بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 31 ـ 40
(31)
أدنى الحِلِّ


(32)

(33)
    إنّ المقصود بأدنى الحِلِّ : هو أقرب الأماكن الى حدود الحرم من خارج الحدود ; ولهذا تعرف المنطقة التي تقع داخل حدود الحرم بـ ( الحرم ) ، لما لها من أحكام خاصة تقديساً لمكّة.
     وتعرف المنطقة التي تقع خارج الحدود بـ ( الحِلّ ) ; لأنّ الله تعالى حلّل فيها ممارسة ما حرّم داخل الحدود.
     وقد انعكس ذكر ( الحلّ والحرم ) في الشعر العربي ، كما ورد في قول الفرزدق مادحاً الإمام علي بن الحسين ( زين العابدين ) ( عليه السلام ) :
هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته والبيتُ يعرفه والحلّ والحرم
     وقد جعل الشارع المقدّس أدنى الحِلِّ ميقاتاً للعمرة المفردة على نحو الرخصة بالتفصيل الآتي :
     لقد ذكر الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) : أنّ القارن أو المفرِد أو المتمتّع بعد إتمام حجّة التمتع ، أو مَنْ كان بمكّة ليس بحاجٍّ ، أو مَنْ تعدَّى المواقيت ـ التي وقَّتَها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للإحرام وأراد الدخول الى مكّة ـ إذا أراد إتيان العمرة المفردة فميقاته أدنى الحِلّ بلا خلاف في ذلك.
     ومعنى ذلك : هو أن يخرج المعتمر ـ مثلا ـ الى خارج حدود الحرم المحدّد في الروايات بأنّه : « بريد في بريد » فيحرم منه.
     وقد ذكر الفقهاء استحباب أن يحرم المعتمر من الجعرانة أو الحديبيّة أو


(34)
    التنعيم ، للتصريح بها في الروايات ، وللتأسّي ، فمن الروايات :
     1 ـ ما عن معاوية بن عمار في الصحيح عن الإمام الصّادق ( عليه السلام ) قال : « اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثلاث عمر متفرقات : عمرة ذي القعدة ، أهلّ من عسفان وهي عمرة الحديبية ، وعمرةٌ أهلَّ من الجحفة وهي عمرة القضاء ، وعمرة من الجعرانة بعدما رجع من الطائف من غزوة حنين » (1).
     وقد نقل عن طريق أبناء السنّة ، عن ابن عباس : « أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء من قابل ، والثالثة من الجعرانة ، والرابعة التي مع حجّته » (2).
     أقول : وظاهر الروايتين جواز الإحرام من عسفان ، وهو يبعد عن مكّة مرحلتين ( 48 كيلومتراً ) تقريباً ، وهو ليس ميقاتاً ، وليس من أدنى الحِلّ.
     ولكن الإمام الخوئي ( رحمه الله ) ذكر ما يلي : « أنّ الذي يظهر من الروايات الصحيحة والتواريخ المعتبرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما اعتمر بعد الهجرة عمرتين ، وإنّما عبّر في الصحيحة المتقدمة بثلاث عمر باعتبار شروعه في العمرة والإحرام لها ، ولكنّ المشركين منعوه من الدخول الى مكّة ، فرجع ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد ما صالحهم في الحديبية ، واعتمر في السنة اللاحقة قضاءً عما فات عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن أصحابه ، فسُمّيت بعمرة القضاء ، كما صرّح بذلك في صحيحة أبان ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « اعتمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ثلاث عمر كلهن في ذي القعدة » (3).
     وفي صحيحة صفوان أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحرم من الجعرانة (4).
     (1) وسائل الشيعة : ج10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح2.
     (2) وسائل الشيعة : ج10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح6.
     (3) وسائل الشيعة : ج10 ، باب 2 من أبواب العمرة ، ح3.
     (4) وسائل الشيعة : ج8 ، باب 9 من أقسام الحجّ ، ح6.

