ولادته ونشأتهُ


( 22 )


( 23 )

وقبل أن أتحدّث عن ولادة أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ونشأته أعرض ـ بإيجاز ـ إلى نسبه الوضّاح ، ذلك النسب الكريم الذي كان له الاَثر التام في بناء شخصيته العظيمة ، وتكوين سلوكه المشرّف القائم على الشرف والفضيلة وفيما يلي ذلك:

نسبه الوضّاح

ليس في دنيا الاَنساب نسبٌ أسمى ، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الاَسرة العلوية ، التي هي من أجلّ وأشرف الاَسر التي عرفتها الاِنسانية في جميع أدوارها ، تلك الاَسرة العريقة في الشرف والمجد ، التي أمدّت العالم العربي والاِسلامي بعناصر الفضيلة ، والتضحية في سبيل الخير ، وما ينفع الناس ، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى ، والاِيمان ، وهذا عرض موجز للاَصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم ، وفخر عدنان منها.

الأب:
أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس ( عليه السلام ) فهو الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ،


( 24 )

وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وباب مدينة علمه ، وختنهُ على حبيبته ، وهو أول من آمن بالله ، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى ، وهو بطل الاِسلام ، والمنافح الاَول عن كلمة التوحيد ، وقد قاتل الاَقربين والاَبعدين من أجل نشر رسالة الاِسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس ، وقد تمثلت بهذا الاِمام العظيم جميع فضائل الدنيا ، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه ، وهو ـ بإجماع المسلمين ـ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو غنّي عن البيان والتعريف ، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الاَرض... ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الاِمامة ، وأخ لسبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

الاُم:
أمّا الاَم الجليلة المكرّمة لاَبي الفضل العباس ( عليه السلام ) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد.. ، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب ، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الاَضياف ، وأما أسرتها فهي من أجلّ الاَسر العربية ، وقد عُرفت بالنجدة والشهامة ، وقد أشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم:
1 ـ عامر بن الطفيل:
وهو أخو عمرة الجدة الاولى لاَمّ البنين ، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه ، وقد ذاع اسمه في الاَوساط العربية وغيرها ، وبلغ من عظيم شهرته ان قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فان كان بينه وبين عامر


( 25 )

نسب عظم عنده ، وبجّله وأكرمه ، وإلاّ أعرض عنه.
2 ـ عامر بن مالك:
وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين ، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولُقّب بملاعب الاَسنّة لشجاعته الفائقة ، وفيه يقول الشاعر:

يلاعب أطراف الاَسنة عامر * فراح له حظّ الكتائب أجمع

وبالاِضافة إلى شجاعته فقد كان من أُباة الضيم ، وحفظة الذمار ومراعاة العهد ، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك.
3 ـ الطفيل:
وهو والد عمرة الجدّة الاَولى لاَمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب ، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب ، منهم ربيعة ، وعبيدة ، ومعاوية ، ويقال لاَمّهم (أمّ البنين) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي ، وكان عدوّاً وخصماً لهم ، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان:

يا واهب الخير الجزيل من سعة*نحن بنو أمّ البنيـن الاَربـعة
ونحن خير عامر بن صعصعة*المطعمون الجفنـة المدعدعة
الضاربون الهام وسط الحيصعة*إليك جاوزنا بـلاداً مسبعـة
تخبر عن هـذا خبيراً فاسمعه*مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه

فتأثّر النعمان للربيع ، وأقصاه عن مسامرته ، وقال له:

شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا * تكثر عليَّ ودع عنك الاَباطيلا


( 26 )

قد قيل ذلك إن حقاً وان كذبا * فما اعتذارك في شيء إذا قيلا

ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم ، وسموّ منزلتهم الاجتماعية عند النعمان فقد بادر إلى اقصاء سميره الربيع عن مسامرته.
4 ـ عروة بن عتبة:
وهو والد كبشة الجدّة الثانية لاَم البنين ، وكان من الشخصيات البارزة في العالم العربي ، وكان يفد على ملوك عصره ، فيكرّمونه ، ويجزلون له العطاء ، ويحسنون له الوفادة(1).
هؤلاء بعض الاَعلام من أجداد السيّدة الكريمة أمّ البنين ، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة ، والصفات الرفيعة ، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة أمّ البنين ثم منها إلى أبنائها الممجدين.

قِران الاِمام بأمّ البنين:
ولما ثكل الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بوفاة بضعة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ندب أخاه عقيلاً ، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكياً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء(2) فأشار عليه عقيل بالسيّدة أمّ البنين الكلابية فانّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها ، ولا أفرس ، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم: « نحن خير عامر بن صعصعة » فلا
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 11 ـ 13 ذكر المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الاَسرة الكريمة.
(2) تنقيح المقال 2|128.

( 27 )

ينكر عليه أحد من العرب ، ومن قومها ملاعب الاَسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة(1) ، فندبه الاِمام إلى خطبتها ، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الاَمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر ، وزفّت إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد رأى فيها العقل الراجح ، والاِيمان الوثيق وسموّ الآداب ، ومحاسن الصفات ، فأعزّها ، وأخلص لها كأعظم ما يكون الاِخلاص.

رعايتها لسبطيّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) :
وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الاَليمة التي مُنيا بها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت ، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّة والحبّ للحسن والحسين ( عليهما السلام ) ما لا تكّنه لاَولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لاَبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لاَن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم ، وهما وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وريحانتاه ، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.
____________
(1) تنقيح المقال 2|128.
( 28 )

مكانتها عند أهل البيت .
ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت عليهم السلام ، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، يقول الشهيد الاَول وهو من كبار فقهاء الاِمامية:
كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات ، العارفات بحقّ أهل البيت عليهم السلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودّتهم ، ولها عندهم الجاه الوجيه ، والمحلّ الرفيع ، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاَربعة ، كما كانت تعزّيها أيام العيد.. »(1).
أنّ زيارة حفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وشريكة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في نهضته زينب الكبرى ( عليها السلام ) لاَمّ البنين ، ومواساتها لها بمصابها الاَليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها ، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت عليهم السلام .

مكانتها عند المسلمين:
وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين ، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله ، وانّه ما التجأ إليها مكروب ، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلاّ كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الاَيّام ، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند
____________
(1) العباس للمقرّم : 72 ـ 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الاَول.
( 29 )

الله ، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها ، وجعلتهم قرابين لدينه.

الوليد العظيم:
وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وقد ازدهرت يثرب ، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الاَسرة العلوية ، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره ، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً نديّاً عاطراً.
وحينما بُشِّر الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله ، وأوسعه تقبيلاً ، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الاِيمان والتقوى في الاَرض ، وأنشودة ذلك الصوت.
« الله أكبر... ».
« لا إله إلاّ الله ».
وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الاَنبياء ، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل ، وانطبعت في دخائل ذاته ، حتى صارت من أبرز عناصره ، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته ، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، قام الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بحلق شعره ، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش ، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) عملاً بالسنّة الاِسلامية.


( 30 )

سنة ولادته:
أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) وُلد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان(1).

تسميته:
سمّى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب انه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل ، ومنطلق البسمات في وجه الخير ، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لاَهل البيت عليهم السلام ، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها ، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء ، ويقول الشاعر فيه:

عبست وجوه القوم خوف الموت*والعبّاس فيهـم ضاحـك متبسّم

كنيته:
وكُنِّي سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) بما يلي:

1 ـ أبو الفضل:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه الفضل ، ويقول في ذلك بعض من رثاه:

أبا الفضل يا من أسّس الفضل والاِبا * أبى الفضل إلاّ أن تكون له أبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يُسمّى
____________
(1) قمر بني هاشم 2: 5.
( 31 )

بهذا الاِسم ، فهو ـ حقّاً ـ أبو الفضل ، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده ، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف ، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلاّ كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.

2 ـ أبو القاسم:
كُنّي بذلك لاَنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ ، وقدّمه قرباناً لدين الله ، وفداءً لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

ألقابه:
أمّا الاَلقاب التي تُضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة ، وقد أضيفت على أبي الفضل ( عليه السلام ) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة ، وما اتصف به من مكارم الاَخلاق وهي:

1 ـ قمر بني هاشم:
كان العبّاس ( عليه السلام ) في روعة بهائه ، وجميل صورته آية من آيات الجمال ، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم ، وكما كان قمراً لاَسرته العلوية الكريمة ، فقد كان قمراً في دنيا الاِسلام ، فقد أضاء طريق الشهادة ، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين.

2 ـ السقّاء:


( 32 )

وهو من أجلّ ألقابه ، وأحبّها إليه ، أما السبب في امضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض الاِرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء ، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، محرّر الاِنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية... وقد قام بطل الاِسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات ، وسقى عطاشى أهل البيت ، ومن كان معهم من الاَنصار ، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.

3 ـ بطل العلقمي:
أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيّد شباب أهل الجنّة ، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء ، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار ، وبطولته النادرة أن يجندل الاَبطال ، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ ، ويحتلّ ذلك النهر ، وقد قام بذلك عدّة مرّات ، وفي المرّة الاَخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لُقِّب ببطل العلقمي.

4 ـ حامل اللواء:
ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء انّه لواء أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه ، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية ، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده


( 33 )

أبو الفضل يرفرف على رأس الاِمام الحسين ( عليه السلام ) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء ، وقد قبضه بيد من حديد ، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه ، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.

5 ـ كبش الكتيبة:
وهو من الاَلقاب الكريمة التي تُمنح الى القائد الاَعلى في الجيش ، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير ، وقوّة بأس ، وقد اضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل ، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه ، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.

6 ـ العميد:
وهو من الاَلقاب الجليلة في الجيش التي تُمنح لاَبرز الاَعضاء في القيادة العسكرية ، وقد قُلّد أبو الفضل ( عليه السلام ) بهذا الوسام لاَنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبدالله ، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.

7 ـ حامي الظعينة:
ومن الاَلقاب المشهورة لاَبي الفضل ( عليه السلام ) (حامي الظعينة).
يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها:
حامى الظعينة أين منه ربيعة*أم أين من عليـاً أبيـه مكرم


( 34 )

وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي ، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ ، وانزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.
ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب اطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم ، فقد قام بحماية ظعنه ، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً(1).
____________
(1) جاء في العقد الفريد 3|331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى اذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الاَخرم ، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ظعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستولِ على الظعينة ، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك ، فألقى زمام الناقة ، وقال للظعينة:

سيري على رسلك سير الآمن*سير دراج ذات جاش طامـن
ان التـأني دون قرني شائني*ابلى بلائي فاخبري وعاينـي

ثم حمل على الرجل فصرعه ، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة ، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة ، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول:

خل سبيل الحـرة المنيعة*انك لاق دونهـا ربيعـة
في كفـه خطيـة منيعة*أولا فخذها طعنة سريعة

وحمل عليه فصرعه ، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين ، والرجل يجر رمحه ، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال:

ماذا ترى من شيئم عابـس*أما ترى الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس

ثم حمل عليه فصرعه ، وانكسر رمحه ، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم ، وقد دنا ربيعة من الحي ، فوجدهم دريد قد

=


( 35 )

8 ـ باب الحوائج:
وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً ، وانتشاراً بين الناس ، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلاّ قضى الله حاجته ، وما قصده مكروب إلاّ كشف الله ما ألمّ به من محن الاَيام ، وكوارث الزمان ، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.
إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله ، وباب من أبوابه ، ووسيلة من وسائله ، وله عنده الجاه العظيم ، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الاسلام ، والذبّ عن أهدافه ومبادئه ، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى استشهد في سبيله هذه بعض ألقاب أبي الفضل ، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الاَخلاق(1).

ملامحه:
أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال ، وقد لُقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه ، وجمال طلعته ، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه
____________
= قتلوا جميعاً ، فقال لربيعة: ان مثلك لا يقتل ، ولا أرى معك رمحك ، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي ، ومثبطهم عنك ، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم: ان فارس الظعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك:

ما ان رأيت ولا سمعت بمثله*حامي الظعينة فارسـاً لم يقتل
أردى فوارس لم يكونـوا نهزة*ثم استمـر كأنّـه لـم يفعـل
فتهللت تبـدو أسـرة وجهـه*مثل الحسام جلته كفّ الصيقل
يزجى طعينته ويسحب رمحه*مثل البغاث خشين وقع الجندل

(1) جاء في تنقيح المقال 2|128 أنه تحدث للعباس ستة عشر لقباً.

( 36 )

آثار البطولة والشجاعة ، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً ، يركب الفرس المطهم(1)ورجلاه يخطان في الاَرض(2).

تعويذ أمّ البنين له:
واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكّية ، فكان عندها أعزّ من الحياة ، وكانت تخاف عليه ، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه ، وكانت تعوذه بالله ، وتقول هذه الاَبيات:

أعيـذه بالواحـد*من عين كلّ حاسد
قائمهـم والقاعد*مسلمهـم والجاحد
صادرهم والوارد*مولدهم والوالد(3)

مع أبيه:
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته ، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالاِيمان والمثل العليا ، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الاِسلام ، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.
كان الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوسع العباس تقبيلاً ، وقد احتلّ عواطفه وقلبه ، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن
____________
(1) الفرس المطهم: هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.
(2) مقاتل الطالبيين : 56.
(3) المنمق في أخبار قريش : 437.

( 37 )

ساعديه ، فجعل الاِمام يقبّلهما ، وهو غارق في البكاء ، فبهرت أمّ البنين ، وراحت تقول للاِمام:
« ما يبكيك ؟ »
فأجابها الاِمام بصوت خافت حزين النبرات:
« نظرت إلى هذين الكفّين ، وتذكّرت ما يجري عليهما.. »
وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:
« ماذا يجري عليهما »..
فأجابها الاِمام بنبرات مليئة بالاَسى والحزن قائلاً:
« إنّهما يقطعان من الزند.. »
وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين ، فقد ذاب قلبها ، وسارعت وهي مذهولة قائلة:
« لماذا يقطعان »..
وأخبرها الاِمام ( عليه السلام ) بأنّهما انّما يقطعان في نصرة الاِسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأجهشت أمّ البنين في البكاء ، وشاركنها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها(1).
وخلدت أمّ البنين إلى الصبر ، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته.

نشأته:
نشأ أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) نشأة صالحة كريمة ، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، فغذّاه بعلومه
____________
(1) قمر بني هاشم 1: 19.
( 38 )

وتقواه ، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة ، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه ، وانموذجاً لمثله ، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه ، جميع صفات الفضيلة والكمال ، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته ، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.
ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة ، وأسس الآداب الرفيعة ، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فكان لا يفارقه في حله وترحاله ، وقد تأثّر بسلوكه ، وانطبعت في قرارة نفسه مُثُله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته ، وقد أخلص له الاِمام الحسين كأعظم ما يكون الاِخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.
انّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية ، وانقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.
لقد نشأ أبو الفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، ورفع رسالة الاِسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الاِنسان ، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة ، والاِيثار ، وقد تأثر العباس بهذه المبادىَ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال ، فقد غرسها في أعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، أبوه الاِمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين عليهم السلام ، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة ، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع


( 39 )

شعوب العالم وأُمم الاَرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم ، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.

* * * * *


( 40 )

انطباعات عن شخصيّته
واحتلّ أبو الفضل ( عليه السلام ) قلوب العظماء ومشاعرهم ، وصار أنشودة الاَحرار في كلّ زمان ومكان ، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء ، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان ، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً خالداً.
وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل ( عليه السلام ) .

1 ـ الاِمام زين العابدين:
أمّا الاِمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الاِسلام ، وكان هذا الاِمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الاِجلال والاِكبار تضحياته الهائلة لاَخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:
رحم الله عمّي العباس ، فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه ، حتى قُطعت يداه ، فأبدله الله بجناحين ، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. »(1).
وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه
____________
(1) الخصال 1: 35.
( 41 )

أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، فقد أبدى في سبيله من ضروب الاِيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف ، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله ، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الاَرض صريعاً ، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة ، فقد منحه من الثواب العظيم ، والاَجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الاِسلام وغيره.

2 ـ الاِمام الصادق:
أمّا الاِمام الصادق ( عليه السلام ) فهو العقل المبدع والمفكّر في الاِسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس ، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ ، وكان مما قاله في حقّه:
« كان عمّي العبّاس بن علي ( عليه السلام ) نافذ البصيرة ، صُلب الاِيمان ، جاهد مع أخيه الحسين ، وأبلى بلاءً حسناً ، ومضى شهيداً.. »(1).
وتحدّث الاِمام الصادق ( عليه السلام ) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:

أ ـ نفاذ البصيرة:
أمّا نفاذ البصيرة ، فانها منبعثة من سداد الرأي ، وأصالة الفكر ، ولا يتّصف بها إلاّ من صفت ذاته ، وخلصت سريرته ، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه ، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته ، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لاِمام
____________
(1) ذخيرة الدارين : 123 نقلاً عن عمدة الطالب.
( 42 )

الهدى وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد ، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ ، فما دامت القيم الاِنسانية يخضع لها الاِنسان ، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.

ب ـ الصلابة في الاِيمان:
والظاهرة الاَخرى من صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) هي الصلابة في الاِيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية ، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ ، وكان ذلك من أوثق الاَدلة على إيمانه.

ج ـ الجهاد مع الحسين:
وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس ( عليه السلام ) أشاد بها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل ، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.

د ـ زيارة الاِمام الصادق:
وزار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وبعدما انتهى من زيارة الاِمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه ، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس ، ووقف على المرقد المعظّم ، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس ، وعظيم مكانته ، وقد استهلّ زيارته


( 43 )
بقوله:
سلام الله ، وسلام ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصدّيقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين.. ».
لقد استقبل الاِمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الاِجلال والتعظيم ، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، والشهداء ، والصدّيقين ، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له ، ويمضي سليل النبوّة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته قائلاً:
وأشهد لك بالتسليم ، والتصديق ، والوفاء ، والنصيحه لخلف النبيّ المرسل ، والسبط المنتجب ، والدليل العالم ، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم.. »
وأضفى الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العبّاس هي من أجلّ وأسمى الاَوسمة التي تضفى على الشهداء العظام ، وهي:
أ ـ التسليم:
وسلّم العباس ( عليه السلام ) لاَخيه سيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) جميع أموره ، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله ، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الاِيمان الوثيق بالله تعالى ، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد ، والاِخلاص في النيّة.


( 44 )

ب ـ التصديق:
وصدّق العبّاس ( عليه السلام ) أخاه ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في جميع اتجاهاته ، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته ، وانّه على الحق ، وان من نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.
ج ـ الوفاء:
من الصفات الكريمة التي أضافها الاِمام الصادق ( عليه السلام ) على عمّه أبي الفضل ( عليه السلام ) ، الوفاء ، فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة ، ولم يفارقه حتى قطعت يداه ، واستشهد في سبيله.
لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته ، فقد خُلِق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.
د ـ النصيحة:
وشهد الاِمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل ، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال ، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ... ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة ، يقول ( عليه السلام ) :
« فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت ، واحتسبت ، وأعنت فنعم عقبى الدار ... ».
وحوى هذا المقطع على إكبار الاِمام الصادق ( عليه السلام ) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة ، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل


( 45 )

الجنّة ، وريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) فقد فداه بروحه ، ووقاه بمهجته ، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الاَجر عند الله ، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) وعن باب مدينته الاِمام أمير المؤمنين ، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.
ويستمرّ مجدّد الاِسلام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العبّاس ، فيذكر صفاته الكريمة ، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، فيقول بعد السلام عليه:
« أشهد ، وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابّون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفى الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب لدعوته ، وأطاع ولاة أمره... ».
لقد شهد الاِمام الصادق العقل المفكّر والمبدع في الاِسلام ، واشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس ( عليه السلام ) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للاِسلام ، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الاَرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم ، ويقين من عدالة قضيّتهم ، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق ، فقد استشهد لاِنقاذ الاِسلام من محنته الحازبة ، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله ، ويلف لواء الاِسلام ، ويعيد الناس لجاهليتهم الاَولى ، فثار أبو الفضل


( 46 )

بقيادة أخيه أبي الاَحرار في وجه الطاغية السفّاك ، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الاِسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.
ويستمرّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم ، فيقول:
« أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح السعداء ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبّيين ، والصديقين والشهداء ، والصالحين ، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل ، وانّك مضيت على بصيرة من أمرك ، مقتدياً بالصالحين ، ومتبعاً للنبيّين ، فجمع الله بيننا ، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فانّه أرحم الراحمين.. »
(1).
ويلمس في هذه البنود الاَخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس ، وسموّ مكانته عند إمام الهدي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة ، وعظيم التضحيّه لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما دعا الاِمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلاّ الاَنبياء ، واوصيائهم ، ومن أمتحن الله قلبه للاِيمان.

3 ـ الاِمام الحجّة:
وأدلى الاِمام المصلح العظيم بقيّة الله في الاَرض قائم آل محمد ( صلى الله عليه وآله )
____________
(1) مفاتيح الجنان للقمّي وغيره من كتب الزيارات والاَدعية.
( 47 )

بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس ( عليه السلام ) جاء فيها :
« السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين ، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه ، الفادي له ، الواقي ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه ، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد ، وحكيم بن الطفيل الطائي.. »(1).
وأشاد بقيّة الله في الاَرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان ، وهي:
1 ـ مواساته لاَخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) ، فقد واساه في أحلك الظروف ، وأشدّها محنة وقسوة ، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.
2 ـ تقديمه أفضل الزاد لآخرته ، وذلك بتقواه ، وشدّة تحرّجه في الدين ، ونصرته لاِمام الهدى.
3 ـ تقديم نفسه ، واخوته ، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .
4 ـ وقايته لاَخيه المظلوم بمهجته.
5 ـ سعيه لاَخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) .

4 ـ الشعراء:
وهام الاَحرار من شعراء أهل البيت : بشخصية أبي الفضل التي
____________
(1) مزار محمد بن المشهدي من أعلام القرن السادس : 553.
( 48 )

بلغت قمّة الشرف والمجد ، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الاَمّة الاِسلامية ، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة ، فيما يلي بعضهم.

1 ـ الكُمَيْت:
أمّا شاعر الاِسلام الاَكبر الكُميت الاَسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه ، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشمياته الخالدة قال:

وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو*شفاء النفوس من اسقام(1)

إنّ ذكر أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ، وسائر أهل البيت : حلو عند كل شريف لاَنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق ، كما أنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور ، وسائر الاَمراض النفسية.

2 ـ الفضل بن محمد:
من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيدالله بن العباس فقد قال:

إني لاَذكــر للعبّــاس موقفه*بكربــلاء وهام القوم يختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ*ولا يـولّـي ولا يثنـي فيختلف
ولا أرى مشهـداً يوماً كمشهده*مع الحسين عليه الفضل والشرف

____________
(1) الهاشميات : 25 ، ومن الغريب أن الشارح لهذا الديوان قال: ان المراد بأبي الفضل هو العباس بن عبد المطلب.
( 49 )

أكرم به مشهداً بانت فضيلته*وما أضاع له أفعاله خلف(1)
وصوّرت هذه الاَبيات شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) وما قام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الاَحرار ، ووقايته له بمهجته ، وسقايته له ولاَفراد عائلته وأطفاله بالماء ، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبدالله ( عليه السلام ) ... وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه ، وكان من رثائه له هذه الاَبيات الرقيقة:
أحق النـاس أن يبكى عليه*فتى أبكى الحسين بكربـلاء
أخوه وابـن والده علــي*أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومن واسـاه لا يثنيه شيء*وجادله على عطش بماء(2)
نعم ان أحق الناس أن يمجد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبوالفضل رمز الاِباء والفضيلة ، فقد رزأ الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بمصرعه ، وبكاه أمرّ البكاء لاَنّه فقد بمصرعه أبرّ الاِخوان ، وأعطفهم عليه.

3 ـ السيّد راضي القزويني:
وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) قال:

أبا الفضل يا من أسس الفضل والاِبا*أبى الفضل إلاّ أن تكون لـه أبـا
____________
(1) قمر بني هاشم : 147 نقلاً عن المجدي.
(2) الغدير 3: 5.

( 50 )

تطلبت أسبـاب العلـى فبلغتها*وما كل ساع بالغ ما تطلبـا
ودون احتمال الضيم عزّ ومنعة*تخيرت أطراف الاَسنّة مركبا

انّ أبا الفضل من المؤسسين للفضل والاِباء في دنيا العرب والاِسلام فقد سما إلى طرق المجد ، وأسباب العلى ، فبلغ قمّتها ، وقد تخير أطراف الاَسّنة والرماح حتى لا يناله ذلّ ، ولا ضيم.

4 ـ محمد رضا الاَزري:
وأشاد الشاعر الكبير الحاج محمد رضا الاَزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم ، والتي احتلت عواطف الاَحرار ومشاعرهم يقول:

فانهض الى الذكر الجميل مشمّراً*فالذكر أبقى ما اقتنتـه كرامها
أوما أتاك حديث وقعة كربــلا*انّى وقـد بلـغ السمـاء قتامها
يوم أبو الفضل استجار به الهدى*والشمس من كدر العجاج لثامها

ودعا الاَزري بالبيت من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الاِنسان فانه أبقى ، وأخلد له ، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الذي استجار به سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته ، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لاَخيه ، يقول الاَزري:

فحمى عرينتـه ودمدم دونها*ويذب من دون الشرى ضرغامها


( 51 )


والبيض فوق البيض تحسب وقعها*زجل الرعود إذا اكفهرّ غمامها
من باسل يلقـى الكتيبـة باسمـاً*والشوس يرشـح بالمنية هامها
واشـم لا يحتـل دار هضيمــة*أو يستقلّ على النجـوم رغامها
أو لم تكن تـدري قريـش أنّــه*طــلاع كل ثنيـة مقدامهــا

وهذه الاَبيات منسجمة كل الانسجام مع بطولات أبي الفضل ، فقد صوّرت بسالته ، وما قام به من دور مشرف في حماية أخيه أبي الاَحرار فقد انبرى كالاَسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة ، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملاَت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشرية ، وقد انطلق أبوالفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم أنوف أُولئك الاَوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه ، وقد استبان للقبائل القرشية في هذه المعركة ان أبا الفضل طلاع كل ثنية ، وانه ابن من أرغمها على الاِسلام وحطّم جاهليتها وأوثانها.
وبهذا العرض نأتي على الانطباعات الكريمة عن شخصية أبي الفضل ( عليه السلام ) عند الاَئمة الطاهرين : ، وعند بعض أعلام الاَدب العربي.

* * * *