الظالمين وتحكم الحاكمين ولم تثر ضدهم لتنال حقوقها منهم .
وكذلك أثيرت شبهة أخرى حول الرسالة الإسلامية الخالدة وهي أنها غير قادرة على تلبية حاجات العصر ولا مستعدة لمواكبة التطور نظراً لانتهاء دورها وانحصاره بالجيل السابق وعصره المنصرم .
لذلك يكون الأخذ بتعاليمها ومحاولة تطبيق قوانينها على الجيل الجديد وفي عصره الراهن رجوعاً إلى الوراء يمثل الرجعية والتخلف وهكذا أثيرت شُبهاتٌ أخرى عديدة حول بعض التشريعات الإسلامية المجيدة ـ ولكنها كلها أوهام عابرة وشبهات واهية لا تقوم على أساس وطيد من المنطق والموضوعية ولذلك تبخرت ولم يبق لها وجود في أذهان الكثيرين من أبناء جيلنا المعاصر ببركة الصحوة الإسلامية التي فتحت العيون وأنارت القلوب بأضواء الحقيقة والعقيدة الراسخة التي توحي لصاحبها أن رسالة السماء التي أنزلها الله سبحانه على خير الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم هي المنطلق الوحيد لسعادة الإنسانية عبر التاريخ لأنها مشرعة من قبل خالق الإنسان العالم بطبيعته وبما يُصلحه ويصلح له من القوانين المنسجمة مع فطرته والقادرة على تحقيق أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية من جميع الجهات وفي مختلف المجالات في الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن ما عليها لأنها الرسالة الخاتمة الكاملة الصادرة من قبل المشرع الكامل بالكمال المطلق وهو الله سبحانه وهذا هو السر في اقتناع المجتمع العربي ودخوله فيها أفواجاً بمجرد وضوح الحقيقة له وإدراكه أن هذه الشريعة السمحاء المباركة هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذه مما كان فيه وعليه من ألوان البؤس والشقاء والتعب والعناء .
وهذا هو السبب في انتماء سائر الشعوب إليها والتزامهم بتعاليمها


( 27 )

واتساع دائرة هذا الانتماء خلال فترة قصيرة ـ وبذلك تندفع شبهة الرجعية بعد ظهور أن الشريعة الإسلامية المباركة جاءت لجميع العصور ولكل الاجيال ولذلك كانت رحمة للعالمين حيث قال سبحانه :
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلعَالَمِينَ )(1).
وكذلك تندفع الشبهة الثانية وهي كون الدين أَفيون الشعوب ـ بعد الاطلاع التفصيلي على جوهر الدين وحقيقته بصورة عامة والدين الإسلامي الخاتم العادل الكامل بصورة خاصة لأنه جاء ليخرج الناس من ظلمات الشرك والجهالة والتخلف إلى نور التوحيد عقيدةً وعبادة وضوء العلم والهدى والتقدم في مختلف المجالات وشتى الميادين وقد تحقق ذلك كله خلال فترة قصيرة كما يشهد الواقع التاريخي حيث أصبحت الأمة العربية ببركة هذا الدين العظيم ـ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .
ومن أراد الاطلاع التفصيلي على هذا الموضوع لمعرفة دور الدين الإيجابي في تقدم الأمة وسعادتها فليطلع على الجزء الأول من وحي الإسلام لأني بحثت فيه هذه النقطة الجوهرية في عدة أبحاث دينية تربوية وخصوصاً البحث الأول الذي تحدثت فيه حول موقف الإسلام من أعداء الإنسانية الثلاثة ( الجهل والفقر والمرض ) .
وختمت الحديث حول هذا الموضوع بالمقطوعة الشعرية التالية:

الدينُ أفضل ما يرقى به البشرُ * إلى الكمال وما يُجنى به الوطرُ
أوحى به اللهُ منهــاجاً تشع به * مقاصدُ الخــير والآمال تزدهر
تزهو الحقيقة في ميزان شرعته * ويخلد الجوهر الوضاء لا الصور

____________
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 107 .
( 28 )

فالمــنهج الحقُّ لا أهواءُ مبتدعٍ * والــحاكمُ اللهُ لا زيدٌ ولا عمـرُ
والمقصد الخيرُ خيرُ الناس كلهـم * لا نفعُ بعض وإن أودى بنا الضرر
نالت بـه الفتح أقوامٌ به اعتصمت * وسار في ركبها التأييدُ والظفــر
واليوم ضـل بها الحادي فأوردها * مناهلَ الغي حيثُ الجبــنُ والخَوَرُ
فعاد عاراً لها نصرُ الـجدود وما * كانت تتــيهُ به عزاً وتفتخــر
وتلك حــكمةً وحـي الله ناطقةٌ * عبر القرون لمن يُصــغي ويعتبر
من ينصُر الله فـي مـــواقفه * ومن يُخالفُ مخذولٌ ومـــنكسرُ

وإذا فرض عدم نجاح الشيطان في تشكيكه الإنسان في أصول دينه وما يقوم عليها من نظم وقوانين بسبب قوة إيمانه واعتقاده بعظمة شريعته الإسلامية وقدرتها على تحقيق جميع أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية فهو يلتف عليه من جهة أخرى ليُحرق حسناته التي حصلها بالإيمان الصادق والعمل الصالح وذلك بدفعه للقيام ببعض المحرمات التي يُسجل عليه بها الكثير من الذنوب والسيئات مع تأثيرها سلباً على ما كسبه من الحسنات ليقع بهذا وذاك في العناه والشقاء نفسياً ومادياً فردياً واجتماعياً في حاضر هذه الدنيا مضافاً إلى خسارته السعادة والاستقرار في كلتا الدارين وذلك هو الخسران المبين الذي أوقعه فيه عدوه اللئيم وشيطانه الرجيم .
وإن من أكبر المحرمات وأخطر المنكرات التي انتشرت واشتهرت بين أفراد المجتمع حتى أصبحت معروفاً لا يستنكره الكثيرون .
الغيبةُ والنميمةُ ونحوهما من المنكرات الكبيرة والخطيرة التي تُحرق الحسناتِ كما تُحرق النارُ الحطب .
وبذلك كله يُعرف السر في إيجاب الله سبحانه تحصيلَ الإيمان الجازم بالعقائد الحقة عن طريق الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي لا