(35)
    فالذي يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحرم من مسجد الشجرة للعمرة ، ورفع صوته بالتلبية من عسفان ( وهو معنى أهلّ ) وهي العمرة التي منعه المشركون من الدخول الى مكة وصالحهم في الحديبيّة ، ورجع من دون إتيان مناسك العمرة ، ثم في السنة اللاحقة اعتمر وأحرم من مسجد الشجرة ، وأهلّ ورفع صوته بالتلبية من الجحفة فسُميت بعمرة القضاء ، وأمّا الجعرانة فالظاهر من الصحيحة أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحرم منها لظهور قوله : « وعمرة الجعرانة » في أن ابتداء العمرة كان من الجعرانة ، لا أنه أحرم قبل ذلك ورفع صوته بالتلبية من الجعرانة ، كما صرح بذلك في صحيحة أبان المتقدمة. فالمستفاد من الصحيحة جواز الإحرام للعمرة المفردة من الجعرانة اختياراً وإن لم يكن من أهل مكّة كالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، كما يجوز الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولكن يختص ذلك بمن بدى له العمرة في الأثناء » (1).
     أقول : وعلى هذا الذي تقدم فستكون هذه الرواية دليلا على جواز الإحرام من الجعرانة ، التي هي أقرب الحلِّ الى الحرم فقط.
     2 ـ ما عن جميل بن دراج في الصحيح ، قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية ؟ قال ( عليه السلام ) : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة ، قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة » (2).
     وكان صُنْعُ عائشة ، كما ذكره ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب معاوية بن عمار ، فقال :
     « ... إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نزلها ـ البطحاء ـ حين بعث عائشة مع أخيها عبد الرحمان إلى التنعيم ، فاعتمرت لمكان العلّة التي أصابتها ; لأنّها قالت
     (1) مستند العروة الوثقى : ج2 ، ص391 - 392 ، كتاب الحج ، تقريرات الإمام الخوئي ، بقلم السيد رضا الخلخالي.
     (2) وسائل الشيعة : ج8 ، باب 21 من أقسام الحجّ ، ح2.

(36)
    لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً ، وأرجع بحجّة ؟ فأرسل بها عند ذلك ... » (1).
     3 ـ روى ابن بابويه في الصحيح ، عن عمر بن يزيد ، عن الإمام الصّادق ( عليه السلام ) : « مَنْ أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر فليعتمر من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما » (2).
     وهذه الرواية تشمل جميع مواضع الحرم لقوله ( عليه السلام ) : « أو ما أشبههما » ، كما أنها مطلقة من حيث كون العمرة مسبوقة بالحجّ أم لا ، فحينئذ لا ينبغي الريب في هذا الحكم.
     أقول : تبيّن من هذه الروايات : أنّ ثلاثة مواقيت قد فضِّلت في إحرام العمرة المفردة على بقية نقاط أدنى الحِلّ ، وهي :
     1 ـ الحديبية. 2 ـ الجعرانة. 3 ـ التنعيم.
     أمّا الجحفة فهي ميقات أبعد من أدنى الحِلّ بكثير ، يمرّ بها ـ الآن ـ حجّاج البحر القادمون عن طريق ميناء ينبع من مصر وغيرها ، وحجّاج البّر القادمون من الأردن عن طريق العقبة. وقد رأينا أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أهلَّ منها ، وكذا عسفان التي تبعد عن مكة مرحلتين.
     ولا بأس بالإشارة الى أنَّ هذه المواقيت الثلاثة هي رخصة لا عزيمة ، كما ذكر ذلك صريحاً شيخ الطائفة وصاحب الجواهر ( قدس سرهما ) (3).
     وبهذا يكون من الجائز الخروج الى أحد المواقيت كالجحفة ويلملم والعقيق وغيرها للإحرام منها ، وذلك للروايات الدالة على أنَّ هذه المواقيت لأهلها ولمن
    أتى عليها من غير أهلها ، فقد روى صفوان بن يحيى في الصحيح عن الإمام أبي
     (1) المصدر السابق ، باب3 من أقسام الحج ، ح4.
     (2) المصدر السابق ، باب 22 من المواقيت ، ح1.
     (3) جواهر الكلام : ج18 ، ص119.

