حكومة الامام

والشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الاَقاليم الاِسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر ، وبعض الاَمويين الذين أيقنوا أن الاِمام ( عليه السلام ) يبسط العدالة الاجتماعية في الاَرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لاَحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الاِمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الاِجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الاِسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.
وعلى أيّ حال فقد بويع الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الاِسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.
وفور تقلّد الاِمام ( عليه السلام ) للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه


( 71 )

أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الاَخرى... كانت سعادته أن يرى الاَوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الاِمام ( عليه السلام ) فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل ( عليه السلام ) فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الاَسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الاِمام ( عليه السلام ) ، ومناهضتهم لاَبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك:

منهج حكم الاِمام:
أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الاِمام ( عليه السلام ) فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الاِسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الاِنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الاِمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها:

1 ـ بسط الحريّات:
وآمن الاِمام ( عليه السلام ) بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الاَمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء


( 72 )

الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي:
أ ـ الحريّة الدينية:
يرى الاِمام ( عليه السلام ) أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الاَحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.
ب ـ الحريّة السياسية:
ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الاِقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الاَدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الاَرض ، أو يخلّوا بالاَمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والاِرهاب ، فاضطرّ الاِمام ( عليه السلام ) إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.
ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) خطابه ، ويخدشون


( 73 )

عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الاِمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الاِمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للاِنسان المسلم.
هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.

2 ـ نشر الوعي الديني:
واهتم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الاِسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الاَولى لاِصلاح المجتمع وتهذيبه.
انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.
ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الاَخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الاَمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الاِسلامي.


( 74 )

3 ـ نشر الوعي السياسي:
أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الاِسلامي فهو من أهمّ الاَهداف السياسية التي تبنّاها الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته.
ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الاَوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الاِسلام بذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته.. » ألقى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم.
ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الاَحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال: « أيّها الناس: إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله.. »(1).
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء ( عليه السلام ) على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الاَموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان.
____________
(1) حياة الامام الحسين 3: 80.
( 75 )

انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الاَبطال ممن غذّاهم الاِمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الاَحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين.... وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الاِصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للاِسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.

4 ـ إلغاء المحسوبيات:
وكان مما عني به الاِمام ( عليه السلام ) في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته.
لقد ألغى الاِمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الاَمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الاِسلام


( 76 )

وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الاِسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم.

5 ـ القضاء على الفقر:
أمّا فلسفة الاِمام ( عليه السلام ) في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لاَنّه كارثة مدمّرة للمواهب والاَخلاق ، ولا يمكّن الاَمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الاَمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها... ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الاِسلام بصورة موضوعية وهي:
أ ـ توفير المسكن.
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.
ج ـ توفير العمل.
د ـ القضاء على الاستغلال.
هـ ـ سدّ أبواب المرابين.
و ـ القضاء على الاحتكار.
هذه بعض الوسائل التي عني بها الاِسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الاِمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للاِجهاز على حكم الاِمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الاِمام وفلسفته في الحكم.


( 77 )

القوى المعارضة للإمام:
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للتعرّف على القوى المعارضة لحكومة الاِمام ، التي لم تكن لها أيّة أهداف نبيلة ، وانّما كانت تبغي الاستيلاء على الحكم للظفر بخيرات البلاد ، والتحكّم في رقاب المسلمين بغير حقّ ، وفيما يلي ذلك.

السيّدة عائشة:
وانطوت نفس السيّدة عائشة ـ مع الاَسف ـ على بغض عارم وكراهية شديدة للاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولعلّ السبب في ذلك ـ فيما نحسب ـ يعود إلى ميل زوجها النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إلى الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وإلى بضعته وحبيبته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) ، وإلى سبطيه وريحانتيه سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) واشادته دوماً بفضلهم ، وسموّ منزلتهم عند الله ، وفرض مودّتهم على عموم المسلمين ، كما أعلن الذكر الحكيم ذلك ، قال تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) وفي نفس الوقت كانت عائشة تعامل معاملة عادية ، وفي كثير من الاَحيان كان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) يشير إلى أفعالها ، فقد قال ( صلى الله عليه وآله ) لنسائه: أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : من ها هنا يتولّد الشرّ وأشار إلى بيتها ، وغير ذلك مما أثار عواطفها.
وثمّة سبب في كراهية عائشة للاِمام وهو موقفه الصارم الذي وقفه تجاه بيعة أبيها أبي بكر ، ومقاطعته لانتخابه ، وشجبه لبيعته وبعد سقوط حكومة عثمان كانت تروم إرجاع الخلافة إلى قبيلتها تيم لتكون سياسة الدولة بجميع أجهزتها خاضعة لرغباتها وميولها ، وهي على يقين أن


( 78 )

الخلافة إذا رجعت للاِمام ( عليه السلام ) فإنّها سوف تعامل كغيرها من أبناء الشعوب الاِسلامية ، ولا تحظى بأيّة ميّزة ، فان جميع الشؤون السياسية والاقتصادية عند الاِمام ( عليه السلام ) لا بدّ أن تسير على وفق الكتاب والسنّة ، ولا مجال عنده للاَهواء والعواطف ، وكانت عائشة تعرف ذلك جيّداً ، ولذا أعلنت العصيان والتمرّد على حكومته ، وقد انضمّ إليها كل من الزبير وطلحة والامويين وذوي الاطماع والمنحرفين عن الحق من القبائل القرشية الذين ناهضوا الدعوة الاِسلامية من حين بزوغ نورها.
وعلى أيّ حال فقد كانت عائشة من أوثق الاَسباب في الاِطاحة بحكومة عثمان ، وقد أفتت بوجوب قتله ، ولما أيقنت بهلاكه خرجت إلى مكّة ، وهي تتطلع إلى الاَخبار ، فلما وافاها النبأ بقتله أعلنت فرحتها الكبرى ، ولكنها لمّا فوجئت بالبيعة للاِمام ( عليه السلام ) انقلب وضعها رأساً على عقب ، وراحت تقول بحرارة:
« قتل عثمان مظلوماً والله لاَطلبنّ بدمه.. ».
وأخذت تندب عثمان رياءً لا حقيقة ، وقد رفعت قميصه الملطّخ بدمه ، وجعلته شعاراً لتمرّدها على السلطة الشرعية التي أعلنت حقوق الاِنسان ، وتبنّت مصالح المحرومين والمضطهدين والتي كانت أمتداداً لحكومة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعقدت عائشة في مكّة الندوات مع أعضاء حزبها البارزين كطلحة والزبير ، وسائر الامويين ، وأخذت تتداول معهم الآراء أي بلد يغزونه ليشكّلوا فيه حكومة لهم ، ويتّخذوا منه قاعدة لانطلاقهم في محاربة الاِمام ، والاِجهاز على حكومته ، وبعد التأمّل والنظر الدقيق في أحوال المناطق الاِسلامية أجمع رأيهم على احتلال البصرة لاَنّ لهم بها شيعة وأنصاراً ،


( 79 )