( 29 )

يبقى معها مجال لتشكيك الشيطان بكلا نوعيه من الجنة والناس .
كما أوجب سبحانه التفقه في الدين وجعل طلب العلم فريضةً على كل مسلم ومسلمة بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الواقعة محل ابتلاء المكلف في عباداته ومعاملاته ـ كل ذلك من أجل أن يكون الإنسان المسلم ثابت الموقف على نهج رسالته بالإيمان الراسخ الذي يثمر التقوى والعمل الصالح ، والسلوك المستقيم في نهج الدين القويم بحيث لا ينحرف عنه عقيدةً وسلوكاً مهما كانت الإغراءات المغرية بالانحراف أو الضغوطات المقتضية له ـ كما لا يتسرب الشك إلى قلبه ولا تؤثر الشبهات المثارة من هنا وهناك على صلابة إيمانه وقوة يقينه ـ ولذلك لا تزيده الإغراءاتُ ولا الضغوطاتُ إلا ثباتاً على المبدأ الحق كما لا تزيده إثارة الشبهات إلا إيماناً برسالته وتمسكاً بنهجها العادل ودفاعاً عن مبدئها الأصيل الخالد .
وانطلاقاً من شعوري بالمسؤولية نحو إنساننا المعاصر وجيلنا الصاعد عقدت العزم على بذل أقصى الجهد المستطاع في سبيل ترسيخ العقيدة الصحيحة وتقوية الثقة بقيمة الشريعة الإسلامية المجيدة وقدرتها على مواكبة التطور والانطلاق بالجيل الجديد نحو الأهداف السامية والغايات الرفيعة المستهدفة لله سبحانه من وراء إنزاله الشرائع وإرساله الأنبياء مبشرين ومنذرين عبر التاريخ .
وكان إصدار الجزء الأول من وحي الإسلام وبعده الجزء الثاني منه حول فلسفة الصيام في الإسلام ـ خطوتين عمليتين في طريق الهدف المذكور ويأتي هذا الكتاب (فلسفة الحج في الإسلام) ليكون الخطوة الثالثة في هذا الطريق على أمل التوفيق لمتابعة السير في هذا السبيل القويم المؤدي إلى خدمة الإسلام والمسلمين ونيل رضا الرحمن الرحيم


( 30 )

وبعد الفراغ من هذا الحديث الذي ركزتُ فيه على الإخلاص لله في نية العمل وبيان دوره الفعال في صحة العبادة بمعناها الخاص وفي ترتب الأجر والثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقربُ لله تعالى :
أجل : بعد الفراغ من الحديث المذكور يترجح ذكر بعض القصص المؤكدة لدور النية والإخلاص فيها ـ في ترتب الآثار الإيجابية الراجعة إلى العامل المخلص لله في نيته ـ بالنفع العظيم في كلتا الدارين .
مع ذكر بعض القصص المتضمنة لبيان دور النية السيئة وتأثيرها السلبي على وضع صاحبها في كلتا الدارين .
وحيث أن قصة أصحاب الجنة مقطوعة التحقق لورودها في القرآن الكريم يترجح تقديم ذكرها على غيرها من القصص التي تُلقي الضوء على دور النية وتأثيرها الإيجابي أو السلبي ـ على وضع صاحبها في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة .
والقصة المذكورة ورد الحديث عنها في أكثر التفاسير ومنها مجمع البيان في تفسير سورة القلم حيث ورد فيه ما يلي :
وهذه الجنة حديقة كانت في اليمن في قرية يقال لها صروان بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلاً كانت لشيخ وكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ويتصدق بالباقي فلما مات قال بنوه نحن أحق بها لكثرة عيالنا ولا يسعنا أن نفعل ما فعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه وهو قوله تعالى :
( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ ) (1).
____________
(1) سورة القلم ، الآيتان 17 و18، قد ورد ذكر هذه القصة مفصلاً في وسط سورة القلم ابتداء من آية 17 وانتهاء بآية 33 ونقلت تفسير هذه الآيات وتفصيل قصتها

=


( 31 )

وخلاصة هذه القصة أن أبناء هذا الشيخ المؤمن عقدوا العزم على مخالفة طريقة والدهم وذلك بأن يستأثروا بثمر هذه الجنة ولا يقدموا للفقراء ما كان والدهم يقدمه لهم من ثمرها ولذلك رجحوا الذهاب إليها مبكرين قبل وصول الفقراء حتى لا يحصل لهم حرج نفسي بسبب منعهم مما كانوا يأخذونه من والدهم باستمرار حتى أصبح بمنزلة الحصة المملوكة لهم .
وحيث أن هذه النية سيئة أراد الله سبحانه أن يعاقبهم على ما أرادوا تنفيذه بها تأديباً لهم وتحذيراً لكل من تسول له نفسه الأمارة بالبخل والحرص الدافع إلى حرمان الفقراء من حقوقهم الشرعية أو مساعدتهم الإنسانية وذلك بإشعال النار بها حتى احترقت ليلاً وهم غارقون في سبات الجسم والقلب معاً وعندما وصلوا مبكرين إلى مكان جنتهم هذه ولم يجدوها كما كانت من قبل توهموا أول الأمر أنهم تائهون ضالون عنها ومنتهون إلى غيرها وبعد التأمل عرفوا أن هذا المكان هو مكانها وأن الله عاقبهم بإحراقها وكان لهم أخ عاقل رشيد لم يوافقهم في البداية على تنفيذ ما أرادوا القيام به من مخالفة عادة والدهم بمنع الفقراء وحرمانهم مما كانوا يأخذونه من ثمرة جنته حال حياته لذلك نبههم على خطأهم وعدم عملهم بنصيحته فقال : (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَولاَ تُسَبِّحُونَ)(1).
أي هلا تذكرون نعمة الله وإحسانه إليكم فتؤدوا شكرها بإخراج حق الفقراء منها .
وبعد حصول العقوبة لهم وتنبههم لخطأهم وظلمهم أنفسهم :
____________
=
عن شرح مجمع البيان ج10 صفحة 505 و506 طبعة طهران .
(1) سورة القلم ، الآية : 28 .

( 32 )

( قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاومُونَ * قَالُوا ياوَيْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُون * كَذلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (1) .
والقصة المذكورة حادثة واقعية ورد الحديث عنها في كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد .
وقد ذكرها الله سبحانه لنستفيد منها درساً تربوياً يبين لنا دور النية السيئة وتأثيرها السلبي في خسارة الإنسان وتعرضه للنتيجة السيئة المنسجمة مع تلك النية وعلى العكس من ذلك النية الصالحة المنطلقة من الإيمان الصادق الواثق بأن الله سبحانه هو مصدر الخير والعطاء والتوفيق في جميع المجالات .
ولهذا وذاك نرى المؤمن الواعي لهذه الحقيقة يحرص كل الحرص على توفير مقدمات نجاحه في أي هدف في هذه الحياة فيختار الهدف المشروع المحبوب لله سبحانه ويسعى لتحصيله بالنية الحسنة والقصد السليم المقرب منه تعالى وبواسطة المقدمات العادية الطبيعية اللازمة لتحقق ذلك الهدف ويختار المشروع من هذه المقدمات ويتوكل على الله بعد توفير ذلك كله في حصول الهدف المنشود فإن تحقق له كما يحب حمد الله تعالى وشكره على توفيقه له قائلاً بلسان المقال أو الحال ما قاله النبي سليمان عليه السلام :
( قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ )(2).
____________
(1) سورة القلم ، الآيات : 29 و30 و31 و32 و33 .
(2) سورة النمل ، الآية : 40 .

( 33 )

وإذا لم يحصل له مطلوبه صبر ورضي بالقضاء والقدر مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام عليه السلام : ( ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور )(1).
هذا حاصل ما يستفاد من تلك القصة القرآنية المربية ـ وفيما يلي ثلاث قصص تلتقي معها بالمضمون والدلالة الواضحة على مدى تأثير النية في نوعية النتيجة المترتبة عليها والمصبوغة بلونها فإذا كانت نية صالحة حسنةَ كانت النتيجة المترتبة عليها كذلك وإذا كانت على العكس كانت النتيجة مثلها .
الأولى من هذه القصص هي قصة ذلك العابد الذي سمع بوجود شجرة تعبد من دون الله سبحانه فأخذه الحماس الديني وانطلق ليقطعها فاعترض إبليس طريقه وقال له : إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال له العابد: لابد من قطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه العابد فقال له إبليس:
أنت رجل فقير فارجع إلى عبادتك واجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وماذا عليك إذ لم تعبدها أنت قال نعم فلما أصبح وجد دينارين كما وعده إبليس وفي اليوم الثاني لم يجد شيئاً فخرج لقطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه إبليس فقال له العابد :
كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانياً فقال له : لأن غضبك .
أولاً : كان لله .
____________
(1) من دعاء الافتتاح المنسوب إلى الإمام المهدي (عج) .
( 34 )

وثانياً كان للدينارين.
ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإخلاص في النية في حصول النصر والتغلب على العدو ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان .
الثانية : قصة الأمير شروان وحاصلها أنه خرج ذات يوم للصيد فأدركه العطش فراى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماءً فقال له : ليس عندنا ماء قال : إدفع لي رمانة فدفعها له فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال له : أدفع لي رمانة أخرى فدفعها له فوجدها حامضة فقال له : أليست هذه الرمانة من نفس الشجرة التي قدمت لي الرمانة الأولى منها ؟ قال : نعم قال له : كيف تغير طعمها ؟ فقال له : لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال له : ادفع لي رمانة أخرى فدفع له ما طلب منه فوجد الرمانة الأخيرة أحسن وأطيب من الأولى فقال الأمير له : كيف صلحت ؟
قال له الصبي : إنما صلحت بصلاح نية الأمير.
القصة الثالثة : قريبة من الثانية ـ وحاصلها أنه خرج بعض الملوك بنزهة في مملكته فوجد رجلاً ومعه بقرة فحلب له مقداراً كثيراً من الحليب فتعجب الملك ثم نوى أخذها فلما كان الغد حلب منها نصف ما حلبه في اليوم الأول فقال الملك :
كيف نقص حليبها ألم ترع في مكانها بالأمس ؟ قال : بلى ولكن لعل الملك نوى الظلم فرجع عن نيته فرجع حليبها الأول .
وهكذا شاءت الإرادة الإلهية والحكمة السماوية أن تترتب على النية ـ وهي حالة نفسية داخلية الآثار المناسبة لها سلباً أو إيجاباً نفعاً أو ضرراً كما تترتب على الأفعال الخارجية التي يمارسها الإنسان بإرادته وذلك من


( 35 )

أجل أن يستفيد منها درساً تربوياً يدعوه لأن يصفي نيته ويحسن سريرته تمهيداً لأن يحسن سيرته ويعدل مسيرته كما أراد الله له أن يكون صافي النية سليم القلب يحب لغيره ما يحبه لنفسه من الخير ويسعى في سبيل حصوله له ويكره له ما يكره لنفسه من الشر ويمنعها من تسبيبها له .
وقصة أصحاب الجنة التي مر ذكرها تبين بوضوح مدى ارتباط وتأثر النتائج الخارجية بالعامل النفسي والنية الداخلية ويأتي قوله تعالى :
( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(1) .
مؤكداً لهذه الحقيقة الإيمانية حيث ربط الله سبحانه تغييره أوضاع الإنسان فرداً ومجتمعاً وتبديلها من حال إلى أخرى مقابلة لها ـ بتغيير الحالة النفسية التي يعيشها حالاً وما ورد في القصص الثلاث التي مر ذكرها .
يؤكد ذلك ويقتضي أن نستفيد منها عظة وعبرة ونكون دائماً وأبداً على حالة نفسية نبيلة وحسنة لتثمر لنا ما ينفعنا ويرفعنا في دنيانا وآخرتنا من جميع الجهات وفي مختلف المجالات .
ويسرني أن أختم الحديث حول موضوع الإخلاص بالأبيات التالية التي نظمتها مؤخراً من وحي هذا الموضوع الحيوي وهي كما يلي :

إن رمتَ أن ترقى لأفق علاء * وتنال يوم الحشر خير جزاء
فاسلك سبيل الصالـحات بنيةٍ * فضـلى مجردةٍ عن الأهواء
فالله أوجدنا لنعــــبده بلا * شرك خفي مـاحــق ورياء
فإذا تحـقق ما يريد ننال ما * نبغيه من فضل وَمِنْ نعمـاء

____________
(1) سورة الرعد ، الآية : 11 .
( 36 )

وإذا انحرفنا عن هُدَاه تحطمت * آمالنا بضلالة الجـــهـــلاء

دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج :

بعد تطهير النفس وتزكيتها بتصفيتها وتجريدها من شوائب الرياء ونحوه من المؤثرات السلبية على صحة العبادة وترتب الثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقرب لله سبحانه .
يأتي دور تطهير المال الذي يريد المكلف أن يحج به من الحق الشرعي ونحوه لأنه بدون ذلك يكون ثوب الإحرام والهدي اللذان يشتريهما بالمال المشتمل على ذلك الحق ـ محكومين بالغصبية وعدم الإباحة وذلك يقتضي بطلان صلاة الطواف وعدم ترتب الأثر الشرعي المطلوب على تقديم الهدي فيكون حجه محكوماً بالبطلان بهذا الاعتبار .
وبوحي من هذه المناسبة أحب أن أقدم لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والمستطيعين للحج العازمين على القيام به على الوجه الصحيح بصورة خاصة ـ النصيحة التالية (والدين النصيحة) وذلك بأن يقف كل واحد منهم وقفة تدبر وتفكر سائلاً نفسه لماذا أؤدي الصلاة وأصوم وأقوم بسائر الواجبات وأريد الذهاب إلى الحج رغم ما يقتضيه من صرف مال كثير مع تحمل المزيد من المشقة والعناء والتعرض لبعض الأخطار التي تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان كما حصل للكثيرين ممن حجوا سابقاً ويتوقع عروضه لمن يحجون لاحقاً ؟
ولماذا أنا ملتزم بترك المحرمات الشرعية التي نهاني الله سبحانه عن ارتكابها وخصوصاً الكبائر منها ؟


( 37 )

وإذا كان تاركاً للأولى ـ أي للواجبات ـ كلا أو بعضاً وفاعلاً للثانية أي المحرمات كلا أو بعضاً وتاب لله سبحانه من ذلك كله وانطلق في سبيل الاستقامة على نهج التقوى فعليه أن يسأل نفسه ويحاسبها بأسلوب آخر قائلاً :
لماذا أنا رجعت إلى النهج القويم بعد الانحراف عنه ؟
فسيكون الجواب على كلا السؤالين بأن ذلك هو العبادة التي خلقني الله من أجلها وأنا مأمور بها لكونها سبيل الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة فإذا أتيت بها كما أمرني الله تعالى ظفرت بذلك وإذا أهملتها خسرت ثواب الطاعة في الآخرة ومصلحتها المعجلة في الدنيا وعرضت نفسي للعقاب الشديد في الدار الأخرى وسببت لها الكثير من المتاعب والمصائب في هذه الدار وذلك هو الخسران المبين .
هذا هو الجواب المتوقع حصوله من المسلم الواعي الذي يُفرض في حقه أن يكون حاملاً في ذهنه صورة هذه المحاسبة لنفسه وطرح تلك الأسئلة عليها لتجيبه بلسان الفطرة السليمة والعقيدة الصحيحة بالأجوبة المذكورة .
وعلى ضوء ذلك نقول للمسلم الذي عقد العزم على السفر لحج بيت الله الحرام وهو يحمل في ذهنه صورة الحوار والمحاسبة المذكورة وفي قلبه العقيدة والإيمان بمضمونها ومحتواها :
إذا كنت مؤمناً بهذه الحقيقة فعليك أن تعمل بمقتضاها باستقامتك في منهج التقوى التي تتحقق بفعل ما أمرك الله به من الواجبات وترك ما نهاك عنه من المحرمات ـ وحيث أن إخراج الحق الشرعي من مالك بعد تعلقه به واجب شرعي لنفسه كالصلاة والصيام والحج وسائر الواجبات


( 38 )

الشرعية النفسية كما أنه واجب لغيره لتوقف صحة الحج عليه نظراً لاشتراط صحة صلاة الطواف كغيرها من الصلوات ـ بإباحة ثوب الإحرام الذي يأتي الحاج بهذه الصلاة فيه كما أن ترتّب الأثر الشرعي على تقديم الهدي متوقف على شرائه بمال مطهر من حق الغير ومن المعلوم أن كلا الأمرين ـ صحة الصلاة المذكورة وصحة الإهداء ـ أي تقديم الهدي ـ متوقفان على تطهير المال الذي يُشترى به ذلك الثوب وهذا الهدي .
أجل : حيث أن إخراج الحق الشرعي واجب شرعي لنفسه ولصحة الحج يكون المطلوب منك أيها الأخ المسلم العزيز أن تؤدي هذا الواجب معجلاً ، وقبل سفرك إلى بيت الله الحرام إذا كنت مُعيناً لنفسك رأس سنة لتأدية فريضة الخمس في نهايتها وكان متعلقاً فعلاً بما تملكه من النقود أو الأعيان المالية وكان ذلك ميسوراً لك بحيث لا يترتب عليه ضرر أو حرج ـ ومع فرض ترتب ذلك ترجع إلى مُقلَّدك أو وكيله ليُجريَ معك مصالحة على المقدار الذي وجب في مالك من الخمس وينتقل بهذه المصالحة من عين المال إلى ذمتك وتدفعه له أقساطاً حسبما تساعدك ظروفك وبعد انتقال الحق الشرعي من عين المال إلى الذمة يتمكن المكلف حينئذ من التصرف بهذا المال بيعاً وشراء ويتحقق بذلك شرط صحة صلاة الطواف ولا يبقى إشكال بالنسبة إلى الهدي .
ويُطلب منك يا أخي العزيز أن تحتاط لهذا الحق الذي ثبت ديناً في ذمتك وذلك بأن تسجله في وصيتك كسائر الديون والواجبات وقد يصبح الإيصاء بتأديتها واجباً إذا توقفت عليه .
وإذا كنت غير محاسب نفسك فيما مضى بالنسبة إلى فريضة الخمس ونحوها من الفرائض المالية ـ يصبح السعي في هذا السبيل واجباً ويتحقق ذلك غالباً بمراجعة وكيل المرجع الذي تقلده لتخبره بمجموع ما تملكه من


( 39 )

الأموال النقدية والعينية ونحوها مما له قيمة مالية وهو بدوره يبين لك النوع الذي هو متعلق للحق الشرعي والنوع الذي لا يكون كذلك وتكون النتيجة معرفة المقدار الواجب من الخمس ووجوب دفعه كله مع التمكن بدون ضرر أو حرج كما تقدم ومع فرض ذلك يأتي دور المصالحة على الحق الشرعي ليصبح ديناً في ذمتك وتدفعه أقساطاً بعد تحديد رأس السنة .
والنصيحة التي أحب تقديمها لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والعازمين على التشرف بزيارة بيت الله الحرام وجوباً أو استحباباً أو زيارة سائر المقامات المقدسة ـ بصورة خاصة .
هي طلب الاحتياط والحذر الشديد من التسويف والتسامح في تأدية الواجبات الشرعية ـ بصورة عامة والواجبات المالية بصورة خاصة لأهمية الثانية باعتبار كونها حقوقاً للناس ولا تبرأ ذمة من وجبت عليه إلا بدفعها لمستحقها أو للحاكم الشرعي الذي يقلده أو لوكيل هذا الحاكم وإذا أراد دفعها للمستحق مباشرة فالأحوط مراجعة مرجعه أو وكيله ليأخذ الرخصة منه في ذلك ـ على تفصيل محرر في الرسائل العملية وإذا قصر المكلف في تأدية الواجبات المالية المتمثلة بالحقوق الشرعية ونحوها فإنه يتعرض بذلك لأشد العقوبات التي لا تترتب على ترك الواجبات البدنية كالصلاة والصوم رغم أهميتها وذلك لأن الواجب المالي فيه حقان أحدهما يرجع إلى الله المشرع والثاني يرجع إلى مستحق هذا الحق .
ولو أن المكلفين أدركوا ما يترتب على تأدية الفريضة المالية والتصدق بصورة عامة ـ من الفوائد المادية والمعنوية المعجلة في هذه الحياة مضافاً إلى ما ينالونه من النعم الخالدة والسعادة الحقيقية الدائمة في الآخرة لتسابقوا إلى ذلك ولم يتأخروا عنه وذلك لأن الإنفاق الواجب أو المستحب يُصبح في واقعه تجارةً مع الله سبحانه تترتب عليها الأرباح


( 40 )

الكثيرة والفوائد العديدة .
منها زيادة النعمة بسبب الشكر العملي الذي قام به المنفق في سبيل الله تعالى لقوله سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ )(1).
ومنها دوام النعمة لأن جميع النعم والألاء التي يمن بها الله سبحانه على الإنسان هي في الواقع أمانة له عند من أنعم بها عليه فإذا صرفها وتصرف بها كما أمره الله المالك الحقيقي ـ وجوباً أو استحباباً ـ عبر بذلك عن كونه أميناً محافظاً على الأمانة وذلك يقتضي بطبعه إبقاء صاحبها لها عنده وعدم أخذها منه .
وهذا بخلاف ما إذا صدر منه عكس ذلك فإن النتيجة تكون منسجمة مع مقدمتها وهي عروض النقص بدل الزيادة أو الخسارة والفقدان للنعمة بالكلية بعد وجودها والتمتع بها.
وإلى ذلك أشار الله سبحانه في آخر الآية السابقة بقوله تعالى :
( وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) .
لأن المراد بالكفر على ضوء ما يوحي به جو الآية ـ هو الكفر العملي المقابل للشكر العملي ـ وبقرينة المقابلة بينهما يُفهم أن المراد بالعذاب الذي أنذر به الله سبحانه أعم من العقاب الأخروي بحيث يشمل العقوبة المعجلة الحاصلة بسبب الكفر بنعمة الله تعالى ومن أبرز مصاديقها العقوبة المتحققة بسلب النعمة من الكافر بها قلبياً وعملياً كما حصل من قارون وحصلت له العقوبة المناسبة لذلك ـ أو عملياً كما هو شأن الكثيرين ممن آمنوا بمؤدى قوله تعالى :
____________
(1) سورة ابراهيم ، الآية : 7 .
(2) سورة ابراهيم ، الآية : 7 .

( 41 )

( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )(1) .
ولكنهم كفروا بنعم الله عملياً بعدم صرفها فيما أوجب عليهم صرفها فيه أو بصرفها في سبيل معصيته ليكونوا مصداقاً لقول الشاعر :

أعارك مالَه لتقوم فيـه * بطاعته وتقضي بعضَ حقه
فلم تقصد لطاعته ولكن * قويت على معاصيه برزقه

ويُضاف إلى الفائدتين السابقتين وهما زيادة النعمة ودوامها فوائد أخرى عديدة مادية ومعنوية تترتب على الإنفاق في سبيل الله سبحانه ـ منها دفع البلاء وقد أُبرم إبراماً وطول العمل ومحبة الله وخلقه لمن ينفق في سبيل الله ومعاملته بالاحترام والتقدير ومقابلته بالمثل عندما يصبح محلاً للمساعدة .
تجاوباً مع قوله تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الإحسَانِ إلاًّ الإحْسَانُ ) (2) .
وقول الشاعر :

أحس إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

هذا مضافاً إلى الجزاء الأوفى الذي وعد به رب العالمين المؤمنين المحسنين بقوله تعالى :
( إنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدينَ فِيها أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )(3) .
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 53 .
(2) سورة الرحمن ، الآية : 60 .
(3) سورة البينة ، الآيتان 7 و8 .

( 42 )

ومن أراد الاطلاع بصورة تفصيلية على أهمية الإنفاق في سبيل الله تعالى ودور البر والإحسان في سعادة الإنسان في كلتا الدارين .
فليطلع على ما نشر في الجزء الأول من وحي الإسلام تحت العناوين التالية ـ وهي ( حول صفة الكرم والسخاء ) ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان ) ( التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة ).
ومن المناسب لموضوع هذا الحديث ذكر القصة التالية التي ذكرها صاحب كتاب ( جزاء الأعمال ) صفحة 14 .
وذلك لأنها تبين مدى تأثير الإحسان على نفسية من يُقدم له ليندفع إلى احترام المحسن ومكافأته بالمثل وتقديمه على غيره وخصوصاً إذا كان ذلك الغير مسيئاً له كما هو مضمون هذه القصة وهي كما يلي بلسان المؤلف(1) نفسه حيث يقول فيها :
كنتُ في سفينة مع جماعة من الكبراء فغرق زورقٌ من خلفنا ووقع منه أخوان في دوران التيار فقال أحدهم للملاح خلص هذين الأخوين ولك مني مائة دينار فما أنقذ أحدهما الملاحُ حتى هلك الآخر فقلتُ له : حيث نفد عمره حصل التواني بإنقاذه فتبسم الملاح وقال : إن ما قلته صحيح غير أن ميل خاطري لخلاص هذا كان أكثر .
والسبب في ذلك أني كنت مرة منقطعاً في الصحراء فحملني هذا على جمله وأما ذاك فذقت منه سوطاً لا أنساه ضربني به في عهد صباه فقلتُ صدق الله العظيم حيث قال :
( مَّن عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا )(2) .
____________
(1) هو مجتبى بلوجيان
(2) سورة فصلت ، الآية : 46 .

( 43 )

وختم المؤلف القصة بالبيتين التاليين :

إياك أن تخدشَ قلبَ امرىءٍ * فذا طريقٌ شوكُهُ مُتلـفُ
وأسعفِ البائـس إن تلقـَهُ * فربما احتجتَ لمن يُسعف

الرفيق الصالح ودوره الإيجابي في نجاح الرحلة :
بعد أن يحرز العازم على القيام برحلة الحج المباركة ، التوفيق والنجاح في الخطوتين الأوليين وهما الخطوة الأولى التي طواها في طريق تخليص النية من الشوائب والثانية هي التي طواها في سبيل تطهير ماله من الحقوق .
يحتاج بعد ذلك إلى خطوات أخرى متممة لهاتين الخطوتين وتأتي خطوة اختيار الرفيق الصالح الذي ينطلق في سبيل تأدية فريضة الحج المقدسة لتكون في الطليعة بين الخطوات الإيجابية التي يطويها في هذا السبيل المبارك .
ونقصد بالرفيق الصالح في محل الحديث ـ المعرّف الذي يضع المسافر في طريق الحج نفسه وماله وفريضة حجه أمانةً في يده من أجل أن يحفظها له ويحافظ على راحته وصحة حجه وبراءة ذمته منه . لذلك يُطلب منه بذل الجهد المستطاع في سبيل الظفر بهذا الرفيق الذي يُطلب توفر شروط اساسية فيه ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف وهي كثيرة أبرزها ما يلي :
الأول : التفقه في الدين بالاطلاع على المسائل الشرعية التي تقع محل ابتلائه وابتلاء الآخرين الذين يخالطهم وخصوصاً الأحكام الشرعية


( 44 )

المتعلقة بفريضة الحج ويتأكد ذلك بالنسبة إلى الأشخاص الذين تحمل مسؤولية تعريفهم وتعليمهم أحكام هذه الفريضة لتصبح رحلة الحج بذلك مدرسة سيارة يتلقى المنطلقون فيها لتأدية الفريضة المذكورة ، دروساً متنوعة وأهمها الأحكام المتعلقة بفريضتهم التي سافروا من أجلها وبذلك يصبحون طلاباً للعلم والمعرفة الصحيحة التي تضيء لهم درب الإيمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل . كما تعرفهم أحكام حجهم ليأتوا به على الوجه المطلوب .
الثاني : شرط الوثاقة بمعنى كون المعرف ثقة معروفاً بالصدق والأمانة ليصح الأخذ بقوله عند ما يخبر بوقوع أي عمل من أعمال الحج صحيحاً واجداً لشروط الصحة المعتبرة وفاقداً لما يؤدي إلى البطلان .
ولذلك اشترط الفقهاء فيمن يُراد استنابته للعبادة النيابية عن الميت أو عن الحي حيث تشرع النيابة عنه كما في الحج وبعض واجباته ، كونَه ثقة ليصح الأخذ بقوله إذا أخبر بأصل وقوع العمل النيابي أو بوقوعه على الوجه الشرعي المبرىء لذمة المنوب عنه .
الثالث : أن يكون معروفاً برحابة الصدر وقوة الصبر ليتمكن من النهوض بمسؤولية التعريف والمحافظة على راحة الحجاج وسلامتهم من أخطار ومَضار عديدة يتعرضون لها بسبب شدة الازدحام وتغير الجو كما يتعرض بعضهم للضياع ، وقد حصل للكثيرين سابقاً . وهنا يأتي دور قوة صبر المعرف وشدة اهتمامه ومحافظته التي تسلم أفراد قافلته وتقيهم من التعرض للأخطار والأضرار وإذا تعرض أحدهم لشيء من ذلك بذل أقصى الجهد في سبيل إزالته عنه مهما كلفه ذلك من تضحيات .
فإن كان العارض الطارىء هو الضياع والابتعاد بسببه عن جماعته


( 45 )

ومحل إقامته ـ بذل المعرفُ المسؤول مع من يتعاون معه على البر والتقوى ـ أقصى الجهد في سبيل الوصول إليه وإنقاذه من خطر ضياعه ، وإذا كان الطارىء هو المرض سعى جهده في سبيل علاجه ولم يقصر في حقه وإذا فقد ما هو مضطر له من المال ونحوه ، سعى في سبيل الظفر بما فقده أو التعويض عنه بكل وسيلة ممكنة ولو بالاستعانة بمن يثق بإيمانه واهتمامه ورغبته في قضاء حاجة إخوانه المؤمنين والتفريج عنهم وهكذا .
ومما تقدم بيانه حول أهمية اختيار الرفيق الصالح والمعرّف الناجح ـ نعرف وجه الرجحان والأهمية فيما جرت عليه العادة المباركة مؤخراً ـ من مرافقة عالم ديني فاضل للحملة المنطلقة في طريق تأدية فريضة الحج لأنه يتكامل مع المعرف الرسمي ويتعاونان على إفادة الحجاج ومساعدتهم على إدراك غايتهم المنشودة من رحلتهم المباركة وهي تأدية فريضة الحج على الوجه الصحيح مضافاً إلى ما يقوم به العالم الديني من إرشادات دينية وتوجيهات تربوية تفيدهم في قضاياهم الشرعية والاجتماعية وسائر الشؤون والأوضاع الحياتية مع قيامه بدور إمامة الجماعة التي يترتب عليها الثواب العظيم والأجر الجسيم على ضوء بعض الروايات الدالة على ذلك منها الرواية القائلة :
إذا زاد عدد المأمومين على العشرة فلا يحصي ثوبها الا الله سبحانه(1) .
هذا كله بالنسبة إلى الرفيق العادي الذي يحتاج إليه البعض من المسافرين من بلد إلى آخر ليعينه على إدراك غايته التي سافر من أجلها سواء كانت دينية أو دنيوية .
____________
(1) هذا الرواية منقولة بالمعنى والمضمون من حديث طويل ذكره مع روايات عديدة في كتاب (الحديقة الناشرية صفحة 237) مطبعة الغري في النجف الأشرف .
( 46 )

وهناك رفيق لا يستغني عنه أحدٌ وهو الإله الواحد الأحد الذي يحتاج إليه كل إنسان في كل مطلب من مطالبه وإن كان ذلك المطلب سهلاً وميسوراً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى معين ومساعد من قبل أحد من البشر ، وذلك لأن أي هدف من الأهداف وإن كان سهل الحصول والتحقيق لابد من قدرة تمكن صاحبه من تحقيقه ولو كانت قدرة متواضعة مناسبة للمطلوب ومساعدة على تحصيله .
ومن المعلوم أن الإنسان خلق ضعيفاً ويبقى ضعيفاً في ذاته وطاقاته ولذلك يظل بحاجة إلى من يزوده بالقدرة ويبقيها له ويتمكن بعد ذلك من استثمارها واستعمالها في سبيل تحصيل الهدف المقصود .
وقد عبر الله سبحانه عن هذا الضعف بالفقر الذاتي الذي يُولد مع الإنسان ويبقى ملازماً له حتى نهاية حياته وذلك بقوله تعالى :
( يا أيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إلَى اللّهِ واللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ )(1) .
وبذلك يظهر جلياً أمام المنطق الديني المنطلق من الواقع التكويني أن كل خطوة يخطوها الإنسان في سبيل أي هدف من الأهداف ـ لا تنجح إلا إذا لاحظتها العناية الإلهية والتوفيق السماوي وقد اعترف بذلك النبي شعيب عليه السلام وعبر عنه بقوله :
( وَمَا تَوْفِيقي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ )(2) .
وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية يتعين في حق كل إنسان عاقل ـ أن يسير على نور عقله وينسجم مع فطرته التي فطره الله عليها وأودعها فيه
____________
(1) سورة فاطر ، الآية : 15 .
(2) سورة هود ، الآية : 88 .

( 47 )

لتجذبه تكوينياً وفطرياً إلى مصدر وجوده بسلك الإيمان بواحدانيته وعدله واتصافه بجميع الصفات الكمالية ومنها إرساله الأنبياء ليرشدوا الناس إلى غاية خلقهم وسبيل تحقيق هذه الغاية مع تعيينه الأوصياء لأنبيائه لينوبوا عنهم ويمثلوا دورهم بعد انتقالهم إلى جوار الله سبحانه مع الإيمان بضرورة البعث وإعادة الخلق إلى الحياة من جديد من أجل مجازاة المحسن على إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وذلك من لوازم عدله وكماله المطلق كما ذُكر مفصلاً في محله من كتب العقيدة الإسلامية .
ومرافقة الله سبحانه للإنسان نوعان :
الأول : المرافقة الذاتية ومعناها كون الله سبحانه مع الإنسان وجميع مخلوقاته بعلمه وقدرته وتدبيره وهذه حاصلة تكوينياً وقسراً بلا حاجة إلى أي سبب خارجي يوجده الإنسان بإرادته واختياره كما هو واضح في نظر المؤمن العالم بعلم الله الشامل وقدرته المطلقة وتدبيره المستوعب لكل ما في هذا الكون من مخلوقات .
الثاني : المرافقة والمعوية بالعناية الإلهية والرعاية السماوية التي تتمثل بالتوفيق والتأييد لمن تحصل له هذه المرافقة عندما يريد هدفاً مشروعاً ويوجد له مقدماته الطبيعية المشروعة أيضاً ويتوكل على الله سبحانه في نجاح سعيه وإدراك هدفه .
فإذا تحقق مطلوبه اعترف بأن ذلك حصل بعون الله سبحانه وتوفيقه وشكره قولاً وعملاً وظفر بثواب الشكر وإذا لم يحصل له مراده رضي بما قدره الله له وصبر على حرمانه من نيل مرامه مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام المهدي عليه السلام في دعاء الافتتاح :


( 48 )

( ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الاُمور ) .
والمؤمن الواعي يكون موفقاً لمرافقة الله له واعتنائه به في كلتا الحالتين إذا قابل توفيق الله له بالشكر حيث ينال ثوابه كما ينال أجر الصبر والرضا بما قدره الله له من عدم تحقق غايته المنشودة .
وبذلك يكون الله معه بمرافقة العناية والرعاية ما دام بالحرمان وصبره عليه مثمراً له ما هو أنفع مما فاته في هذه الحياة الزائلة .
قال سبحانه : ( وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )(1).
وقال تعالى : ( وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى )(2) .
وإنما تعرضت لهذا الحديث في المقام بمناسبة الكلام حول المرافقة الإلهية بمعناها الثاني من أجل دفع الشبهة التي تعرض لبعض المؤمنين عندما يقع في محنة ويصاب بصدمة لحدوث مفاجأة سلبية مثيرة كسقوطه في الامتحان رغم بذله الجهد المستطاع في سبيل تحصيل المعدل المناسب أو الخسارة في التجارة رغم التحفظ والاحتياط لعدم الإصابة بها أو الهزيمة في المعركة رغم الأخذ بأسباب النصر وإعداد ما استطاع له المؤمنون من قوة مادية ومعنوية وهكذا .
وعلى ضوء البيان الأخير لمعنى المرافقة الإلهية والرعاية السماوية للإنسان المؤمن بالله المتوكل عليه الواثق بعدله وحكمته .
تندفع الشبهة بعد ملاحظة أن المرافقة الإلهية للإنسان بمعناها الثاني الذي يحمل في طيه معنى الرفق واللطف ـ لا تنحصر بالإعانة على تحصيل
____________
(1) سورة الأعلى ، الآية : 17 .
(2) سورة الضحى ، الآية : 4 .

( 49 )

المطلوب المعجل في هذه الحياة بل تشمل فرض تأخير الإعانة على إدراكه في حاضر الدنيا المعجل من أجل أن يجازيه على صبره ورضاه بقدر الله وقضائه بما هو أفضل وأنفع له في دار الجزاء الأوفى .
وعلى هذا الوجه يُحمل تأجيل استجابة الله سبحانه دعاء عبده المؤمن ولجوئه إليه من أجل أن يدفع عنه مكروهاً أو يجلب له محبوباً .
وبملاحظة مجموع ما تقدم ندرك أن مرافقة الله سبحانه للإنسان المؤمن بالرعاية والتوفيق تترتب غالباً إن لم يكن دائماً على مرافقة هذا الإنسان له واتصاله به بالتقوى والتوكل بمعناه الواعي الايجابي .
وإلى هذا المعنى من المرافقة والمعية المشتركة بين العبد وربه يشار بالكلام المشهور ( من كان مع الله كان الله معه ) .
ويدل على ذلك ببيان أوضح وأصرح قوله تعالى :
( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتَ أَقدَامَكُمْ )(1) .
وقوله تعالى :
( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )(2) .
والمرافقة بمعناها الأول وإن كانت مشتركة بين المؤمن وغيره من سائر الكائنات كما هو واضح إلا أن الذي يُحس بها ويرتب الأثر عليها هو المؤمن بالله سبحانه بالإيمان الواعي المنفتح على الحقيقة الموضوعية المستلهمة بوضوح من قوله تعالى :
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوىَ ثَلاثَةٍ
____________
(1) سورة محمّد ، الآية : 7 .
(2) سورة الحج ، الآية : 40 .

( 50 )

( إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمُ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (1) .
والأثر البارز المترتب على إحسان المؤمن بهذه المرافقة هو انفعاله بها وتجاوبه معها بالاستقامة في خط التقوى المستقيم وذلك يثمر له حصول المرافقة الإلهية بالمعنى الثاني على ضوء البيان التفصيلي المتقدم ـ وعلى العكس من ذلك الإنسان المجرد من رابطة الإيمان أو كانت ضعيفة وهابطة إلى درجة تُلحق وجودها بالعدم . الأمر الذي يفقده الإحساس بالمرافقة التكوينية الإلهية الشاملة لكل الكائنات بلا استثناء وهذا هو السبب في انحراف هذا النوع من البشر عن منهج الفضيلة وانجرافه بتيار الرذيلة ليكون مصداقاً لقوله تعالى :
( وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُم قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِروُنَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئكَ كَالأَنعامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ )(2) .
وبالمناسبة أحب أن أذكر بعض القصص في ختام الحديث عن موضوع المرافقة لتكون الشاهد الصادق المؤكد لحقيقة التفاعل بين المرافقة بالمعنى الثاني عند المؤمن والمرافقة بمعناها التكويني العام .
والذي خطر في ذهني من هذه القصص ثلاث وهي متشابهة بالمضمون وحاصل الأولى منها : أن عبداً مملوكاً لشخصٍ كان مكلفاً من قبل سيده برعي قطيع غنم له ، واتفق أن التقى به شخص في المرعى وطلب منه أن يبيعه رأساً من الغنم فأبى هذا العبد ذلك واعتذر له بأن سيده
____________
(1) سورة المجادلة ، الآية : 7 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 179 .