(37)
    الحسن الرضا ( عليه السلام ) فكتب : « ... أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقَّت المواقيت لأهلها ، ومن أتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا تجاوز الميقات إلاّ من علّة » (1).
     والذي نريد أن نبحثه الآن هو تفصيل المواقيت الثلاثة ، وهي : ( الحديبية ، الجعرانة ، التنعيم ) ، وما أشكل على موضع التنعيم من كونه أبعد من موضعه الحالي والجواب عنه ، فنقول :

1 ـ الحديبية
     الحديبية : ـ بضمّ الحاء المهملة ، ففتح الدال المهملة ، ثمّ ياء مثنّاة تحتانية ساكنة ، ثمّ باء موحّدة ، ثم ياء مثنّاة تحتانية ، ثمّ تاء التأنيث ـ هي في الأصل اسم بئر خارج الحرم على طريق جدّة عند مسجد الشجرة ، التي كانت عندها بيعة الرضوان ، التي نزل فيها القرآن : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ... )(2).
     وقال الخطّابي في أماليه : سُمّيت بالحديبية لشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع ، وبين الحديبية ومكة مرحلة وفي الحديث : « إنّها بئر ». وبعض الحديبية في الحِلّ وبعضها في الحرم وهو أبعد الحلّ من البيت ... وعند مالك بن أنس انها جميعها من الحرم (3).

ضبط الكلمة :
     لقد استعملت الياء المثناة المفتوحة بالتخفيف والتشديد.
     (1) وسائل الشيعة ، 8 : باب 15 من ابواب المواقيت ، ح1.
     (2) الفتح : 18.
     (3) معجم معالم الحجاز لعاتق بن غيث البلادي : ج2 ، ص246 - 247.

(38)
    وفي كشف اللثام : قال السهيلي : « والتخفيف أعرف عند أهل العربية ، وقال أحمد بن يحيى : لا يجوز فيها غيرُه وكذا عن الشافعي ». وقال أبو جعفر النحاس : « سألت كل من لقيت ممن أثق بعلميته من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة. وقيل : إنَّ التثقيل لم يُسمع من فصيح » (1).
     وقال في الحدائق الناضرة : « قال ابن ادريس في السرائر : الحديبية اسم بئر خارج الحرم يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العطار النوهي ؟ فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد » (2).
     وفي تهذيب الأسماء عن مطالع الأنوار : « ضبطناها بالتخفيف عن المتقنين ، وأمّا عامّة الفقهاء والمحدّثين فيشدّدونها » (3).
     وتعرف منطقة الحديبية ـ اليوم ـ بـ « الشميسي » بالتصغير ، وتقع غربي مكة المكرمة في الحِلّ على طريق مكة جدة القديم ، بينها وبين علمي الحرم المكي مسافة قليلة ، وبين العلمين ومكة حوالي اثنين وعشرين كيلو متراً.

2 ـ الجعرانة
     ضبطها : « بكسر الجيم وإسكان العين المهملة وتشديد الراء المهملة المفتوحة » كما عن الجمهرة. وعن الأصمعي والشافعي : « بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء. قيل : العراقيون يثقّلونه ، والحجازيون يخفّفونه » وحكي عن ابن ادريس : بفتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضاً ، فالراء فيها تخفف وتشدّد
     (1) كشف اللثام.
     (2) الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني : ج14 ، ص455 -ص456.
     (3) عن كتاب الحج ، تقريرات آية الله العظمى السيد الشاهرودي : ج2 ، ص294.

