كتاب نظرة عابرة الى الصحاح الستة ص 1 ـ ص 30

نَـظـرَةٌ عَـابـِرَةٌ

الى الصحاح الستة

تأليف
عبد الصمد شاكر


بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، مدبّر المخلوقين، مرشد المكلّفين،
هادي المتقين، والصلاة والسلام على البشير النذير
والسراج المنير محمّد خاتم النبيين وآله
وصحبه الصالحين.
وبعد، الشريعة الاسلامية تقوم على ركنين اصليين لا يمكن الاكتفاء باحدهما دون الآخر، وهما: كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(1).
لا خلاف في كتاب الله تعالى، فانّه وصل إلى المسلمين بالتواتر، بل فوقه وبالضرورة، بل لا اشكال في حفظه من الزيادة والنقيصة، وما ورد في بعض روايات أهل المذاهب من نقص بعض الآيات لم يعتن بها العلماء
____________
(1) سورة الحشر 59: 7.

( 6 )
ـ سوى الشاذ منهم ـ وأوّلوها، فكأنّ تلك الروايات عندهم مطروحة مردودة تحكيماً لقوله تعالى: (وإنّا له لحافظون)(1).
نعم، وقع للعلماء اختلاف في فهم المراد من جملة من الآيات الكريمة منه، وهذا الاختلاف أمر عادي ومغفور لهم شرعاً ما لم يستند إلى عناد وتقليد اعمى، بل للمخطىء أجر، وان كان للمصيب أجران على ما نطق به الحديث النبوي.
وأمّا السنة، فبعضها ثبت بالتواتر وواضح الدلالة، فهذا ممّا لا خلاف في لزوم قبوله بين المسلمين. واكثرها ثبت بطريق الآحاد وبغير التواتر، فاختلف فيه المسلمون من جهتين:
1 ـ من جهة الثبوت والسند، فيرى فرد أو أهل مذهب صحّة الرواية عن النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم فيعتمدوا عليها، ويرى الآخرون ضعفها ـ لجهالة الراوي أو ثبوت كذبه، أو معارضتها بغيرها أو بأقوى منها ـ فيهملوها أو يردّوها أو يرجحّوا غيرها عليها.
وهذا الاختلاف ـ كما ترى ـ صغروي وفي تشخيص السنّة وتعيينها، وأمّا الكبرى وهي قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم وسنّته، فممّا تسالم عليه المسلمون بجميع مذاهبهم بلا شائبة تردد.
2 ـ من جهة تعيين المراد والاستظهار من متون الاَحاديث في غير النصوص منها.
والمؤلف الفقير قضى برهة من وقته في مطالعة كتب الاَحاديث
____________
(1) سورة الحجر 15: 9. وأمّا ما ترى في كتب المجادلين من نسبة النقيصة إلى الشيعة أو إلى أهل السنة، فهو من هوى النفس والغرور والجهل أو اثر العناد والريال والدولار واغواء الاستعمار سود الله وجوههم.

( 7 )
الواردة من طرق أهل السنّة والشيعة وتحقيقها والتعمّق فيها، وفي مذاهب العلماء في ما اشترطوا في قبول الاَحاديث وعدمه، وفي ما يخصّ هذه الكتب عند أهلها بحسب الواقع من غير نزعة وعصبية، فأراد أن يبيّن للمحقّقين والمنصفين من أهل السنّة والشيعة نتائج بحثه وثمرات فحصه، غير مبال بغيظ المتعصبّين والمقلدين من المنتحلين إلى أهل العلم، فان الحق أحق ان يتبع، والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم.
واعلم اني ألّفت كتابين، أحدهما: في الروايات الواردة من طرق الشيعة، وثانيهما: في الروايات الواردة من طرق أهل السنة، وهو هذا الكتاب الماثل بين يديك أيّها القارئ الكريم، وهو أقلّ من الكتاب الاَول، اسأل الله تبارك وتعالى التوفيق لاتمامه واصابة الحق ثم التوفيق لطبعه وجعله مفيداً لطلاب الحق وروّاد العلم.
وينبغي ذكر أُمور قبل الشروع في مقاصد الكتاب:
(الاَمر الاَول): ايّاك وسوء الظن بالعلماء، فانّ الله تعالى أمر الناس باجتناب الكثير من الظن وهو ظن السوء بالمؤمنين كلّهم، فكيف بقادتهم وعلمائهم وأهل فضلهم الذين اكرمهم الله تعالى في كتابه بقوله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1).
وايّاك وسرعة الاسترسال على كلّ الرواة واهل العلم والمؤلّفين، والاعتماد المطلق في كلّ ما يقولون وينقلون في دينك، فان سرعة الاسترسال لا تستقال، والتقليد الاَعمى وترك التحقيق واهمال البحث والنظر ونسيان حكم العقل بمجرد اتباع الآباء وصلاح السلف ممّا لا يقبله ديننا
____________
(1) الزمر 39: 9.

( 8 )
وكتابنا السماوي، والسلف لا عصمة لهم، فمنهم متعمّق مصيب، ومنهم معتد مريب، ومنهم معتدل غير رقيب وحسيب: (فبشر عَبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اُولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أُولوا الالباب)(1) فكن ممّن هداه الله، ومن اُولي الاَلباب، ولا تكن من الذين قالوا: (إنّا وجدنا آباءنا على أُمة وإنّا على آثارهم مقتدون)(2) فتكون على آثارهم بغير حجة وبرهان مقتدياً، فتدخل في قوله تعالى: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)(3).
(الامر الثاني): للعصبية عوامل تنتهي كلّها إلى الجهل، واقبح منها اثارة التعصّب بين المسلمين والقاء العداوة والبغضاء والتنازع ـ بل التقاتل ـ بأيد مأجورة بدعم من جهات كما تعارف اليوم، وهو من اظهر مصاديق الافساد في الارض وتخريب الدين.
فايّاك والاقتراب من هؤلاء الكتّاب الاَُجراء الاشقياء، وايّاك والتعصّب، بان ترى الحق كلّه في مذهبك والباطل كلّه في سائر المذاهب، وإذا وفّقك الله ان تحتمل بعض الحق في سائر المذاهب الاسلامية وبعض الباطل في مذهبك فقد نلت الخير، وانّي بعد مطالعة كتب الشيعة اقتنعت واعتقدت أُموراً:
أوّلها: بطلان كثير من المقولات الواردة في كتب أهل السنة في حقّهم، وانّها كذب وافتراء نعوذ بالله منه.
ثانيها: امكان التعايش السلمي والاخاء الاسلامي بين الشيعة وأهل
____________
(1) الزمر 39: 17، 18.
(2) الزخرف 43: 23.
(3) يونس 10: 100.

