كتاب نظرة عابرة الى الصحاح الستة ص 119 ـ ص 135
النهي عن صلاة رمضان جماعة
(119) عن زيد بن ثابت: انّ رسول الله اتخذ حجرة ـ قال: حسبت انّه قال من حصير ـ في رمضان فصلّى فيها ليالي، فصلّى بصلاته ناس من اصحابه، فلّما علم بهم جعل يقعد فخرج اليهم فقال: «قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم، فانّ أفضل الصلاة صلاة المرأة إلاّ المكتوبة»(1).
(120) وعن عائشة انّها قالت ـ في جواب من سألها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ ـ: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على أحدى عشرة ركعة...(2)
أقول: الرواية مجعولة، فانّها تخالف كلّ ما ورد في صلاته صلى الله عليه وسلم لنوافل رمضان.

الاعتدال بعد الركوع وبعد السجود
(121) عن أبي هريرة في حديث عنه صلى الله عليه وسلم: «... ثم اركع حتّى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتّى تعتدل قائماً ثم اسجد حتّى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتّى تطمئن جالساً... ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»(3).
وفي حديث انس: وإذا رفع رأسه قام حتّى نقول قد نسي(4).
وعن البراء: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع
____________
(1) صحيح البخاري رقم 698، وانظر حديث عائشة رقم 1077.
(2) صحيح البخاري رقم 1097 كتاب التهجد.
(3) صحيح البخاري رقم 760.
(4) صحيح البخاري رقم 767.

( 120 )
وبين السجدتين قريباً من السواء(1).

القنوت
(122) عن أبي هريرة: لاَُقرأنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الاَُخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار(2)، وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم على المخالفين له من مضر!(3).
(123) وعن انس: كان القنوت في المغرب والفجر(4).
(124) وعن محمّد: سئل أنس اقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح؟
قال: نعم.
فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟
قال: بعد الركوع يسيراً(5).
وعن عاصم قال: سألت أنس عن القنوت، فقال: قد كان القنوت.
قلت: قبل الركوع أو بعده؟
قال قبله.
قال: فانّ فلاناً أخبرني عنك أنّك قلت بعد الركوع؟
فقال: كذب! انّما قنت رسول الله بعد الركوع شهراً...(6). ولعل البخاري لا يرى الكذب مانعاً عن الصحة!
____________
(1) صحيح البخاري رقم 767.
(2) صحيح البخاري رقم 764.
(3) صحيح البخاري رقم 771.
(4) صحيح البخاري رقم 765.
(5) صحيح البخاري رقم 956 كتاب الوتر.
(6) صحيح البخاري رقم 957 كتاب الوتر.

( 121 )
ابتداع النداء الثالث والاتمام في السفر بمنى
(125) عن السائب قال: كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الامام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر (رض)، فلمّا كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء(1).
قيل: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة.
(126) وعنه: انّ الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان...(2)
(127) وعنه: انّ التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان...(3).
وعن عبدالله رضي الله عنه : صلّيت مع النبي بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر، ومع عثمان صدراً من امارته ثم أتمّها(4).
أقول: لا يجوز مثل هذا التغيير في احكام الشرع، فسامحه الله.
وفي حديث: انّ عبدالله بن مسعود لمّا سمع اتمام الصلاة من عثمان استرجع ثم قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين... فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان(5).
وتبعت عائشة عثمان في ذلك(6).

بدعة مروان
(128) عن أبي سعيد... فأوّل شيء يبدأ به ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ
____________
(1) صحيح البخاري رقم 870.
(2) صحيح البخاري رقم 871.
(3) صحيح البخاري رقم 873.
(4) صحيح البخاري رقم 1032.
(5) صحيح البخاري رقم 1034.
(6) صحيح البخاري رقم 1040.

( 122 )
الصلاة ثم... فيعظهم... فإذا مروان يريد أن يرتقيه ـ المنبر ـ قبل ان يصلّي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله.
فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم!
فقلت: ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم.
فقال: انّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة(1) ، القصة كغيرها نقلت بالفاظ مختلفة(2).

توسّل عمر بالنبي صلى الله عليه وسلم وعمّه
(129) عن انس: انّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم انّا كنّا نتوسّل اليك بنبينا فتسقينا، وانا نتوسل اليك بعمّ نبينا فاسقنا، قال: فيسقون(3).
أقول: يظهر من الرواية انّ توسّل عمر بالعباس في الاِستسقاء كان عادة له، وانّ التوسّل جائز، وانّ أهل بيته صلى الله عليه وسلم أفضل عندهم من الصحابة.
(130) وعن عبدالله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يتمثّل بشعر أبي طالب.

وابيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للاَرامل

الصلاة في كسوف الشمس
اخرج البخاري روايات فيها والظاهر انّه واجبة وجوباً عينياً، بل يظهر من بعضها وجوبها لخسوف القمر أيضاً، فلاحظ كتاب الكسوف.
وفي بعض الروايات: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت
____________
(1) صحيح البخاري رقم 913.
(2) انظر صحيح مسلم 6: 177 وسائر الكتب.
(3) صحيح البخاري رقم 964.

( 123 )
أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده...(1).
أقول: يشكل صدور الجملة الاَخيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلّها من زيادة بعض الرواة، إذ الكسوف والخسوف أمران عاديان غير موجبان للخوف.
واعلم ان عبدالله بن الزبير لم يعرف كيفية صلاة الكسوف فصّلاها ركعتين كصلاة الصبح، واعترف أخوه عروة انّه أخطأ السنّة(2).

نومه في السحر
(131) وعن عائشة: ما الفاه السحر عندي إلاّ نائماً. تعني النبي صلى الله عليه وسلم(3) أقول: الرواية مجعولة؛ لاَنّ الاحاديث ـ حتّى عن عائشة ـ متّفقة على انّه لا ينام بعد صلاة الوتر حتّى يصلّي المكتوبة، ولذا أوّله بعضهم بالاضطجاع، وهو كما ترى تأويل باطل. نعم هو وارد في حديثها الآخر(4).
وفي رواية عنها: فقلت يا رسول الله أتنام قبل ان توتر؟ فقال: يا عائشة انّ عيني تنامان ولا ينام قلبي(5).

تعليم الاستخارة
(132) عن جابر بن عبدالله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الاَُمور كما يعلّمنا السورة من القرآن، يقول إذا همَّ أحدكم بالاَمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقل: اللهم اني استخيرك بعلمك..(6).
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1010.
(2) صحيح البخاري رقم 1016.
(3) صحيح البخاري رقم 1082.
(4) صحيح البخاري رقم 1107.
(5) صحيح البخاري رقم 1096.
(6) صحيح البخاري رقم 1109 أول أبواب التطوع.

( 124 )
المنع من شد الرحال
(133) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تشدّ الرحال إلاّ الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، والمسجد الاقصى(1).
وقريب منه حديث أبي سعيد الخدري(2).
أقول: المستثنى منه ظاهراً أو القدر المتيقّن هو المساجد لا مطلق الاَماكن؛ لجواز شدّ الرحال إلى التجارة والنزهة وصلة الرحم وتحصيل العلم وغير ذلك، فيلزم على الثاني تخصيص الاكثر المستهجن. والرواية منصرفة إلى السفر البعيد. ولما رواه ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قبا كل سبت ماشياً وراكباً وكان عبدالله يفعله(3).
عجيبة
(134) عن عائشة: انّ رسول الله كفّن في ثلاثة أثواب...(4).
أقول: ان الذي غسّل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفّنه ودفنه هو علي، ولم يرووا عنه شيئاً في ذلك وهذه عائشة تخبرهم عن كفن رسول الله، وهذا لعمر الله عجيب!

اعتراض عمر على النبي صلى الله عليه وسلم
(135) عن ابن عمر: انّ عبدالله بن أُبي لمّا توفى جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اعطني قميصك أُكفّنه فيه، وصلّ عليه، واستغفر له فاعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال: «آذني أُصلّي عليه»، فاذنه.
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1123 كتاب التطوع.
(2) صحيح البخاري رقم 1139.
(3) صحيح البخاري رقم 1135.
(4) صحيح البخاري رقم 1205.

( 125 )
فلّما أراد ان يصلّي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس نهاك أن تصلّي على المنافقين؟ فقال: «أنا بين خيرتين» قال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم.
فصلّى عليه، فنزلت: (ولا تصلّ على أحد مات منهم أبداً)(1).
(136) وعن جابر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أُبي بعدما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه(2).
(137) وعن ابن عباس عن عمر... وثبت اليه فقلت: يا رسول الله أتصلّي على ابن أُبي وقد قال يوم كذا وكذا: كذا وكذا... فتبسم رسول الله وقال: «أخّر عني يا عمر» فلما اكثرت عليه قال: «اني خيّرت فاخترت، لو اعلم اني زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها».
قال: فصلّى عليه رسول الله ثم انصرف، فلم يمكث إلاّ يسيراً حتّى نزلت الآيتان من براءة على رسول الله: (ولا تصلّ على أحد ـ إلى قوله ـ وهم فاسقون) فعجبت من جرأتي على رسول الله...(3).
أقول: في المقام مباحث لا بدّ من تحقيقها في محل آخر.

البكاء والنياح على الميت
(138) عن المغيرة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «انّ كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من نيح عليه يعذّب بما نيح عليه»(4).
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1211.
(2) صحيح البخاري رقم 1211.
(3) صحيح البخاري رقم 1300 كتاب الجنائز.
(4) صحيح البخاري رقم 1229، وانظر صحيح مسلم 6: 235.

( 126 )
(139) وعن ابن عمر، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الميت يعذّب في قبره ما نيح عليه»(1).
(140) وعن عبدالله بن عبيدالله... فقال عبدالله بن عمر لعمرو بن عثمان ألا تنهى هذا عن البكاء، فانّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه...» فلمّا أصيب عمر دخل صهيب يبكي... فقال عمر رضي الله عنه : يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: «انّ الميت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه»(2).
(141) وعن أبي بردة، عن أبيه: لمّا اصيب عمر رضي الله عنه جعل صهيب يقول: واأخاه، فقال عمر: أما علمت انّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:« أنّ الميت ليعذب ببكاء الحي»(3).
(142) وعن عبدالله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة... وأنّ الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصاوير من الحجارة ويحثي بالتراب(4).
أقول: انّ المغيرة وعمر يحدّثان عن النبي صلى الله عليه وسلم بانّ الميت يعذّب بما نيح عليه، والمغيرة لاَجل التأكيد على نقله ورفع الشبهة ينقل أولاً شدة حرمة الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ثم انّ عمر وابنه يخبران عن تعذيب الميت ببكاء أهله أو ببكاء الحي عليه. نعم، اشتبه عمر في تطبيق الحديث على بكاء صهيب عليه، فانّه كان حيّاً غير ميت، ولا يخفى على أحد الفرق بين الاحياء والاموات في الاحكام، وهذا عجيب من عمر لكنه ليس بأعجب من
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1230.
(2) صحيح البخاري رقم 1226 كتاب الجنائز، وهكذا قال لبنته حفصة كما في صحيح مسلم 6: 208.
(3) صحيح البخاري رقم 1228.
(4) صحيح البخاري رقم 1242.

( 127 )
تركه الصلاة والتيمم كما مر. وقد بكى النبي على سعد بن عبادة وهو حي، فقال: «انّ الله لا يعذّب بدمع العين...»(1).
ثم نقول للعوام ومن بحكمهم من مدعيي العلم الذين يدعون انّ كتاب البخاري أصحّ الكتب بعد كتاب الله ما هو داع البخاري من نقل هذه الروايات الباطلة المجعولة؟ أليس هو نقل عن عائشة أنّ أباها ـ أبا بكر ـ بكى على النبي بعدما توفاه الله(2).
أليس نقل عن عبدالله بن جابر انّه بكى على أبيه المقتول والنبي لا ينهاه، وعمتّه كذلك تبكي على أخيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه»(3).
أليس هو روى في اخباره صلى الله عليه وسلم عن شهادة زيد وجعفر وعبدالله بن رواحة وانّ عيني رسول الله لتذرفان(4). أي يسيل منهما الدمع.
أليس هو نقل... وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف وانت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف انّها رحمة ثم اتبعها باخرى فقال: «انّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا، وانّا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون»(5).
أليس هو روى: شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله جالس على القبر، ورأيت عينيه تدمعان فقال...(6).
____________
(1) صحيح مسلم 6: 226.
(2) صحيح البخاري رقم 1186 كتاب الجنائز.
(3) صحيح البخاري رقم 1187.
(4) صحيح البخاري رقم 1189.
(5) صحيح البخاري رقم 1241.
(6) صحيح البخاري رقم 1277.

( 128 )
فالبكاء على الميت من الرحمة ولا ينهى الله عن الرحمة، فضلاً عن أمره بضرب الباكي بالعصا والحجارة وحثيه بالتراب كما صدر من عمر.
ومهما كان الامر ففتوى عمر شيء ونقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء آخر، والحق انّ البكاء على الميت مباح، بل حسن ولا يعذب الميت به حتّى وان كان حراماً، لما علم بالضرورة من الدين من انّ أحداً لا يعذب بفعل الآخر، كيف وهل اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكائه ان يعذّب جعفر الطيار وصاحباه وابراهيم ابنه وغيرهم ممّن بكى عليهم، وهل يدري أبو بكر انّ بكاءه على النبي صلى الله عليه وسلم يعذّبه؟ (نعوذ بالله من ان يقال بعذاب النبي).
ثم تعالوا معي نستمع إلى قول عائشة وهي تردّ على رواية عمر ـ وابنه حيث قالت: رحم الله عمر، والله ما حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم انّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: «انّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أُخرى)(1).
وقالت أيضاً: انّما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي أهلها، فقال: «انّهم ليبكون عليها وانّها لتعذب في قبرها»(2).
أقول: امّا استدلالها بالآية الكريمة فصحيح كما اشرنا اليه من قبل، وامّا حديثها الاَول فيرد عليه انّه لا وجه لزيادة عذاب الكافر ببكاء أهله عليه، فانّه مخالف للعقل، وانّما هو يعذب بكفره وعصيانه فقط، ومخالف للآية الكريمة المذكورة أيضاً.
ثم نسأل أُم المؤمنين أي وجه لانكارك ـ فضلاً عن تأكيدك بالقسم ـ الحديث المذكور ولم تكوني مع رسول الله في المسجد وميادين الحرب
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1226.
(2) صحيح البخاري رقم 1227.

( 129 )
وجميع مجالسه صلى الله عليه وسلم، بل في بيته دائماً ولك ليلة من تسع أو ثمان ليال. ثم ان في حديث عائشة اختلافاً وتناقضاً يدلّ على سقوط اعتباره، فمرّة تقول في ردّ كلام عمر انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله».
وثانية تدّعي انّه صلى الله عليه وسلم قال: «انهم يبكون عليها ـ اليهودية ـ وانّها لتعذّب في قبرها.
وثالثة تدّعي في ردّ كلام ابن عمر انّه قال: «انّه ليعذب بخطيئته وذنبه، وان أهله ليبكون عليه الآن»(1). وهذا عام يشمل الكافر والمسلم.
فكأنّ عائشة تحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تهواه، وكأنّ لها نيابة عامة عنه صلى الله عليه وسلم في كلّ ما تشاء بيانه!
وعن أبي موسى... قال عمر: والله لقد علمت انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يبكي عليه يعذب»، فذكرت ذلك لموسى بن طلحة فقال: كانت عائشة تقول: انّما كان أولئك اليهود!(2).
والحق انّه ليس كلّ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن قبوله والاعتماد عليه؛ وذلك لوجود الاختلاف والتناقض بين الصحابة في نقل الرواية الواحدة، وهذا الاختلاف بيّن لمن تأمّل في روايات البخاري، وما نقلناه عنه خير شاهد لذلك، فكيف يدّعي البعض انّ من قال بصدور جميع احاديث البخاري عن رسول الله لم يكن على خطأ!

خرافة حول الدجال
(143) عن عبدالله بن عمر: انّ عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط(3)
____________
(1) صحيح البخاري رقم 3759.
(2) صحيح مسلم 6: 230، وانظر ص232 أيضاً إلى آخر الجزء السادس.
(3) الرهط ما دون العشرة من الرجال.

( 130 )
قِبَلَ ابن صياد حتّى وجدوه يلعب مع الصبيان عند اطم(1) بني مغالة ـ وقد قارب ابن صياد الحلم ـ فلم يشعر حتّى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال لابن صياد: «تشهد انّي رسول الله؟».
فنظر اليه ابن صياد فقال: اشهد انّك رسول الاُميين، فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: اتشهد انّي رسول الله؟
فرفضه وقال: «آمنت بالله ورسله» فقال له: «ماذا ترى؟»
قال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلط عليك الامر» ثم قال له النبي: «انّي خبأت لك خبيئاً».
فقال ابن صياد هوالدخ(2).
فقال: اخسأ فلن تعدو قدرك.
فقال عمر: دعني يا رسول الله اضرب عنقه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ان يكنه فلن تسلّط عليه، وان لم يكنه فلا خير لك في قتله»(3).
ويزيد ابن عمر في حديثه: انطلق بعد ذلك رسول الله وأُبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد وهو يختل(4) ان يسمع من ابن صياد شيئاً قبل ان يراه ابن صياد، فرآه النبي وهو مضطجع... فقالت ـ أي أُمّه ـ يا صاف ـ وهو اسم ابن صياد ـ: هذا محمّد، فثار ابن صياد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو
____________
(1) بناء من حجر كالقصر.
(2) قيل أراد ان يقول الدخان فلم يستطع.
(3) صحيح البخاري رقم 1289 كتاب الجنائز.
(4) أي يستغفل.

( 131 )
تركته لبين»(1).
أقول: الرواية ككثير من روايات البخاري مجملة ومحصلّها انّ النبي كان يظن أو يحتمل ان صافاً هو الدجال، وهو يحب استعلام حاله، فلم يوفق له! ثم الظاهر من الرواية انّ عبدالله لم يكن مع النبي في مرتين وإلاّ لذكره بطبع الحال، فنسأله من أين جاء بالقصة ومن الذي أخبره؟
(144) وعنه... ثم ذكر الدجال فقال: «انّي انذركموه، وما من نبي إلاّ قد أنذر قومه، لقد انذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون انّه أعور وانّ الله ليس بأعور»(2).
أقول: هذا الكلام بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ من غير المعقول صدوره عنه صلى الله عليه وسلم فالتمييز الذي ذكر ـ انه اعور وانّ الله ليس بأعور ـ لا تقوله حتّى ربات الحجال، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى! فياحسرة على كذب الناقلين وعقل المحدّثين الغافلين.
(145) وعن أبي سعيد الخدري قال: صحبت ابن صائد إلى مكّة فقال لي: أما قد لقيت من الناس، يزعمون انّي الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انّه لا يولد له».
قال: قلت: بلى.
قال: فقد ولد لي أوَ ليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل المدينة ولا مكة».
قلت: بلى.
قال: فقد ولدت بالمدينة، وهذا أنا اُريد مكّة، ثم قال لي في آخر قوله: أما والله انّي اعلم مولده ومكانه واين هو.
____________
(1) صحيح البخاري رقم 1289 كتاب الجنائز.
(2) صحيح البخاري رقم 2892 كتاب الجهاد، وانظر صحيح مسلم 18: 55.

( 132 )
قال: فلبسني(1).
وبسند آخر: ألم يقل صلى الله عليه وسلم انّه يهودي، وقد اسلمت... فقال أما والله انّي لاَعلم الآن حيث هو، واعرف أباه وأُمّه.
قال: وقيل له: أيسرّك أنّك ذاك الرجل.
قال: فقال: أوَ عرض عليَّ ما كرهت.
(146) وعنه: قال رسول الله لابن صائد: «ما تربة الجنة؟».
قال درمكة بيضاء، مسك يا أبا القاسم.
قال: «صدقت»(2).
الدرمك: هو الدقيق الحواري الخالص البياض كما قيل.
وفي رواية أُخرى عنه: انّ ابن صائد سأل النبي عنها، فاجابه بما مر!
فلتقرَّ اعين غلاة الصحاح بهذه الخزعبلات التي نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً.
(147) عن محمّد بن المكندر قال: رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله انّ ابن صائد الدجال، فقلت: أتحلف بالله.
قال: انّي سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره صلى الله عليه وسلم(3).
(148) عن نافع، عن ابن عمر: لقيته ـ أي ابن صائد ـ مرتين... فلقيته لقية أُخرى وقد نفرت عينه... فقالت ـ أي حفصة لاَخيها عبدالله ـ ما تريد اليه ألم تعلم انّه قد قال: انّ أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه(4).
____________
(1) صحيح مسلم 18: 50.
(2) صحيح مسلم 18: 52.
(3) صحيح مسلم 18: 53.
(4) صحيح مسلم 18: 58.