(39)
لاستعمالين موثقين.
     وهي موضع بين مكّة والطائف من الحِلِّ ، بينها وبين مكّة ثمانية عشر ميلا على ما ذكره الباجي ، وتقع شمال شرقي مكة المكرمة ، وفيها علما الحدّ ، ومنها أحرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعمرته الثالثة على ما نصت عليه الروايات ، وفيها مسجده الذي صلّى فيه وأحرم منه عند مرجعه من الطائف بعد فتح مكة ، ويقع هذا المسجد وراء الوادي بالعدوة القصوى ويعرف بالمسجد الأقصى لذلك ، ولوجود مسجد آخر بُني من قبل أحد المحسنين يعرف بالمسجد الأدنى. وبالقرب من مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بئر واسعة عذب ماؤها. وهي اليوم قرية صغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً ، وفيها المسجد الذي أقامته الحكومة السعودية محرماً ، شرقي أرض المسجد القديم دونما فصل بينهما.. (1) ولكن مؤلف معجم معالم الحجاز ذكر عن الجعرانة : « ومن قال : إنها ـ الجعرانة ـ بين مكة والطائف فقد أخطأ ، فهي شمال مكة ، مع ميل إلى الشرق ولا لزوم في ذكر الطائف في تحديدها أبداً ، إذ هي لا تبعد عن مكة بأزيد من ( 29 ) كيلو متراً » (2).

الجعرانة وموقعها الجغرافي :
     ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكّة التاريخية : أنَّ « جبل الستار يقع قُرب الجعرانة من الجنوب ، وهو الجبل الذي يُشرف على علميْ طريق نجد من الشمال ، والذاهب من مكة الى نخلة يجعل الستار على يساره عن قرب ، والجعرانة ـ اليوم ـ قرية صغيرة في صدر وادي سَرِف » (3).
     (1) هداية الناسكين : ص89 ، تحقيق الدكتور عبد الهادي الفضلي.
     (2) معجم معالم الحجاز ( عاتق بن غيث البلادي ) : ج2 ، ص148 - 149.
     (3) مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص15.



(40)
3 ـ التنعيم
     التنعيم : ـ بفتح التاء الفوقانية المثناة ـ « بلفظ المصدر ، سُمي به موضع على ثلاثة أميال من مكة أو أربعة ... به مسجد الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومسجد الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ومسجد اُمّ المؤمنين عائشة ، وسمي بالتنعيم لأنّ جبلا اسمه نعيم يقع عن يمينه ، وعن شماله يقع جبل آخر اسمه ناعم ، واسم الوادي نعمان ، وهو أقرب أطراف الحِلّ الى مكة ، كما هو واضح الآن » (1).
     والتنعيم يقع في الشمال الغربي لمكّة المكرّمة ، بينها وبين سَرِف ـ الذي فيه قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ على طريق مكة المدينة المارِّ بوادي فاطمة ( المعروف قديماً بمرِّ الظهران ).
     وقد ذكر مؤلف مختصر معجم معالم مكة التاريخيّة موقع التنعيم فقال : « واد ينحدر شمالا بين جبال بشم شرقاً ، وجبل الشهيد جنوباً ، فيصب في وادي ياج وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكّيّين ، وتسمى عمرته : عمرة التنعيم ، أي مكان الاعتمار ; وذلك تمييزاً لها عن عمرة الجعرانة ، وكان يسمى نعمان ، قال محمد بن عبد الله النميري :
فلم تر عيـني مثل سـرب رأيتهُ مررنَ بـفخ ثـمّ رُحْنَ عشية تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان إذ مشت خرجنَ من التنـعيم معتمـرات يـلبـين للرحمن مؤتجرات به زينبٌ في نسوة عطرات (2)

     (1) كتاب الحج للسيد آية الله العظمى الشاهرودي : ج2 ، ص295 بتصرّف. أقول : سيأتي أنّ جبل نعيم جنوب شرق التنعيم ( مسجد العمرة ) وجبل ناعم يكون من ناحية الشرق.
     (2) مختصر معجم معالم مكة التاريخية : ص9 ـ 10.


بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس