بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 91 ـ 100
(91)
ما هو شرط النتيجة ؟
     أقول : إنّ الشرط الذي اشترط لم يكن فعلا وإنّما هو أمر جعلي جعله المتعاقدان ، مثل أن يقول شخص لآخر : بعتك السيارة بألف بشرط أن يكون الكتاب ملكي.
     ويختص شرط النتيجة الذي يحكم بصحته في العقود في تحصيل الغاية التي لا يشترط في ايجادها سبب خاص ( كالنكاح والطلاق الذي اشترط الشارع فيهما صيغة خاصة ) مثل الوصية والوكالة ، كما إذا زوجت المرأة نفسها للزوج بشرط أن تكون وكيلة أو مأذونة في طلاق نفسها مطلقاً ، أو في موارد خاصة كحبس الزوج مدة معينة ، فالمشروط هنا الوكالة نفسها. وكذا إذا اشترطت الزوجة أن تكون وصية للزوج بالنسبة لثلث ماله أو على أطفاله. وكذا إذا اشترط شخص في هبته سقوط الخيار في النكاح ، فهذه الشروط ـ التي هي شروط نتيجة ـ قد صحّحتها نصوص شرعية (1).
     ولكن يكفينا « المؤمنون عند شروطهم » الذي يشمل الشرط إذا كان فعلا يقوم به المشروط عليه ، أو كان الشرط نتيجة الفعل المترتب على الشرط ، كما إذا اشتريت بيتاً بشرط أن تكون الثلاجة لي ، « فالمسلمون عند شروطهم » يقول : ادفع الثلاجة إلى المشتري وهو معنى صحة شرط النتيجة.
     « وعلى هذا فالمسلمون عند شروطهم يشمل المشروط الذي يكون حصوله وانشاؤه بغير الشرط صحيحاً ، وبالشرط لازماً » (2).
     (1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب6 من الخيار ، ح4 رواية الحلبي ، و ب8 من الخيار ، ح3 رواية معاوية بن ميسرة ، و ج13 ، ب30 من أحكام الاجارة ، ح5 رواية موسى بن بكر ، و ب29 من أحكام الإجارة ، ح15 ، و ج16 ، ب11 من المكاتبة ، ح1 رواية سليمان بن خالد.
     (2) وقد يقال : إنّ هذا الاستدلال غير صحيح ، لأن حديث « المسلمون عند شروطهم » مقيّد بجملة « إلاّ شرطاً خالف كتاب الله أو إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالا ». وإذا شككنا في أن الملكية الحاصلة بالشرط من دون انشاء ولا عوض ولا مجاناً هل تكون مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فحينئذ يكون التمسك بـ « المسلمون عند شروطهم » من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعنوان المخصص.
     وقد أجاب الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) عن هذا الاشكال بما خلاصته : أنّ الهبة بدون إنشاء ولا عوض ولا مجاناً كان جائزاً وغير مخالف للكتاب والسنة ولو قبل الكتاب والسنة ، والآن لا نعلم أنّها مخالفة للكتاب والسنة أم لا ؟ فنستصحب عدم المخالفة. وحينئذ تكون الملكية بالشرط وجدانية وكونها غير مخالفة للكتاب والسنة بالأصل فيكون الموضوع محرزاً.
     أقول : إن كل شرط إذا لم يعلم مخالفته للكتاب والسنة يمكن التمسك لصحته بعمومات فوقانية ، مثل : « المسلمون عند شروطهم ... » أو موثّقة إسحاق بن عمار القائلة : « من شرط لامرأته شرطاً فليفِ لها به ، فإنَّ المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً حرَّم حلالا أو أحل حراماً ». وسائل الشيعة : ج15 ، ب40 من العقود.
     وقد اُشكل على الشيخ الأنصاري : بأنَّ الاستصحاب غير صحيح ، وذلك لأنَّ الحالة السابقة هي سالبة بانتفاء الموضوع ، بمعنى أنّ الشرط حينما كان غير مخالف للكتاب والسُنَّة لم يكن الشرط موجوداً ، ولكنّ موضوع وجوب الوفاء هو : سالبة بانتفاء المحمول ( السالبة المحصلة ) بمعنى وجود الشرط وعدم مخالفة الكتاب والسنة ، وهذه السالبة المحصلة ليست لها حالة سابقة ، وحينئذ إذا أردنا استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع لاثبات السالبة بانتفاء المحمول يكون أصلا مثبتاً.
     وقد ردّ الشيخ النائيني ( قدس سره ) هذا الإشكال بما لا يسع المقام لذكره في مثل هذه الأبحاث ، فنكتفي بهذا المقدار.

