صلةقبل


ألا ابـلـغ ابـا حفص رسولا * فـدا لك من أخي ثقة إزاري
قـلائـصـنا هـداك الله انـا * شـغلنا عنكم زمن الحـصار
فما قلص وجــدن معـقلات * قـفـا سـلع بمختلف البحار
قلائص من بني سعد بن بكـر * وأسـلـم أو جـهينة أو غفار
يـعـقلهن جعدة من سلـيــم * معيداً يبـتغـي سقط العـذار

فأمر عمر باحضار جعدة فجلده مائة معقولا(1).
ولم تقم البينة على انه ارتكب جريمة الزنى، سوى هذه الابيات ، وهي لا تصلح للاعتماد عليها.

4 ـ اجتهاده في حكم الطلاق :
فقد جعل التلفظ بالثلاثة في مجلس واحد ثلاثة تطليقات ، خلافاً لما كانت عليه سنة الرسول صلى الله عليه وآله (2).

5 ـ تبديله (حي على خيرالعمل) ، في الاذان بـ (الصلاة خير من النوم) في صلاة الصبح (3).

6 ـ حكمه في المتزوجة في عدّتها :
وذلك ان امرأة تزوجت في عدتها، فأمر الخليفة بالتفريق بينهما وجعل صداقها من بيت المال ، وبلغ ذلك عليا عليه السلام فأنكر عليه وقال : ما بال الصداق وبيت المال ، انهما جهلا، وينبغي للامام أن يردهما الى السنة .
وسئل علي عليه السلام عن السنة فقال : الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الاول (4).
____________
(1) طبقات ابن سعد 3: 286 .
(2) مسند احمد 1 : 314 ، مستدرك الحاكم 2 : 196 ، سنن البيهقي 7 : 336 .
(3) موطأ مالك : كتاب الصلاة الباب الاول الحديث الثامن .
(4) احكام القرآن للجصاص 1 : 425 .

( 22 )

7 ـ نقص حد شارب الخمر :
فقد جيء له بشارب خمر فبعث به الى مطيع بن الأسود ليقيم عليه الحد، واجتاز عليه فرآه يضربه ضرباً شديداً فقال له : «قتلت الرجل ، كم ضربته ؟» قال : « ستين»، فقال الخليفة: انقص عنه بعشرين ، فجعل شدة الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد(1).

8 ـ أقوال العلماء فيه وثنائهم عليه :
فقد اقام عمرو بن العاص عليه الحد حينما شرب الخمر في مصر، وذلك بمحضر من أخيه عبد الله ، فلما بلغ الخليفة ذلك كتب الى ابن العاص ان يحمله على قتب بغير وطاء وان يشدد عليه ، فأرسله عمرو بالحالة التي أمره بها ، وقد كتب اليه باقامة الحد عليه ، وبعث بالكتاب مع ولده عبد الله فلما انتهى الى عمر ـ وهو لا يستطيع المشي لمرضه وإعيائه ، وأبصره ، أمر باحضار السياط ، فقال له عبد الرحمن ابن عوف : انه قد اقيم عليه الحد، وشهد بذلك أخوه عبد الله فلم يلتفت اليه ، وأخذ السياط ، وجعل يضربه وهو يستغيث ، ويقول : «انا مريض ، وأنت والله قاتلي ».
وبعد ان أقام عليه الحد حبسه شهراً فمات (2).
فبأي وجه شرعي اقام الحد عليه ثانيا ، فالمريض ـ كما هو معلوم ـ لا يقام عليه الحد حتى يشفى من مرضه .
9 ـ وقال في مجلسه يوما : ما ترون في حد الخمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أرى ان تجعله كأخف الحدود ، فجعله ثمانين (3) .
10 ـ صلاة التراويح :
المعروف عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله ان صلاة نافلة شهر رمضان لم تشرع لها الجماعة ، وانما الجماعة في الفريضة وما شرعت له .
____________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 8 : 317 ، 318.
(2) ارشاد الساري 12 : 53 ، والنص والاجتهاد : 267.
(3) سنن البيهقي 8 : 319.

( 23 )