( 9 )
السنّة من دون الغاء شيء من اصولنا الاعتقادية كما يصر عليه جماعة من المحققين من الطرفين، خلافاً لجمع من اغبياء منهما، هذا إذا اغلقنا الطريق امام وسوسة المتعصبين وافساد الماجورين، وسلكنا سبيل العقل والدين.
ثالثها: وجود مشتركات كثيرة في فروع العقائد واصول الفرعيات الفقهية والاخلاق والتاريخ وغير ذلك ومن اهتم بتدوين هذه المشتركات في مؤلف كبير فقد خدم الاسلام والمسلمين احسن خدمة.
رابعها: انّ الشيعة ربّما يعملون ببعض روايات أهل السنة في المسائل الفرعية ـ إذا لم يوجد عندهم نصّ عليها ـ كحديث: «على اليد ما اخذت حتّى تؤديه»، وحديث: «إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم» وغير ذلك، يظهر ذلك للمراجع في كتبهم الفقهية الاستدلالية بكثرة.
بل استقر رأيهم في الاَزمنة الاَخيرة في علم الرجال على قبول روايات أهل السنة وغير الشيعة من الفرق الاسلامية، وقد ثبتت وثاقتهم لديهم، وهذا هو رأي الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي صاحب المؤلفات الكثيرة في الكلام والتفسير والحديث والرجال والفقه، ويسمّونه بشيخ الطائفة، وهو أعظم عندهم من الاِمام أبي حنيفة عند الاحناف، فترى المحققين منهم لا يعملون برواية رجالها كلّهم من الشيعة بدعوى ضعف بعضهم أو جهالة وثاقته، ولكن يعملون برواية فيها بعض رجال أهل السنة بدعوى ثبوت وثاقته عندهم، وهذا من كمال انصافهم وانقيادهم للحق وبعدهم عن العناد والعصبية.
يقول الطوسي المشار إليه: واما إذا كان (الراوي) مخالفاً في الاعتقاد لاَصل المذهب وروى مع ذلك عن الاَئمّة... وان لم يكن من الفرقة المحقّة خبر يوافق ولا يخالفه... وجب العمل به... ولاجل ما قلنا عملت
( 10 )
الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم عن أئمّتنا(1).
والسكوني ـ أي إسماعيل بن مسلم أبي زياد الشعيري ـ هذا قد روى في الاَُصول والفروع، وكتبهم مملوءة من رواياته، وهو من أهل السنّة.
ويقول العسقلاني (المتوفّى 862 هـ): ثم انّ بعضهم قسّم البدعة قسمين: بدعة كبرى، وبدعة صغرى، فالبدعة الصغرى: كغلو التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين واتباعهم، مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بيّنة.
والبدعة الكبرى: كالرفض الكامل والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر(رض) والدعاء إلى ذلك، فهؤلاء لا يقبل حديثهم ولا كرامة. وأيضاً فلا استحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم...
أقول: هذه الجملة الاخيرة رجم بالغيب منشؤها العصبية لا غير.
وقال العسقلاني بعد جملات: وبالجملة، اختلف الناس في رواية الرافضة على ثلاثة أقوال: احدها: المنع مطلقاً، والثاني: الترخيص مطلقاً إلاّ فيمن يكذب ويضع، والثالث: التفصيل، فتقبل رواية الرافضي الصدوق العارف بما يحدّث وتردّ رواية الرافضي الداعية ولو كان صدوقاً. ونسب هذا التفصيل إلى أكثر أهل الحديث(2). انتهى.
أقول: من ابعد نفسه عن المكابرة ولسانه عن قول الزور يعلم صحة
____________
(1) انظر العدة 1: 379 ـ 387.
(2) لسان الميزان 1: 9 ـ 10.

( 11 )
القول الثاني كما هو نظر رجاليي الشيعة وفقهائهم إلاّ ما شذ، فلا بدّ للطائفتين من الاذعان بانّ المعتبر في الراوي هو صدقه سواء كان سنياً أو شيعياً. وهذا هو الخط الوسط الموصل للحق، وبه تقترب الطائفتان المسلمتان، وكلمة الله هي العليا.
خامسها: انّه لا يوجد عند الشيعة كتاب يحكم بصحة جميع رواياته، فاعظم كتبهم واشهرها هو الكافي والفقيه ـ أي من لا يحضره الفقيه ـ والتهذيب والاستبصار، وجماهير علمائهم من الفقهاء والاصوليين والمتكلّمين والمفسّرين وسائر اصنافهم لا يعتمدون على جميع أحاديث هذه الكتب، بل ينظرون أوّلاً إلى اسنادها ومنها يحكمون بصحتها أو ضعفها(1)، واحسن من هذا انهم لا يعتمدون على تصحيحات صدرت من بعضهم، فاذا قال فقيه ان الرواية الفلانية صحيحة لا يحكم غيره بصحتّها إذا لم يقف على وثاقة رواتها، فالتوثيق أمر، والتصحيح أمر آخر، ويقولون انّ الثاني أمر اجتهادي لا يجوز قبوله لمجتهد آخر، وأمّا التوثيقات الرجالية فيقبلونها من باب قبول خبر الثقة في الحسيات، كما جرت عليه بناء العقلاء في معايشهم.
وهذه الحرية والابتعاد عن الجمود لا توجد عند أهل السنّة بالنسبة إلى الصحاح الستة، بل اصبح الغلو في صحّة رواياتها من علامة الاخلاص والايمان!!!
ونحن مع تقديرنا لجامعي الصحاح والاقرار بفضلهم لا نجوّز تقليدهم لغيرهم بوجه مطلق، فانّ ذلك تحقير للعقل والضمير وابطال
____________
(1) وذهب جمع من الاخباريين منهم إلى صحة روايات هذه الكتب وبالخصوص الكافي منها، ولكن المحققين منهم ابطلوا تلفيقاتهم باتقن ادلّة.

