|
|||
(16)
في اخريات حياة الامام الصادق عليه السلام انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من المدينة إلى الكوفة ، وبذلك بدأ الفقه مرحلة جديدة من حياته في الكوفة.
وكانت الكوفة حين ذاك مركزا علميا وتجاريا وسياسيا معروفا في العالم الاسلامي ، يقصده طلاب العلم والمال والسياسة من أطرافالعالم. يقول البلاذري : إن أربعة آلاف من رعايا الفرس وفدوا إلى الكوفة (1). وقد أثر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة طلبا للعلم أو التجارة في التلاقح العقلي والذهني في هذه المدرسة ، كما كان لها الاثر البالغ في تطوير الدراسات العقلية فيها. وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود من الصحابة والتابعين والفقهاء وأعيان المسلمين من مختلف الامصار ، وبذلك كانت الكوفة حين انتقل إليها الامام الصادق عليه السلام وانتقلت إليها مدرسة الفقه الشيعي من أكبر العواصم الاسلامية. وقد عد البراقي في تاريخ الكوفة 148 صحابيا من الذين هاجروا إلى 1 ـ راجع تاريخ الكوفة : ص 282 ـ 395. (17)
الكوفة واستقروا فيها ، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه المدينة والذين كان يبلغ عددهم الآلاف ، وما عدا الاسر العلمية التي كانت تسكن هذا القطر.
وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة ل ( 850 ) تابعيا ممن سكن الكوفة (1). في مثل هذا الوقت انتقل الامام الصادق عليه السلام إلى الكوفة أيام أبي العباس السفاح ، واستمر. بقاء الامام الصادق عليه السلام في الكوفة مدة سنتين. وقد اشتغل الامام الصادق عليه السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر مذهب أهل البيت في الاصولين والفقه لعدم وجود معارضة سياسية قوية في البين ، فقد سقطت في هذه الفترة الحكومة الاموية وظهرت الحكومة العباسية ، وبين هذا السقوط وهذا الظهور اغتنم الامام الصادق عليه السلام الفرصة للدعوة إلى المذهب ، ونشر اصول هذه المدرسة ، فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحدانا تستقي منه العلم وترتوي من منهله العذب وتروي عنه الاحاديث في مختلف العلوم ، وكان منزله عليه السلام في بني عبد القيس من الكوفة (2). قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى جعفر بن محمد عليه السلام فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس ، فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرق الناس عنه ومضى يريد قبر أمير المؤمنين عليه السلام ، فتبعته وكنت أسمع كلامه وأنا معه أمشي. وقال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابي عيسى القمي : إني أدركت في 1 ـ طبقات ابن سعد : ج 6. 2 ـ تاريخ الكوفة للبراقي : ص 408. (18)
هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد (1).
وكان من بين أصحاب الامام الصادق عليه السلام من فقهاء الكوفة : أبان بن تغلب بن رباح الكوفي نزيل كندة ، روى عنه عليه السلام ( 30000 ) حديثا. ومنهم : محمد بن مسلم الكوفي ، روى عن الباقرين عليهما السلام ( 40000 ) حديثا. وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي ( المتوفى سنة 333 ) كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الامام الصادق عليه السلام ، فذكر ترجمة ( 4000 ) رجلا (2). كل ذلك بالاضافة إلى البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بانتسابها إلى الامام الصادق عليه السلام ، واشتهرت بالفقه والحديث كبيت ال أعين ، وبيت آل حيان التغلي ، وبيت بني عطية ، وبيت بني دراج ، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بالتشيع ، واشتهرت بالفقه والحديث (3). وقد أدى كل هذا الالتقاء بشخصية الامام الصادق عليه السلام في الكوفة ، والاحتفاء به إلى أن يأخذ الجهاز العباسي الحاكم حذره منهم. وقد خاف المنصور الدوانيقي أن يفتق به الناس ـ على حد تعبيره ـ لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامة عليه ، واحتفائهم به ، وإكرامهم له فطلبه إلى بغداد في قصة طويلة لا يهمنا نقلها. ومهما يكن من أمر فقد ازدهرت مدرسة الكرفة على يد الامام الصادق عليه 1 ـ رجال النجاشي ترجمة « الوشا « : ص 40 تحت رقم 80. 2 ـ تاريخ الكوفة للبراقي : ص 408. 3 ـ تاريخ الكوفة : ص 396 ـ 407. (19)
السلام وتلاميذه ، وبتأثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها الامام الصادق
عليه السلام في هذا الوسط الفكري.
ولم تبق الكوفة إلى حين الغيبة الكبرى مقاما للائمة عليهم السلام ، ولم يتمركز فقهاء الشيعة كلهم بعد ذلك في الكوفة ، ولم تستمر هذه المدة المدرسة التي انشأها الامام الصادق في الكوفة ، إلا أن الكوفة كانت هي منطلق الحركة العقلية في العصر الثاني من عصور تاريخ الفقه الشيعي ومبعث هذه الحركة ومركز الاشعاع وظلت مع ذلك تعد من أهم مراكز الفقه الشيعي ، وظلت البعثات الفقهية تقصد هذه المدينة بالذات ، ويتعاقب فيها فقهاء مدرسة أهل لبيت مركز الصدارة في التدريس والفتيا والبحث الفقهي. ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها الائمة من أهل البيت عليهم السلام وفقهاء الشيعة ورواة الحديث من ضغط الجهاز الحاكم حتى كان بعضهم يعرض إذا رأى الامام في الطريق لئلا يتهم بالتشيع ، وبعضهم يلتقي بالامام ليلا خوفا من عيون الرقابة المسلطة على بيوت أئمة أهل البيت عليهم السلام. رغم ذلك كله ، ورغم المعارضات والتهم والافتراءات والتهريج الذي كان يقوم به الجهاز تقدمت الدراسة الفقهية وتدوين الحديث لمدرسة أهل البيت شوطا كبيرا في هذه الفترة ، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم الذي تمتلئ به المكاتب ، وتحتفل به الدورات الضخمة ـ كدورات بحار الانوار ، والجواهر ، والحدائق ، ووسائل الشيعة ـ الكبيرة. وصنف قدماء الشيعة الاثني عشرية المعاصرون للائمة في الاحاديث المروية من طرق أهل البيت ما يزيد على ستة آلاف وستمائة كتاب مذكورة في كتب الرجال ، على ما ضبطه الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (1). ومن بين هذا العدد من الكتب الذي يعتبر وحده مكتبة ضخمة في الحديث 1 ـ وسائل الشيعة : ج 20 ص 49 آخر الفائدة الرابعة. (20)
والفقه والتفسير من آفاق الفكر الاسلامي امتازت أربعمائة كتاب اشتهرت بعد ذلك
ب « الاصول الاربعمائة ».
وقد بقي شيء كثير من هذه الاصول الاربعمائة ، فكان شيء كثير منها محفوظا عند الشيخ الحر العاملي ، وبعضها عند العلامة المجلسي ، وبعضها عند العلامة النوري ، وفقد مع ذلك كثير منها (1). ومهما يكن من أمر فقد توسعت في هذه الفترة رواية الحديث وتدوينه وازدهرت بما لا مثيل له في أي عصر آخر ، وفي أي مذهب من المذاهب الاسلامية عامة. فلهشام الكلبي أكثر من مائتي كتاب. ولابن شاذان مائة وثمانون كتابا. ولابن دؤل مائة كتاب. ولابن أبي عمير أربعة وتسعون كتابا (2). وقد ترجم الشيخ آغا بزرك في الذريعة لمائتي رجل من مصنفي تلامذة الامام الصادق عليه السلام عدا غيرهم من المؤلفين من أصحاب سائر الائمة عليهم السلام ، وذكر لهم من كتب الاصول 739 كتابا (3). فقد روى أبان بن تغلب ـ كما يقول الشيخ في الفهرست ـ ثلاثين ألف حديث عن الامام الصادق عليه السلام. وروى آل أعين وحدهم أضعاف هذا المقدار. ويونس بن عبد الرحمن والبزنطي ومئات من أمثالهم كانوا من كبار المؤلفين والمكثرين في التأليف والتدوين ، وقد جمع كل واحد منهم عشرات 1 ـ أعيان الشيعة : ج 1 القسم الثاني ص 37. 2 ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ج 1 ص 17. 3 ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة : ج 6 ص 301 ـ 374. (21)
المدونات في الحديث والتفسير والفقه.
ولم تزدهر المدرسة الحديثية في مذهب من المذاهب الاسلامية كما ازدهرت عند الشيعة ، حتى رأينا أن الذهبي يقول في ميزان الاعتدال : لو أردنا أن نسقط رجال الشيعة من أسناد الروايات لم تسلم لنا من السنة إلا القليل النادر. ولا نطيل في تفصيل شرح هذه الحركة الفكرية التي انطلقت من بيت النبوة ، ورعاها فقهاء الشيعة ومحدثوها بعناية فائقة واهتمام كبير. ملامح المدرسة : وجدنا فيما تقدم من حديث عن العصر الاول من عصور الفقه الشيعي أن تدوين الحديث لم يكن أمرا شائعا بين المحدثين الشيعة ، فلم تصلنا من ابن عباس مثلا رغم كثرة رواياته مدونة في الحديث إلا ما جمعه الفيروز آبادي من رواياته في التفسير والتأويل. وظاهرة التدوين ظهرت من أيام الامام الباقر عليه السلام ونمت أيام الامام الصادق عليه السلام ، فقد كان الامام الصادق عليه السلام ـ لما رأى من ضياع الاحاديث والسنن ـ بحث الرواة والعلماء على تدوين السنة وكتابتها. قال عاصم : سمعت أبا بصير يقول : قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : اكتبوا ، فانكم لا تحفظون إلا بالكتابة (1). وعن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال : ما يمنعكم من الكتاب ؟ ! إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا ، إنه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها. وعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : اكتبوا ، فانكم لا تحفظون حتى تكتبوا. 1 ـ وسائل الشيعة : ج 18 ص 236 باب 8 حديث 6. (22)
وكذلك نجد أن الامام الصادق عليه السلام كان يدفع أصحابه وتلامذته إلى التدوين وكتابة الحديث خوفا عليه من الضياع والاضطراب.
وهذه ظاهرة اولى على ملامح هذا العصر. والظاهرة الثانية ماجد في حياة المسلمين من شؤون وأحداث وحاجات مما لم يكن لهم به عهد من قبل ، ومما لم يجدوا له نصا في الكتاب والسنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد أوكل أمر بيان وتبليغ أحكام الله تعالى في هذه المسائل إلى أهل بيته من بعده في حديث « الثقلين » المعروف. ولما كانت السلطة تحظر الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام من أمثال هذه المسائل كان الفقهاء يضطرون إلى اتخاذ القياس والاستحسان ، والاخذ بالظن والرأي أداة لتبيين الحكم الشرعي. يقول الدكتور محمد يوسف موسى : بعد أن لحق الرسول الله صلى الله عليه وآله بالرفيق الاعلى ، وحدث من الوقائع والاحداث ما لم تشتمل نصوص القرآن والسنة على أحكامه كان لا بد من الوصول إلى هذه الاحكام بطريق آخر ، فكان من ذلك هذان الاصلان : ( الاجماع ، والقياس ) (1). وقد وقف الامام الصادق عليه السلام حين رأى شيوع الاخذ بالقياس والرأي موقف المعارض منهما ، ودعا أصحابه إلى عدم الاخذ بهما ، وعارض المذاهب الفقهية التي كانت تأخذ بالقياس أشد المعارضة. قال أبان بن تغلب : قلت لابي عبد الله عليه السلام : ما تقول في رجل قطع اصبعا من أصابع المرأة كم فيها ؟ قال : عشرة من الابل. قلت : قطع اثنين ؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا ؟ قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا ؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله يقطع ثلاثا فيكن عليه ثلاثون ، فيقطع أربعا فيكون عليه عشرون ! ! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ، ونقول : 1 ـ محاضرات في تاريخ الفقه الاسلامي : ص 17. (23)
الذي قاله شيطان. فقال عليه السلام : مهلا يا أبان هكذا حكم رسول الله صلى الله
عليه وآله إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى
النصف ، يا أبان إنك اخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين (1).
والظاهرة الثالثة ، في هذه المدرسة هو حدوث الاختلاف بين الرواة في الرواية. ففد شاع نقل الحديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه الفترة ، وكثر الدس وظهرالاختلاف في متون الروايات ، فكان يبلغ البعض منهم حديثان مختلفان في مسألة واحدة ، فكان الرواة يطلبون من أئمة أهل البيت عليهم السلام أن يبينوا لهم مقياسا لاختيار وتمييز الحديث الصحيح من بين الاحاديث المتضاربة التي تردهم في مسألة واحدة. قد ورد عنهم عليهم السلام أحاديث في معالجة الاخبار المتعارضة تسمى ( الاخبار العلاجية ) في الاصول. قال زرارة : سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهها آخذ ؟ فقال عليه السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر. فقلت : يا سيدي إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم. فقال : خذ بما يتول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنهمام عا عدلان مرضيان موثقان. فقال : أنظر ما وافق منهما العامة (2) فاتركه ، وخذ بما خالف ، فان الحق فيما خالفهم. قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع ؟ قال : إذا فخذ بما فيه الحائطة لدلنك واترك الآخر. قلت : فإنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع ؟ فقال : إذأ فتخير أحدهما 1 ـ من لا يحضره الفقيه : ج 4 ص 88 باب 17 حديث 1. 2 ـ فقهاء العامة هم الفقهاء الرسميون الذي كانت السلطة تنيط بهم أمر الفتيا والقضاء في ظروف وشروط وتحت ضغوط معروفة. وقد كان جل الفقهاء يحاولون التخلص من هذا التكليف العسير. (24)
وتأخذ به ودع الآخر (1).
والاخبار العلاجية كثيرة لا نريد أن نحصيها هنا ، ويكفينا ان نقول : إن ظهرر الاخبار العلاجية في هذه الفترة تكشف عن شيوعالرواية والحديث عن اهل البيت عليهم السلام في الفقه وانتشار فقه أهل البيت في الاقطار والامصار ، فقد انتشر فقه أهل البيت في كثير من أقطار العراق وخراسان والري. والحجاز واليمن بشكل ملحوظ مما أدى إلى كثرة النقل والحديث عنهم ، وتداول فقههم عليهم السلام. وهذه هي الظروف الطبيعية لظهور الدس والاختلاق والتزييف في الحديث. وهذه ظاهرة اخرى من ملامح هذا العصر. وفي هذه الفترة اتسعت شقة الخلاف بين المذاهب الفقهية الاسلامية في كثير من المسائل الخلافية. وكان موقف أئمة أهل البيت عليهم السلام مما يثار من الخلافات في هذه الفتنة موقفا حكيما فقد كانوا يجارون الفقه الرسمي الذي تتبناه السلطة ما تسعهم المجاراة ، لئلا يزيد الشرخ في هذه الامة ، فإذا خلوا إلى أصحابهم بينوا لهم وجه الحق فيما يختلف فيه الناس وأمروهم بالكتمان والسر ما وسعهم ذلك وحتى يقضي الله ما هو قاض. وهذا هو ما يعرف عند الامامية ب « التقية ». ولم تكن الغاية منها المحافظة على النفوس والدماء من إرهاب السلطة ، وإنما كانت الغاية منها كثيرا هي المحافظة على وحدة كيان الامة من التصدع والتفرق قدر الامكان. على أن أهل البيت عليهم السلام لم يفرطوا في بيان أحكام الله وحدوده بسبب التقية. 1 ـ عوالي اللئالي : ج 4 ص 133 ح 229. (25)
وقد أساء كثير من الناس فهم التقية وتحاملوا على الشيعة بسببها ، ولو عرفوا منطلقات التقية وحدودها من مصادرها الصحيحة لم يجدوا بدا منها في هذه الفترة الدقيقة والصعبة من تاريخ الاسلام.
وظاهرة رابعة في هذا الدور من ملامح المدرسة : تعيين موازين ومقاييس خاصة للاجتهاد والاستنباط من قبل أئمة أهل البيت عليهم السلام. فقد كان الرواة ينتقلون إلى مناطق بعيدة ، وتمس بهم الحاجة إلى معرفة أحكام الله ، ولا يجدون وسيلة للسؤال عن الامام عليه السلام ، ولا يجدون نصا في المورد ، فوضع لهم أئمة أهل البيت عليهم السلام اصولا وقواعد خاصة للاستنباط والاجتهاد يستعرضها الفقهاء بتفصيل كالاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير ، وجملة من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة واليد والاباحة والحلية ، وما شاكل ذلك مما يعين الفقيه على الاجتهاد والاستنباط. وقد أسهب الفقهاء والاصوليون في شرح هذه القواعد والاصول بصورة وافية في كتب الفقه والاصول. ورغم ما تقدم فلم يكن هناك اجتهاد بالمعنى الذي نعرفه اليوم وإنما كان الناس يطلبون إلى الامام أن يعين لهم مرجعا فيما يعرضهم من المسائل الشرعية ، فيعين لهم بعض أصحابه ممن يطمئن إليهم ، وممن سمع إلى حديثه ووعاه ، ولم تمس الحاجة إلى الاجتهاد أكثر من هذه الحدود بسبب معاصرة الامام المعصوم وإمكان الاتصال به ولو في موسم الحج من كل سنة. فلم يتجاوز أصحاب الائمة ـ عدا موارد قليلة ونادرة ـ نقل الحديث. والمجاميع الحديثية في غالب الاحوال لم تكن تجمع أبواب الفقه عامة ، أو تجمع كلما صح عن الامام في هذا الباب أو في هذه المسألة. وربما يجوز لنا أن نقول : إن شيئا من المجاميع الحديثية التي دونت في هذا العصر لم يكن على هذا الغرار من استيعاب أبواب الفقه ، وما صح عن الامام في كل باب ، فكانت الكتب والمدونات والاصول أشبه بمجموعات شخصية (26)
يجمع فيها كل راو ما سمعه عن مشايخه ، أو ما سمعه عن الامام مباشرة بصورة مبعثرة أو منظمة غير مستوعبة.