وكان الناس يصلون نافلة شهر رمضان فرادى واستمروا على ذلك مدة خلافة ابي بكر، ولما جاء الخليفة الثاني استحسن ان يوحدهم بصلاة إمام واحد، ففعل وعمم أمره الى سائر البلدان الاسلامية، متحديا السنة بالاستحسان وكان يقول نعمت البدعة هذه (1) .
نقول ان ما مر ذكره من اجتهادات الخليفة الثاني ليست إلا غيضا من فيض فمساهمة الخليفة الثاني بنفسه في تقوية هذا الوضع ، وتوهين أمر السنة الشريفة، اكثر من ان يتم حصره في هذه الصفحات القليلة، فلمزيد من الاطلاع يراجع كتاب النص والاجتهاد للامام شرف الدين ، والغدير للعلامة الكبير الاميني وغيرهما.
واما الأمر الأول ـ وضع الحديث ـ فلعل القاء اضواء يسيرة على حياة من اشتهروا بذلك ككعب ووهب كافية للتدليل على مدى المجال الذي فسح لهم في عهد الخليفة الثاني .
وأشهر من كونه الخليفة ورباه على عينه كعب أحبار اليهود المعروف بكعب الاحبار (2) .
فكعب تدم الى المدينة في خلافة عمر شيخا شارف السبعين من عمره ، ولم يجئ اليها حين كان نوررسول الله صلى الله عليه وآله يغمر ارضها وقلوب الناس فيها، ولا في خلافة أبي بكر، بل جاء الى المدينة وقد أسلمت جزيرة العرب كلها ليدعي انه يريد أن يسلم . فأسلم ـ كما يقولون ـ على يد عمر، واستبقاه عنده في المدينة، وكان يسأله عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد وتفسير القرآن وغير ذلك .
فأخذ كعب اليهودي يبث سمومه في المسلمين ، وقد بلغ من علو شأنه انه
____________
(1) موطأ مالك 1 : 114 ، كنز العمال 8 : 407 | 23466.
(2) هو كعب بن ماتع الحميري اليماني ، الذي كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، فجالس اصحاب محمد صلى الله عليه وآله : فكان يحدثهم عن الكتب الاسرائيلية ويحفظ عجائب ، توفى بحمص في اواخر خلافة عثمان . سير أعلام النبلاء 3 : 489 فما بعد ترجمة 111 .

( 24 )

كان يلقي دروسه في المسجد، فقد جاء في طبقات ابن سعد حكاية عن رجل دخل المسجد فاذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالس الى كعب ، وبينهما سفر من اسفار التوراة ، وكعب يقرأ(1).
وروى ابن سعد أيضا في طبقاته الكبرى عن عبد الله بن شقيق أن أبا هريرة جاء الى كعب يسأل عنه ، وكعب في القوم ، فقال كعب : ما تريد منه ؟ فقال : أما اني لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله أن يكون أحفظ لحديث رسول الله مني !! فقال كعب : أما انك لم تجد طالب شيء ، إلا سيشبع منه يوما من الدهر إلا طالب علم ، أو طالب دنيا! فقال ابو هريرة : أنت كعب ؟ فقال : نعم ، فقال : لمثل هذا جئتك (2).
انني جئتك لأطلب عندك العلم ، وأستقي من معينك الغزير.
وقد وجد كعب بغيته في ابي هريرة الذي يزعم أنه أحفظ الناس لحديث رسول الله ، فكان نعم التلميذ النجيب الذي يحمل عنه ما يريد بثه مما يفسد عقائد المسلمين (3).
وقد بلغ من دهاء كعب الأحبارواستغلاله لسذاجة أبي هريرة وغفلته أن كان يلقنه ما يريد بته في الدين الاسلامي من خرافات وأساطير حتى اذا رواها ابو هريرة ، عاد هو فصدق ابا هريرة، ليؤكد هذه الاسرائيليات وليمكن لما في عقول المسلمين كأن الخبر قد رواه ابو هريرة عن النبي ، وهو في الحقيقة عن كعب الأحبار!
فمن الأحاديث التي رواها ابو هريرة عن النبي (صلى الله عليه واله) وهي في الحقيقة من الاسرائيليات :
روى احمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن (أبي هريرة) أن رسول الله قال : « ان في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام ولا يقطعها» اقرؤوا ان شئتم
____________
(1) طبقات ابن سعد 7: 110
(2) شيخ المضيرة : 90 عن الطبقات 4 : 332 ، وقال الحاكم في المستدرك 1 : 92 : صحيح على شرط الشيخين .
(3) شيخ المضيرة أبو هريرة : 90.

( 25 )

«وظل ممدود».
ولم يكد هذا الحديث يبلغ كعبا ! حتى أسرع فقال ـ كما روى ابن جرير ـ : صدق والذي أنزل التوراة على موسى! والفرقان على محمد ، لو أن رجلا ركب (حقة) أو (جذعة)(1) ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما! إن الله تعالى غرسها بيده ، ونفخ فيها من روحه ، وإن أفنانها لمن وراء ستار الجنة ، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل هذه الشجرة(2).
ومن كيد كعب أنه كان يتكهن بالمغيبات ، ولنضرب لذلك ـ هنا ـ مثلا واحدا نجتزئ به ، فعندما اشتعلت نيران الفتنة في زمن عثمان واشتد زفيرها، حتى التهمت عثمان فقتلته وهو في بيته ، لم يدع هذا الكاهن الماكر هذه الفرصة تمر دون ان يهتبلها، بل أسرع ينفخ في نارها ويسهم بكيده اليهودي فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد كان من كيده في هذه الفتنة أن أرهص ـ بيهوديته ـ بأن الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية! فقد روى وكيع عن الأعمش عن ابي الصباح (3) أن الحادي كان يحدو بعثمان يقول :