وأعلنوا بعد ذلك العصيان المسلّح ، وزحفوا نحو البصرة ، وقد التحق بهم بهائم البشر ، وحثالات الشعوب من الذين ليس لهم فكر ولا وعي ، وساروا لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى البصرة ، وبعد مقاومة عنيفة بينهم وبين الحكومة المركزية فيها استطاعوا احتلالها ، وألقوا القبض على حاكمها سهل بن حنيف وجيء به مخفوراً إلى عائشة فأمرت بنتف لحيته ، فنتفتها جلاوزتها وعاد ابن حنيف بعد لحيته العريضة شاباً أمرد.
ولما وافت الاَنباء الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بتمرّد عائشة ، واحتلالها لمدينة البصرة ، سارع بجيوشه للقضاء على هذا الجيب المتمرّد ، خوفاً من أن تسري نار الفتنة إلى بقيّة الاَمصار الاِسلامية ، وقد ضمّ جيشه القوى الواعية في الاِسلام أمثال الصحابي العظيم عمّار بن ياسر ، ومالك الاَشتر ، وحجر بن عدي ، وابن التيهان وغيرهم ممن ساهموا في بناء الاِسلام ، وإقامة ركائزه في الاَرض.
وسرت جيوش الاِمام حتى انتهت إلى البصرة فوجدوها محتلّة بجنود مكثفة ، وهم يعلنون الطاعة والولاء لاَمّهم عائشة ، فأرسل الاِمام رسله إلى أعضاء القيادة العسكرية في جيش عائشة كطلحة والزبير ، فعرضوا عليهم السلم والدخول في مفاوضات بينهم وبين الامام حقناً لدماء المسلمين ، فأبوا ، وأصرّوا على التمرّد والعصيان مطالبين ـ بوقاحة ـ بدم عثمان ، وهم الذين أطاحوا بحكومته ، وأجهزوا عليه.
ولما نفدت جميع الوسائل التي اتخذها الاِمام ( عليه السلام ) للسلم اضطّر إلى إعلان الحرب عليهم ، وجرت بين الفريقين معركة رهيبة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، وأخيراً نصر الله الاِمام على أعدائه ، فقد قُتل طلحة والزبير ، وملئت ساحة المعركة بجثث قتلاهم ، وقذف الله الرعب في قلوب


( 80 )

الاَحياء منهم فولّوا منهزمين قابعين بالذلّ والعار.
واستولى جيش الاِمام على عائشة القائدة العامة للمتمرّدين ، وحملت بحفاوة إلى بعض بيوت البصرة ، ولم يتّخذ الاِمام معها الاِجراءات الصارمة ، وعاملها معاملة المحسن الكريم ، وسارع الاِمام فسرّحها تسريحاً جميلاً إلى يثرب ، لتقرّ في بيتها الذي أمرها الله ورسوله أن تسكن فيه ، ولا تتدخّل بمثل هذه الاَمور التي ليست مسؤولة عنها.
وانتهت هذه الفتنة التي أسماها المؤرّخون (بحرب الجمل) وقد أشاعت في ربوع المسلمين الثكل والحزن والحداد ، ومزّقت صفوفهم ، وألقتهم في شرّ عظيم... ومن المؤكّد أن دوافع هذه الحرب لم تكن سليمة ، ولم تكن حجّة عائشة وحزبها منطقية ، وانّما كانت من أجل المطامع ، والكراهية الشديدة لحكم الاِمام الذي فقدوا في ظلاله جميع الامتيازات الخاصة ، وعاملهم الاِمام كما يعامل سائر المسلمين.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب الدامية ، ووقف على أهدافها الرامية للقضاء على حكم أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وقد استبان له أحقاد القبائل القرشية له واستبان له أن الدين لم ينفذ إلى أعماق قلوبهم ، وانّما كانوا يلوكونه بألسنتهم حفظاً لدمائهم ومصالحهم.

معاوية وبنو أميّة:
وفي طليعة القوى المعارضة لحكومة الاِمام والمعادية له ، معاوية بن أبي سفيان ، وبنوا أميّة ، فقد نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وأركسهم في الفتنة ركساً ، فكانوا من ألدّ أعداء الاِمام ، كما كانوا من قبل من أعداءً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فهم الذين ناهضوا دعوته ، وكفروا برسالته ، وكادوا له في غلس الليل ، وفي وضح النهار ، حتى أعزّه الله وأذلّهم ، ونصره وقهرهم ، وقد


( 81 )

دخلوا في الاِسلام مكرهين لا مؤمنين به ، ولولا سماحة خلق النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وعظيم رأفته ورحمته لما أبقى لهم ظلاًّ على الاَرض ، إلاّ أنّه ( صلى الله عليه وآله ) منحهم العفو كما منح غيرهم من أعدائه.
ولم يكن للاَمويين أي شأن يذكر أيام النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد قبعوا بالذل والهوان ينظر إليهم المسلمون بنظرة العداء والخصوم ، ويذكرون ما قاموا به في محاربة دينهم ، والتنكيل بنبيّهم ، ومن المؤسف انّه لما فجع المسلمون بفقد نبيّهم ( صلى الله عليه وآله ) وآل الاَمر إلى الخلفاء علا نجم الاَمويين ، وذلك لاَسباب سياسية خاصة ، فقد عيّن أبو بكر يزيد بن أبي سفيان والياً على دمشق ، وخرج بنفسه لتوديعه إلى خارج يثرب تعظيماً له ، واشادة بمكانة أسرته ، ولم يفعل مثل ذلك مع بقية عمّاله وولاته كما يقول المؤرّخون ، ولما هلك يزيد أسندت ولاية دمشق إلى أخيه معاوية ، وكان أثيراً عند عمر تتوافد عليه الاَخبار بأنّه يشذّ في سلوكه ، وينحرف في تصرّفاته عن سنن الشرع وأحكام الاِسلام ، فقد أخبروه بأنّه يلبس الحرير والديباج ، ويأكل في أواني الذهب والفضّة ، وكل ذلك محرّم في الاِسلام ، فيقول معتذراً عنه ، ومسدداً له: ذاك كسرى العرب ومتى كان ابن هند الصعلوك النذل كسرى العرب ، !! ولو فرضنا أنّه كان كذلك فهل يباح له في شريعة الله أن يقترف الحرام ، ولا يحاسب عليه ، ان الله تعالى ليست بينه وبين أحد نسب ولا قرابة ، فكل من شذّ عن سنّته ، وخالف أحكامه فانّه يعاقبه على ذلك ، يقول الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) لو عصيت لهويت ، ويقول الاِمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ان الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.
وعلى أيّ حال فان عمر قد أغدق بألطافه ونعمه على معاوية وزاد في


( 82 )

رقعة سلطانه ، ونفخ فيه روح الطموح ، وقد ظلّ يعمل في ولايته على الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، فكان يقرّب الوجوه والزعماء ، ويغدق عليهم بالهبات والاَموال ، ويشتري الذمم والعواطف ، ويركّز ولاءه في قلوب الغوغاء.
ومهّدت عائشة في ثورتها على حكم الاِمام الطريق لمعاوية لاِعلانه العصيان المسلّح على حكومة الامام التي هي أشرف حكومة ظهرت في الشرق العربي على امتداد التأريخ ، وقد تذرّع بها معاوية الذئب الجاهلي لحرب الاِمام ، واتخذ من دم عثمان وسيلة لاِغراء الغوغاء واتّهم الاِمام بأنّه المسؤول عن المطالبة بدمه ، وفي نفس الوقت أوعز إلى أجهزة الاِعلام أن تندب عثمان ، وتظهر براءته مما اقترفه في تصرّفاته الاقتصادية والسياسية التي تتجافى مع أحكام الاِسلام.
وتسلّح معاوية بكبار الدبلوماسيين ، ومهرة السياسة في العالم العربي أمثال المغيرة بن شعبة ، وعمرو بن العاص ، وأمثالهما ممن كانت لهم الدراية الوثيقة في أحوال المجتمع ، فكانوا يضعون له المخططات الرهيبة للتغلّب على الاَحداث.

