سلسة المعارف الاسلامية
20




السُّجُودُ


مفهومه وآدابه والتربة الحسينية



مَرّكَزُ الرِسَالَةِ



( 5 )

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث للعالمين، نبينا محمد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين، ومن أخلص من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. وبعد:
إنّ أساليب علاقة الاِنسان بخالقه تعالى تتسع باتساع الحياة وطرق التعامل معها في شؤونها المختلفة، وليست هي موقوفة على اسلوب واحد أو نمط واحد، قال تعالى: ( يا أيُّها الاِنسان إنّك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه )، فللاِنسان في مسيرة حياته بطولها خطوط وصل بينه وبين الله تعالى لا يحول دونها شيء إلاّ إرادة الاِنسان نفسه في تقطيعها أو تهميشها، ذلك الذي سيجر إلى نفسه الشقاء بمحض إرادته.. فما زال الاِنسان يشق طريق حياته من خلال معرفته بالله تعالى وتحري سبل رضاه متمثلاً قوله تعالى: ( وما لاَحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربه الاَعلى ) فهو على سبيل النجاة.. إذ هو ماضٍ مع كلمة الله تعالى في خلقه: ( وما خلقت الجن والاِنس إلاّ ليعبدون ). وتلك هي العبادة في مفهومها الواسع الذي لاتخرج عن إطاره صغيرة ولا كبيرة في طريق الكدح الاِنساني الطويل. وهكذا تكون حياة الاِنسان عامرة بالعبادة فهو على صلة بالله تعالى لا تنقطع.
غير أنّ الاِنسان أحوج ما يكون إلى أنماطٍ من الصلة بالله تعالى تكون فيها الروح هي الحاضرة بالدرجة الاُولى، بعيداً عن معترك الحياة وشؤونها. فالروح تسمو في أجوائها الخاصة بها، وتتألق حيث تتراجع مصالح الجسد العاجلة ومشتهياته.
من هنا كانت العبادات الخاصة التي أوجبتها الشريعة السمحة بمثابة الفرص النموذجية لتألق الروح وتساميها وتكاملها، لاستجماع البصيرة وشحذها بمزيد من الطاقة اللازمة لدفعات الحياة اللاحقة.. ناهيك عما تتفرد


( 6 )

به هذه العبادات الخاصة من أسباب القرب إلى الله تعالى ونيل رضاه، فالحج والصيام هجرتان إلى الله تعالى في لونين مختلفين، تعيش الروح مع كلِّ منهما نمطاً من أنماط التكامل والسمو، وفي الزكاة والصدقات حركة جهادية تنفلت فيها الروح من أسر الاَنا ومن أسر المادة لتذوق حلاوة الاحساس بالمسؤولية إزاء عباد الله الذين كرّمهم الله تعالى وعظّم حرماتهم.. وفي الصلاة انقطاعة لا نظير لها إلى الله تعالى.. وقوف وامتثال وخضوع في أشكال شتى وأذكار متعددة تنتقل خلالها الروح من روض إلى روض، ومن فناء إلى فناء، ومن موعظة إلى اُخرى.. تستقبل في ذلك كلّه أجمل التعاليم في سياق منتظم، إنّها مدرسة الروح ومنتجع القيم..
وفي أثناء هذه الرياضة الروحية المثلى يستشعر الاِنسان قربه الحقيقي من بارئه حين يضع جبهته على التراب، ساجداً خاضعاً مسبّحاً بحمد ربّه الاَعلى الذي سبّح له كلّ شيء.
إنّ المتمثل لحالات السجود يدرك جيداً أنَّ السجود وحده مدرسة.. ولاشكّ فإنّ لكلِّ مدرسة نظامها وحدودها وآدابها.. ومن ناحية اُخرى فلقد ارتبطت بمدرسة السجود معالم اُخرى واقترنت بها لاَسباب جديرة بتحقق ذلك الاقتران، فدخلت في موسوعة السجود مفردات مثل «التربة الحسينية» فما هو موقع هذه المفردة من هذه الموسوعة، وكيف نفهم مفردات اُخرى تعترضنا هنا من قبيل «سجود الملائكة لآدم»، و «سجود يعقوب وبنيه ليوسف» ونحو هذا؟
في مدرسة السجود هذه وبين صفحات موسوعتها سينتقل بنا هذا الكتاب مجيباً عن شتى الاَسئلة ممّا له بالبحث صلة.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة



( 7 )

المقدِّمة

لقد كرم الله تعالى الاِنسان وفضّله على كثير ممن خلق بما أعطاه من العقل ليميّز به الاَشياء، ويختار ما يراه مناسباً ومتوافقاً مع ما أراده الله تعالى له من الوصول إلى الكمال من خلال العبودية لله وحده، قال تعالى: ( وما خلقت الجن والاِنس إلاّ ليعبدون ).
لقد شرّف الله تعالى هذا الاِنسان على بقية مخلوقاته بالعبادة، وجعل الصلاة من أفضل العبادات، فهي صلة العبد بربه، ومعراج المؤمن، وقربان كلّ تقي، والحدّ الفاصل بين المسلم والكافر، والميزان في قبول الاَعمال، وفي الاَثر عن النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: « إنّ أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإذا قبلت قبل سائر عمله، وإذا رُدّت عليه، رُدّ عليه سائر عمله ».
والصلاة هي العبادة التي يمتثل بها العبد أمام خالقه واهب الحياة، وهي التي تطهّر روحه، وتصدّه عن الفحشاء والمنكر، وتهديه إلى سواء السبيل، قال تعالى: ( إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ).
وأفضل أجزاء الصلاة وأهمها هو السجود لله سبحانه وتعالى ؛ لاَنّه يمثّل منتهى مظاهر العبودية والتذلّل والتعظيم لله جلَّ وعلا، وهو أعظم العبادات، وما عُبد الله بمثله، وما من عمل أشقّ على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً لله تعالى ؛ لاَنّه قد أُمر به فعصى وغوى فهلك، وابن آدم قد أُمر به فأطاع وسجد فنجا.


( 8 )

والسجود ـ في نظر الاِسلام ـ هو غاية الخضوع والتواضع البشري أمام الله عزَّ وجلَّ ـ خالق الكون وربّ العالمين ـ وذروة التحليق والسمو الاِنساني في مسيرة العبودية لله وحده، لذا يحرم السجود لغير الله سبحانه وتعالى بأيّ شكلٍ كان، وليس السجود مقتصراً على الانسان وحده، قال تعالى: ( ولله يسجد من في السموات والاَرض ).
إنَّ المسلمين متّفقون بأجمعهم على ضرورة السجود لله سبحانه وتعالى، ومتّفقون على وجوب سجدتين في كلِّ ركعة من كلِّ صلاة، ويعتبرون ذلك من ضروريات الاِسلام ؛ لاَنَّ السجود من الواجبات الركنية في الصلاة فلا يجوز تركها بأيّ حالٍ من الاَحوال، وإنّما يختلفون فيما يصح السجود عليه، ولهم في هذه المسألة آراء متعددة.
ونحن سنتناول هذه الآراء وغيرها ممّا يتعلق بمفهوم السجود، ونحاول دراستها تفصيلاً، وفقاً لمنهج البحث العلمي الموضوعي، مستهدين بآيات القرآن الكريم وبما ثبت من السُنّة النبوية الشريفة وسيرة أهل البيت عليهم السلام، وذلك ضمن أربعة فصول:
الأَول: في بيان مفهوم السجود وآثاره العبادية.
والثاني: في أنواع السجود.
والثالث: في بيان حرمة السجود لغير الله.
والرابع: في بيان ما يصح السجود عليه وما لا يصح، وتوضيح الاَسباب الموجبة للسجود على التربة الحسينية.
آملين منه تعالى التوفيق في الوصول إلى كلمة الفصل، وبه نستعين.


( 9 )

الفصل الاَول

مفهوم السجود وآثاره العبادية


المبحث الاَول

معنى السجود وموقعه العبادي

أولاً : تعريف السجود:
1 ـ السجود في اللغة:
الطاعة والخضوع، يقال: سَجَدَ، سُجُوداً، أي: خضع وتطامن (1)، ومنه قوله تعالى: ( ألم ترَ أنّ الله يسجد له من في السموات والاَرض... ) (2) فهذا لسان حال تلك المخلوقات في الطاعة والخضوع، وكل شيء ذلّ
____________
(1) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد )، مكتب نشر الثقافة الإسلامية 1412 هـ ط4.
والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير|الفيومي 1: 266 ( سجد )، منشورات دار الهجرة ـ قم 1414 هـ ط2.
(2) سورة الحج: 22|18.

( 10 )

فقد سجد (1)، وهو ساجد. والجمع: سُجّد، وسُجودٌ (2).
والسَجّادُ: الكثير السجود (3)، ورجل سجّاد: على وجهه سَجّادة، أي: ثفنة من أثر السجود (4).
وقد اشتهر به الاِمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام لكثرة سجوده لله تعالى ولهذا لُقب عليه السلام بالسجاد، وذي الثفنات.
والمسجَدُ: جبهة الرجل حيث يصيبه أثر السجود (5)، والجمع مَسَاجِدُ، والمساجِدُ من بدن الانسان: الاَعضاء السبعة التي يسجد عليها، وهي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان (6).
والمَسجِدُ: بيت الصلاة (7)، ومكانها المخصص.
والمَسجِدُ الحرام: الكعبة، والمسجِدُ الاَقصى: مسجد بيت المقدس، قال تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجِد الحرام إلى المسجِد
____________
(1) المصباح المنير 1: 266 ( سجد ).
(2) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ).
(3) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ).
(4) أساس البلاغة|الزمخشري: 285 ( سجد )، دار الفكر ـ بيروت 1409 هـ 1989م.
(5) المختار من صحاح اللغة: 229 ( سجد )، انتشارات ناصر خسرو ـ طهران 1363 هـ ش. وأساس البلاغة: 285 ( سجد ).
(6) المعجم الوسيط 1: 416 ( سجد ). (7) المصباح المنير|الفيومي 1: 266 ( سجد ).

( 11 )

الاَقصى الذي باركنا حوله ) (1). والجمع: مساجِد.
2 ـ السجود في الاصطلاح:
هو الانحناء ووضع أعضاء السجود (2)على الاَرض، بحيث يساوي موضع جبهته موقفه، أو يزيد بقدر لبنة لا غير (3).
وحقيقته: وضع الجبهة وباطن الكفين والركبتين وطرفي الابهامين من القدمين على الاَرض (4)، بقصد التعظيم (5).
وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام تسمية مثل هذا السجود بالسجود الجسماني، وهو أقلّ رتبةً من السجود الآخر المسمى بالنفساني، قال عليه السلام : « السجود الجسماني: هو وضع عتائق الوجوه على التراب، واستقبال الاَرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النية.
____________
(1) سورة الاسراء 17|1.
(2) أعضاء السجود سبعة، وهي: الجبهة، والكفان، والركبتان، وابهاما الرجلان.
تذكرة الفقهاء|العلامة الحلي 3: 185، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم 1414 هـ ط1، وإليه ذهب أحمد بن حنبل واختاره الشافعي في أحد قوليه، كما في المغني لابن قدامة الحنبلي 1: 591. والاُم للشافعي 1: 114.
(3) جامع المقاصد في شرح القواعد|المحقق الكركي 2: 298، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم 1414 هـ ط2.
(4) المقنعة|الشيخ المفيد: 105.
(5) مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام|السيد السبزواري 6: 416، مؤسسة المنار ـ 1412هـ ط4.

( 12 )