وقد يلتقي الباحث بكتاب أو كتابين يخرج عن هذا الاطار ، إلا أن الطابع العام للتدوين في هذا العصر كان الصورة التي قدمناها للقارئ. هذه هي اهم ملامح هذا العصر. وإذا صح أن المدرسة انتقلت من الكوفة إلى المدينة ، أو إلى بغداد أو إلى طوس في هذه الفترة فقد كان لفترة قصيرة ، وبصورة غير كاملة وبقيت الكوفة محتفظة بمكانتها حينا طويلا من هذا العصر. (27)
يبتدئ هذا العصر من الغيبة الكبرى والربع الاول من القرن الرابع إلى النصف الاول من القرن الخامس.
في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتي ( قم وري ) ، وظهر في هذه الفترة شيوخ كبار من أساتذة فقه أهل البيت في هاتين المدينتين ، كان لهم أكبر الاثر في تطوير الفقه الامامي ، فقد كانت قم منذ أيام الائمة عليهم السلام مدينة معروفة بولائها وانتمائها لاهل البيت ومن امهات المدن الشيعية ، وكانت حصنا من حصون الشيعة ، وعشا لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وموضع عناية خاصة من أهل البيت عليهم السلام. وقد ورد عنهم عليهم السلام : ان البلايا مدفوعة عن قم وأهلها. وسيأتي زمان تكون بلدة قم وأهلها حجة على الخلائق ، وذلك في زمان غيبة قائمنا إلى ظهوره عجل الله تعالى فرجه ، ولولا ذلك لساخت الارض بأهلها (1). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه قال : سلام الله على أهل قم ، ورحمة الله على أهل قم ، سقى الله بلادهم الغيث ، وتنزل عليهم البركات فيبدل 1 ـ سفينة البحار : ج 2 ص 445. (28)
سيئاتهم حسنات ، هم أهل ركوع وخشوع وسجود ، وقيام وصيام ، هم الفقهاء العلماء ، هم أهل الدين والولاية والعبادة ، وحسن العبادة (1).
وكانت الري في هذا التاريخ بلدة عامرة بالمدارس والمكاتب وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدثين (2). وقد كان أحد أسباب انتقال مدرسة أهل البيت من العراق إلى ايران هو المعاملة القاسية التي كان يلاقيها فقهاء الشيعة وعلماؤهم من العباسيين ، فقد كانوا يطاردون من يعرف بولائه لاهل البيت عليهم السلام بمختلف ألوان الاذى والتهمة. فالتجأ فقهاء الشيعة وعلماؤها إلى قم وري ، ووجدوا في هاتين البلدتين ركنأ آمنا يطمئنون إليه لنشر فقه أهل البيت عليهم السلام وحديثهم. ويظهر أن قم أو أن عصر الغيبة وعهد نيابة النواب الاربعة كانت حافلة بعلماء الشيعة وفقهائها ، ومركزا فقهيا كبيرا من مراكز البحث الفقهي. يقول الشيخ في كتاب الغيبة : أنفذ الشيخ حسين بن روح ـ رضي الله تعالى عنه ـ كتاب التأديب إلى قم ، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم : : انظروا ما في هذا الكتاب ، وانظروا هل فيه شيء يخالفكم ؟ (3). وهذه الرواية التاريخية تدل على أن قم كانت في عهد حسين بن روح مركزا فقهيا حافلا بالفقهاء بحيث يراجعها الشيخ حسين بن روح نائب الامام الخاص عجل الله تعالى فرجه ويعرض عليهم رسالة التأديب لينظروا فيها. ووصفها الحسن بن محمد بن الحسن القمي المتوفى سنة 378 ـ وهي من الفترة التي نتحدث عنها ـ في كتاب خاص ننقل عناوين أبواب منه ليلمس 1 ـ مجالس المؤمنين : ص 84. 2 ـ مجالس المؤمنين : ص 92 و 93. 3 ـ الكنى والالقاب : ج 3 ص 76. (29)
القارئ سعة هذه المدرسة وضخامتها في القرن الرابع وهو العصر الذي نتحدث عنه.
قال : الباب السادس عشر في ذكر أسماء بعض علماء قم ، وشئ من تراجمهم ، وعدد الشيعة منهم 266 شخصا ( ممن يترجم هو دون الذين لا يترجمهم ). وعدد العامة 14 شخصا مع ذكر مصنفات كل واحد منهم ومروياته وما يتعلق بذلك (1). إذن كانت مدرسة قم في هذه الفترة من أوسع المدارس الشيعية في الفقه والحديث وأضخمها ، وكانت تضم مئات المدارس والمساجد والمكاتب ، وندوات البحث والمناقشة ، ومجالس الدرس والمذاكرة. دولة آل بويه : وقد يصح أن نقول إن من أسباب ازدهار هذه المدرسة الفقهية حكومة ( آل بويه ) في هذه المنطقة ـ منطقة قم وري ـ في هذه الفترة. فقد عرف آل بويه في التاريخ بنزعتهم الشيعية ، وولائهم لاهل البيت عليهم السلام ، مما بعث فقهاء الشيعة وعلماؤها أن يقصدوا هذه المنطقة ويجتمعوا فيها. ومهما يكن من أمر فقد حفلت قم وري في هذه الفترة ـ القرن الرابع الهجري ـ بشيوخ كبار في الفقه والحديث أمثال : الشيخ الكليني المتوفى سنة 329 ه ، وابن بابويه والد الصدرق المتوفى سنة 329 ه ، وابن قولويه استاذ الشيخ المفيد المتوفى سنة 369 هجرية ، وابن الجنيد المتوفى سنة 381 هجرية بالري والشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه والمدفون بالري ، وغيرهم من كبار مشايخ الشيعة في الفقه والحديث. 1 ـ مقدمة السيد حسن الخرسان على من لا يحضره الفقيه : ص ( د ). (30)
ونشطت في هذه الفترة حركة التأليف والبحث الفقهي وتدوين المجاميع الحديثية الموسعة كا لكافي ومن لا يحضره الفقيه ، وغيرهما من المجاميع الحديثية والكتب الفقهية.
النشاط الفكري في هذه المدرسة : وقد بلغ النشاط الفكري في التأليف والبحث الفقهي ، وتدوين الاحاديث وجمعها وتنسيقها غايته في هذه الفترة ، وخلفت لنا هذه الفترة ثروة فكرية ضخمة من أهم ما أنتجته مدارس الفقه والحديث الشيعي فيتاريخ ها. من رجال هذه المرحلة : ولكي يلمس القارئ حدود هذه المدرسة وضخامتها نشير إلى أسماء بعض الفقهاء والمحدثين اللامعين من هذه المدرسة ، من الذين عاشوا خلال هذه الفترة ، ثم يمعن النظر بعد ذلك في كتب التراجم والرجال والتاريخ من أراد أن يستقصي البحث عن ذلك : 1 ـ علي بن إبراهيم : وعلي بن إبراهيم القمي شيخ الكليني في الحديث ،. كان ثقة في الحديث ثبتا معتمدا صحيح المذهب ، سمع فأكثر ، وصثف كتبا ، منها : قرب الاسناد ، وكتاب الشرائع ، وكتاب الحيض (1). 2 ـ الكليني : كان محمد بن يعقوب الكليني معاصرا لعلي بن الحسين بن بابويه ـ والد الشيخ الصدوق ـ وتوفيا في سنة واحدة ، وهي المعروفة عند الفقهاء بسنة موت الفقهاء. 1 ـ رجال النجاشي : ص 260 تحت رقم 680 نقلا بالمعنى. |
|||
|