( 12 )
لانصاف العلم ولا نرضى به كما لا يرضي الله سبحانه وتعالى به. وهكذا لا نجوّز تقليد الفقهاء وأرباب المذاهب بوجه مطلق، حتّى وان خالفوا لم يخالفوا النصوص المعتبرة الواردة من النبي الاَعظم صلى الله عليه وسلم، فانّه صد عن سبيل الله وضلال واضلال.
وهل يقدر أحد أن يدّعي انّ الاِمام الاَعظم أبا حنيفة رحمه الله ، قال بوجوب العمل بفتواه، وان كان مخالفاً للحديث النبوي إذا ثبت اعتباره؟ وهل افتى بوجوب تنفيذ أقواله على جميع المسلمين من الشيعة الامامية وغيرهم من اتباع الشافعي ومالك واحمد (رض) حتّى نمنعهم نحن عن العمل بمذاهبهم، سبحانك هذا بهتان عظيم وحسبان لئيم، وسبيل عقيم. والحق أوسع من مذهب واحد واجتهاد متفرد، بل الانحصار على الاربعة عمل المقلدين، ولا أصل له عند العلماء المحقّقين.
سادسها: انّ تدوين الحديث نشأ عندهم من زمان علي رضي الله عنه ، وزمان الحديث يدوم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاة الاِمام الحسن العسكري في سنة 260هـ، وامّا عند أهل السنّة فابتدأ التدوين من القرن الثالث على ما يأتي بيانه، ولهذا التفاوت آثاره.

الغرض من التأليف
(الامر الثالث): انّما صرفت برهة من عمري في البحث عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب أهل السنة وكتب الشيعة لاَمرين:
الاَول: للوصول إلى السنّة المقدّسة النبوية، فانّها عماد الشريعة وأحد ركني الاسلام القويين، وتمييز صحيحها وسليمها من ضعيفها ومجعولها ممّا زيد عليها أو نقص منها عمداً أو سهواً: (والّذينَ جاهَدُوا فينا
( 13 )
لنَهدينّهم سُبلنا وانّ اللهَ لمعَ المحسنين
)(1).
الثاني ـ: التقريب بين الشيعة وأهل السنة بتعريف الحق وتعيين الباطل والايصاء بطرد الغلو في حق الاَكابر وترك توهين سائر أرباب المذاهب، وانا اعتقد اعتقاداً جازماً بانّه مهما الغيت الاَباطيل والمفتعلات من عقائد الطرفين وحذفت أحاديثهما المجعولة المنقولة في كتبهما قصرت المسافة بينهما جداً.(2)
واما إذا بنينا نحن على اهانة أهل البيت لا سيما علي وزوجته والحسن والحسين أو انكار فضائلهم، وعلى اكبار كلّ صحابي وإن كان من المتخلفين والاعراب الذين لم يدخل الايمان في قلوبهم رغماً للعقل والحق، وبنى الشيعة على تثبيت غلو جهالهم وغلاتهم واهانة جميع الصحابة ولم يراعوا حتّى حق السابقين الاَولين من المهاجرين والانصار، فلاشك في فشل كلّ محاولة رامت للتقريب بينهم حتّى وان شلت ـ ولن تشل أبداً ـ يد الاستعمار وضعف ـ وانّى يضعف ـ سحر الريال والدولار وغيرهما من النقود التي تسلّم إلى الاجراء بالملايين.
فيا ايّها المسلمون اتقّوا الله حقّ تقاته ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ويسلّط عليكم اليهود والنصارى فضلاً عن كفّار الغرب الرأسماليين الحاقدين عليكم وعلى دينكم الطامعين في ثرواتكم، فاطردوا
____________
(1) العنكبوت 29: 69.
(2) نعم لايمكن التقريب بين المسلمين ـ الشيعة والسنة ـ بالتسامح والتجامل، وتبادل كلمات أدبية اخلاقية، وكتمان حقائق مرّة، وعدم حذف الاباطيل، وعدم تشهير الكاذبين والمفرّقين وتجارّ الدين، والغض عن الخرافات المنتحلة إلى المذاهب، وعدم قطع جذور مباني المقلّدة الظاهرين بصورة العلماء الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انّهم يحسنون صنعاً.

( 14 )
ــ من بينكم الوهابية الاميركية الفاسدة، والقاديانية المعلونة، والبهائية الخبيثة، وسائر المذاهب الباطلة المخترعة، ولا تباعدوا بعضكم عن بعض باسم الشيعة والسنة، باسم الحنفية والزيدية والمالكية والشافعية والحنبلية والجعفرية، فكونوا اخوة بررة متحابّين في الله ومتمسّكين بدينه الخالد الاسلام وكتابه المعجز القرآن المجيد ورسوله الخاتم الامين محمّد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، ولا تسابّوا، ولا تباغضوا، ولا تكفّروا بعضكم بعضاً، فيفرح به أعداؤكم، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.