إعلان الحرب:
ورفض معاوية رسمياً بيعة الاِمام ، وأعلن عليه الحرب ، وهو يعلم أنّه انّما يحارب أخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، لقد أعلن عليه الحرب كما أعلن أبوه أبو سفيان الحرب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وتشكّل الجيش الذي زحف به معاوية لمحاربة الاِمام ( عليه السلام ) من


( 83 )

العناصر التالية:
أ ـ الغوغاء:
أمّا الغوغاء فهم جهلة الشعوب ، وهم كالاَنعام بل هم أضلّ سبيلاً وتستخدمهم السلطة في كل زمان لنيل أهدافها ، ولتبني عروشها على جماجمهم ، وكانت الاَكثرية الساحقة من جيش معاوية من هؤلاء الغوغاء المغرر بهم الذين لا يميّزون بين الحق والباطل ، والذين تلوّنهم الدعاية كيفما شاءت ، وقد جعلهم معاوية جسراً فعبر عليهم لنيل مقاصده الشريرة.
ب ـ المنافقون:
أمّا المنافقون فهم الذين أظهروا الاِسلام في ألسنتهم ، وأضمروا الكفر والعداء له في ضمائرهم وقلوبهم ، وكانوا يبغون له الغوائل ، ويكيدون له في وضح النهار ، وفي غلس الليل ، وقد ابتلي بهم الاِسلام كأشدّ ما يكون البلاء وامتحن بهم المسلمون كأشدّ ما يكون الامتحان لاَنّهم مصدر الخطر عليهم وقد ضمّ جيش معاوية رؤوس المنافقين وضروسهم أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وأمثالهم من الزمرة الباغية الذين وجدوا الفرصة لهم مواتية لضرب الاِسلام وقلع جذوره ، وقد تسلّحوا بمعاوية ابن أبي سفيان العدوّ الاَوّل للاِسلام فناصروه ، وساروا في جيشه لمحاربة أخي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه ، والمنافح الاَوّل عن الاِسلام.
انّ جميع من حارب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من المنافقين قد انضمّوا إلى معاوية وصاروا من حزبه وأعوانه في محاربة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ج ـ النفعيون:
ونعني بهم الجماعة التي فقدت امتيازاتها ومنافعها للامشروعة في ظلّ حكم الامام رائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، وفي طليعة هؤلاء ، العمّال


( 84 )

والولاة ، وسائر الموظّفين في حكومة عثمان ، فقد فقدوا منافعهم وخافوا على مصادرة ما عندهم من الاَموال التي اختلسوها من الشعب أيام عثمان ، كما تمّ عزلهم عن مناصبهم فور تقلّد الاِمام للحكم.
هذه بعض العناصر التي تشكّل منها جيش معاوية ، وقد زحف بهم إلى محاربة قائد الاِسلام ، ورائد العدالة الاِنسانية.

احتلال الفرات:
واتّجهت جيوش معاوية صوب العراق ، فعسكرت في منطقة صفين واختارتها مركزاً للحرب ، وأوعزت القيادة العامة إلى قطعات الجيش باحتلال الفرات ، ووضع المفارز على حوض الفرات لمنع جيش الاِمام من الشرب ليموتوا عطشاً ، وقد اعتبر معاوية ذلك أوّل النصر والفتح ، ونمَّ ذلك عن خبث طبيعته ولؤم عنصره ، فان لكل إنسان بل ولكل حيوان حقاً طبيعياً في الماء عند كافة الاَمم والشعوب ، ولكن معاوية وبني أميّة قد تخلّوا عن جميع الاَعراف ، فاستعملوا منع الماء كسلاح في معاركهم ، فقد منعوا الماء يوم الطفّ عن ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته حتى أشرفوا على الموت من شدّة الظمأ.
ولمّا علم الاِمام ( عليه السلام ) بزحف معاوية لحربه اتّجه بجيوشه نحو صفّين فلمّا انتهوا إليها وجدوا حوض الفرات قد احتلّ من قبل معسكر معاوية ، ومنعوهم من تناول قطرة من الماء ، وألحّ العطش بجيش الاِمام فانبرت إليه قادة جيشه ، وطلبوا منه الاِذن في مقارعة القوم ، فرغب الاِمام قبل أن يبدأهم بالحرب أن يطلبوا منهم السماح في تناول الماء ، إذ ليس لهم من سبيل أن يتخذوه وسيلة لكسب المعركة لاَن الماء مباح لكل إنسان وحيوان عند جميع الشرائع والاَديان ، وعرض عليهم أصحاب الاِمام ذلك إلاّ أنّهم


( 85 )

أبوا وأصرّوا على غيّهم وعدوانهم ، فاضطّر الاِمام بعد ذلك إلى أن يسمح لقوّاته المسلّحة بفتح نار الحرب عليهم ، فحملوا عليهم حملة واحدة ، ففرّوا منهزمين شرّ هزيمة ، وتركوا مواقعهم فاحتلتها جيوش الاِمام ، وأصبح نهر الفرات بأيديهم ، انطلق فريق من قادة الجيش نحو الاِمام فطلبوا منه أن يسمح لهم في منع الماء عن أصحاب معاوية كما منعوهم عنه ، فأبى الاِمام أن يقابلهم بالمثل ، فأباح لهم الماء كما هو مباح للجميع في شريعة الله ، ولم يشكر الامويون الاَوغاد هذه اليد البيضاء التي أسداها عليهم الاِمام ، فقد قابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عن أبنائه في كربلاء حتى صرعهم الظمأ ، وأذاب العطش قلوبهم.

دعوة الاِمام إلى السلم:
وكره الاِمام أشدّ الكره الحرب وإراقة الدماء ، فدعا إلى السلم ، والوئام فقد أرسل عدّة وفود إلى ابن هند يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون وأن يجنّبهم من الحرب فأبى ولم يستجب لهذه الدعوة الكريمة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان ، وتذرّع كذباً بالمطالبة بدم عثمان الذي ما أراق دمه إلاّ سوء تصرّفاته السياسية والاِدراية.

الحرب:
ولمّا فشلت جميع الجهود التي بذلها الاِمام من أجل السلم وحقن الدماء اضطّر إلى أن يفتح مع عدّوه باب الحرب ، وقد خاض معه حرباً مدمّرة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى فضلاً عن المعوقين من كلا الجانبين واستمرّت الحرب أكثر من سنتين كانت تشتدّ حيناً ، وتفتر حيناً آخر ، وفي المرحلة الاَخيرة من الحرب كاد الاِمام أن يكسب المعركة ،


( 86 )

وتحسم من صالحه ، فقد بان الانكسار في جيش معاوية ، وتفللت جميع قواعد عسكره ، وعزم معاوية على الهزيمة لولا أن تذكّر قول ابن الاَطنابة:

أبت لي عفتي وحياء نفسي*واقدامي على البطل المشيح
واعطائي على المكروه مالي*وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت*مكانك تحمدي أو تسريحي

فردّه هذا الشعر إلى الصبر والثبات كما كان يتحدّث بذلك أيّام العافية ، وفيما أحسب أن هذا الشعر ليس هوالذي ردّه إلى الثبات وعدم الهزيمة إذ ليست لابن هند أيّة عفّة أو حياء نفس ، ولا غير ذلك مما حوته هذه الاَبيات وانما ردّه إلى الصبر هو ما دبّره من المكيدة والخديعة التي مزّقت الجيش العراقي ، وهو ما سنتحدّث عنه.

الخديعة الكبرى:
وآن النصر المحتم لجيش الاِمام ، فقد أشرف على الفتح ، ولم يبق إلاّ مقدار حلبة شاة من الوقت حتى يؤسر معاوية أو يقتل كما أعلن ذلك قائد القوّات المسلحة في جيش الاِمام الزعيم مالك الاَشتر ، ومن المؤسف جدّاً أنّه في تلك اللحظات الحاسمة مُني الاِمام بانقلاب عسكري في جيشه ، فقد رفع عسكر معاوية المصاحف على أطراف الرماح ، وهم ينادون بالدعوة إلى تحكيم القرآن ، وإنهاء الحرب حقناً لدماء المسلمين ، واستجابت قطعات من جيش الامام لهذا النداء الذي يحمل التدمير الشامل لحكومة الاِمام وأفول دولة القرآن.
يا للعجب لقد نادى جيش معاوية بالرجوع إلى تحكيم القرآن ، ومعاوية وأبوه هما في طليعة من حارب القرآن.
أصحيح أنّ ابن هند يؤمن بالقرآن ، ويحرص على دماء المسلمين


( 87 )

وهو الذي أراق أنهاراً من دمائهم إرضاءً لجاهليته ، وانتقاماً من الاِسلام.
وكان أول من استجاب لهذا النداء المزيّف العميل الاَموي الاَشعث ابن قيس ، فقد جاء يشتدّ كالكلب نحو الاِمام ، وقد رفع صوته ليسمَعَهُ الجيش قائلاً:
« ما أرى الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.. ».
وامتنع الاِمام من إجابة هذا العميل المنافق الذي طعن الاِسلام في صميمه ، والتفّ حول الاَشعث جماعة من الخونة فأحاطوا بالاِمام ، وهم ينادون: أجب الاَشعث ، ولم يجد الاِمام بُدّاً من إجابته ، فانطلق الخائن صوب معاوية ، فقال له:
« لآيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟.. »
فأجابه معاوية مخادعاً:
ولنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتّبع ما اتفقا عليه.. ».
ورفع الاَشعث عقيرته قائلاً:
« هذا هو الحقّ.. ».
وخرج الاَشعث من معاوية ، وهو ينادي بضرورة إيقاف الحرب ، والرجوع إلى كتاب الله العظيم ، ومن المؤكّد أنّ هذه الحركة الانقلابية التي تزعّمها هذا المنافق العميل لم تكن وليدة رفع المصاحف ، وانّما كانت قبل زمن ليس بالقليل ، فقد كانت هناك اتّصالات سريّة بين الاَشعث وبين معاوية ووزيره والفكر المدبّر لخدعه وأباطيله عمرو بن العاص ، ومما يدل


( 88 )

على ذلك أنّه لم تكن هناك رقابة ولا مباحث في جيش الامام على من يتّصل بمعسكر معاوية فقد كان الطريق مفتوحاً ، وجرت اتصالات مكثّفة بين معاوية والاَشعث وغيره من قادة الجيش العراقي ، وقدم لهم معاوية الرشوات ، ومنّاهم بالمراتب العالية ، وبالمزيد من الاَموال إن استجابوا لدعوته.
وعلى أيّ حال فقد أُرغم الاِمام على قبول التحكيم ، فقد أحاطت به قطعات من جيشه وقد شهرت عليه السيوف والرماح وهي تنادي: « لا حكم إلاّ لله » واتّخذوا هذا النداء شعاراً لتمرّدهم ، ووقوفهم ضدّ الامام ، وسرعان ما أصبحوا حركة ثورية ، ومصدر قلق مثير للفتن والاضطراب.
وعلى أيّ حال فقد جهد الاِمام بنفسه ورسله على إقناعهم ، وإرجاعهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يتمكّن ، ورأى أنّهم جادّون على مناجزته والاِطاحة بحكومته ، فاستجاب لهم ، وأوعز إلى قائد قوّاته العسكرية الزعيم مالك الاَشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب ، وإيقاف العمليات العسكرية ، وكان قد أشرف على الفتح فلم يبق بينه وبين الاستيلاء على معاوية سوى مقدار حلبة شاة ، ورفض مالك الاستجابة وأصرّ على مزاولة الحرب إلاّ أنّه أخبر بأنّ الاِمام في خطر ، وان المتمرّدين قد أحاطوا به ، فاضطرّ إلى إيقاف الحرب ، وبذلك فقد تمّ ما أراده معاوية من الاِطاحة بحكومة الاِمام ، وكتب له في تلك اللحظات النصر على الاِمام ، وقد انتصرت معه الوثنية القرشية كما يقول بعض الكتّاب والمحدثين.

التحكيم :
وتوالت المحن والاَزمات على الاِمام يتبع بعضها بعضاً ، وانكشفت خفايا هؤلاء العملاء المتمرّدين ، فقد أصرّوا على انتخاب أبي موسى


( 89 )

الاَشعري ليكون ممثلاً عن العراق ، والاَشعري خبيث دنس كان حقوداً على الاِمام ، ومن ألدّ أعدائه وخصومه ، وفي نفس الوقت لم يملك وعياً ولا فهماً للاَحداث ، وكان بليداً ومنافقاً ، واتّخذه المنافقون والمتمردون في جيش الاِمام جسراً فعبروا عليه لنيل مقاصدهم الخبيثة لعزل الاِمام عن الحكم عن الحكم ، وتثبيت معاوية في مركزه.
ولم يستطع الاِمام إيقاف هذا المدّ التآمري في جيشه ، فقد أصبح قادة جيشه يتلقّون الاَوامر والتوجيهات من قبل معاوية ووزيره ابن العاص ، وصار الاِمام بمعزل تام عن الحياة السياسية ، فقد أصبح يأمر جيشه فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب له ، وصارت دفّة الحكم كلّها بيد معاوية.
لقد حكم الاَشعري بعزل الاِمام ، وحكم ابن العاص بإبقاء معاوية ، وبذلك فقد انتهت مهزلة التحكيم إلى عزل الاِمام عن منصب الحكم ، وتقليده لمعاوية وانطوت بذلك أقدس حكومة إسلامية ظهرت في الشرق كان يرجى منها أن تقوم ببسط العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس ، فلم تدعها هذه الوحوش الكاسرة من ذئاب الاَمويين ، وسائر القبائل القرشية من تحقيق أهدافها ومثلها العليا.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) وهو في دور الشباب فصول هذه المأساة الكبرى فكوت قلبه ، وهزّت عواطفه ، فقد جرت لاَهل بيته المصائب ، وأخلدت لهم المحن والخطوب.

ثورة الخوارج:
ومن بين المحن الشاقة التي امتحن بها الاِمام امتحاناً عسيراً هي ثورة الخوارج فقد كان معظمهم من بهائم البشر ، فقد امتطاهم معاوية ، وجعلهم جسراً لنيل أطماعه وأهدافه من حيث لا يشعرون ، فهم الذين أرغموا الاِمام


( 90 )

على قبول التحكيم ، وإيقاف عمليات الحرب ، وهم الذين أصرّوا على انتخاب المنافق أبي موسى الاَشعري ، ولما عقد التحكيم ، وأعلن أبو موسى عزل الاِمام عن منصبه ، وأعلن ابن العاص إقامة سيّده معاوية في مركزه أسفوا على ما فرّطوا في أمر المجتمع الاِسلامي واستبانت لهم المكيدة التي دبّرها ابن العاص في رفع المصاحف وعابوا على الاِمام وكفّروه لاستجابته لهم ، وفي الحقيقة هم الذين يتحمّلون جميع المسؤوليات الناجمة عن ذلك.
ولمّا نزح جيش الاِمام من صفّين إلى الكوفة لم يدخلوا معه إليها وانما انحازوا إلى حروراء فنسبوا إليها ، وكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً ، وأذن مؤذّنهم أن أمير القتال المنافق شبث بن ربعي الذي كان من قادة الجيش الذي حارب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كما نصبوا إماماً للصلاة عبد الله بن الكواء العسكري ، وجعلوا الاَمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، وجعلوا من أهمّ الاَحكام التي يقاتلون من أجلها الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا شعارهم « لاحكم إلاّ لله » ولكنّهم سرعان ما تنكّروا لهذا الشعار فجعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الاَبرياء ، وما نشروه من الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم بعض رسله يعدلهم عن فكرتهم ، ويرشدهم إلى طريق الحقّ والصواب ، فلم يجد ذلك معهم شيئاً ، فانطلق ( عليه السلام ) بنفسه إليهم ، ومعه أعلام أصحابه ، فجعل يناظرهم ، ويقيم الاَدلّة الوثيقة على فساد رأيهم ، وضلالة قصدهم ، فاستجاب له قوم ، وأبي قوم آخرون ، وجعل الاَمر يمعن في الفساد بين الاِمام وبينهم ، وأخذوا ينشرون الاِرهاب ، واعمال التخريب ، ويعيثون في الاَرض فساداً ، وقد رحلوا عن الكوفة ،


( 91 )

وعسكروا في النهروان ، واجتاز عليهم الصحابي الجليل عبدالله بن خباب ابن الاَرت ، وهو من أعلام أصحاب الاِمام فدارت بينه وبينهم أحاديث ، فعمدوا إليه فقتلوه ، وقتلوا معه السيّدة زوجته ، ولم يقف شرّهم عند هذا الحدّ ، وانّما أخذوا يذيعون الذعر والخوف بين المسلمين.
وبعث الاِمام إليهم الحارث بن مرة العبدي ليسألهم عما أحدثوه من الفساد ، فلما انتهى إليهم اجهزوا عليه وقتلوه ، ورأى الاِمام بعد هذا أنّهم يشكّلون خطراً كبيراً على دولته ، وانّهم مصدر فتنة وتخريب بين المسلمين ، وان الواجب يقضي بحربهم فزحف إليهم بجيشه ، ودارت بينه وبينهم معركة رهيبة ، فقتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم إلاّ تسعة(1) وانتهت بذلك حرب النهروان وقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) هذه الحرب ووقف على دوافعها التي كان منها كراهة هؤلاء القوم لعدل الاِمام ، وتفانيه في إقامة الحقّ بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أن أبا الفضل العباس ( عليه السلام ) لم يشترك في حرب النهروان ولا في حرب صفين ، فقد منعه الاِمام كما منع بعض أبنائه ، واعلام أصحابه من الدخول في الحرب ضنّاً بهم على الموت ، ومما يدل على ذلك أن الذين كتبوا عن واقعة صفين والنهروان لم يذكروا أيّ دور لسيّدنا العباس فيهما.

النتائج الفظيعة:
وأعقبت حرب الجمل ، وحرب صفّين أسوأ الاَحداث وأقساها
____________
(1) حياة الامام الحسن 1: 358 الطبعة الثالثة.
( 92 )

وأشقّها محنة على الاِمام ( عليه السلام ) ومن بينها:
1 ـ التمرّد الكامل في جيش الاِمام فقد أصبحت جميع قطعاته غير مطيعة لاَوامر الاِمام.
لقد شاعت الهزيمة النفسية في جيش الاِمام ، وفقدت قطعاته الروح المعنوية ، وتخاذلت تخاذلاً مطلقاً أمام الاَحداث التي مُني بها.
2 ـ وعمد معاوية بعد معركة صفين إلى تعزيز جيشه وتماسكه ، وقد بثّ فيه روح العزم والاِخلاص ، وقد وثق بالنصر والفتح والتغلّب على جيش الاِمام.
3 ـ وتعرّضت البلاد الاِسلامية الخاضعة لحكم الاِمام لحملات إرهابية عنيفة كانت تشنّها العصابات المجرمة التي يبعثها معاوية لاِشاعة الخوف والذعر فيها ، وقد تعرّضت المناطق القريبة من عاصمة الاِمام لهجمات الاِرهابيين من كلاب معاوية ، والاِمام لم يتمكّن من حمايتها وحفظ الاَمن والاِستقرار فيها فكان يدعو بحرارة جأشه للذبّ عن حياض الوطن ، وحمايته من الاعتداء فلم يستجب له أحد منهم.
4 ـ واحتلّت جيوش معاوية مصر احتلالاً عسكرياً ، وبذلك خرجت عن حكم الاِمام ، وقد أُصيبت حكومة الاِمام بنكسه كبيرة ، ولم تعد بعد هذه الاَحداث إلاّ شكلاً خاوياً في ميدان الحكم.

مصرع الاِمام:
وبقي الاِمام الممتحن في ارباض الكوفة قد أحاطت به المحن والاَزمات يتبع بعضها بعضاً ، يرى باطل معاوية قد استحكم ، وشرّه قد استفحل وهو لايتمكّن أن يقوم بأي عمل لتغيير الاَوضاع الاجتماعية


( 93 )

المتدهورة المنذرة بأفول دولة الحق ، وإقامة حكومة الظلم والجور.
لقد استوعبت المحن الشاقة التي أحاطت بالاِمام نفسه الشريفة فراح يدعو الله ، ويتوسّل إليه بحرارة أن ينقله إلى جواره ، ويريحه من هذا العالم المليء بالفتن والاَباطيل ، واستجاب الله دعاء الاِمام فقد عقدت عصابة مجرمة من الخوارج مؤتمراً في مكّة ، وأخذوا يذكرون بمزيد من الاَسى والحزن قتلاهم الذين حصدت رؤوسهم سيوف الحق في النهروان ، وعرضوا ما مني به العالم الاِسلامي من الفتن والانشقاق وألقوا تبعة ذلك حسب زعمهم على الاِمام أمير المؤمنين ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، فقرّروا القيام باغتيالهم ، وعيّنوا لذلك وقتاً خاصاً ، وضمن لهم ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم اغتيال الامام أمير المؤمنين ، ومن الجدير بالذكر أن مؤتمرهم كان بمرأى ومسمع من السلطة المحلّية بمكّة ، وأكبر الظنّ أنّها كانت على اتصال معهم وان القوى المنحرفة عن الاِمام قد أمدّت ابن ملجم بالمال ليقوم باغتيال الاِمام.
وعلى أيّ حال فقد قفل ابن ملجم راجعاً إلى الكوفة وهو يحمل شرّ أهل الاَرض ، ويحمل الكوارث المدمّرة للمسلمين ، وفور وصوله إلى الكوفة اتصل بعميل الامويين المنافق الاَشعث بن قيس ، وأخبره بمهمته ، فشجّعه على اقتراف الجريمة ، وأبدى له تقديم جميع ألوان المساعدات لتنفيذها.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان شهر الله المبارك اتّجه زعيم الموحّدين وسيّد المتقين نحو مسجد الكوفة ليؤدّي صلاة الصبح ، فأقبل نحو الله ، فشرع في صلاته ، ولما رفع رأسه من السجود علاه ابن اليهودية بالسيف فشقّ رأسه الشريف الذي كان كنزاً من كنوز العلم والحكمة


( 94 )

والاِيمان ، والذي ما فكّر إلاّ بتوزيع خيرات الله على البؤساء والمحرومين ، وإشاعة الحقّ والعدل بين الناس.
ولمّا أحسّ الاِمام بلذع السيف علت على شفتيه ابتسامة الرضا والظفر ، وراح يقول:
« فزت وربّ الكعبة .. ».
لقد فزت يا إمام المصلحين ، فقد وهبت حياتك لله وجاهدت في سبيله جهاد المنيبين والمخلصين.
لقد فزت يا إمام المتّقين لاَنّك في طيلة حياتك لم توارب ولم تخادع ولم تداهن ، ومضيت على بصيرة من أمرك مقتدياً بسيّد المرسلين ابن عمّك صلّى الله عليه وعليك ، فكان ذلك حقاً هو الفوز العظيم.
لقد فزت أيّها الاِمام الحكيم لاَنّك خبرت الدنيا ، وعرفتها دار فناء وزوال فطلّقتها ثلاثاً ، وأعرضت عن زينتها ومباهجها واتجهت صوب الله فعملت كل ما يرضيه ، وما يقربك إليه زلفى.
وحُمل الاِمام إلى منزله ، وقد فاضت عيون الناس بالدموع وتقطّعت النفوس ألماً وحزناً ، وكان الاِمام هادىء النفس قرير العين ، قد تعلّق قلبه بالله ، وهام في مناجاته ، وقد سأله مرافقة الاَنبياء والاَوصياء ، وأخذ يلقي نظراته على أولاده ، وخصّ ولده أبا الفضل بالعطف والحنان ، واستشفّ من وراء الغيب انّه ممن يرفع رايه القرآن ، ويقوم بنصرة أخيه ريحانة رسول الله المنافح الاَول عن رسالة الاِسلام.

وصايا خالدة:
ولما شعر الاِمام العظيم بدنّو أجله المحتوم أخذ يوصي أولاده


( 95 )

بمكارم الاَخلاق ومحاسن الاَعمال ، وأمرهم أن يجسّدوا الاِسلام في سلوكهم واتجاهاتهم ، وفيما يلي بعض بنود وصيّته.
أ ـ التحلّي بتقوى الله التي هي الاَساس في بناء الشخصية الاِسلامية على أساس متكامل من الوعي والازدهار.
ب ـ الالتزام بالحق قولاً وعملاً وبه تصان الحقوق وتسود العدالة الاجتماعية بين الناس.
ج ـ مناجزة الظالم والوقوف في وجهه ، ومناصرة المظلوم ومساعدته ، وفي ذلك إقامة للعدل الذي هو من أهمّ الاَهداف الاَصيلة التي ينشدها الاِسلام.
د ـ السعي في إصلاح ذات البين ، وإزالة البغضاء والكراهيّة بين المتخاصمين وهو من أفضل الاَعمال وأهمّها في الاِسلام لاَن فيه إقامة لمجتمع متطوّر قائم على المحبّة والمودّة.
هـ ـ مراعاة الاَيتام ، والقيام بصلتهم ، ورفع الحاجة عنهم ، وهذا من جملة بنود التكافل الاِسلامي الذي هو من أبدع ما شرّعه الاِسلام في نظامه الاقتصادي.
و ـ الاِحسان إلى الجيران ، والاِغداق عليهم بالبرّ والمعروف لاَنّ فيه إشاعة للمحبّة بين المسلمين ، كما أنّه في نفس الوقت من أهمّ الوسائل في تماسك المجتمع الاِسلامي ووحدته.
ز ـ العمل بما في القرآن الكريم من أحكام وسنن وآداب فانّه خير ضمان لصيانة سلوك الاِنسان المسلم ، وتهذيبه ، ورفع مستواه.
ح ـ إقامة الصلاة في أوقاتها وأدائها على أحسن وجه فانّها عمود


( 96 )

الدين ومعراج المؤمن ، وهي ترفع الاِنسان إلى مستوى عظيم إذ تشرفه بالاتصال بخالق الكون وواهب الحياة.
ط ـ إحياء المساجد بذكر الله من العبادة والعلم ، وتعتبر المساجد من أهمّ المراكز في إشاعة الآداب والفضائل بين المسلمين.
ي ـ الجهاد في سبيل الله بالاَنفس والاَموال لاِقامة معالم الدين وإحياء السنّة ، وإماتة البدعة.
ك ـ إشاعة المحبّة والمودّة بين المسلمين ، وذلك بالتواصل والتوادد وترك التدابر والتقاطع ، وغير ذلك مما يؤدّي إلى فصم عرى الوحدة بينهم.
ل ـ إقامة الاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لاَنّه مما يؤدّي إلى إقامة مجتمع سليم تسوده العدالة ، أما ترك ذلك فان له من المضاعفات السيّئة التي توجب ارتطام المجتمع بالفتن والبلاء كتولية الفساق والاَشرار لشؤونه ، وعدم استجابة الدعاء من أفراده.
هذه بعض الوصايا الخالدة التي أدلى بها الاِمام العظيم ، وهو على فراش الموت(1).

إلى جنّة المأوى:
وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الاِمام ( عليه السلام ) من جرّاء الضربة الغادرة التي عمّمه فيها ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، وأخذ الموت يدنوا إليه سريعاً سريعاً ، وقد استقبل إمام المتّقين الموت بثغر باسم ، ونفس آمنة مطمئنّة متعطّشة إلى لقاء الله راضية بقضائه وقدره ، وكان لا يفترّ لحظة
____________
(1) يلاحظ نهج البلاغة فقد حفل بهذه الوصايا القيّمة.
( 97 )

واحدة عن ذكر الله ، وقراءة كتابه ، وقد حفّ به أبناؤه وهم يذرفون أحرّ الدموع قد مزّق المصاب قلوبهم ، وقد استقبل القبلة حامداً لله حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن ، وأرواح الاَنبياء والاَوصياء وقد ازدهرت به جنان الخلد.
لقد توفّي عملاق الفكر الاِنساني ، ورائد العدالة الاجتماعية في الاَرض ، لقد عاش هذا الامام العظيم غريباً في مجتمع لم يعرف مكانته ، ولم يع قيمه وأهدافه التي كان منها أن ينفي البؤس والشقاء من الاَرض ، وينفي الحاجة والحرمان عن بني الاِنسان ، فيوزع عليهم خيرات الله ، فثارت في وجهه العصابة المجرمة من الرأسمالية القرشية ، وأوغاد الاَمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وقد صمد الاِمام في وجوههم ، ولم ينثن عن عزمه الجبّار حتى استشهد مناضلاً عن قيمه وأهدافه.

تجهيزه:
وانبرى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، ومعه السادة الكرام من إخوانه ومن بينهم أبوالفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى تجهيز الجثمان العظيم ، فغسّلوا الجسد الطاهر ، ثم أدرجوه في أكفانه ، وهم يذرفون أحرّ الدموع وبعد ذلك حملوه إلى مقرّه الاَخير ، فدفنوه في مرقده المطّهر في النجف الاَشرف ، وقد أعزّه الله ، ورفع من شأنه فجعله كعبةً للوافدين ، ولم يحظ مرقد من مراقد أولياء الله كما حظي مرقده الشريف فقد أحيط بهالة من التعظيم والتقديس عند كافة المسلمين.
لقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) خلافة أبيه ، وما رافقها من الاَحداث الجسام ، وما قاساه أبوه من المصاعب والمشاكل في سبيل تطبيق


( 98 )

العدالة الاجتماعية على واقع الحياة العامة بين المسلمين وقد تنكّرت له وحاربته القوى الباغية على الاِسلام ، والحاقدة على الاِصلاح الاجتماعي.
لقد وعى العبّاس الاَهداف المشرقة التي كان ينشدها أبوه فآمن بها ، وجاهد في سبيلها ، وقد انطلق مع أخيه سيّد الشهداء إلى ساحات الشرف والجهاد من أجل أن يعيدا للمسلمين سيرة أبيهما الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنهجه المشرق في عالم السياسة والحكم.

خلافة الاِمام الحسن:
وتسلّم الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قيادة الدولة الاسلامية بعد وفاة أبيه ، وكانت الاَوضاع الاجتماعية والسياسية ، كلها في غير صالحه ، فالاَكثرية الساحقة من الرؤساء والقادة العسكريين كانت اتجاهاتهم وميولهم سرّاً وعلانية مع معاوية ، فقد غزاهم بذهبه ، واسترقهم بأمواله ، كما انتشرت بين كتائب جيشه فكرة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في معسكره ، وتعلن عدم شرعية خلافته ، وخلافة أبيه من قبل ، ومن ثمّ كان إقبال الجماهير على مبايعته فاتراً جدّاً ، وكذلك لم تندفع القوات المسلّحة بحماس إلى بيعته ، وإنّما كانت مرغمة على ذلك ، الاَمر الذي أوجب تريّب الاِمام الحسن منهم ، ويرى المراقبون للاَوضاع السياسية في جيش الاِمام انّه قد ماج في الفتنة وارتطم في الشقاء ، وان خطره على الاِمام كان أعظم من خطر معاوية وانّه لا يصلح بأي حال من الاَحوال لاَن يخوض الامام به أي ميدان من ميادين الحرب.
وعلى أي حال فان الاِمام قد تسلّم قيادة الدولة ، وقد منيت بالانحلال والضعف ، وشيوع الفتن والاضطراب فيها ، وان من العسير جدّاً السيطرة

( 99 )

على الاَوضاع الاجتماعية ، وإخضاع البلاد إلى عسكره. اللهم إلاّ بسلوك أمرين:
الاَوّل: ـ إشاعة الاَحكام العرفيّة في البلاد ، ومصادرة الحريات العامة ، ونشر الخوف والارهاب ، وأخذ الناس بالظنّة والتهمة ، وهذا ما يسلكه عشّاق الملك والسلطان حينما يمنون بمثل هذه الاَزمات في شِعوبهم.
أمّا أئمّه أهل البيت : فانهم لا يرون مشروعية هذه السياسة ، وان أدّت إلى الانتصار ، ويرون ضرورة توفير الحياة الحرّة الكريمة للشعب ، واقصاء الوسائل الملتوية عنه.
الثاني: ـ تقديم الطبقة الرأسمالية وذوي النفوذ على فئات الشعب ، ومنحهم الاَموال والامتيازات الخاصة ، والوظائف المهمة ولو فعل ذلك الاِمام الحسن لاستقرّت له الاَمور ، وما مُني جيشه بالتمرّد والانحلال ، إلاّ أنّه ابتعد عن ذلك ابتعاداً مطلقاً لاَنّه لا تبيحه شريعة الله.
لقد كان منهج الاِمام الحسن في سياسته واضحاً لا لبس فيه ولا غموض وهو التمسّك بالحقّ ، وعدم السلوك في المنعطفات ، واجتناب الطرق الملتوية ، وان أدّت إلى الظفر والنصر.

إعلان معاوية للحرب:
وبادر معاوية إلى إعلان الحرب على سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لاَنّه على علم بما مُني به جيش الاِمام من الانحلال والخيانة فأغلب قادة الفرق ، وضبّاط الجيش ، وسائر المراتب قد رشاهم معاوية بذهبه وأمواله ، ومنّاهم بالوظائف العالية ، كما كاتب بعضهم بأن يزوجه بإحدى بناته ، فقد استعمل


( 100 )

الرشوة معهم على نطاق واسع ، وقد استجابوا له ، وضمنوا له تسليم الاِمام أسيراً متى شاء وأراد ، أو اغتياله ، وقد حفزته هذه العوامل لاستعجال الحرب وحسم الموقف من صالحه.
وزحف معاوية بجيوشه المتماسكة والمطيعة صوب العراق ، ولما علم الامام الحسن بذلك جمع قوّاته المسلّحة ، وأعلمهم بالاَمر ودعاهم إلى الجهاد وردّ العدوان فوجموا وساد عليهم الذعر والخوف فلم يجبه أحد منهم فقد آثروا العافية ، وسئموا من الحرب ، ولما رأى تخاذلهم الزعيم الكبير عَديّ بن حاتم تميّز غيظاً وغضباً ، واندفع بحماس بالغ نحوهم فجعل يؤنّبهم على هذا التخاذل ، وأعلن استجابته المطلقة لدعوة الاِمام ، ودعم موقفه كلّ من الزعيم الشريف قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي ، وزياد بن صعصعة التميمي فأخذوا يلومونهم على هذا الموقف الذي ليس فيه شرف ولا إنصاف ، ويبعثونهم إلى ساحات الجهاد.
وخرج الاِمام الحسن ( عليه السلام ) من فوره لمقابلة معاوية ، وسار معه أخلاط من الناس حتى انتهى إلى النخيلة فاستقام فيها حتى التحمت به فصائل من جيشه المتخاذل ، ثم ارتحل حتى إنتهى إلى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثة أيام ، ثم واصل سيره لا يلوي على شيء.

في المدائن:
وانتهى الاِمام ، ومعه بعض الفرق من جيشه إلى المدائن ، فأقام بها ، وقد أحاطت به المصاعب والاَزمات فقد عانى من جيشه الممزّق والخائن ألواناً شاقّة وعسيرة من المحن والمشاكل ، وابتلي بما لم يبتل به أحد من


( 101 )

قادة المسلمين وخلفائهم ، وكان من بين ما امتحن به:

1 ـ خيانة القائد العام:
وكان من أقسى ما ابتلي به الاِمام في تلك المرحلة الحسّاسة خيانة ابن عمّه عبيد الله بن العبّاس القائد العام لقوّاته المسلّحة ، فقد أرشاه معاوية بما يقارب المليون درهم ، فولّى الخائن الجبان منهزماً تحت جنح الليل البهيم يصحب معه العار والخزي ، فالتحق بمعسكر معاوية ، ولما علم الجيش بذلك اضطرب اضطراباً هائلاً ، وماج في الفتنة والشقاء ، ودبّت روح الخيانة في جميع قطعات الجيش كما خان جماعة من ذوي الرتب العليا في الجيش فالتحقوا بمعسكر معاوية بعد أن أرشاهم بأمواله.
ان خيانة عبيد الله من أقسى الضربات التي حلّت بجيش الاِمام ، فقد فتحت أبواب الخيانة على مصراعيها لذوي الضمائر القلقة لبيع ضمائرهم على معاوية ، كما أدّت إلى انهيار معنويات جيش الاِمام ، وفي نفس الوقت كانت من أقسى الصدمات التي واجهها الاِمام في تلك الفترة العصيبة فقد ألقت له الاَضواء على نفوس أغلب قادة جيشه ، وانّهم مجموعة من الخونة الذين لا يملكون أي رصيد ديني أو وطني.

2 ـ محاولات لاغتيال الاِمام:
ولم تقتصر محنة الاِمام وبلواه من جيشه إلى هذا الحدّ ، وانّما امتدّت إلى ما هو أعظم من ذلك فقد قام عملاء الامويين وبهائم الخوراج بعدة عمليات لاغتيال الاِمام ، وقد فشلت جميعها وهي:


( 102 )

أ ـ رمي الاِمام بسهم وهو في أثناء الصلاة ، ولم يؤثّر فيه شيئاً.
ب ـ طعنه بخنجر في أثناء الصلاة.
ج ـ طعنه في فخذه.
وضاقت الدنيا على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وطافت به المحن والاَزمات وأيقن أنّه لا محالة امّا أن يُغتال ، ويضاع دمه هدراً أو يلقى عليه القبض ويبعث أسيراً إلى معاوية ، وأجال النظر في هذه الاَمور فأفزعته إلى حدّ بعيد.

3 ـ الحكم عليه بالكفر:
وتمادى الخونة والعملاء في جيش الاِمام في الجريمة والشرّ ، فقد قابلوا الاِمام بكلمات كانت أشدّ عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، فقد أقبل عليه الجرّاح بن سنان يشتدّ كأنّه الكلب وهو رافع عقيرته قائلاً:
« لقد أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل.. ».
ولم ينبر أحد من جيش الاِمام إلى معاقبة هذا الاَثيم ، لقد انحرف هؤلاء الخونة عن الحق ، ومالوا عن الطريق القويم ، فقد حكموا على ابن بنت نبيّهم وابن وصيّه بالكفر والمروق من الدين ، فأي ضلال مثل هذا الضلال؟.

4 ـ نهب أمتعة الاِمام:
وعمد أُولئك الاَجلاف إلى نهب أمتعة الاِمام فنزعوا منه بساطاً كان جالساً عليه ، وسلبوا منه رداءه ، ولم تكن هناك أيّة حماية للاِمام من جيشه ، فقد جرت هذه العملية بمرأى ومسمع منهم.


( 103 )

هذه بعض الاَحداث المروعة التي عاناها الاِمام ( عليه السلام ) في المدائن وهي تلزمه بالصلح والتخلّي عن ذلك المجتمع المصاب بأخلاقه وعقيدته.

ضرورة الصلح:
أمّا صلح الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مع معاوية فقد كان ضرورياً حسب الاَعراف السياسية ، كما كان واجباً شرعياً مسؤول عن تنفيذه أمام الله والاَمة ، فانه لو فتح باب الحرب بجيشه المنهزم نفسياً لتغلب عليه معاوية بأول حملة ، ولما أمكنه أن يحقق أي نصر ، وفي تلك الحالة لا يخلو أمره من إحدى حالتين: إمّا القتل أو الاَسر ، فان قتل فلا تستفيد منه القضية الاِسلامية لاَنّ معاوية بما يملك من دبلوماسية مبطّنة بالخداع والمكر والنفاق ، سوف يلقي التبعة على الاِمام في قتله ، ويبرّئ نفسه من أيّة مسؤولية ، وأما إذا لم يقتل الامام ، وحمل إلى معاوية أسيراً ، فانه من دون شكّ سوف يعفو عنه ، وبذلك يسجّل له يداً بيضاء على الاَسرة النبوية ، ويمحو عنه وعن أسرته وصمة الطليق التي وصمهم بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلي أيّ حال فان الاِمام الحسن ( عليه السلام ) قد اضطّر إلى الصلح وأُرغم عليه ، ولم تكن هناك أيّة مندوحة للعدول عنه ، وقد جرى الصلح حسب شروط ذكرناها بالتفصيل مع تحليلها في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ) وممّا لا شكّ فيه حسب المقاييس العلمية والسياسية ان الاِمام أبا محمد قد انتصر في هذا الصلح ، فقد أبرز حقيقة معاوية الجاهلية ، وقد ظهرت خفايا نفسه ، وما يكّنه من حقد وعداء للاِسلام وللمسلمين ، فانه حينما استتبّ له الاَمر عمد بشكل سافر إلى محاربة الاِسلام والانتقام من أعلامه أمثال الصحابي العظيم حجر بن عدي ، وأخلد بجرائمه للمسلمين المصاعب


( 104 )

والكوارث ، وألقاهم في شرّ عظيم ، وسوف نتحدّث عن ذلك في البحوث الآتية.
وبعدما انتهى الاِمام أبو محمد من الصلح غادر الكوفة التي غدرت به وبأبيه لتستقبل جور معاوية وظلمه ، وكان معه أهل بيته واخوته ، ومن بينهم أخوه وعضده أبو الفضل العبّاس ، وأخذوا يجدون السير لا يلوون على شيء حتى انتهوا إلى يثرب ، وقد استقبلتهم بحفاوة بالغة البقيّة الباقية من الصحابة وأبنائهم ، واستقرّ الاِمام في يثرب ، وقد التف حوله الفقهاء والعلماء فأخذ يغذّيهم بعلومه ومعارفه ، ويغدق على البؤساء والمحرومين من فيض جوده وكرمه ، وقد استعادت يثرب بوجوده ما فقدته من القيادة الروحية للمسلمين حينما غادرها وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وعلى أيّ حال فقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) ما جرى على أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) من المحن الشاقة والعسيرة ، ورأى غدر أهل الكوفة ، وخيانتهم له ، ونكثهم لبيعتهم له ، وقد عرفته هذه الاَوضاع السياسية والاجتماعيه حقيقة المجتمع ، وان الغالبية الساحقة منه ينسابون وراء مصالحهم وليس للقيم الدينية أي أثر في نفوسهم ، وبهذا نطوي الحديث عن بعض الاَحدث المروعة التي شاهدها أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) .


* * * * *