( 133 )
أقول: كل هذه الروايات تدلّ على أنّ ابن صائد هو الدجال، وحيث انّه لم يخرج فلا بدّ ان يقال انّه حيٌّ غائب سيخرج فيما بعد! ثم انّ مسلماً اخرج في كتابه أحاديث في حق الدجال(1) من تأمّل فيها يعرف انّ الدجالين والوضّاعين قد لعبوا بالدجال، فقد رووا فيه من المتناقضات، وقاموا مقامه في تضليل الناس البسطاء، وروّجها المحدّثون تثبتاً لفضلهم وتضلّعهم في السنّة القولية النبوية، فصارت جزءً من الدين تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً، ونحن نبرئ رسوله المعصوم الحكيم عن هذه المتناقضات، ففي بعض هذه الاحاديث: «الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينه كافر ـ ثم تهجّاها (الرسول صلى الله عليه وسلم) ك، ف، ر ـ يقرؤه كلّ مسلم»(2).
وفي بعضها: «معه نهران يجريان».
وفي بعضها: «انّ معه ماء أو ناراً فناره بارد، وماؤه نار».
وفي بعضها: «انّ لبثه أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم».
وفي بعضها: «انّه يمر بالخربة فيقول لها: اخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها!... وانّه يقتل رجلاً ممتلئاً شباباً ثم يحييه، فيبعث عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيقتله... فيبعث الله ياجوج وماجوج».
وفي بعضها قال الراوي ـ المدّعي انّه ما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد عن الدجال اكثر ممّا سألت ـ قلت: انّهم يقولون انّ معه الطعام والانهار!
قال: «هو أهون على الله من ذلك»، انظر إلى هذا التناقض الصريح.
وفي بعضها: قلت: انّهم يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء.
____________
(1) صحيح مسلم 18: 60 ـ 87.
(2) ولم ينقل أحد انّه رأى هذه الكتابة بين عيني ابن صائد، فكيف قالوا انّه الدجال!

( 134 )
قال: «هو أهون على الله من ذلك».
وفي بعضها: انّه أعور العين اليسرى.
وفي بعضها أعور العين اليمنى!
وفي بعضها: انّ فاطمة بنت قيس قصت قصة طويلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انّه صلى الله عليه وسلم حدّث عن تميم الداري الذي كان رجلاً نصرانياً فأسلم، وانّه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً، فلعب الموج بهم شهراً في البحر! حتّى مغرب الشمس، فدخلوا جزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبُلهُ من دُبُره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت أنا الجساسة! فارشدتهم الى رجل في الدير، فدخلوا الدير فإذا فيه أعظم انسان رأوه، واشدّه وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبة بالحديد... انّي مخبركم عني أنا المسيح ـ أي الدجال ـ .
وهي قصة خيالية أخرجها مسلم بعنوان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري اخترعتها بنت قيس أو نسبها اليها واضع من الرواة.
وفي بعضها: فترجف: «المدينة ثلاث رجفات، يخرج اليه منها كلّ كافر ومنافق (ومنافقة)».
وفي بعضها: «يتبع الدجال من يهود اصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة».
أقول: لا انكر اصل خروج الدجال وانّما انكر هذه الاحاديث التي ذكرتها، وان سألت عن زمن خروجه فاقول لك: والله العالم.
ثم أنّ القصة قد ذكرت في سنن ابن ماجه في كتاب الفتن بعبارات مختلفة لعبت بها أيدي القصاص والجعال، ففي بعضها: «انّه يخرج من خراسان».
( 135 )
وفي بعضها: «من خلة بين الشام والعراق».
وفي بعضها: «انّ أيّامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة».
وفي بعضها: «انّ خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد... قيل فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير، والتسبيح والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام؟».
وزاد ابن ماجه في سننه قصة ياجوج وماجوج أيضاً بوجه يكذّبه الحس(1).

فطرة الايمان
(149) عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه»(2).
أقول: وقريب منه ما في روايات الشيعة عن أئمتهم ويدل عليه قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)، والحاصل ان علاقة الانسان بالله تعالى ليست تلقينية كما يظن جماعة من الملحدين، بل فطرية بفطرة العقل أو القلب أو بفطرة العقل والقلب معاً، وبحثه موكول إلى محله، وفي بعض روايات الشيعة الامامية انّ جواب الكفار في قوله: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله) راجع إلى فطرتهم، أي لو رجعوا إلى فطرتهم التي خلقهم عليها لاَجابوكم بالتوحيد، وفي الآية وجه آخر، وهو انّ الخطاب متوجّه إلى مشركي قريش القائلين بتوحيد الخالق في الجملة وتعدّد المعبودين.
____________
(1) سنن ابن ماجه رقم 4080.
(2) صحيح البخاري رقم 1293.