(92)
    كما يمكن أن يستدل على صحة شرط النتيجة بـ ( أوفوا بالعقود ) حيث إن البيع الذي شرط فيه ملكية الثلاجة المعينة معناه الالتزام باصل المعاملة والالتزام بالأمر الوضعي ، وبما أن الشرط قد دخل تحت عنوان العقد ، فـ ( أوفوا بالعقود ) يقول : فِ بالعقد والشرط ، فيكون الشرط صحيحاً.
     ولا نرى حاجة للتنبيه إلى أن وجوب الوفاء بالشرط لا يفرق فيه بين العقد اللازم والجائز ما دام العقد لم يُفسخ ، لأنّ الشرط مرتبط بالالتزام العقدي وهو موجود لم يلغ.


(93)
    نعم ، إذا اُلغي الالتزام العقدي بالفسخ في العقد الجائز أو بالاقالة في العقد اللازم فلا يجب الوفاء بالشرط ; لزوال الالتزام العقدي.
     الصورة الثانية (1) : وهي عبارة عن عقد اجارة ثم وعد أو عهد ببيع البيت ( عند انتهاء أمد الاجارة ) بثمن معين ، ثم بيع البيت بذلك الثمن آخر المدة.
     وهذه عقود مجتمعة على مرّ الزمان مرتبطة فيما بينها تحقّق هدفاً ـ عقداً ـ واحداً هو الأصل.
     ولا يوجد هنا عقد معلق على شرط أو أجل كما قيل (2) ، وإنّما عند انتهاء عقد الاجارة يحصل بيع البيت ( كما وعد المؤجر بذلك ) للمستأجر بثمن معين ، وهذا هو شرط فعل البيع في عقد الاجارة.
     وبما أنّنا لا نرى أي إشكال في وجود شرط الفعل ( فعل البيع ) عند الاجارة أو أي شرط آخر إذا كان هذا الشرط لا يوجب تعليقاً في العقد ويحقّق مصلحة مشروعة لأي من المتعاقدين ، ولا ينافي المقصود الأصلي من العقد ولا يخالف كتاباً ولا سُنَّة ، ولا يوجب غرراً أو محذوراً آخر ، ولا يكون مستحيلا وذلك للحديث الصحيح الذي قبله الفريقان وهو قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالا أو إلاّ شرطاً خالف كتاب الله » (3).
     (1) تقدّمت الصورة الاُولى في ص90.
     (2) راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، الدورة الخامسة ج4 بحث الدكتور حسن علي الشاذلي « الايجار المنتهي بالتمليك ».
     (3) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود وابن ماجة ، وصححه ابن حبان. وروي أيضاً في وسائل الشيعة : ج15 ، ب40 من المهور ، ح4 والحديث موثّق ، وفي ب20 من المهور ح4 والرواية صحيحة.

(94)
    وأمّا ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من انه : نهى عن شرطين في بيع ، فيما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك ». وقد ورد هذا الحديث من طرق الامامية أيضاً ، فنقول : إنّ معناه ليس كما قاله بعضٌ ( الحنابلة ) من أن اشتراط شرطين فاسدين يبطل العقد ولا يبطل شرط فاسد واحد (1).
     وليس معناه أيضاً : النهي عن اشتراط عقد في عقد ، كما لو باعه بيتاً بشرط أن يبيعه السيارة ، كما عن الزيدية والأباضية (2).
     بل معناه ـ كما ورد في ذلك أثر ـ هو التردد بين النقد والنسيئة في صيغة واحدة ، فقد روى النوفلي عن السكوني عن جعفر ( الإمام الصادق ( عليه السلام ) ) عن أبيه ( الإمام الباقر ( عليه السلام ) ) عن آبائه ( عليهم السلام ) : « أن عليّاً ( عليه السلام ) قضى في رجل باع بيعاً واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا فاخذ المتاع على ذلك الشرط ، فقال ( عليه السلام ) : هو بأقلّ الثمنين وأبعد الأجلين » (3).
     وأمّا الوعد ـ العهد ـ الذي تقدّم من المؤجر للمستأجر فسوف نرى فيما بعد أنه ملزم للمؤجر.
     (1) راجع بحث الدكتور حسن علي الشاذلي : « الايجار المنتهي بالتمليك » في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في الدورة الخامسة : ج4 ، عدد 5.
     (2) المصدر السابق.
     (3) وسائل الشيعة : ج12 ، ب2 من أحكام العقود ، ح2.
     وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً من الناحية السندية إلاّ أنه يفسِّر معنى الشرطين في العقد ، فإن السند إذا كان غير صحيح لا يمكن الاعتماد على الحكم الذي قال به الأثر ، أمّا الاستعمال والمعنى فلا يحتاج إلى صحة السند لمعرفته ، لكن توجد صحيحة محمد بن قيس البجلي وهو الحديث الأول في الباب نفسه تقول بنفس المضمون ، وتوجيه الحكم فيها هو فيما إذا باعها حالا بنقد وإذا اُجل الثمن فيزيد فهو شرط حرام لأنّه ربا حيث أجل المال في مقابل الزيادة.

