بتلك الفترة فيقول ( ونظرت فاذا ليس معي الا اهل بيتي فظننت بهم عن الموت ، واغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على اخذ الكظم ، وعلى امر من طعم العلقم ) (2) وقال يوماً ( فجزت قريش عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن امي ( فهو مؤمن ان الحق له ) (3) واجمعوا على منازعتي امر هو لي ... وقد قال قائل : انك على هذا الامر يا ابن ابي طالب لحريص ، بل انتم والله الاحرص ، وانما طلبت حقا لي ، وانتم تحولون بيني وبينه ، فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض رسول الله حتى يومنا هذا ) (4) .
ولم يكن امامه الا الاحتفاظ بحقه في الخلافة ، والاحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بها للمسلمين عصا ، ولا تقع بينهم فتنة يتتهزها عدوهم ، فقعد في بيته حتى اخرجوه كرها ، ولو اسرع اليهم ما تمت له حجة ولا سطع لشيعته برهان ، لكنه جمع بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه في خلافة المسلمين ، وحين رأى ان حفظ
____________
(1) راجع الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 11 وما فوق وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
(2) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 1 ص 62 .
(3) راجع شرح النهج ج 3 ص 67 .
(4) راجع شرح النهج ج 2 ص 103 وص 37 ج 1 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 135 .

( 308 )

الاسلام ورد عادية موقوف في تلك الايام على الموادعة والمسألة ، شق بنفسه طريق الموادعة ، وآثر مسالمة القائمين في الامر احتفاظا بالامة ، واحتياطا على الملة ، وضناً بالدين ، وايثارا للعاجلة على الآجلة ، وقياما بالواجب شرعا وعقلا من تقديم الاهم في قيام التعارض على المهم (1) .

سر كراهية قريش لولاية علي

مكمن السر في التربية السياسية القريشية القائمة على اقتسام البطون القريشية لمناصب الشرف في الجاهلية بحيث يختص كل بطن بنصيب ما من هذه الشركة التي لا غنى عن وجودها ، فجاءت النبوة الهاشمية فنسفت صيغة قريش السياسية ، واختص الهاشميون بالنبوة بحكم القدر الذي لا مفر منه ولا محيد عنه ، رغم كفاح بطون قريش المرير لابطال هذه النبوة ، فحاز الهاشميون شرف النبوة وحدهم ولم يشاركهم بهذا الشرف احد ، وحال حياة النبي نصب عليا بن ابي طالب ليكون الولي والخليفة من بعده بأمر من ربه ، لان عليا هو الاعلم والافهم والافضل والانسب والاقدر على قيادة سفينة الاسلام .

الخوف من وقوع المحظور

فاذا تمت مبايعة علي كخليفة من بعد النبي ، فمعنى ذلك ان الهاشميين قد جمعوا الخلافة مع النبوة وذهبوا بالشرف كله ، ولم يتركوا لبطون قريش شيئا من هذا الشرف ، وهذا امر لا يمكن قبوله بكل الموازين ، ولا يمكن التسليم له بأي ثمن ، فقد دخلت قريش بالاسلام ، والاسلام ساوى بينها ، والاسلام يجب ما قبله ، فما الداعي لاستمرار الهاشميين بالسبق والتمييز والانفراد ؟

القسمة العادلة

لقد اخذ الهاشميون النبوة واختصوا بها وحدهم ولم يشاركهم بها احد من بطون قريش ، ولن يشاركهم بها احد مستقبلا ، وهذا شرف ما بعده شرف . والهاشميون والبطون اخوة .
____________
(1) المراجعات للامام شرف الدين العاملي ص 332 ـ 334 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 33 وما فوق .
( 309 )

فما هو الغلط اذا اختصت بطون قريش بالخلافة وحدها ولم يشاركها احد من بني هاشم بهذا الشرف ؟ ان هذه القسمة هي الحل وهي اقرب الحلول للعدل . للهاشميين النبوة وحدهم ، ولا يشاركهم بها احد من البطون ، والخلافة لبطون قريش تتداولها بينها ولا يشاركهم بها اي هاشمي .