إن الأمير بعده علي * وفي الزبير خلق رضي

فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء! (يعني معاوية) وكان يراه يركب بغلة. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال : يا ابا اسحاق ما تقول هذا ! وهاهنا علي والزبير واصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)! قال : أنت صاحبها. ولعله أردف ذلك بقوله : إني وجدت ذلك في الكتاب الأول!! (4).
وفي زمان معاوية كان كعب في الشام ، وقد قربه وأدناه وكان يسأله عن امور
____________
(1) الحقة من الابل هي إبنة ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، والجذعة الناقة التي بلغت الخامسة .
(2) أبو هريرة 101 ـ 102 .
(3) ص 51من رسالة النزاع والتخاصم فيما بين بني امية وبني هاشم للمقريزي .
(4) أضواء على السنة المحمدية: 180.

( 26 )

المبدأ والمغيبات وتفسير القرآن ، وقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الاصابة : أن معاوية هو الذي أمر كعبا بأن يقص في الشام (1)، وكان من ثمار ذلك ما وردنا من احاديث كثيرة موضوعة عن فضائل الشام وأهلها.
يقول الاستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو رية:
ان الأستاذ سعيد الأفغاني نشر مقالاً بمجلة الرسالة المصرية قال فيه : ان وهب بن منبه الصهيوني الأول ، فصححت هذا الرأي بمقال نشر في العدد 656 من هذه المجلة أثبت فيه بالأدلة القاطعة أن كعب الاحبار هو الصهيوني الأول .
وما كاد هذا المقال ينشر حتى هب في وجهنا شيوخ الأزهر وأمطرونا وابلا من طعنهم المعروف وقالوا: كيف تصف (سيدنا كعبا) بأنه الصهيوني الأول ، وهو من كبار التابعين وخيار المسلمين. ومما يؤسف له أنهم لا يزالون يذكرون إسمه بالسيادة إلى اليوم (2)!
ويبرز الى جانب كعب اسم وهب بن منبه الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وآله مرسلا، وادرك عدة من الصحابة، وقد كانت مادة حديثه التوراة والانجيل وشروحهما وحواشيهما، فكانت المنبع الضخم للقصاص ، ودخلت في التفاسير وفي كتب الحديث .
ولذا قال الذهبي في سير أعلامه : وروايته (أي وهب) للمسند قليلة، وانما غزارة علمه في الاسرائيليات ، ومن صحائف أهل الكتاب (3). وظل أثرها السيّئ يسري في فكر المسلمين إلى أن يشاء الله .
وكان لوهب تلامذة كثيرون : ولداه عبد الله وعبد الرحمن ، وعمرو بن دينار ، وسماك بن الفضل ، وهمام بن نافع أبو عبد الرزاق ، وجماعة كثيرون عد منهم الذهبي
____________
(1) الاصابة 3 : 316 .
(2) شيخ المضيرة :93 .
(3) سير أعلام النبلاء 4 : 545.

( 27 )

في السير أكثر من عشرين ثم قال : وخلق سواهم (1).
وثالثهم : تميم الداري الذي أسلم في أيام رسو ل الله صلى الله عليه واله ، وكان يحدث بقصة الجساسة والدجال ونزول عيسى وغير ذلك . وقد روى حديث الجساسة مسلم في صحيحه من طريق فاطمة بنت قيس اخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأوليات(2) .
وكان تميم أول من قص ، وذلك في عهد عمر(3).
ورابعهم :عبد الله بن سلام أبو الحارث الاسرائيلي ، أسلم قديما بعد أن قدم النبي صلى الله عليه وآله المدينة ، وهو من أحبار اليهود، روى عنه أبو هريرة وأنس ابن مالك وجماعة.
قال فيه وهب بن منبه ـ الأصل الثاني للاسرائيليات ـ : كان أعلم أهل زمانه ، ومات سنة 40 هـ وقد كان أهل الكتاب هؤلاء ، البذرة الاولى للقصاص الذين كانوا يجلسون في المساجد، ويتكلمون بما يتناسب مع أذهان العامة، وكانت مدرسة القصاص مغضوبا عليها من قبل صالحي الصحابة، فقد جاء في كتاب الاصابة : ان اول من قص في مسجد البصرة هو الاسود بن سريع التميمي السعدي ، ولكنه لم يجد قبولأ بين مجتمع لايزال فيه ثلة من الصحابة الأتقياء الحافظين لعهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد جلس ليقص فارتفعت الاصوات ، فجاء مجالد بن مسعود السلمي وله صحبة . فقال : أوسعوا له ، فقال : إني والله ما جئتكم لأجلس إليكم ، ولكني رأيتكم صنعتم شيئا أنكره المسلمون ، فاياكم وما انكره المسلمون (4).
ولكن هذا الأنكار وغيره بدا صفيقا في نهاية الأمر امام توسع دائرة الوضع التي قويت باحتضان ورعاية بعض الخلفاء من جانب ، وغذتها عوامل وظروف
____________
(1) سير أعلام النبلاء 4 :545.
(2) رواه ابن حجر في الاصابة 1 : 183 .
(3) الاصابة 1 : 184 .
(4) الاصابة 1 : 44 ـ 45 ترجمة الاسود بن سريع التميمي السعدي .

( 28 )

اجتماعية وسياسية من جانب آخر . ثم اتخذ الوضع بعد ذلك صورة اخرى صاغها الوضاعين الزنادقة كعبد الكريم بن ابي العوجاء، وبيان بن سمعان المهدي فلقد وضعوا ما يفسدوا به الدين ويشوهوا كرامته لدى العقلاء والمثقفين ، ولينحدروا بعقيدة العامة الى درجة من السخف تثير سخرية الملحدين ، كما يقول الدكتور السباعي ، ومن امثلة هذه الاحاديث المكذوبة : «ينزل ربنا عشية عرفة، على جمل أورق ، يصافح الركبان ، ويعانق المشاة». «إن الله اشتكت عيناه فعادته الملائكة». «النظر إلى الوجه الجميل عبادة».. .ولسنا هنا بصدد الحديث عن الاثار التي ترتبت ـ سابقا ولاحقا ـ على عملية الدس والوضع ، ولكن يكفي أن نعرف أن ثاني مصدر تشريعي للاسلام يتعرض لكل هذا ضمن عملية غالبها الاعم الاستهداف والتنظيم ، لكي ندرك مدى جسامة وفداحة الأمر، وما اصوب ما قاله احدهم ان وضع الحديث على رسول الله كان أشد خطرا على الدين وأنكى ضررا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين ، وإن تفرق المسلمين الى شيع وفرق ومذاهب ونحل لهو أثر من آثار الوضع في الدين (1).
اما عثمان فكان دوره تواصليا مع دور الخليفة الثاني في ترسيخ عملية الاجتهاد مقابل النص ، ومن ذلك :
1 ـ اتمام الصلاة في السفر:
فان السنة في الصلاة انها في السفر ركعتين وفي الحضر أربع (2).
ولكن عثمان في السنة السادسة من خلافته أتم الصلاة بمنى واتخذ ذلك سنة معتذرا بان الناس قد كثروا في عامهم فصلى اربعا ليعلمهم ان الصلاة أربع (3) . وهو اعتذار مهلهل كما ترى .
____________
(1) اضواء على السنة : 119.
(2) صحيح مسلم 1 : 479، واحكام القرآن للجصاص 2 : 351، ومسند أحمد 2 : 45 .
(3) سنن البيهقي 3 : 144 .

( 29 )

2 ـ تقديم الخطبة في صلاة العيدين :
فقد جرت السنة في صلاة العيدين أن يصلي الامام بالناس أولا ثم الخطبة بعد ذلك (1). ولكن عثمان خالف هذه السنة فقدم الخطبة وأخر الصلاة (2) .
3 ـ الجمع بين الاختين :
وهو من غريب الاحكام المصادمة لصريح قوله تعالى (وان تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) (3). وقد أجازعثمان الجمع بين الاختين في النكاح اذا كانتا ملك يمين (4) .
4 ـ حكمه في غسل الجنابة :
حيث سأل زيد بن خالد الجهني عثمان : أرأيت اذا جامع الرجل امراته ولم يمن ؟ فقال عثمان : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ونسبه الى انه سمعه من رسول الله صلى الله عليه واله (5). والحكم الذي لا يجهله مسلم ان غسل الجنابة واجب اذا التقى الختانان .
وبالاضافة الى هذا وذاك فقد استقبل خلافته بتعطيل القصاص ، وذلك بعفوه عن عبيد الله بن عمر، الذي ثار لمقتل أبيه ، فقتل ـ بغير حق ـ الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة، واراد قتل كل صبي في المدينة، فانتهى أمره إلى سعد بن أبي وقاص فساوره وقابله بناعم القول حتى انتزع منه سيفه ، وأودعه في السجن كي ينظر الخليفة في أمره .
ولما تمت البيعة اعتلى الخليفة أعواد المنبر وعرض قصة عبيد الله على المسلمين فقال لهم : ان الهرمزان من المسلمين ، ولا وارث إلا المسلمون عامة، وأنا إمامكم وفد عفوت .
____________
(1) صحيح مسلم 2: 602 ، صحيح البخاري 2 : 22 ،23، فتح الباري 2 : 363.
(2) فتح الباري 2 : 361 .
(3) النساء 4 : 23 .
(4) موطأ مالك 2 : 180 والمحلى لابن حزم 9 : 522، تفسير القرطبي 5: 117.
(5) صحيح مسلم 1 : 270 |347 .

( 30 )

وأنكر عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام ذلك وقال له : أقد هذا الفاسق فقد أتى عظيما، قتل مسلما بلا ذنب وثار أمير المؤمنين علي عليه السلام في وجه عبيد الله ، وقال له : لئن ظفرت بك لأقتلنك بالمرمزان (1).
وقد أنكر على الخليفة أيضا خيار المسلمين وصلحاؤهم هذا العفو، لأنه كان تعطيلا لحدود الله ، وكان زياد بن لبيد اذا لقي عبيد الله قال له :

الا يا عبيـد الله مالك مـهـرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر
أصبت دمـاً والله في غـير حله * حراما وقتل الهرمزان لـه خطر
على غير شيء غير أن قال قائل * اتتهمون الهرمزان على عـمـر
فقـال سـفيه والحـوادث جمـة * نعم اتهمه قد أشـار وقـد أمـر
وكان سلاح العبد في جوف بيتـه * يقلبه والأمر بالأمـر يـعـتـبر

وشكاه عبيد الله الى عثمان فدعا زيادا ونهاه عن ذلك فلم ينته ، وتناول عثمان بالنقد فقال :

ابـا عمرو عبيد الله رهـن * فلا تشكك بقتـل الهـرمزان
فإنك ان غفرت الجرم عنه * واسباب الخطـا فرسا رهان
اتعفـو اذ عفوت بغير حق * فما لك بالذي تحكي بدان (2)

وغضب عثمان على زياد وزجره حتى انتهى.
ثم اخرج عثمان عبيد الله من المدينة الى الكوفة، وأنزله دارا فنسب الموضع اليه ، فقيل : كويفة ابن عمر (3).
وكان عمل الخليفة هذا مخالفا لحكم الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله ، فان الشارع قد الزم الولاة باقامة الحدود وعدم التسامح فيها، لصيانة النفوس وحفظ النظام ، وليس لحاكم أن يتهاون في هذا الأمر مهما عظم شأن المعتدي .
____________
(1) أنساب الاشراف القسم الرابع ـ الجزء الأول : 510 | 1322.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 : 164، تاريخ الطبري 4 : 243، والكامل في التاريخ 3 : 75.
(3) تاريخ اليعقوبي 2 : 164 .

( 31 )

وتابع الخليفة الثالث سلفه في النهي عن متعة الحج ، فقد جاء في مسند أحمد عن عبد الله بن الزبير، قال : والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري اذ قال عثمان ، وذكر له التمتع بالعمرة الى الحج : ان اتم للحج والعمرة ان لا يكونا في اشهر الحج فلو اخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فان الله تعالى قد وسع الخير. وعلي بن أبي طالب في بطن الوادي يعلف بعيراً له قال : فبلغه الذي قال عثمان فاقبل حتى وقف على عثمان فقال : اعمدت الى سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بحجة وعمرة معا. فأقبل عثمان على الناس فقال : وهل نهيت عنها ؟ إني لم أنه عنها، إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه (1) .
وراعى جانب اقر بائه حتى لو كان فاسقا أو شارب خر، فولاهم على أمصار المسلمين ، ولم يول أجلة الصحابة الذين هم أبصر بالسياسة وبالشريعة والدين من اولئك الصبيان الفسقة.
وقد مهد لملك معاوية ولولاه لما اتيح لمعاوية نقل الخلافة ذات يوم الى ال أبي سفيان وتثبيتها في بني امية .
قال الدكتور طه حسين : والشيء الذي ليس فيه شك هو أن عثمان ولّى الوليد على الكوفة بعد عزل سعد بن ابي وقاص ، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى الاشعري ، وجمع الشام كلها لمعاوية ، وبسط سلطانه عليها الى أبعد حد ممكن ، بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولى عبد الله بن سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لامه ومنهم أخوه في الرضاعة ومنهم خاله ، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى الى امية بن عبد شمس ، كل هذه حقائق لا
____________
(1) مسند أحمد 1 : 92.
( 32 )

سبيل الى انكارها (1) .
وقد اتبع الخليفة الثالث اجتهاد سلفه في منع ذوي القربى من سهامهم من الخمس ، وأخذ يوزعه على أقاربه بدون حساب ، فاعطى خمس غزوة افريقيا الاولى الى عبد الله بن أبي سرح ابن خالته وأخيه من الرضاعة، واعطى خمس الغزوة الثانية ابن عمه وصهره مروان بن الحكم ، اضافة الى اعطائه فدك .
وأقطع الحارث ابن عمه وصهره سوق المدينة (المهزور) وكان رسول الله صلى الله عليه وآله تصدق به على المسلمين (2) وأعطى عمه الحكم صدقات قضاعة . وكان اذا أمسى عامل الصدقة على سوق المسلمين أتى بها الى عثمان فيقول له عثمان : ادفعها الى الحكم (3).
وكان عثمان يقرب بني أمية ويستخلصهم لنفسه ، فقرب مروان بن الحكم ، واختص به واتخذه لنفسه وزيراً ومشيراً وأمر له بمئة ألف ، وكان قد زوجه ابنته ام أبان ثم أقطعه فدك التي كانت ملكا للنبي ، وكانت فاطمة رضي الله عنها طلبتها من أبي بكر فدفعت عنها بحديث أوردوه ، ونصه كما قالوه « لانورث ما تركناه صدقة » (4).
وللاستاذ أبي رية كلام لطيف حول موضوع فدك جاء فيه :
كنا نشرنا كلمة بمجلة الرسالة المصرية عن موقف ابي بكر من الزهراء في هذا الميراث ننقل منها ما يلي «اننا إذا سلمنا بأن خبر الاحاد الظني يخصص الكتاب القطعي ، وانه قد ثبت أن النبي قال : إنا لا نورث . وانه لا تخصيص في عموم هذا الخبر فان أبا بكر كان يسعه ان يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها كأن يخصها
____________
(1) ص 135 من كتاب الفتنة الكبرى (عثمان) ، عن ابو هريرة 168 .
(2) العقد الفريد 5 : 35، شرح نهج البلاغة 1 : 198 .
(3) تاريخ اليعقوبي 2 : 168.
(4) العقد الفريد 5 : 36 .

( 33 )

بفدك ، وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، اذ يجوز للامام أن يخص من يشاء بما شاء، وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي على ان فدك هذه التي منعها ابو بكر من فاطمة لم تلبث ان أقطعها عثمان لمروان »(1) .
أما عائشة فيحار الكاتب من أي قضاياها يبدأ ، ولكننا مضطرون أن نبدأ من مخالفاتها القطعية للسنة النبوية.
1 ـ صلاتها تماما في السفر:
أخرج مسلم من عدة طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة : أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ، قالت عائشة : فاقرت صلاة السفر واتمت صلاة الحضر(2).
ولكن المتواتر عن عائشة وعثمان ـ وحدهما من بين الامة ـ الاتمام في السفر.
2 ـ تشكيكها بنبوة الرسول صلى الله عليه وآله .
وذلك أنها غضبت يوما وكلمها رسول الله صلى الله عليه واله فكان مما قالت له : أنت الذي تزعم انك نبي الله (3).
ثم اليك بعض عظائمها.
3 ـ تهييجها الفتنة بين المسلمين.
وذلك بركبوها جملها الأدب (عسكر) والتحاقها بطلحة والزبير الى البصرة خروجا على إمام زمانها أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تمت له البيعة من المسلمين
____________
(1) مجلة رسالة الاسلام العدد 518 من السنة الحادية عشرة.
(2) صحيح مسلم 1 : 478 | 685
(3)احياء علوم الدين للغزالي 2 : 43 في آداب النكاح .

( 34 )

فضلا عن نص الرسول الأمين عن رب العالمين وقد ظهرت الدلائل عند ماء الحوأب (1) ولكنها مرت على غلوائها ولم يردعها ذلك .
ولم تكتف بما فعلت بل أرسلت عائشة إلى حفصة وغيرها من امهات المؤمنين (كما نص عليه غير واحد من اثبات أهل الأخبار) تسألهن الخروج معها الى البصرة فما اجابها الى ذلك منهنّ إلا حفصة، لكن أخاها عبد الله أتاها فعزم عليها بترك الخروج ، فحطت رحلها بعد أن همت (2).
وكان ما كان يوم الجمل من دماء مسفوكة، وحرمات مهتوكة، فصلها أصحاب الأخبار وكانت كما يقول العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين أساسا لصفين والنهروان ومأساة كربلاء وما بعدها حتى نكبة فلسطين في عصرنا هذا(3).
(وكان خروجها مخالفة لقوله تعالى (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) (4) ) .
ومخالفة لقوله صلى الله عليه وآله لنسائه بعد حجة الوداع : (هذه ، ثم ظهور الحصر) يعني الجلوس في البيوت .
وخلاصة القول في مسيرها قول سيد البلغاء في خطبة له :
أيها الناس ، إن عائشة سارت إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه ، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها! والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة، ولا تحل عقدة، إلا في معصية الله وسخطه (5).
____________
(1) وذلك بتحذير رسول الله صلى الله عليه وآله لها أن تكون صاحبة الجمل الأدب وتنبحها كلاب الحوأب .
(2) شرح نهج البلاغة 6 : 225.
(3) النص والاجتهاد: 312 .
(4) الاحزاب : 33.
(5) أبي هريرة : 171 عن تاريخ أبي الفداء 1 | 78 .

( 35 )


4 ـ الوضع الصريح للحديث :
وروى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال : حدثتني عائشة ، قالت : كنت عند رسول الله إذ أقبل العباس وعلي فقال : ياعائشة ان هذين يموتان على غير ملتي ! أو قال : ديني! .
وروى عبد الرزاق عن عمر قال : كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي ، والحديث الثاني زعم فيه أن عائشة حدثته قالت : كنت عند النبي إذ أقبل العباس وعلي فقال : يا عايشة إن سرك أن تنظري الى رجلين من أهل النار فانظري الى هذين قد طلعا، فنظرت فاذا العباس وعلي بن أبي طالب (1).
وهذا مصادم للقرآن الكريم الناطق بتطهير أهل البيت ، وعلي اولهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد نزلت فمه سورة (هل أتى) باجماع المفسرين كما وان رسول الله ملى الله عليه وآله قد حدث بفضل أخيه ووصيه وصهره وأبي ذريته علي عليه السلام بما جاوز حد الاحصاء.
5 ـ موقفها في دفن الحسن عليه السلام :
لما توفي الحسن عليه السلام مسموما وخرج به أخوه الحسين عليه السلام ليجدد به العهد بقبر جده صلى الله عليه وآله ، خرجت عائشة على بغلة شهباء يحف بها بنو امية وهي تصيح : لا تدخلوا بيتي من لا أحب ، إن دفن الحسن في بيتي لتجز هذه ، وأومأت الى ناصيتها(2).
وليت شعري الم تسمع اُم المؤمنين !! قول جده رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه : اللهم إني احبه واحب من يحبه (3) .
وقوله صلى الله عليه وآله : اللهم ان هذا ابني وانا احبه ، فاحبه واحب من
____________
(1) أبو هريرة : 199.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 | 225، وشرح ابن أبي الحديد 16 : 50.
(3) صحيح مسلم 4 : 1882 | 2421، تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة الامام الحسن : 37.

( 36 )

يحبه (1) .
وقوله صلى الله عليه واله : من سره أن ينظر الى سيد شباب أهل الجنة فلينظر الى الحسن (2).
وهو أحد أصحاب آية التطهير وسورة هل أتى.
ولكن البغض يعمي ويصم ، وقد صدق فيها قول الشاعر:

حفظت أربعين ألف حديث * ومن الذكر آية تنساها

وقول الآخر:
نسيت « قرن في بيوتكن » وكانت * تحفظ الذكر ، ما الذي أنساها؟!

ومن العجب أن عائشة لم تغير موقفها في تأييد معاوية مع أنه قتل أخويها محمد بن أبي بكر وعبد الرحمن ؟ وكان اخوها محمدا قد قتل في صورة بشعة، حينما ولاه أمير المؤمنين علي عليه السلام على مصر، فقتله معاوية بالسم ، ومثل به جلاوزته أبشع تمثيل فالقوه بعد قتله في جيفة حمار(3) وأحرقوه ، لذا كانت عائشة لا تأكل الشواء بعد ذلك.
نعم أيدت عائشة معاوية بن ابي سفيان الذي استتب له الأمر بالخلافة بعد معركة صفين ووفاة أمير المؤمنين عليه السلام وصلح الحسن عليه السلام .

***

افتتح معاوية سلطته حين بلغه نعي أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وذلك في وقت الضحى فقام فصلى ست ركعات ، ثم أمر بني امية برواية الاحاديث في فضلها. وهذه الصلاة لم يصلها النبي صلى الله عليه واله ولا أبو بكر ولا عمر(4).
____________
(1) كنز العمال 13 : 652 | 37653 ، ومجمع الزوائد 9 | 176 .
(2) البداية والنهاية 8 | 34.
(3) شرح نهج البلاغة 6 : 87.
(4) صحيح البخاري 2 : 73 .

( 37 )

ولكن محدث الدولة أبو هريرة لم يلبث أن وضع حديثا فيها، فقال : أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت : صوم ثلاثة أيام في كل شهر، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر (1) .
وكان أول عمل قام به بعد احتلاله كرسي الخلافة أمره بسب أمير المؤمنين علي عليه السلام على منابر المسلمين ، فقد روي أن معاوية بن أبي سفيان لما ولى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 41 دعاه وقال له : أردت ايصاءك باشياء كثيرة ، فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ، ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي ، ولست تاركا ايصاءك بخصلة، لا تتحم ! (أي لا تتجنب) عن شتم علي وذمه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب على أصحاب علي ، والاقصاء لهم ، وترك الاستماع منهم ، وباطراء شيعة عثمان والادناء لهم والاستماع منهم . . . فاقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين واشهراً وهو من احسن شيء سيرة واشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه . .. إلى اخره (2).
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات ، عن المطرف بن المغيرة بن شعبة قال : دخلت مع أبي على معاوية ، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه ، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا فقلت : مالي أراك مغتما منذ الليلة؟ فقال : يابني ، جئت من أكفر الناس واخبثهم . قلت : وما ذاك ؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنك قد بلغت سنا يا أمير المومنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيرا فانك قد كبرت ، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه ؟ فقال : هيهات هيهات ! أي ذكر أرجو بقاءه ؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل :
____________
(1) سنن النسائي 3 : 229 .
(2) شيخ المضيرة : 202 وانظر تاريخ الطبري 4 : 132، الكامل في التاريخ 3 : 413 . شرح نهج البلاغة 4 : 69.

( 38 )

أبو بكر. ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلا أن يقول قائل : عمر.
وان ابن أبي كبشة(1) ليصاح به كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمداً رسول الله) فأي عمل يبقى ؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك ؟ لا والله إلا دفنا دفنا(2) .
وروى المدائني في كتاب الأحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة الى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته .
وكتب اليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم ،وقربوهم واكرموهم ، واكتبوا إلي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته . ففعلوا ذلك حتى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعث اليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه ، فلبثوا بذلك حينا.
ثم كتب الى عماله : ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ واتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة فان هذا أحب إلي ، وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ، فقرئت كتبه على الناس ، فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.
وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم حتى رووه وتعلموه كما
____________
(1) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهي من تسميات المشركين الحاقدين .
(2) شرح ابن أبي الحديد129/5 ـ 130 عن الموفقيات للزبير بن بكار.

( 39 )

يتعلمون القرآن ، بل علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله . فظهر حديث كثير موضوع ، ويهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة.
وكان أعظم الناس في ذلك القراء المراؤون الذين يظهرون الخشوع والنسك ويفتعلون الاحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث الى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها(1) .
وقد ورث معاوية عن أبيه قسوته وكيده ودهاءه ، ولم تكن ام معاوية بأقل من أبيه تنكراً للاسلام وبغضاً لأهله وحفيظة عليهم ، وهم قد وتروها يوم بدر فثأر لها المشركون يوم احد، ولكن ضغنها لم يهدأ وحفيظتها لم تسكن ، حتى فتحت مكة فاسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارها وكما اسلم كذلك ابنها معاوية بعد اسلام أبيه كارها .
وهند هذه هي التي اغرت وحشيا بحمزة عم النبي حتى قتله ثم اعتقته ، ولما قتل حمزة بقرت بطنه ، ولاكت كبده ، وفعلت فعلاتها بجثته !
واذا كان معاوية قد ورث بغض علي عن آبائه ـ مما حدثناك عنه ـ فان هناك أسبابا اخرى تسعر من نار هذا البعض ، منها أن علياً قتل أخاه حنظلة يوم بدر وخاله الوليد بن عتبة وغيرهما كثيرين من أعيان وأماثل عبد شمس . ومن أجل ذلك كان معاوية أشد الناس عداوة لعلي يتربص به الدوائر دائما، ولا يفتأ يسعى في الكيد له سرا وعلانية، قولاً وفعلاً (2).
قال أبو جعفر الاسكافي : إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ،
____________
(1) شرح ابن ابي الحديد 15/3 ـ 16.
(2) شيخ المضيرة : 174 عن كتاب (علي وبنوه) للدكتورطه حسين : 61.

( 40 )

وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم ابو هريرة وعمرو ابن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير(1).
ومن الغريب اننا لا نجد لمعاوية فضيلة معترفا بها، وقد افرد له البخاري في صحيحه بابا عنونه بـ (ذكر معاوية) بينما عنون لغيره بـ (فضائل) فلان وفلان مع انه لم يأت في هذا الباب بأحاديث مرفوعة الى النبي صلى الله عليه وآله .
وحكى ا بن الجوزي في الموضوعات عن اسحاق بن راهويه ـ شيخ البخاري : ـ إنه قال لم يصح في فضائل معاوية شيء .
وقد أكد العلماء المحققون جريمة معاوية الكبرى في حق الاسلام والمسلمين حين صرف الخلافة بحقده ومكره عن صاحبها الأصلي .
فقد قال ابن رشد الفيلسوف المعروف : إن معاوية أقام دولة بني امية وسلطانها الشديد، ففتح بذلك بابا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه الأندلس (2) .

****

واما علم الوضاعين أبو هريرة الدوسي فقد قدم إلى المدينة المنورة كما قدم غيره من الدوسيين والاشعريين بعد إنتصار النبي صلى الله عليه وآله في وقعة خيبر سنة 7 هجرية، ثم ذهب إلى البحرين في ذي القعدة سنة 8 هـ . ولم يرجع للمدينة بعد ذلك إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
اذن فهو لم يصحب النبي صلى الله عليه وآله : إلا سنة واحدة وتسعة أشهر(3)، وقيل ثلاث سنين ومع هذا كان أكثر الصحابة حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقد ذكر ابن حزم أن مسند بقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374روى البخاري منها 446.
____________
(1) شرح ابن ابي الحديد 4 | 63 .
(2) ابن رشد وفلسفته : 60 .
(3) انظر تحقيق ذلك في الاضواء على السنة المحمدية : 200.