تمهيد الكتاب
(الامر الرابع): كنت في أوائل عهدي بمطالعة كتب الحديث أعتقد أو أميل إلى صحّة كلّ ما أقرأ فيها وانّه صادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانّ الرواة ـ ولا سيما المذكورين في الصحاح الخمسة أو الستة ـ صادقون، وانّه لم يقع في سبيل نقل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب تشويش البال وتشتت الخاطر ولا وجه للتردد فضلاً عن الانكار والردّ، ولكن بعد انّ تكرّرت مطالعتي وتعمّق تتبّعي وكثرت مراودتي وصرت من أهل الدار وقفت على حقيقة الحال، فاضطررت إلى ترك الجمود وأقوال الرجال إذ وجدت خللاً وضعفاً في متون الاَحاديث وحال الرواة، فاقتنعت بانّ جميع ما دوّن في كتب الاَحاديث المؤلّفة من قبل محدّثي أهل السنة والشيعة غير معتبر، كما انّ جميعها غير باطل، فمنها الصحيح، ومنها الضعيف، ومنها الموضوع، ومنها المجهول، ولا فرق في ذلك بين كتاب وكتاب.
فحينما كنت اتفحص الاَحاديث في كتب الشيعة واكتب عنها، فذكرت حول رواياتهم الضعيفة والمجهولة والمعتبرة اكبر تفصيل، اسأل الله تعالى أن يجعله نافعاً لهم ولا اريد انّ اذكره هنا حتّى بالاشارة، فانه تكرار بلا
( 15 )
فائدة.
وحينما شرعت التحقيق في أحاديث الصحاح الستة علمت انّ ما اشتهر بين جمع كثير من صحّة جميع أحاديثها ـ لا سيما أحاديث البخاري ومسلم ـ رحمهما الله تعالى ـ أمر مخالف للواقع ومبالغة جزافية على خلاف العقل وما نعلمه من الدين والتاريخ، فقبولها تحقير للعقل وانحراف عن خط القرآن الكريم.
وعمدة ما يجلب نظر المحقّق المنصف في أحاديث الصحاح من الخلل والنقص والضعف الموجبة لسقوط مقدار منها عن درجة الصحة والحجية أُمور نشير اليها، منها:
1 ـ عدم وثاقة جملة من رواتها أو ثبوت كذبهم، حتّى في كتابي البخاري ومسلم.
2 ـ مخالفة متون عدّة منها للواقع بحكم العقل أو بقرينة قوية شرعية أو تاريخية.
3 ـ تعارض جملة من الاَحاديث فيما بينها بحيث يعلم كذب احدى الطائفتين المتعارضتين بعد استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين، بل يحتمل كذب كلتيهما فيما إذا كان مدلولهما من الضدين اللذين لهما ثالث.
وفي اثناء التحقيق والتعليق على بعض أحاديث هذه الكتب وقفت على كتاب ممتع ألّفه فضيلة الشيخ المتتبّع الشجاع محمود أبو ريه، المولود في 15 ديسمبر 1889، المتوفّى في 11 ديسمبر 1970م، باسم «اضواء على السنة المحمدية» أو دفاع عن الحديث، فرأيته مقويّاً لبعض مقاصد كتابي، فاقتبست منه جملة من مطالبه جاعلاً لها في مقدمة الكتاب، ليكون المطالع اقرب إلى القبول وأبصر بما اذكره في صلب مقاصد الكتاب،
( 16 )
فجزاه الله عن الحق والعلم والمحققين أحسن الجزاء.
فكتابي هذا ـ نظرة عابرة إلى الصحاح الستة ـ مشتمل على مقدّمة، وستة مقاصد، وخاتمة، وليعلم القارئ من أول الاَمر انّي لا اعده باستيعاب ذكر كلّ حديث يستحق النقد والرد والترديد، ولا أذكر كلّ ما يحسن التنبيه عليه، فان هذا يحتاج إلى مجال أوسع ودقّة زائدة لم اوت توفيقها أو قصرت همتي عن نيلها، ولعلّ أحداً أو جماعة بعد ذلك يقومون به وكلّ ميسّر لما خلق له.
وانّي اتمنّى اليوم الذي تنقّح فيه الاَحاديث المعتبرة الصحيحة عن غيرها من الموضوعات بجهد أهل التحقيق والتدقيق، وما ذلك على الله بعزيز.
ثم اتمنّى فوق ذلك اليوم الذي يغلب التحقيق على التقليد، وتتقدّم الحقيقة على العصبية، وسلوك الصراط المستقيم بدلاً عن مختلف الطرق، والله العاصم والموفق.

مراحل الحديث
لا بدّ أن نبحث مختصراً في هذا المقام عن مراحل ثلاث للحديث النبوي صلوات الله على محدّثه.
المرحلة الاَولى: نقل الحديث.
المرحلة الثانية: كتابة الحديث.
المرحلة الثالثة: تدوين الحديث في الكتب.
نعم نبحث عن هذه المراحل حتّى تتبيّن للمحقّقين قيمة الاَحاديث الموجودة بأيدينا المكتوبة في كتبنا، فيكون أهل البحث على معرفة تامّة بشريعتهم، ولا يخبطون خبط عشواء ويهوون إلى أودية الافراط والتفريط
( 17 )
(وكذلك جعلناكم أُمّة وسطا)(1).

الأولى: نقل الحديث.
الثابت من الآثار انّ الصحابة أو المشهورين منهم يقلّلون نقل الحديث، بل ينهون عن تكثيره أو عن أصل نقله، واليكم ذكر هذه الآثار ممّا يحضرني عاجلاً من غير استيفاء واستقصاء.
أ ـ عن الذهبي في تذكرة الحفاظ: من مراسيل ابن ملكية (عبدالله بن عبيد الله قاضي مكّة في زمن ابن الزبير المتفق على توثيقه): انّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: انّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرّموا حرامه(2).
ب ـ وعن ابن عساكر، عن محمّد بن اسحاق قال: أخبرني صالح بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطاب حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبدالله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الاَحاديث التي افشيتم عن رسول الله في الآفاق؟
قالوا: تنهانا؟
قال: لا، اقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم! نأخذ منكم ونردّ عليكم. فما فارقوه حتّى مات.
ج ـ وعن تذكرة الحفاظ(3) عن شعبة، عن سعيد بن ابراهيم، عن
____________
(1) البقرة: 143.
(2) تذكرة الحفاظ 1: 3.
(3) تذكرة الحفاظ 1: 7.

( 18 )
أبيه: انّ عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الانصاري فقال: قد اكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
د ـ وعن ابن سعد وابن عساكر، عن محمود بن لبيد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لاحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فانّه لم يمنعني أن أُحدّث عن رسول الله أن لا اكون من أوعى اصحابه! إلاّ انّي سمعته يقول: «من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار».
هـ ـ وعن جامع بيان العلم وفضله(2) لحافظ المغرب ابن عبد البر، عن الشعبي، عن قرظة: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار (بالكسر موضع قرب المدينة) ثم قال لنا: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟
قلنا: اردت ان تشيّعنا وتكرمنا؟
قال: انّ مع ذلك لحاجة خرجت لها، انكم لتأتون بلدة لاَهلها دوي كدوي النحل، فلا تصدروهم بالاحاديث عن رسول الله وانا شريككم.
قال قرظة: فما حدّثت بعده حديثاً عن رسول الله.
وللرواية صورة أُخرى لاحظ مقدمة سنن ابن ماجه(3).
وكان عمر يقول: أقلّوا الرواية عن رسول الله إلاّ فيما يعمل به(4).
____________
(1) ولو فعل أبو الحسن عليٌّ هذا الفعل مع طلحة والزبير ولم يأذن لهما بالخروج إلى العمرة لم يبتل بحرب الجمل في البصرة، مع انّه علم قصدهما وقال ـ كما نقل عنه ـ : ما يريدان العمرة، بل يريدان الفتنة، لكن لعمر اخلاقه ولعلي اخلاقه ـ كلّ ميسر لما خلق لاَجله.
(2) جامع بيان العلم وفضله 2: 120.
(3) انظر مقدمة سنن ابن ماجه رقم 28.
(4) صححه الحاكم في المستدرك 1: 102.

( 19 )
أقول: بل عمر منع الناس عن كتابة حديث النبي الاَكرم في حياته صلى الله عليه وسلم، وقال: انّه صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع أو انّه يهجر! وادّعى انّه حسبنا كتاب الله، حتّى غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بخروجهم من عنده بقوله: «قوموا عني».
و ـ وعن طبقات ابن سعد، عن السائب بن يزيد: انّه صحب سعد ابن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدّث عن النبي حديثاً حتّى رجع. وسئل عن شيء فاستعجم وقال: انّي أخاف أن احدّثكم واحداً فتزيدوا عليه المائة!(1)(2).
ز ـ اخرج البخاري عن السائب بن يزيد قال: صحبت طلحة بن عبيدالله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الاسود وعبد الرحمن بن عوف (رض) فما سمعت أحداً منهم يحدّث عن رسول الله، إلاّ انّي سمعت طلحة يحدّث عن يوم أُحد(3).
ح ـ وعن ابن عساكر، عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لاَبي هريرة: لتتركنَّ الحديث عن رسول الله أو لاَلحقنّك بأرض دوس (أي بلده)(4).
أقول: الروايات في هذا الموضوع كثيرة كلّها تثبت رغبة كبار الصحابة عن التحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إمّا مطلقاً، وإمّا في الجملة.
____________
(1) مستدرك الحاكم 2: 102.
(2) أقول يخاف سعد من الذين يعيشون الصدر الاَول وخير القرون، ولا تغفل انّ جمعاً كثيراً ممّن يخافهم سعد من الصحابة، فما حال القرون الآتية في التزييد، ولو كان سعد حيّاً اليوم لقال: زدتم على واحد ألفاً!!! ثم انّ المذكور في مقدمة سنن ابن ماجه برقم 29 سعد بن مالك.
(3) فتح الباري 6: 28.
(4) فتح الباري 2: 120.

( 20 )
ثم انّ المستفاد ممّا نقلنا ـ زائداً على هذا المقصود ـ أُمور أُخر نشير اليهما تتميماً للفائدة:
(الاول): انّ الاَصل في النهي عن نقل الحديث أو اكثاره هم الخلفاء الثلاثة لا سيّما عمر، فهل النهي المذكور سياسي يتعلق بمقام الخلفاء أو غير سياسي، فيه وجهان، وربّما يظهر فيما بعد ما هو الصحيح منهما ان شاء الله تعالى.
(الثاني): انّ الصحابة في زمن الصدّيق قد اختلفوا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختلاف قد يكون بتكذيب بعضهم بعضاً في النقل، وقد يكون بسبب تعارض الاَحاديث، وهذا أيضاً يرجع إلى الكذب أو الاشتباه في النقل، فانّ النبي الاَمين المعصوم صلى الله عليه وسلم لا يختلف كلامه ولا يتناقض قوله وعمله. وعليه فلا بدّ من قبول الاَحاديث مع التثبّت في حال الصحابة، وعدم قبول منقولاتهم بوجه مطلق فضلاً عن قبول آرائهم، ولا يجوز لنا أن نعتقد فيهم ما لا يعتقد هؤلاء بانفسهم، فانّه من الغلو والسفه.
(الثالث): ظاهر كلام أبي بكر الحكم باهمال الاَحاديث مطلقاً وحصر الحلال والحرام بحلال القرآن وحرامه، وهذا أمر مهم عميق لا يدركه إلاّ الكاملين من المحقّقين.
(الرابع): يظهر من قول عمر: (ونردّ عليكم) انّ في أحاديث الصحابة ما هو مخالف للواقع سهواً أو عمداً، ونقل عن عمران بن حصين الصحابي ـ المتوفّى سنة 52 هـ ـ: والله إن كنت لاَرى انّي لو شئت لحدّثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن أبطأني عن ذلك انّ رجالاً من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدّثون أحاديث ماهي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم،
( 21 )
فاعلمك انهم كانوا يغلطون لا انهم كانوا يتعمدّون(1).
وعن بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفّظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثنا عن كعب ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله(2).
(الخامس): انّ اكثار الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كان محرّماً بنظر عمر، فانّه عزر المكثرين بالحبس، ضرورة عدم جواز حبس المسلم وايذائه على أمر مباح أو مستحب، بل مكروه. وهذا يبطل نظر الغالين في حقّ الصحابة بانّهم كلّهم عدول.
(السادس): يظهر من كلام عثمان انّ الكذب في نقل الحديث قد كثر بعد زمن الشيخين، ولذا لم يحلل للناس نقل ما لم يسمع في زمانهما، وذيل كلامه أيضاً يعرض بالكاذبين.
(السابع): يظهر من قول الفاروق في ذيل الخبر الخامس (إلاّ فيما يعمل به) انّ نظره إلى منع نقل الاَحاديث الواردة في فضائل بعض الصحابة مخافة أفتتان الناس به، فيوهن مقام الخلافة في قلوبهم. ويظهر من غيره انّ السبب في النهي هو الخوف من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً أو غفلة.
(الثامن): يظهر من الخبر السادس انّ السبب في ترك تحدّث الصحابة هو كذب المستمعين، وانّهم يزيدون على كلام واحد مائة. وهذا السبب الذي خافه ابن أبي وقاص يجب ان لا ننساه حتّى عند الاعتماد على أحاديث الصحاح الستة، والله الهادي، وقد مرّ في الخبر الاَول سبب آخر،
____________
(1) اضواء على السنة المحمدية 114، مختلف الحديث لابن قتيبة 49.
(2) سير اعلام النبلاء 2: 436.

( 22 )
وهو اختلاف الناقلين، واختلاف من بعدهم أشد الاختلاف.
يبقى في المقام سؤال وهو انّ الذين امتنعوا من الصحابة من نقل الحديث هل هو بداع نفسي منهم مخافة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بزجر حكومي من الخلفاء ـ لا سيّما الخليفة الثاني ـ؟ الظاهر هو الثاني، ويدعمه قرائن ـ كما يأتي عن أبي هريرة ـ وكما يستفاد من كلام عثمان السابق وغيره، والله العالم.
الثانية: كتابة الحديث.
إذا فرضنا النهي عن اكثار نقل الحديث أو عن أصله، وكذا إن فرضنا رغبة جمع من الاَصحاب عن تحديث الناس بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بوسع جمع منهم أن يحفظ السنّة القوليّة عن الاندراس والنسيان بقيد الكتابة، بأنّ يكتبوا ما يطمئنون بسماعه عن الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ويودعونه إلى الثقات تكميلاً لاَمر الشريعة، لكن كتابة الحديث بدورها ـ كنقل الحديث ـ ابتليت بالمنع والنهي، بل بمنع أشد من منع النقل، واليكم بعض دلائله:
1 ـ روى الدارمي (شيخ البخاري) ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد، عن أبي سعيد الخدري (رض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه.
واخرج الدارمي، عن أبي سعيد: انّهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه، فلم يأذن لهم.
ولفظ الترمذي: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة، فلم يأذن لنا(1).
____________
(1) سنن الترمذي 2: 91.

( 23 )
2 ـ وعن زيد بن ثابت: انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألاّ نكتب شيئاً من حديثه.
اقول: والصحيح أن يقول: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكتب شيئاً من حديثه.
3 ـ ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ(1) عن الحاكم ما رواه عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلّب، ولمّا أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الاَحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك(2).
أقول: وقد مرّ قول أبي بكر: فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه.
4 ـ وعن ابن عبد البر والبيهقي ـ في المدخل ـ عن عروة: انّ عمر أراد أن يكتب السنن، فاستفتي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فاشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: انّي اريد أن اكتب السنن ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتب فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله وانّي والله لا أشوب (لا البس) كتاب الله بشيء أبداً.
5 ـ وعن جامع بيان العلم وفضله(3) عن يحيى بن جعدة: انّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتب، ثم كتب في الامصار:
____________
(1) تذكرة الحفاظ 1: 5.
(2) أقول: هذا حال كتاب هذا الصحابي الشهير، فكيف بكتاب البخاري وغيره. ثم أنّ هذا النقل يخالف حديثه الناهي عن كتابة الحديث!
(3) جامع بيان العلم وفضله 1: 64 و65، طبقات ابن سعد 1: 206.

( 24 )
من كان عنده شيء فليمحه(1).
أقول: لا أدري كيفية ارادة عمر واستخارته كما لا أدري ـ ولا يُدرى ـ من هم أُولئك القوم الذين قبلنا أكبّوا على أحاديث نبيّهم وتركوا كتاب ربّهم، لكن كان عمر يرى بطلان كتابة الحديث حتّى في زمان النبي الاَكرم صلى الله عليه وسلم، حتّى في الحديث الذي يحفظ الاَُمّة من الضلالة بعد نبيها، وكان النبي أراد أن يكتبها بيده أو كان يأمر أحد صحابته بكتابته كما قصَّ ذلك لنا ابن عباس، وأخرجه البخاري في مواضع من كتابه، وقال عمر في وجه منعه واجتهاده: انّه قد غلبه الوجع أو انّه يهجر!!! وحسبنا كتاب الله.
6 ـ وعنهما، عن ابن سعد، عن عبدالله بن العلاء قال: سألت القاسم ابن محمّد أن يملي عليَّ أحاديث، فقال: انّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب.
وقد قرئت المثناة بالثاء المثلثة، وبالشين المعجمة، وبالسين المهملة، وادّعى بعضهم أنَّ المراد بها: مجموعة الروايات الاسرائيلية، وهو نوع توجيه.
7 ـ وعن الاَسود بن هلال قال: أتى عبدالله بن مسعود بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها ثم غسلها، ثم أمر بها فأُحرقت، ثم قال: اذكر الله رجلاً يعلمها عند أحد إلاّ أعلمني به، والله لو أعلم أنّها بدير هند
____________
(1) أقول: وعن الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188: خطب (عمر) الناس يوماً قائلاً: أيّها الناس انّه قد بلغني انّه قد ظهرت في ايديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقينَّ أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى رأيي، فظنّوا انّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فاتوه بكتبهم فأحرقها بالنار!!!