بطون قريش تتصرف كفريق واحد

ومن هنا فان كافة بطون قريش تصرفت طوال التاريخ كفريق واحد لا فرق بين بطن وبطن طالما ان للجميع هدف واحد وهو منع الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة .
ففي سقيفة بني ساعدة قال ابو بكر مخاطبا الحاضرين من الانصار ( اني ناصح لكم في احد هذين الرجلين ابي عبيدة بن الجراح او عمر ، فبايعوا من شئتم منهما ) فقال عمر ( معاذ الله ان يكون ذلك ، وانت بين اظهرنا ) (1) ومن الطبيعي ان لابي عبيدة نفس الموقف ، فلا فرق بين الثلاثة ، فكلهم اخوة وكلهم من فريق ، ولكن عندما قالت الانصار ( لا نبايع الا عليا ) رفض الثلاثة هذا العرض مجتمعين (2) .
وعندما هم ابو بكر بالتنازل عن الخلافة تصدت له قريش وابت عليه ذلك ، فقريش مجمعة على ذلك . انظر الى قول الولي ( فجزت قريش عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن امي ) (3) وقال مرة ( اللهم اني استعينك على قريش ومن اعانهم فانهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي امراً لي ) (4) ثم انه عندما اراد ابو بكر ان يستخلف من بعده كتب له الوصية عثمان ، فقال ابو بكر ( اكتب ) ثم اغمى عليه فكتب عثمان ( اني استخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً ) وعندما افاق الخليفة من اغماءته قال له اقرأ ... فقال ابو بكر ( لو كتبت نفسك لكنت اهلا لها ) (5) فلا فرق على الاطلاق بين عمر وعثمان فكلاهما اخوة ومن نفس الفريق ،
____________
(1) الامامة والسياسة ص 9 .
(2) تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وشرح النهج ج 2 ص 265 .
(3) ج 3 ص 67 من شرح النهج .
(4) راجع شرح النهج ج 2 ص 103 وج 1 ص 37 من الشرح .
(5) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 429 وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37 وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85 .

( 310 )

وقبيل وفاة عمر قال ( لو ادركت ابا عبيدة بن الجراح باقيا استخلفته ووليته ، ولو ادركت معاذ بن جبل استخلفته ، ولو ادركت خالد بن الوليد ... ولو ادركت سالما مولى ابي حذيفة ... ) انه لا فرق بين ابي عبيدة وخالد فكلاهما من نفس الفريق ، ولا يوجد اي خطأ بتولية معاذ بن جبل وهو من الانصار ، وما كان جائزا ان يتولى انصاري الخلافة لانها محصورة بمن كانت النبوة فيهم حسب رأي الفاروق آنذاك ، وما هو الخطأ بأن يتولى الخلافة رجل من الموالي كسالم موالى ابي حذيفة ، المهم ان لا يتولاها علي بالذات او اي هاشمي . ويوم تشاور الخمسة لان طلحة كان غائبا ، لو لم يكن علي بالصورة لما تعقدت الامور ولبايعوا عثمان فوراً ، فهو اول من بايع الصديق بعد عمر وابي عبيدة من المهاجرين ، وهو الذي كتب ( اني استخلف عليكم عمر ) وهو المرشح الوحيد لخلافة عمر ، فقد كان يعرف بالرديف في زمن عمر ، ومن يدقق بوصية عمر يكشف بأقل جهد بأن عثمان هو الفائز بكل الحالات .
وعند عودة طلحة اعلن عثمان عن استعداده للتنازل لطلحة ان رغب بذلك ، ولم لا فكلهم اخوة ، وكلهم فريق ، وغايتهم واحدة ، وهي عدم تمكين الهاشميين من ان يجمعوا الخلافة مع النبوة . بل ولا ما نع من ان يتولي الخلافة عبد الله بن عمر بعد ابيه ، بل اشاروا على الفاروق بذلك فقالوا له ( يا امير المؤمنين استخلفه ان فيه للخلافة موضعا ) فكل قريش فريق بينها على الاطلاق .

* *


( 311 )

الفصل الحادي عشر
تجريد الهاشميين من كافة الحقوق السياسية

لم تكتف بطون قريش بالحيلولة بين علي ورئاسة الدولة الاسلامية ، بل حرمت على اي هاشمي ممارسة اي وظيفة عامة ، فأبو بكر لم يستعمل اي هاشمي ، عمر كذلك ، وعثمان كذلك (1) .
قال عبد الرحمن بن عوف ( ابايعك على شرط ان لا تجعل احدا من بني هاشم على رقاب الناس ) اي عدم تولية هاشمي ، فقال علي عند ذلك ( ما لك ولهذا اذا قطعتها في عنقي فان علي الاجتهاد لامة محمد حيث علمت القوة والامانة استعنت بها كان في بني هاشم او غيرهم ) قال عبدالرحمن ( لا والله حتى تعطيني هذا الشرط ) قال علي ( والله لا اعطيكه ابدا ) (2) ومعنى ذلك انه لا يجوز للخليفة ان يستعمل هاشميا حتى ولو كان ذا قوة وذا امانة ، وتلك منتهى الصرامة ، ولا داعي للتذكير بأن عبد الرحمن نفذ بدقة وصية عمر .

ما هي الغاية من عدم استعمال الهاشمي ؟

الفاروق يجيب على ذلك ، فقد هم مرة ان يسعتمل ابن عباس ولكنه تردد واخبر الفاروق ابن عباس بتردد ، ولما سأله ابن عباس لماذا يخشى منه ويتردد في توليته ، فقال
____________
(1) الامامة والسياسة ص 24 .
(2) الامامة والسياسة ص 26 ـ 27 .

( 312 )

الفاروق ( يا ابن عباس اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت ـ يعني يموت ـ وانت على علمك فتقول : هلم الينا ولا هلم اليكم دون غيركم ... ) (1) .
معنى ذلك ان الفاروق يريد ان يطمئن انه حتى بعد موته بأن الخلافة لن تؤول لعلي او لاي هاشمي ، وهذا قمة الوفاء لشعار لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة .

برح الخفاء وباحث الاسرار

قسمت بطون قريش قسمة خارجية ، فخصصت لبني هاشم النبوة لا يشاركهم بها احد من هذه البطون . فالنبوة خالصة لبني هاشم ، اما الخلافة ـ حسب هذه القسمة ـ فهي خالصة لبطون قريش مجتمعة ، تتداولها بينها ، لا يشاركها فيها هاشمي على الاطلاق . واعتقدت هذه البطون ان هذه القسمة عادلة تماما ، لذلك قررت بالاجماع ان لا تمكن الهاشميين من ان يجمعوا الخلافة مع النبوة . ولكنها لا تدري كيف تفعل ، هل تجعل هذه القسمة ملزمة للجميع ؟ ولا تدري كيف تضع قرارها موضع التنفيذ ، لانها اسلمت متأخرة فتأخرت . وبينما كانت البطون حائرة في امرها لا تدري ماذا تفعل ، برز ابن قريش البار عمر بن الخطاب معبرا عن ضميرها ومترجما قسمتها ، ومنفذا لقرارها ومبررا القسمة وشرعية القرار ، فاستحق بحق لقب ابن بطون قريش البار .
فعمر هو الذي حال بين رسول الله وبين كتابة ما يريد بحجة ان المرض قد اشتد برسول الله ، وان كتاب الله وحده يكفي ، ولا حاجة لكتابة الكتاب الذي اراد رسول الله كتابته ، واعوان عمر هم الذين ايدوا رأيه ، وتطرفوا بتأييد هذا الرأي ، حتى بلغ بهم التطرف حدا ان قالوا ( هجر رسول الله ، استفهموا انه يهجر ) وحتى اختلفوا وتنازعوا مع الفريق الذي ايد رسول الله ، وما كان لهذا الفريق ابدا ان يقول ما قال لولا ثقته المطلقة بالفاروق ومعرفته اليقينية بمضون هذا الكتاب . فقد ادرك عمر بثاقب بصيرته ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد ان يجدد عهوده للولي ، فحال بينه وبين كتابة ما يريد ، بحجة ان المرض قد اشتد به ، فرأى انه ليس من الصواب ان يكتب النبي وصيته لان المرض قد اشتد به ، والفاروق نفسه لا يرى غضاضة من ان
____________
(1) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 ص 454 وقد نقلنا حرفيا هذه القصة في باب المرجعية .
( 313 )

يكتب الصديق وصيته عند اشتداد المرض ، ولا حرج على الفاروق نفسه لو كتب وصيته عند اشتداد المرض به ، مع ان المرض قد اشتد به وبالصديق اكثر من اشتد برسول الله . وحادثة الحيلولة بين الرسول وبين كتابة ما اراد ثابتة لم يخلق بعد الذي سينكرها او سيقوى على تبريرها ، وحادثة وصية الصديق اثناء مرضه ، ووصية الفاروق اثناء مرضه ثابتة كطلوع الشمس من المشرق ، وهاتان الوصيتان هم اسس نظام الخلافة التاريخي .

تصريح الفاروق بأسباب المنع

حاور الفاروق يوما ابن عباس فقال له ( كيف خلقت ابن عمك ؟ ) قال ( فظننته يعني عبد الله بن جعفر ) قال : فقلت ( خلفته مع اترابه ) قال عمر ( لم اعن ذلك انما عنيت عظيمكم اهل البيت ) قال : قلت ( خلفته يمتح بالضرب وهو يقرأ القرآن ) قال ( يا عبد الله عليك دماء البدن ان كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شيء من امر الخلافة ؟ ) قلت ( نعم ) قال ( ايزعم ان رسول الله نص عليه ؟ ) قال ابن عباس قلت ( وازيدك : سألت ابي عما يدعي من نص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه بالخلافة فقال : صدق ) قال عمر ( قد كان من رسول الله في امره ذرواً ـ اي المكان المرتفع ـ من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع ـ يمتحن في امره ـ وقتا ما ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعته ) (1) .

رأي الفاروق بشعار : لا ينبغي ان يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة

قال عمر لابن عباس في حديث طويل دار بينهما ( يا ابن عباس ، اتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) قال ابن عباس ( فكرهت ان اجيبه ، فقلت : ان لم اكن ادري فان امير المؤمنين يدري ) فقال عمر ( كرهوا ان يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحاً بجحاً ؟ ، فاختارت قريش لانفسها فاصابت ووفقت ) قال فقلت ( يا امير المؤمنين ان تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت ) قال ( تكلم ) قال ابن عباس فقلت ( اما قولك يا امير المؤمنين
____________
(1) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة مجلد 3 ص 105 وقد نقلها عن تاريخ بغداد .
( 314 )

اختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت ، فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك : انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة فان الله عز وجل وصف قوما بالكراهة فقال ( ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم ) .
فقال عمر ( هيهات يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك اشياء اكره ان اقرك فتزيل منزلتك مني ) فقلت ( يا امير المؤمنين فان كانت حقا فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك ، وان كانت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه ) فقال عمر ( بلغني انك تقول : حرفوها عنا حسدا وبغيا وظلما ) قال ابن عباس فقلت ( اما قولك يا امير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل والعالم ، واما قولك حسدا فان آدم حسد ونحن ولده المحسودون ) .
فقال عمر ( هيهات هيهات ابت والله قلوبكم يا بني هاشم الا حسدا لا يزول ) قال فقلت ( مهلاً يا امير المؤمنين لا تصف بهذا قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) (1) .

فرط الوفاء لهذا الشعار

لم يكتف الفاروق بالعمل على ترجمة شعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة مع الخلافة ) الى واقع وسيادة هذا الشعار في حياته ، انما عمل الفاروق وبكل قواه حتى يسود هذا المبدأ حتى بعد وفاته ، فهو حريص كل الحرص على ان لا تؤول رئاسة الدولة الاسلامية لعلي او لاي هاشمي بعد وفاته ، مثل حرصه على ان لا يتولى اي هاشمي اي عمل من اعمال الدولة الاسلامية ، حتى ولو كان هذا الهاشمي ذا قوة وذا امانة . فشرط عدم تولية الهاشمي حتى ولو كان ذا قوة وذا امانة لم يكن من عبد الرحمن بن عوف انما كان تنفيذا حرفيا لوصية الفاروق ، وهو على فراش الموت ، ونورد ثانية مقاطع من الواقعة التي رواها المسعودي في مروجه :
____________
(1) راجع الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 آخر سيرة عمر من حوادث سنة 23 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد مجلد 3 ص 107 اخرجه الامام احمد بن ابي الطاهر في تاريخ بغداد بسنده المعتبر الى ابن عباس وراجع شرح النهج تحقيق محمد ابو الفضل ج 12 ص 52 وراجع تاريخ الطبري ص 223 وج 2 ص 289 وراجع عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 ص 114 وملحق المراجعات ص 262 .
( 315 )

عندما مات عامل حمص ، ارسل عمر الى ابن عباس وهم بتوليته ثم عدل ، والسبب كما يذكره الفاروق :
( يا ابن عباس اني خشيت ان يأتي علي الذي هو آت ـ يعني موت عمر ـ وانت في عملك فتقول : هلم الينا ولا هلم اليكم دون غيركم ) (1) .
فالفاروق يريد ان يموت وهو مطمئن البال بأنه أياً من الولاة لن يدعو لبني هاشم ، ولن يساعد دعوتهم لترأس الدولة الاسلامية . ومن اجل هذا وضع الشرط عدم جواز تولية الهاشمي حتى ولو كان ذا قوة وذا امانة كما وثقنا ذلك مرارا . وهذا منتهى الوفاء لشعار ( لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة والخلافة ) ولا احد من البطون يمكن ان يصل الى هذه الدرجة من الوفاء لهذا الشعار ، ولم يفرض هذا القيد على اي بطن من بطون المسلمين قط الا على الهاشميين .

هل امر الله بهذا الشعار ؟

هذا الشعار جاهلي من كل الوجوه ، كما اثبتنا مرتين ، فما امر الله به ، ولا امر به رسوله ، ولا تقره عقيدة الاسلام لا من قريب ولا من بعيد ، بل وهو يتعارض تعارضا كاملا مع النصوص الشرعية القولية والفعلية ، كالنصوص المتعلقة بتنصيب علي بن ابي طالب وليا من بعد النبي صل الله عليه وآله وسلم ، والتي عرضناها ووثقناها ، ويتعارض مع النصوص الواردة بضرورة التمسك بالعترة اهل البيت واعتبارهم احد الثقلين ، وسفينة النجاة وحزب الله ، وامان الامة من الاختلاف ، وان الشرف والرئاسة لمحمد وآله ، ولتأكيد هذه الحقيقة جعل الله الصلاة على محمد وآله ركناً من اركان الصلاة المفروضة ، وقد وثقنا ذلك اكثر من مرة فارجع اليه .

اذا لماذا يتمسك الفاروق بهذا الشعار ويخلص له ؟

لان الفاروق ـ حسب اجتهاده ـ يرى ان هذه القسمة ( النبوة للهاشميين والخلافة للبطون قسمة عادلة ) وان قريشا عندما قسمت هذه القسمة قد اهتدت ووفقت تماما ـ كما وثقنا ذلك ـ ثم من باب سد الذرائع ، فلو جمع الهاشميون النبوة مع الخلافة فان
____________
(1) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 ـ 354 .
( 316 )

ذلك اجحاف ويؤدي لاجحاف بني هاشم على بطون قريش ، والاجحاف ليس من الاسلام . اما علي بالذات فهو صغير السن بالنسبة لغيره ، وهو غير مؤهل ليكون وليا على المسلمين من بعد النبي ، ولكل ما اشرنا من اسباب ، وللحرص على الاسلام تبنى الفاروق هذا الشعار ، واخلص له بالرغم من ادراكه بأنه يتعارض مع ظاهر النصوص ، لان الفاروق لا يتعامل مع الظواهر انما يتعامل مع البواطن ومآلات الامور .

ما هو موقف الفاروق كحاكم وكنائب للحاكم من الولي
ومن العترة الطاهرة ؟

الفاروق حريص على مستقبل الاسلام والمسلمين ، حتى عندما كان وزيرا ، فعندما اراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يكتب وصيته ، ورأى الفاروق ان هذه الوصية قد تشكل خطرا على مستقبل الاسلام والمسلمين تصدى للنبي الكريم نفسه ، وعارض كتابة الوصية واستقطب حوله مجموعة كبيرة من المعارضين ، فتمادوا بمعارضتهم للنبي حتى قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواجهة ( رسول الله هجر ، استفهموه انه يهجر !!! )
والفاروق هو نفسه الذي رتب امر اختيار الخليفة وتابع الاحداث دقيقة بدقيقة حتى نصب الخليفة الجديد في غياب كل قريش وغياب العترة الطاهرة وغياب عميدها ، وذلك حرصا على مصلحة المسلمين ووحدتهم . وحتى لا يجمع الهاشميون النبوة مع الخلافة فيجحفوا على قومهم ، والفاروق بطبيعته يكره الاجحاف والظلم .
والفاروق لا يتساهل في ما يمس امن الدولة ووحدة الامة ، فأمن الدولة ووحدة الامة فوق كل اعتبار ، فاذا اعتقد ان الاخلال بأمن الدولة او تعريض وحدة الامة للخطر يصدر عن بيت فاطمة بنت محمد نفسها ، فلا مانع يمنع من حرق بيت فاطمة على من فيه ، لان القانون يسري على الجميع بما فيهم فاطمة ، وقد هم الفاروق حقيقة بحرق بيت فاطمة بعد ان جاء بالحطب ، ولكن المعارضة خرجت وعدل عن حرق بيت فاطمة . وبالرغم من ذلك فان الفاروق هو الذي اقترح على الصديق ان يذهب بعد الحادثة ويعتذر للزهراء .


( 317 )

والفاروق لا يتهاون بمن يتخلف عن البيعة كائنا من كان ، حتى ولو كان الولي من بعد النبي نفسه ، فعندما رفض علي مبايعة ابا بكر ، هدده الفاروق بالقتل ان لم يبايع ، ومع هذا يقول لمن استصغر شأن الولي ( هذا مولاي ومولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة ) وكان يرجع اليه يستشيره في كثير من الامور ، وكثيرا ما قال ( اللهم اني اعوذ بك من معضلة ليس فيها ابو حسن ) وقد وثقنا كل ذلك في هذه الدراسة وفي كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
والفاروق نفسه هو واضع شرط عدم جواز تولية الهاشمي وتسليطه على رقاب الناس ، حتى لو كان هذا الهاشمي ذا قوة وذا امانة ، وذلك من باب سد الذرائع ـ حسب رأيه ـ حتى لا يجمع الهاشميون النبوة والخلافة معا فيؤدي ذلك لاجحافهم على بطون قريش .
وبالرغم من ذلك كان يبدأ بآل محمد عند توزيع العطايا ويقدمهم على نفسه وعلى آل ابي بكر كما يروي البلاذري في فتوح البلدان .
وباختصار ، فان للفاروق اسلوبه ومنهجه الخاص بفهم الدين ، ولا يجد حرجا ولا غضاضة بالجهر بهذا الاسلوب وهذا المنهج حتى بمواجهة النبي نفسه ، وحادثة الرزية ـ كما يسميها ابن عباس ـ خير مثال على ذلك .
وقد يبلغ به الامر حدا ان يواجه بأسلوبه ومنهجه النص القرآني نفسه وعلى سبيل المثال قوله تعالى ( انما الصدقات للفقراء والمساكين والعالمين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله ) فالنص القرآني يحدد الجهات المستفيدة من الصدقات وعلى سبيل الحصر ، ويعتبر هذا التحديد فريضة الهية مثل اي فريضة .
ثم لاح للفاروق ان سهم المؤلفة قلوبهم لا ضرورة له ، وهم لا يستحقونه ، واعطاء هذا السهم للمؤلفة قلوبهم بعثرة لمال الله ، فا لله نصر الاسلام واعز دينه ، ولاحاجة لتأليف القلوب بالمال ، وبجرة قلم اسقط سهم المؤلفة قلوبهم ، ومنع عنهم الحق الذي رتبه الله لهم ، ولم يمنعه عن ذلك علمه بأن الرسول نفسه قد اعطى المؤلفة قلوبهم هذا السهم بالرغم من مجيء نصر الله والفتح . وسهم الخمس مثال ، ومتعة الحج شرعت على عهد النبي وظلت قائمة حتى نهى عنها الفاروق ، وفي زمن النبي وابي بكر الطلقات يجب ان تكون متفرقة ، فجاء عمر وقال ( ان المسلمين يستعجلون الامر وإن


( 318 )

الاوفق ان يكون الطلاق ثلاث مرات ) فجعل صيغة ( أنتِ طالق ثلاثا ) تحل محل الطلاق ثلاث مرات ... الخ .
الفاروق يندفع كالاعصار ، فلا شيء يقف في طريقه ولا شيء يمنعه من ان يقول ما يعتقد انه الحق بمواجهة اي كان ، فقد كانت له الكلمة العليا في زمن الصديق ، لان الصديق مدين له باستخلافه ، ولو شاء عمر لكان هو الخليفة الاول بدلا من الصديق ، وكانت له الكلمة العليا في زمنه هو الخليفة ، وكانت له الكلمة المسموعة في كل بطون قريش ، لانها تعرف انه وحده منع الهاشميين من ان يجمعوا الخلافة والنبوة ولولاه لجمعوهما ، وكانت له الكلمة العليا عند بني امية بالذات ، فهو الذي عين يزيد بن ابي سفيان ومعاوية وثبتهما على ولاية الشام ، وهو الذي اوصى عمليا لعثمان الاموي ، فغزت محبته قلوب قريش ، وامتدت لبقية المجتمع المسلم ، وسرت كالعافية ، ومما ساعد على توطيدها انه لم يتدنس بشهوة كما يقول الامام العاملي .

على مفترق الطرق
الانهيارات

اهتزت الارض من تحت اقدام الذين آمنوا ، ومادت بهم حتى والنبي على فراش الموت ، وحدثت سلسلة هائلة من الانهيارات المتلاحقة والانهيار يتبعه بالضرورة انيهار ، والانيهار التام وارد لا محالة ، اما متى ؟ فا لله وحده هو الذي يعلم ، وقد بدأت سلسلة الانهيارات عندما حالوا بين الرسول وبين كتابة ما يريد ، وبموته وقبل دفنه ، ابرم الذين حالوا بين رسول الله وبين كتابة ما يريد الامر ، وقبضوا على زمام السلطة في غياب قريش كلها وغياب العترة الطاهرة ، وغياب عميدها ، وغياب الاكثرية الساحقة من المسلمين ، وواجهوا الجميع بدولة حقيقية تلبس رداء الشرعية كاملا وبأمر قد احكم تماما .

الحكم والمعارضة

برز القائمون على امر كحكام حقيقين بيدهم الحول والقوة ، وقد استقام لهم الامر وبايعهم الاتباع وسلموا لهم الامارة والمرجعية ، فهم حكم حقيقي وسلطة واقعية .


( 319 )

ووجد الولي من بعد النبي نفسه وحيداً مع القرآن ، والقرآن معه يدور حيث دار (1) وحيداً مع الحق والحق معه يدور حيث دار (2) وقرار التعيين الالهي بأنه الهادي (3) وقرار الحق بالبيان عند الاختلاف بعد وفاة النبي (4) وانه كالنبي حجة على المسلمين يوم القيامة (5) وانه يتمتع بكافة المنازل التي كان يتمتع بها هارون مع موسى باستثناء النبوة (6) وجد الولي نفسه وحيدا مع كل هذا ، ومجردا من كافة سلطاته ، ولا احد يصغي اليه ، انه مجرد مواطن عادي لا معين له الا اهل بيته الطاهرين وبني هاشم الذين انهكتهم مقارعة العرب . تلك هي التقاطيع الاساسية للمعارضة . ليست مرشحة لعمل الكثير ، لكنها مرشحة ومؤيدة من الله تبين لنا الدين على حقيقته .

خياران امام المعارضة

ليس امام المعارضة بديل غير الموادعة او المواجهة ، والمواجهة بمثل الاوضاع التي كانت تحياها الامة انتحار حقيقي ، فبها قد يتعرض الدين نفسه للخطر وقد يتعرض الولي للموت وتتعرض الذرية المباركة للردى ، فقدم الولي الاهم على المهم وشق طريق الموادعة بنفسه . لا يبخل بنصح ولا بيان للدين .
____________
(1) راجع المناقب للخوارزمي ص 110 والمعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 55 والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 56 وتاريخ الخلفاء للسيوطي ج 2 ص 56 ... الخ .
(2) راجع تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 14 ص 321 وترجمة الامام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 3 ص 119 ح 1162 وغاية المرام ص 539 ومنتخب الكنز ج 5 ص 30 من مسند الامام احمد الهامش ... الخ .
(3) على سبيل المثال ترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 417 ومسند الامام احمد ج 5 ص 34 الهامش وتفسير الطبري ج 13 ص 108 وابن كثير ج 2 ص 502 والشوكاني ج 3 ص 70 والرازي ج 5 ص 271 والمستدرك ج 3 ص 129 ـ 130 والدر المنثور للسيوطي ج 4 ص 45 ... الخ .
(4) على سبيل المثال المناقب للخوارزمي ص 236 ، ومنتخب الكنز ج 5 ص 33 من مسند الامام احمد ، وترجمة علي من تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 88 ح 1008 و 1009 .
(5) على سبيل المثال ترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ص 273 ح 793 ـ 795 ومسند الامام احمد ج 5 ص 94 ومناقب علي لابن المغازلي والميزان للذهبي ج 4 ص 128 .
(6) وثقنا ذلك اكثر من مرة فحتى معاوية روى حديث ( انت مني بمنزلة هارون من موسى ) .

( 320 )

خياران امام الامة

والله لكأن الامة كانت في حلم استفاقت مذعورة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتجد امامها :
1 ـ سلطة قائمة وحكماً حقيقياً يقوده ويرشده شيوخ كانوا من ابرز وزراء النبي ويعلنون انهم على حق .
2 ـ معارضة محدودة ومحجمة يقودها ويرشدها الولي من بعد النبي ولا يقف معه الا عترة النبي واهل بيته وبنو هاشم التي واقفت العرب 23 عاماً كاملة ، ويعلنون ان الحق معهم .

انقسام الناس

ففريق : آثر السلامة ، وادرك عدم جدوى المعارضة ، فوادع السلطة ( اهل السنة ) ووالاها لانها ولية النعمة ، وبيدها الحول والقوة ورمز وحدة الامة ، وعندما انتصر معاوية على علي وهزمت الشرعية امام القوة سمي هذا العام بعام الجماعة ، وسمي الذين والوا معاوية ومن غلب بأهل السنة . وهذا الفريق شيع واحزاب ، يتفاوتون بولائهم للسلطة وتبريرهم لافعالها ، ويتفاوتون بدرجة تعاطفهم مع المعارضة ، وتفهمهم لموقفها وغالبتهم استقرت على ان الجميع صحابة ومن اهل الجنة وكلهم مجتهدون ، والمجتهدون مأجورون اصابوا ام اخطأوا ، وارتاحت هذه الجموع لهذا الحل ، وارتبط مصيرهم بمصير الحكام فدفعوا اللوم عن الحكام لا حباً بالحكام ولكن حتى يسلموا بأنفسهم من اللوم ، لانه اذا ثبت اللوم على الحكام فيثبت على من والاهم بالضرورة . وفي ما يتعلق برئاسة الدولة استقر هذا الفريق على رأي : انهم مع من غلب ، فهم يوالون الغالب ، كائنا من كان ، وحجتهم في ذلك مقولة الصحابي عبد الله بن عمر الذي قال يوم الحرة ( نحن مع من غلب ) فصارت مقولته تلك قاعدة شرعية .
الفريق الثاني : الشيعة هم الذين والوا الولي من بعد النبي ، وآمنوا ان الحق معه يدور حيث دار ، وان الولي مع القرآن والقرآن معه ، فوالوه ووالوا عترة النبي واهل بيته ، وصدقوا قول النبي ان القرآن هو الثقل الاكبر ، وان عترة النبي واهل بيته هم الثقل


( 321 )

الاصغر ، والهدى لا يدرك الا بالثقلين معاً : القرآن والعترة الطاهرة ، فعميد اهل بيت النبوة في كل زمان هو امامهم الشرعي وهو وليهم ، يوالون من يوالي ويعادون من يعادي ، وقد بلغ هؤلاء العمداء اثني عشر عميدا ، وقد التزمت الشيعة بالشرعية الكاملة لا تحيد عنها ولا تخرج من دائرتها ابدا مهما كانت التكاليف ، ومهما غلت التضحيات . والهدف الاعظم للشيعة هو توحيد الامة الاسلامية تحت راية امام اهل بيت النبوة الذي سيتولى بيان احكام العقيدة الالهية وتطبيقها وحمل رسالة الاسلام النقية الى العالم لانتشاله من الظلمات الى النور . والطريق التي اختارتها الشيعة طوال التاريخ هي طريق الآلام والمصائب وهي الضريبة التي يتوجب ان تدفعها الشيعة حتى تنال رضوان الله من خلال المرتبة السنية التي خلعها النبي عليهم . عندما نزول قوله تعالى ( ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يا علي هم انت وشيعتك ) (1) ولان الشيعة حزب معارضة ، فهي تشكك بشرعية السلطة القائمة في كل زمان ان لم يكن امامها ورئيسها من اهل بيت النبوة . فلذلك حدثت حالة من سوء الظن بين الشيعة والسلطة ، وتعمقت هذه الحالة حتى تحولت الى خصومة ، فعداوة تمخضت عن الحق المتبادل بين السلطة ـ اي السلطة ـ والشيعة طوال التاريخ .
فحاولت الشيعة كأفراد وجماعة ان تثبت ان السلطة قوة غاشمة وغالبة اغتصبت الامر من اهله ، وفرضت نفسها على الامة بحكم القوة والغلبة ، وانها حرمت المسلمين والانسانية من الاستفادة من الحكم الالهي بسبب حبها للجاه والسيطرة وايثارها للعاجلة على الآجلة . ووسائل الشيعة باثبات وجهة نظرها هذه فردية وسرية ، لان السلطة صادرت حرية الشيعة طوال التاريخ ، ولاحقتهم وطاردتهم وضيقت عليهم الخناق .
____________
(1) سورة البينة آية 7 ، وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص 96 وراجع الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 379 ، وراجع تفسير الطبراني ج 3 ص 146 وفتح القدير للشوكاني ج 5 ص 477 ، وروح المعاني للآلوسي ج 30 ص 207 ، وغاية المراجع باب 28 من العقد الثاني ص 238 وفرائد السمطين ج 1 ص 156 ، والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 62 و 187 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 107 ... الخ وراجع ملحق المراجعات ص 62 .
( 322 )

وبالمقابل فان السلطة القابضة بأيديها على زمام كل شيء في المجتمع ، صادرت حرية الشيعة بطرح وجهة نظرها ، واتهمت الشيعة بأنها خارجة على الجماعة ، وشاقة لعصا الطاعة ، واحيانا اتهمتها بالمروق والرفض والزندقة والكفر ... الخ . وكان وجهة نظر السلطة بالشيعة متاحة للجميع ، وتنقلها كافة وسائل اعلام السلطة بحرية ، ويروج لها العلماء المتعاونون مع السلطة فصورت السلطة الشيعة بأبشع الصور ، وعمقت الهوة بين الشيعة والامة ، وماتت اجيال وجاءت اجيال ، فتصورت الاجيال اللاحقة ان التهم التي الصقتها السلطة بالشيعة صحيحة ، فأخذت تردد نفس التهم وتعزف على ذات الوتر بحكم التقليد ، والشيعة محتسبة صابرة ومثابرة ، وواثقة ان اليوم الذي تتكشف فيه الحقائق ليس ببعيد .

* *