(95)
3 ـ بطاقة الائتمان
     إنّ بطاقة الائتمان التي يعطيها المصدِّر ( وهو البنك ) لشخص حقيقي أو حقوقي بناء على عقد بينهما يمكّن من بيع أو شراء السلع أو غيرها من الحصول على الخدمات أو تقديمها أو سحب النقود من بنك آخر على حساب المصدِّر هي عبارة عن عقدين :
     الأول : عقد بين مصدِّر البطاقة وبين الحامل لها يتضمّن حدّاً أقصى للائتمان وشروط العلاقة بينهما ، فالبنك تعهد باعطاء ما يشتريه عميله بالبطاقة ( من حساب العميل إن وجد ومن حساب البنك المصدِّر إن لم يوجد للعميل رصيد كاف عند البنك ). وفي مقابل ذلك تعهّد حامل البطاقة بالسداد في وقت محدد إن لم يكن له رصيد كاف في البنك.
     ونتمكّن أن نطلق على هذا العقد عقد ضمان بالمعنى الذي يقوله الإمامية ، وهو نقل الدين من ذمة إلى ذمة ( في صورة ما إذا لم يكن للعميل رصيد عند البنك ) ، وهذا العقد يمكن انشاؤه مستقلا بعد كل معاملة قام بها العميل مع التاجر وكسب التاجر الموافقة على ضمان العميل من قبل البنك بالطرق الالكترونية الحديثة. وحينئذ ينتقل الدين من ذمة حامل البطاقة بعد الشراء إلى ذمة البنك ، على أن يسدد حامل البطاقة المال في مدّة محدّدة ، وهذا عقد صحيح يشمله ( أوفوا بالعقود ).
     الثاني : عقد بين مصدّر البطاقة وبين من يعتمدها من مؤسسات وشركات أو مصارف يتضمن شروط العلاقة بينهما. والعلاقة هي أن يقوم البنك باعطاء التاجر ثمن البطاقة أو الخدمة التي قدمها إلى حامل البطاقة ، محسوماً منها نسبة معينة هي أجر سمسرة ـ مثلا ـ تؤخذ ممّن قدمت له الخدمة التي هي غير ضمان المال


(96)
    الذي يقدمه البنك إلى التاجر من باب الضمان لقيمة شراء العميل مثلا ، بل الخدمة هي ترويج التعامل مع المؤسسات التجارية التي هي خدمة للطرفين ( العميل والتاجر ).