( 25 )
لبلغتها. بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون.
8 ـ وعن تقييد العلم للخطيب البغدادي(1) عن أبي نضرة قال: قلت لاَبي سعيد الخدري: ألا بكتب ما نسمع منك؟
قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ انّ نبيكم كان يحدّثنا فنحفظ.
9 ـ وعن ابن عباس: كنّا نكتب العلم ولا نكتبه.
أي لا نكتبه لغيرنا أو لا نسمح أن يكتب عنا أحد.
10 ـ وعن أبي سعيد الخدري(2) وكنّا لا نكتب إلاّ القرآن والتشهّد.
أقول: ومع هذا التأكيد على التشهد ـ حتّى نقل عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفّي بكفّه كما يعلّمني السورة من القرآن ـ فقد نقلت تسع صيغ للتشهّد، فما بال غيره من أجزاء الصلاة وغيرها من الاَعمال غير المعمولة في كلّ يوم مرات(3).
أقول: والمتتبّع يمكنه أن يجد شواهد غير ما ذكرنا على عدم كتابة الحديث والنهي عنها ومحو ما كتب من الحديث واحراقه، ومع ذلك فانّ أصل المقصد وهو عدم تقييد الاَحاديث بالكتابة في القرن الاَول الهجري ومدّة بعده أمر مسلَّم لا يقبل الارتياب، وهو من الواضحات التي لا تحتاج إلى دليل وشاهد.
ثم انّه ينبغي لنا أن نرجع النظر إلى تلك الشواهد ثانياً ونأخذ منها
____________
(1) تقييد العلم: 27.
(2) تقييد العلم: 92.
(3) لاحظ تفصيل صيغ التشهّد التسع في ص82 إلى ص85 من كتاب أضواء على السنة المحمديّة.

( 26 )
بعض مطالب أُخر، فمنها: انّ النهي في الخبرين الاَولين مطلق يشمل المؤلفين والمدونين حتّى في القرن الثالث من الهجرة، فهل عصوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم؟ أمر لا بدّ فيه من التأمّل.
ومنها: انّ احراق أبي بكر الاَحاديث انّما هو لاَجل اشتباه الرواة أو كذبهم في النقل، فيعلم انّه كان قليل الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عديمها، وإلاّ لم يكن وجه لاحراق ما سمعه عن النبي الاَكرم صلى الله عليه وسلم.
ومنها: انّ الناس قد علموا بأهميّة كتابة الحديث، فأشاروا بصحّتها أو لزومها على عمر، لكن عمر ردّ مشورتهم ولم ينصرف عنها وحدها، بل أمر أهل الاَمصار بمحو الاَحاديث التي كتبوها، وهذا لا لاَجل نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وإلاّ لم يكن للاستخارة في شهر واحد وجه، بل مخافة شوب كتاب الله بغيره، لكن عمر كان يعلم بانّ الاَحاديث لا تشوب بالقرآن، وانّه كلام الخالق، وبينهما بون بعيد وتفاوت شديد، وهذا نهج البلاغة لعلي، وهذه الكتب المدّونة في القرن الثالث من الصحاح والمسانيد والسنن قد شاعت وكثرت ولم يشتبه على أحد بالقرآن وآياته، فالظاهر انّ لاجتهاده في عدم كتابة الحديث ولزوم محو ما كتب إلى انذاك في المدينة والاَمصار دليلاً آخر لم ير ذاك الوقت مصلحة في افشائه، فأبدى وجهاً آخر لاقناع الناس المستشارين، وهم الصحابة الاجلاّء بالطبع.
وقد اشرنا إلى منعه عن كتابة حديث واحد أراده النبي صلى الله عليه وسلم لاَجل عدم ضلالة أُمّته بعده، فهل يحتمل انّه أيضاً لئلا يشوب به القرآن؟
ومنها: انّ القاسم بن محمّد يخبر أنّ الاَحاديث كثرت على عهد عمر ولاَجله أمر بأحراقها، فليعتبر المنصف بكثرة الاَحاديث في زمن خليفة مهيب متشدّد مثل عمر وخوفه منها حتّى أمر باحراقها، ثم بكثرة الاَحاديث
( 27 )
في زمن عثمان حتّى منع ذكر الاَحاديث التي لم تسمع في زمن الشيخين كما مر.
قال أبو سلمة لاَبي هريرة ـ وهو أحد المكثرين المشهورين في صدر الاسلام ـ أكنت تحدّث في زمن عمر هذا؟
قال: لو كنت أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته.
ولو قام عمر من قبره ورأى رواج سوق الجعل والتزوير في الحديث والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى أسوأ واشنع من هذا تعصّب عوّام الناس، وغفلة مدّعي العلم عن تلك المجعولات والمجهولات، لمات غضباً وغيظاً. ولقد حقّت عليهم كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار؟!
ومنها: انّ ما علّل به المنع عبدالله بن مسعود غير مفهوم ولا معقول، فانّ سبب هلاك أهل الكتاب انّما هو ترك العمل بكتاب ربّهم وسنّة نبيهم ظلماً وعتواً، وهذا قطعي، وليس سبب هلاكهم تدوين أحاديث نبيّهم والعمل بها وحدها، مع انّه لا ملازمة بين كتابة الروايات وترك العمل بكتاب الله، كما هو المشهود من القرن الثالث إلى يومنا هذا.
بحث توضيحي
لا ريب في انّ السنة القولية لم تتقيّد بالكتابة في القرن الاَول، ولا خلاف فيه، وانّما الكلام في انّه هل باجتهاد من الخلفاء أو بنهي سابق من النبي الاَكرم صلى الله عليه وسلم؟
وعلى الاَول، الداعي لهم إمّا أمر سياسي، وإمّا شيء أعمق منه، إذ لا يحتمل كونه خوفاً من الكذب أو شغل الناس عن كتاب الله أو شوب الكتاب بغيره، إذ بامكانهم تشكيل لجنة من أُمناء الصحابة وعلمائهم لجمع
( 28 )
صحيح الاَحاديث وتدوينها في مجموعة باسم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعلوا ذلك بالنسبة إلى جمع آيات الكتاب الكريم، ولا يترتب على ذلك أي محذور جزماً.
وعلى الثاني، فانّ فرض النهي المذكور أمراً تعبّديّاً صرفاً كجملة من المحرمات الاَُخر التي لا يعلم وجهها، يتجّه السؤال إلى هؤلاء المحدّثين الذين ألّفوا كتب الحديث من الصحاح والمسانيد والسنن هل هم من العصاة المبتدعة؟ ولعلّه لا مناص عنه على هذا الوجه، واشير في هذا إلى ما قاله بعض المحقّقين، من انّ التابعين لم يدوّنوا الحديث لنشره إلاّ بأمر الامراء. وإن فرض انّ للنهي حكمة مفهومة، فما هي الحكمة المذكورة؟
يقول بعض أهل التحقيق: وقد يكون قريباً من الصواب في حكمة نهي النبي عن كتابة الحديث، هو لكي لا تكثر أوامر التشريع ولا تتسع أدلّة الاحكام، وهو ما كان يتحاشاه صلى الله عليه وسلم حتّى كان يكره كثرة السؤال، أو يكون من الاَحاديث في أُمور خاصة بوقتها بحيث لا يصحّ الاستمرار في العمل بها.
يقول صاحب المنار (المجلد العاشر) بعد كلام له: وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث، بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه، قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الاَحاديث (كلّها) ديناً عاماً دائماً كالقرآن، ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم انّه يريد ذلك لكتبوا ولاَمروا بالكتابة... وبهذا يسقط قول من قال: انّ الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية، وإذا اضفت إلى ذلك كلّه حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الاَحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الاَمصار في القرن الاَول والثاني من
( 29 )
اكتفاء الواحد منهم ـ كأبي حنيفة ـ بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قلّ، وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبيّن أحكامه، قوي عندك ذلك الترجيح.
بل تجد الفقهاء... لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتّبعة ولا سيّما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية، فيها مئات من المسائل المخالفة للاَحاديث المتّفق على صحّتها... وقد أورد ابن القيّم في « أعلام الموقعين » شواهد كثيرة جداً من ردّ الفقهاء للاَحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهداً. انتهى كلام هذا المفسّر الفقيه العارف بالاحاديث أعني السيّد رشيد رضا.
أقول: ما ذكره هو الواقع خارجاً سواء كان حقّاً أو باطلاً، فانّ الخلفاء لا سيّما عمر رضي الله عنه وأرباب المذاهب لم يكونوا يقيّدون أنفسهم بالاَحاديث، بل يقدّمون اجتهادهم بالقياس وغيره عليها من دون استيحاش وحرج، فلم يكن قيمتها عندهم كقيمة الآيات القرآنية ، فالسنّة القولية عند أهل السنة ـ وإن عدّت أحد ركني الشريعة ادعاءً ولكنّها ليست كذلك ـ عملاً بأي دليل كان، وإن كان ما أعتذر به السيّد رضا ـ على ما عرفته آنفاً ـ من أحسن الاعتذار، ومنه يظهر أمران آخران، وهما:
1 ـ انّ ما ذكره جمع من الغافلين من اعتبار روايات الصحاح الستة، وعدم جواز التشكيك في اعتبارها وصدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفاق الكلّ على اعتبارها ـ خصوصاً على اعتبار أحاديث البخاري ومسلم ـ مخالف للواقع، بل هو طبل فارغ لا وزن له سوى صوته! فانّ الصحابة لم يروها معتبرة وفقهاء المذاهب ـ خصوصاً الاِمام أبو حنيفة ـ لم يقبلوها كما
( 30 )
اعترف به ابن القيّم، وهو أمر واضح لا مجال للتشكيك فيه اللّهم إلاّ عند من أهمل عقله وغفل عن كلّ شيء سوى صوت طبل المتعسفين المتعصبين خلافاً لاَمر القرآن حيث يقول: (واجتنبوا قَولَ الزورِ)(1).
2 ـ انّ بعض الاَعلام من الشيعة الامامية ـ السيّد شرف الدين العاملي اللبناني ـ ألّف كتاباً سمّاه النص والاجتهاد، وجمع فيه موارد اجتهاد الصحابة في مقابل النص، وكأنّه يريد التعريض بهم، فنقول في جوابه: انّ هذا الاعتراض انّما يتمّ على أُصول الشيعة القائلين بمنع الاجتهاد في مقابل النص أشد المنع، وانّ الاَحاديث عندهم كالآيات في الحجيّة والاعتبار إذا جمعت فيها شروط الحجية، ولاَجله ذهبوا إلى بطلان القياس، ولا يتمّ على مبنى أهل السنّة كما عرفت من هذا المقام.