والسجود النفساني: فراغ القلب من الفانيات، والاقبال بكنه الهمّة على الباقيات، وخلع الكبر والحمية، وقطع العلائق الدنيوية، والتحلّي بالاخلاق النبوية » (1).
3 ـ السجود في القرآن الكريم:
هذا وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى ضربين من السجود وهما:
1 ـ سجود اختيار: وهو خاص بالانسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى: ( فاسجدوا لله واعبدوا ) (2)أي تذللوا له، وهو المراد بالتعريف الاصطلاحي المتقدم (3).
2 ـ سجود تسخير: وهو للاِنسان والحيوان والنبات والجماد وعلى ذلك قوله تعالى: ( ولله يسجد من في السموات والاَرض طوعاً وكرهاً)(4) وقوله تعالى: ( والنجم والشجر يسجدان ) (5).
ولم يُرد الباري عزَّ وجل أنّ المذكور في هذه الآية الشريفة يسجد سجود البشر في صلاته، وإنّما أراد تعالى أنّ تلك الاَشياء غير ممتنعة من
____________
(1) غرر الحكم ودرر الكلم|عبد الواحد الآمدي 1: 122|2234 و 2235، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت 1407هـ، 1987م ط1. ومستدرك وسائل الشيعة / الميرزا حسين النوري 4: 486|5232 باب 23 من أبواب السجود، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ 1407هـ ط1.
(2) سورة النجم: 53|62.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن|الراغب الاصفهاني: 229 مادة ( سجد ).
(4) سورة الرعد: 13|15.
(5) سورة الرحمن: 55|6.

( 13 )

فعله تعالى فهي كالمطيع له سبحانه، وهذا ما عبّر عنه بالساجد (1).
وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤيد كلا النوعين بآيات كثيرة، ومن الآيات ما اشتمل على كلا النوعين من السجود (التسخير والاختيار)، كقوله تعالى: ( ولله يسجد ما في السموات وما في الاَرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ) (2).
ثانياً: العبادة في السجود:
لا شكّ أنّ السجود في ذاته عبادة إذ إنّه يمثل غاية الخضوع، بل هو أبلغ صور التذلل لله سبحانه وتعالى ؛ لاَنّه يربط بين الصورة الحسية والدلالة المعنوية للعبادة في ذلة العبد، وعظمة الرب، وافتقار العبد لخالقه. ولا يكون الانسان عبداً لله تعالى إلاّ بهذا التذلل وبهذه العبودية. ومن هنا يظهر سرّ اختصاص السجود بالقرب من الله تعالى (3)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد » (4).
____________
(1) المسائل السروية|الشيخ المفيد: 49، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد رقم 46 ـ 1413هـ ط1.
(2) سورة النحل: 16|49.
(3) فقه السجود|علي بن عمر بادحدح: 20 ـ 21 بتصرف، دار الاندلس ـ جدة 1415هـ.
(4) جامع أحاديث الشيعة 5: 463|8039 ـ 8311. وصحيح مسلم بشرح النووي|4: 267|482 باب 42 ما يقال في الركوع والسجود، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1415هـ ط1. وسنن ابي داود 1: 231|875 باب الدعاء في الركوع والسجود، دار الفكر ـ بيروت. وفيض

=


( 14 )

ثالثاً: موقع وأهمية السجود بين أجزاء الصلاة:
إنّ من المناسب أن نقف قليلاً موقف المقارنة بين أجزاء الصلاة، لنرى موقع السجود بينها وما يمتاز به من خصائص، وذلك على النحو الآتي:
1 ـ القيام في الصلاة:
ويراد به المثول بين يدي مالك الملك، إعلاناً للطاعة والولاء وامتثال الاَمر، ولا يخفى أنّ الاستعداد والمثول قياماً بين يدي الملك هو من دلائل الطاعة وعلاماتها. ومن هنا يقتضي أن تكون هيئة المثول وحقيقته متناسبة مع عظمة الملك الذي نقف بين يديه.
فكمال القيام بين يدي الله تعالى أن يكون على طمأنينة وسكون وهيبة وحياء، فلا يجعل رأسه مرفوعاً وكأنه يقف أمام ضده ونظيره، ولا يبالغ في طأطأته فيخرج بالحياء عن صورته، بل يجعل نظره إلى محلّ سجوده، مقيماً صلبه ونحره، مرسلاً يديه على فخذيه بوقار، فلا يعبث بهما، ولو استحضر العبد أثناء قيامه قول الله تعالى: ( الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين ) (1)لما فارق هذه الهيئة.
ويزيد في جلال القيام وهيبته ما وجب فيه من تلاوة بعض سور القرآن الكريم، وبهذا يكون القيام مشهداً من مشاهد الطاعة والولاء والاجلال
____________
=
القدير شرح الجامع الصغير|المناوي 2: 87|1348، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1415 هـ 1994، ط1.
(1) سورة الشعراء: 26|218 ـ 219.

( 15 )

والتعظيم.
فهذا الاِمام السجاد عليه السلام وهو يستحضر هذا المشهد فيلفت انتباه الناس من حوله تغيّر لونه حال وضوئه وكان إذا قام إلى الصلاة اخذته رعدة فقيل له: مالك؟ فقال عليه السلام: « أتدرون بين يدي من أقوم ومن أُناجي؟ » (1)إنّه الحضور بين يدي مالك الملك.
2 ـ الركوع في الصلاة:
وهو صورة أُخرى من صور الامتثال والخضوع، ولا شك أنه يحمل من معاني الخضوع فوق ما يحمله القيام، ولكلٍّ معناه وأبعاده ومغزاه.
ومع صورة التعظيم الظاهرة في انحناءة الركوع، يأتي الذكر الذي يصحبها متوّجاً معنى التعظيم ومركّزاً مغزاه في قلب الراكع: «سبحان ربي العظيم وبحمده».
هذه المرتبة من التعظيم أفردها الاِسلام لله تعالى وحده، فنهى أن ينحني أحد أمام أحد احتراماً وتعظيماً، ولذلك تميّز الركوع بمرتبة أخص من الامتثال قياماً في الولاء والخضوع والتعظيم، فالقيام يقع كثيراً في يوميات الانسان، كالامتثال قياماً بين يدي الوالدين، أو بين يدي المعلم، أو الرئيس أو الملك، ولكن يحرّم الركوع لهؤلاء ولغيرهم ؛ لاَنّه من
____________
(1) مختصر تاريخ دمشق|ابن منظور 17: 236|134 ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، دار الفكر ـ دمشق 1409 هـ ط1. وسير أعلام النبلاء| الذهبي 4: 392|157 ترجمة علي بن الحسين عليه السلام، مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1412هـ ط 8.
( 16 )

خصائص الخضوع لله تعالى.
ولهذا فقد اختصّ الله تعالى هذه الاُمّة بالسلام، وهي تحية أهل الجنّة، وحرّم عليهم ما كان شائعاً من مظاهر التحية كالسجود والانحناء والتكفير وغيرها من المظاهر التي لا تجوز إلاّ لله تعالى (1).
ولقد ورد في سرِّ مد العنق في الركوع عن أمير المؤمنين عليه السلام: « تأويله آمنتُ بالله ولو ضُرِبَت عنقي » (2).
وجاء عن الاِمام الباقر عليه السلام في الركوع من الذكر ما يستشعر به المرء حقيقة ما يؤديه من امتثال وطاعة وخشوع، يقول فيه: « إذا أردت أن تركع فقل وأنت منتصب: الله أكبر، ثم اركع وقل: اللهمّ لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وأنت ربّي، خشع لك قلبي وسمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي وما أقلّته قدماي، غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ ولا مستحسرٍ، سبحان ربي العظيم وبحمده » (3).
وكما أنّ الركوع تخشّع لله تعالى، كذلك رفع الرأس منه تواضع له تعالى، وانتصاب للامتثال بين يديه.
____________
(1) راجع مجمع البيان|الطبرسي 5: 405، دار المعرفة ـ بيروت 1406هـ.
(2) من لا يحضره الفقيه|الشيخ الصدوق 1: 204|928 باب 45، دار الاضواء ـ بيروت 1405هـ ط 6. وجامع أحاديث الشيعة|تحت اشراف آية الله السيد البروجردي 5: 430|8213 باب 2 كيفية الركوع ـ قم 1416هـ.
(3) جامع أحاديث الشيعة 5: 433|8229 باب 2 كيفية الركوع.

( 17 )

ومن حيث الحكم: فالركوع: موضع تعظيم الله تعالى، وتبطل الصلاة بعدم إتيانه أو بتكراره، ولو سهواً.
3 ـ السجود في الصلاة:
وهو موضع الدعاء وطلب الحاجات، ويعدّ غاية في الخضوع والتذلل والاستكانة.
إنّ العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار (1).
روي عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: « السجود منتهى العبادة من بني آدم » (2).
وعنه عليه السلام: « ما خسر والله قطُّ من أتى بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه، غافلاً لاهياً عما أعدّ الله تعالى للساجدين من البشر العاجل، وراحة الآجل، ولا بَعُدَ عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود.. »(3)
____________
(1) فيض القدير للمناوي 2: 68|1348.
(2) الدعوات|قطب الدين الراوندي: 7. ومستدرك الوسائل 4: 472|5193 باب 18. وجامع أحاديث الشيعة 5: 466|8321.
(3) مصباح الشريعة: 91 باب 41 في السجود، منشورات مؤسسة الأعلمي ـ بيروت 1403هـ ط2.

( 18 )

والمراد في هذه الصورة المتحركة التي يرسمها هذا الحديث الشريف هو ضرورة حضور القلب في جميع أحوال الصلاة من أفعالها وأقوالها، وجدير بالتأمل أن ذلك يقتضي أن يكون الحضور حال السجود آكد ؛ لاَنّ حضور القلب في القيام ـ مثلاً ـ يقتضي الالتفات إلى مقام العبودية والربوبية، وفي الركوع يقتضي الالتفات إلى عظمة الرب وذلة العبد، وإلى أنّ الحول والقوة منفيّة عنه.
والحضور المناسب للسجود هو بالفناء عن الكلِّ والحضور عند الرب تعالى (1).
ولاَهمية السجود جعله الله تعالى واحداً من العلامات التي تميز عباده المخلصين، قال تعالى: ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) (2).
تسمية المصلّى مسجداً:
ومما يؤكد اهتمام الاِسلام المتزايد بالسجود هو تسمية المصلى ـ وهو موضع اقامة الصلاة ـ مسجداً، إذ أصبح له عنواناً خاصاً متميزاً، عناية بأهم أجزاء الصلاة، باعتبار أن السجود هو موضع القرب كما تبين وبه يتجلى التواضع والخضوع والتذلل لله جلَّ وعلا، لذا فقد أولى الباري تعالى عناية خاصة بالمساجد فنسبها له سبحانه وحده كما قال: ( إنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) (3).
____________
(1) اسرار الصلاة|الميرزا جواد الملكي التبريزي: 268، دار الكتاب الإسلامي ـ قم.
(2) سورة الفتح: 48|29.
(3) سورة الجن: 72|18.

( 19 )

ولقد شاءت ارادته تعالى أن يجعل المسجد مبدأ إسراء النبي صلى الله عليه وآله ومعراجه إلى السماء ليريه من آياته العظمى ويثبت له معجزة في ذلك قال تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاَقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا.. ) (1).
4 ـ هيئة السجود وحالته وذكره:
إنّ للسجود هيئةً وحالةً وذكراً، تنطوي على جملة أسرارٍ تتجلى للاِنسان المؤمن من خلال صلاته بمقدار درجة الاقبال وحضور القلب ووعي تامّ لما يقوم به من حركات وما يتلفّظه من كلمات.
أ ـ فهيئته: إراءة حالة التواضع وترك الاستكبار والعجب من خلال وضع الجبهة على الاَرض وإرغام الاَنف ـ وهو من المستحبات الاَكيدة ـ إظهاراً لكمال التخضّع والتذكّر والتواضع.
ب ـ وأما الحالة: فهي وضع أعضاء السجود السبعة على الاَرض، وبما أنّ تلك الاَعضاء تعدّ مظهراً لعقل الاِنسان وقدرته وحركته، فيكون إرغامها على التذلل والخضوع والمسكنة عبر السجود لله عزَّ وجلّ مظهراً من مظاهر التسليم التام له سبحانه، وهذا يعني شعور العبد بالندم والتوبة وطلب المغفرة والابتعاد عن الخطيئة بشتى أشكالها، ومع حصول تلك المعاني في نفس الساجد، فلا شكّ أنه سيشعر بحالة من الاُنس ورهبة حقيقية تمنعه من العدول إلى ارتكاب المعصية من جديد.
جـ ـ وأما الذكر: وهو ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) فإنه متقوم بالتسبيح
____________
(1) سورة الإسراء 17|1.
( 20 )

جـ ـ وأما الذكر: وهو (سبحان ربي الاَعلى وبحمده) فإنّه متقوّم بالتسبيح ـ وهو التنزيه عن التوصيف ـ والتحميد، وذكره تعالى بأنّه العلي الاَعلى، والعلي من الاَسماء الذاتية لله تعالى (1).
وفي الحديث الشريف عن الاِمام الرضا عليه السلام: «.. فأول ما اختار لنفسه: العلي العظيم ؛ لاَنّه أعلى الاَشياء كلّها، فمعناه: الله واسمه العلي العظيم، هو أول أسمائه، علا على كلِّ شيء » (2).
د ـ ومن أسرار حركات السجود: ـ من الهوي إلى الاَرض، ثم استقرار الجبهة عليها، ثم رفع الرأس، ثم العودة إليها، ثم الرفع منها ثانية ـ استحضار دورة حياة الانسان كلّها منذ نشأته الاُولى من مادة الاَرض، وتكونه إنساناً يدبّ عليها، ثمّ عودته فيها بعد موته، ثم خروجه منها يوم البعث والنشور.
وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام أطراف هذا المشهد في جوابه العجيب عن سؤال سائل سأله، قائلاً: يا بن عم خير خلق الله، ما معنى السجدة الاُولى؟ فقال عليه السلام: « تأويله اللهم إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الاَرض ـ ورفع رأسك: ومنها أخرجتنا، والسجدة الثانية: وإليها تُعيدنا، ورفع رأسك من الثانية: ومنها تخرجنا تارة اُخرى..»(3).
____________
(1) الآداب المعنوية للصلاة|الإمام الخميني: 536 ـ 537، نشر طلاس ـ دمشق 1984م ط1.
(2) اُصول الكافي|الكليني 1: 113|2 باب حدوث الاسماء، كتاب التوحيد، دار الأضواء ـ بيروت 1405هـ.
(3) علل الشرائع|الشيخ الصدوق 2: 336|4 باب 32، منشورات مكتبة

=


( 21 )

فمن عثر على سر الصلاة يقف على مواقف القيامة ويراها كأنّها قامت وتدعو نارها من أعرض وتولى، فيجدُّ ويجاهد ويجتهد في إخمادها، كما في المأثور عن الاِمام زين العابدين عليه السلام أنّ حريقاً وقع في بيته وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله، النار، يا بن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتى طفئت. فقيل له ـ بعد فراغه: ما الذي ألهاك عنها؟
قال عليه السلام: « ألهاني عنها النار الاُخرى » (1).
رابعاً: العلاقة العبادية بين الركوع والسجود:
ربما عبّر القرآن الكريم عن الصلاة كلّها بالركوع والسجود، قال تعالى: ( يا أيُّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون ) (2). ومثله ما حكاه القرآن من قول الملائكة لمريم: ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) (3).
ومع هذا الاشتراك بين الركوع والسجود، وكونهما مثالين لغاية التذلّل
____________
=
الداوري ـ قم ( افسيت على طبعة المكتبة الحيدرية ـ النجف الاشرف، تحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم سنة 1385هـ ).
(1) مختصر تاريخ دمشق|ابن منظور 17: 236|134 ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وسير اعلام النبلاء|الذهبي 4: 391 ـ 392|157 ترجمة علي بن الحسين عليه السلام. وانظر: مناقب آل أبي طالب|ابن شهر آشوب 4: 147 ـ 148، دار الاضواء ـ بيروت 1991م ـ 1412هـ ط2.
(2) سورة الحج: 22|77.
(3) سورة آل عمران: 3|124.

( 22 )

والتخضّع، ومقرونين بالذكر الخاص بكل منهما، لكن في السجود زيادة تخضّع ظاهرة، فبين الانحناءة ومدّ العنق وبين وضع الجبهة على الاَرض، مصحوباً بهذا الذكر الجليل «سبحان ربي الاعلى» فارق مرتبة جعل العبد في حالة السجود أشدّ قرباً إلى الله تعالى، وبه يتجلّى لنا معنى قوله تعالى: ( واسجد واقترب ) (1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من الله عزَّ وجلَّ وهو ساجد » (2).
وفي حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام يوازن فيه بين الركوع والسجود، جاء فيه: «.. الركوع أول والسجود ثانٍ، فمن أتى بمعنى الاَول صلح للثاني، وفي الركوع أدب، وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الاَدب لا يصلح للقرب،... فإنّ الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى اُصول التواضع والخضوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم » (3).
وقد علّق الاِمام الخميني قدس الله سره على هذا النصّ بقوله: (وفي هذا الحديث الشريف إشارات وبشارات وآداب ووظائف.. ومن هنا يعلم أن السجود فناء ذاتي كما قال أهل المعرفة، لاَنّ الركوع أول هذه المقامات والسجود ثانٍ، فليس هو إلاّ مقام الفناء في الذات) (4).
____________
(1) سورة العلق: 96|19.
(2) راجع: صحيح مسلم بشرح النووي 4: 167|482 باب 42 كتاب الصلاة. والسنن الكبرى|النسائي 1: 242|723 باب 25كتاب التطبيق، دار الكتب العلمية ـ بيروت 1411هـ ط1. وجامع احاديث الشيعة 5: 225|2937 باب أفضل السجود وآدابه من أبواب السجود.
(3) وسائل الشيعة 6: 309.
(4) الآداب المعنوية للصلاة|الامام الخميني: 527 ـ 528. والحديث منقول من

=


( 23 )

وأما من حيث الذكر، فالذكر الذي ينبغي قوله في كل منهما يشترك في جوانب ويختلف في أُخرى، فالاشتراك بذكر التسبيح والتحميد، وهو التنزيه والشكر على النعم.
سأل محمد بن سنان الاِمام الرضا عليه السلام عن علّة جعل التسبيح في الركوع والسجود فقال عليه السلام: « لعللٍ، منها أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذللـه وتواضعه وتقربه إلى الله مُقدِّساً له وممجّداً، مسبّحاً مطيعاً، معظّماً شاكراً لخالقه ورازقه فلا يذهب به الفكر والاَماني إلى غير الله » (1).
وأما موضع الافتراق ففي الاَول التعظيم في الانحناء، وفي الثاني ذكره بالعلو مع التذلل والانحطاط والصاق الجبين بالتراب بمعنى ربي أنت العلي وأنا الوضيع الداني.
عن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ـ في حديث صلاة النبي صلى الله عليه وآله في الاسراء ـ قال: قلت له.. ولاَي علة يقال في الركوع: (سبحان ربي العظيم وبحمده) ويقال في السجود: (سبحان ربي الاَعلى وبحمده)؟
قال عليه السلام: « يا هشام.. فلمّا ذكر ما رأى من عظمة الله ارتعدت فرائصه،
____________
=
كتاب مصباح الشريعة: 12 باب 15.
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام|الشيخ الصدوق 2: 106|1 باب 34. العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان والتي سمعها من الإمام الرضا عليه السلام مرة بعد مرة، تحقيق السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الأعلمي ـ طهران (أُوفسيت على طبعة المكتبة الحيدرية ـ النجف الاشرف ) 1390هـ.

( 24 )

فابترك على ركبتيه، وأخذ يقول: (سبحان ربي العظيم وبحمده) فلمّا اعتدل من ركوعه قائماً نظر إليه (1)في موضع أعلى من ذلك الموضع خرَّ على وجهه وجعل يقول: (سبحان ربي الاَعلى وبحمده) فلمّا قال سبع مرات سكن ذلك الرعب، فلذلك جرت به السُنّة » (2).
ومن بديع التعبير عن علاقة الركوع بالسجود ما قاله السيد السبزواري رحمه الله:

إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ والثَّنا * أعظمُ طاعةٍ لخالقِ السَّما
إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ حقّـُهُ * بِذاتِهِ لِذاكَ يَستحقُّهُ (3)

____________
(1)الضمير في ( إليه ) راجع الى الموصول في قوله عليه السلام: « فلما ذكر ما رأى من عظمة الله » وليس المراد به ما ذهب اليه المجسمة الذين ما قدروا الله حق قدره، فقالوا بالرؤية، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
(2) علل الشرائع|الصدوق 2: 332 ـ 333|4 باب 30.
(3) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام|السيد السبزواري 6: 415.