4 ـ المشاركة المتناقصة
     وهي عبارة عن عملية استثمارية جديدة يقوم بها البنك الحكومي مع عميله الذي يحتاج إلى التمويل في إنشاء مشروع ، أو بناء عقار بعيد عن القروض الربوية ; وذلك بتقديم البنك قسماً من رأس مال المشروع بصفته مشاركاً للعميل في مشروعه ويتعهد البنك مع الشريك على طريقة معينة لبيع حصة البنك في المشروع تدريجياً إلى الشريك (1).
     وهذه العملية إذا كان عليها بعض الاشكالات ممن لا يرى أن البنك الحكومي الذي هو شخصية حقوقية مالك فيمكن تبديل هذا البنك ببنك أهلي حقيقي ، أو تبديل المثال بشخص حقيقي يكون شريكاً لصاحب المشروع.
     ونلاحظ هنا رغم أن البنك الشريك لا يقصد البقاء والاستمرار في الشركة مع العميل عند العقد إلاّ أنّه لابُدَّ من قصده أصل الشركة كعقد بحيث يلتزم بجميع التزامات الشركة وتبعاتها وضماناتها وله حقوق الشريك كاملة.
     وهذا العقد قد طبقته بنوك الجمهورية الإسلامية في ايران وعليه العمل خارجاً ، فبعد المشاركة في المشروع يتفق الطرفان على تنازل البنك عن حصته تدريجاً لشريكه مقابل سداده ثمنها شهرياً خلال فترة يتفق عليها ، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك إلى الشريك.
     (1) ويجب على البنك أن يوجد البيع بعد ذلك باعتباره عملا مستقلا لا علاقة له بعقد الشركة.
(97)
    وقد نلاحظ في هذه الصورة أنَّ البنك وان كان يأخذ من الشريك أكثر مما دفعه البنك إليه عندما صار شريكاً له ، إلاّ أنَّ هذا يمكن تخريجه فقهياً
    بصورتين :
     الاُولى : أنّ البنك يتعهد ببيع حصته بنفس المبلغ الذي دفعه البنك إلى الشريك عند المشاركة حينما يتم وجود المبلغ عند البنك على شكل دفعات شهرية ، أما الزائد على ذلك المبلغ الذي اجتمع لدى البنك فهو اجارة لحصة البنك الشريك مع العميل في هذه الفترة.
     وطبعاً يقوم البنك حالياً في الجمهورية الإسلامية في ايران بتخفيض الأجرة كلَّما سدّد الشريك قسماً من الثمن ; وذلك لأنَّ البنك إذا كان له 50% من المشروع وسدد الشريك له ما يقابل 1% من الثمن فقد نقصت حصة البنك إلى 49% ولهذا تنقص اُجرته.
     الثانية : بعد أن تتم المشاركة يتمكّن البنك أن يبيع حصته على شريكه بأقساط شهرية بأكثر من المبلغ الذي دخل فيه مشاركاً. وحينئذ يخرج البنك عن كونه مشاركاً يلزم بتبعاتها وله حقوقها ، ولكن لا يعترف البنك للشريك بملكية المشروع حتى يتم السداد ، وهذا عبارة عن توثيق للبنك على ثمن حصته التي باعها.
     وهذه العملية مفيدة لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع واحداث المستشفيات وبناء دور السكن بعيداً عن الربا ، كما هي مفيدة للطرفين حيث تجعل احدهما قد حصل على ارباح شهرية والآخر قد حصل على تملّك المشروع أو الدار بصورة تدريجية.
     والى هنا قد اتضح أنَّ هذه المشاركة المتناقصة هي عبارة عن عقدين :
     الأول : عقد الشركة بين الطرفين لانشاء مشروع أو بناء عقار.
     الثاني : بيع أحد الطرفين حصته من الشركة تدريجاً إلى شريكه ، أو إلى أي


(98)
    طرف آخر بحيث يكون البائع حراً في بيعه والمشتري كذلك.
     وقد يوجد ضمن هذين العقدين عقد اجارة لشخص ثالث أو لأحد الشريكين بحيث يدفع اُجرةً لشريكه الذي آجره حصته وجعلها تحت تصرف شريكه الآخر في صورة عدم بيع الحصة بأكملها بعد تمامية الشركة.
     أقول : إن هذه العقود المركبة إذا نظرنا الى كل واحد منها لوحده فلا نجد مانعاً شرعياً من صحتها ، واذا نظرنا إليها مجتمعة في اتفاقية واحدة بحيث يوجد تعهد على الالتزام بها فأيضاً لا يوجد أي مانع يمنع من صحة هذه العقود من غَرر أو ضَرر أوربا أو غير ذلك من الموانع لصحة العقود.
     نعم : إذا كان البنك يقوم بهذه الاُمور والعقود من غير قصد إليها بحيث لا يكون مسؤولا عن تبعات الشركة وضماناتها فيتبيّن أنَّ قصده الحقيقي هو الربا المستور تحت الشركة والبيع.

5 ـ عقد التوريد ( عقد مركب )
     هو عقد بين طرفين على توريد سلعة أو مواد محدّدة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على أقساط.
     فالتوريد عقد جديد ليس بسلم ولا نسيئة ، لأنّ السلم ـ كما قال مشهور الفقهاء ـ يتقدم فيه الثمن ويتأجل المثمن ، والنسيئة يتقدم فيها المثمن ويتأخر الثمن ، أمّا هنا فالثمن والمثمن يتأجّلان.
     والمهم هنا بيان حكم عقد التوريد المتداول الآن بين الدول والشركات ، بل أصبح ضرورةً من ضرورات المعاملات ، حيث إن الدولة المحتاجة إلى كمية من النفظ لفصل الشتاء وتشتري هذه الكمية لا تكون مستعدة لقبولها مرة واحدة ; حيث لا توجد عندها المخازن الكافية لحفظها ، كما أنَّ الدولة نفسها لا تملك تلك


(99)
    الكمية الهائلة من الثمن لتقدّمه إلى الدولة المصدّرة. وكذا الأمر في الدولة المحتاجة إلى
    تأمين غذاء جيشها في حالة الحرب لمدة ستة أشهر ، فهي ليست بحاجة إلى الخبز الكثير مرة واحدة ، بل تحتاج إلى قسم منه كل يوم ، وليس لديها المال الكافي لتقديمه مرة واحدة ، بل يقدم الثمن على اقساط تشابه أقساط استلام الخبز مثلا. وهكذا صار عقد التوريد حاجةً ماسّةً في هذا العالم.
     وقد يجاب على التساؤل المتقدّم فيقال : إنّ المانع من صحة عقد التوريد هو صدق بيع الدَيْن بالدين ـ الكالي بالكالي ـ عليه ، وقد ورد النهي عن بيع الدين بالدين كما روى ذلك طلحة بن زيد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « قال رسول ( صلى الله عليه وآله ) : لا يباع الدين بالدين » (1).
     وقد ذكرت أدلّة اُخرى لمنع هذه المعاملة ، هي :
     أ ـ الإجماع على عدم جواز المعاملة إذا كانت نسيئة من الطرفين.
     ب ـ ولأنّها من ابواب الربا.
     ج ـ ولأنّها شغل لذمتين ( ذمة البائع وذمة المشتري ) من غير فائدة (2).
     والجواب : أمّا الحديث الذي نقل عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في النهي عن بيع الدين بالدين فهو لم يصح سنداً من طريق الامامية ; لجهالة طلحة بن زيد في كتب الرجال (3).
     وأمّا من طرق غيرهم فأيضاً لم يصح السند ، كما قال الإمام أحمد : « ليس في
     (1) وسائل الشيعة : ج13 ، ب15 من الدين والقرض ، ح1.
     (2) راجع بحث مناقصات العقود الادارية ، د. رفيق المصري عن أحكام القرآن للجصاص : ج1 ، ص483. ونظرية العقد : ص235 ، واعلام الموقعين : ج1 ، ص400 ، وحاشية الشرقاوي : ج2 ، ص30 وغيرها.
     (3) وقد ذكر كتاب المجروحين ج1 في ترجمة طلحة بن زيد « أنّه منكر الحديث جداً ، يروي عن الثقات المقلوبات ، لا يحلّ الاحتجاج بحديثه ».

(100)
    هذا حديث يصح » (1).
     كما أنّ دلالة الحديث لا تشمل « لما صار دينا في العقد ، بل المراد منه ما كان ديناً قبله ، والمسلَم فيه ( أو المورَّد ) من الأول لا الثاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه ممّا كان ديناً قبل العقد » (2).
     وأمّا الإجماع فهو مدركي ، بمعنى أنّ إجماع العلماء على الحكم مدركه الرواية المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فلا اعتبار لهذا الإجماع ، وإنّما الاعتبار بالرواية ، وبما أنّ الرواية لم يذكر لها العلماء معنىً واحداً متفقاً عليه ، والقدر المتيقن منها ما كان ديناً قبل العقد ، أمّا ما صار ديناً بالعقد فلا تشمله الرواية ، وقد ذهب بعضٌ ( السبكي ) إلى أنَّ المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدل الواحد ( السلم أو النسيئة ) إذا زيد في أجله لقاء الزيادة في بدله (3).
     وأمّا الربا في بيع الدين بالدين فهو لا يدخل في الصورة التي نحن بصددها ، لاننا نتكلم عن مبادلة سلعة بنقد ، فالبدلان مختلفان.
     وأما شغل الذمتين من غير فائدة فهو مصادرة ، إذ الفائدة في هذه الصورة ـ كما قدمنا ـ كبرى للطرفين.
     إذن إذا بطلت كل الأدلة على عدم جواز هذه المعاملة يبقى عندنا عمومات القرآن الكريم مثل قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود ) و ( تجارة عن تراض ) و ( أحل الله البيع ) ، فما دام يصدق على هذه المعاملة انها عقد وتجارة وبيع فتشملها العمومات المتقدّمة وهي دليل الصحة.
     (1) راجع نيل الأوطار : ج5 ، ص177.
     (2) راجع جواهر الكلام : ج24 ، ص293.
     (3) راجع مقالة الدكتور رفيق المصري ، مناقصات العقود الادارية : ص31 عن تكملة المجموع للسبكي : ج10 ، ص106 ، واعلام الموقعين : ج2 ، ص9 و 11 وغيرها.


بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس