كابوس رهيب


( 106 )


( 107 )

وتسلّم معاوية قيادة الدولة الاِسلامية بعد صلحه مع الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ، وقد تحقّقت آماله الشريرة في القضاء على الدولة العلوية التي هي دولة المحرومين والمضطهدين ، والتي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وتجسيداً حيّاً لاَهدافه ومتطلّباته الرامية لرفع مستوى الاِنسان وتطوير حياته ، وقد انهارت هذه القيم حينما سقطت الدولة الاِسلامية صريعة بيده ، فقد تبدّلت المبادئ والقيم والاَخلاق التي ينشدها الاِسلام إلى عكسها ، وخرج العالم الاِسلامي من عالم الدعة والرخاء والاستقرار إلى كابوس مرعب تحفّه المحن والكوارث ، وتخيّم عليه العبودية والذل.
لقد تنكّر معاوية لجميع القيم والاَعراف ، وساس المسلمين سياسة لم يألفوها من قبل ، ويرى المراقبون لسياسته ان انتصاره انّما هو انتصاراً للوثنية بجميع مساوئها يقول السيّد مير علي الهندي:
« ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم الثوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الاِسلام ، وانتعشت الوثنية بكل ما يرافقها من خلاعات ، وكأنّها بعثت من جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذل الخلقي لنفسها متّسعاً في كل مكان ارتادته رايات حكّام الاَمويين من قادة جند


( 108 )

الشام.. »(1).
لقد تعرّض المسلمون في ذلك العهد الاَسود إلى أزمات شاقة وعسيرة وامتحنوا كأشدّ ما يكون الامتحان ، ونعرض ـ بإيجاز ـ إلى بعض ما عانوه من الكوارث.

إبادة القوى الواعية:
وعمد ابن هند إلى إبادة القوى الواعية في الاِسلام ، وتصفيتها جسدياً فقد ساق كوكبة منهم إلى ساحات الاعدام ، وفيما يلي بعضهم:

1 ـ حجر بن عديّ :
حجر بن عدي الكندي علم من أعلام الاِسلام ، وبطل من أبطال الجهاد ومن أبرز طلائع المجد والفخر للاَمّة العربية والاِسلامية ، ومن النماذج المشرقة الذين تخرّجوا من مدرسة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووعوا قيمه وأهدافه ، وقد وهب هذا العملاق العظيم حياته لله فثار في وجه الاِرهابي المجرم زياد بن أبيه حينما أعلن رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين مفجّر الفكر والنور في دنيا الاِسلام ، والمؤسس الثاني في بناء العقيدة الاِسلامية بعد ابن عمّه وسيّده الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
لقد استحلّ الطاغية المجرم زياد دم المجاهد الكبير حجر بن عديّ حينما جابهه بالانكار على سبّه للاِمام ، فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من أعلام المجاهدين في الاِسلام إلى أخيه في الجريمة معاوية بن
____________
(1) روح الاسلام : 296.
( 109 )

هند ، فصدرت الاَوامر منه بإعدامهم في (مرج عذراء) ونفّذ الجلاّدون فيهم حكم الاِعدام فخرّت جثثهم الزواكي على الاَرض وهي معطّرة بدم الشهادة والكرامة ، تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة حرّة كريمة لا سيادة فيها للظالمين والمستبدّين.

2 ـ عمرو بن الحمق:
ومن شهداء الاِسلام الخالدين عمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ، كان أثيراً عند النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وقد دعا له بأن يمتّعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاءه فقد أخذ عمرو بعنق الثمانين عاماً ولم ترَ في كريمته شعرة بيضاء(1).
وقد وعى عمرو القيم الاِسلامية وآمن بها إيماناً عميقاً ، وجاهد في سبيلها كأعظم ما يكون الجهاد ، ولما ولي الجلاّد زياد بن أبيه على الكوفة من قبل أخيه اللاشرعي معاوية أوعز إلى مباحثه وجلاوزته بملاحقة عمرو ومطاردته لاَنّه من أعلام شيعة الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وفرّ عمرو مع زميله رفاعة بن شداد إلى الموصل ، وقبل أن ينتهيا إليها كمنا في جبل ليستجمّا فيه ، فشعرت بهما الشرطة المقيمة هناك ، فارتابت منهما ، فألقت القبض على عمرو ، وفرّ صاحبه ، وجاءت الشرطة بعمرو مخفوراً إلى عبد الرحمن الثقفي حاكم الموصل ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمر بطعنه تسع طعنات بمشاقص(2) فبادرت الجلاوزة إلى طعنه ، فمات في الطعنة الاُولى ، واحتزّوا رأسه فأمر أن يطاف به في دمشق وهو أول رأس طيف به في الاِسلام ، ثم
____________
(1) الاصابة 2: 526.
(2) المشاقص: جمع مفرده مشقص ، النصل العريفي أو سهم فيه نصل عريض.

( 110 )

أمر به ابن هند أن يحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلم تشعر إلاّ ورأس زوجها في حجرها فذعرت ، وكادت أن تموت ، ثم حملت إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محاورة شديدة دلّت على مسخ معاوية وتجرّده من جميع القيم الاِنسانية ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الاِمام الحسن ( عليه السلام ) ).

3 ـ رشيد الهجري:
رشيد الهجري علم من أعلام الاِسلام ، وقطب من أقطاب الاِيمان وقد أخلص كأشدّ ما يكون الاِخلاص إلى وصيّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد اعتقلته جلاوزة ابن زياد ، وجاءت به مخفوراً إليه ، فلما مثل عنده صاح به الباغي الاَثيم:
« ما قال لك خليلك ـ يعني الامام عليّاً ـ إنّا فاعلون بك؟.. »
فأجابه بصدق وإيمان غير حافل به:
« تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.. ».
فأراد الخبيث الدنس أن يكذّب الاِمام فقال:
« أمّا والله لاَكذبنّ حديثه خلّوا سبيله.. ».
فخلّت الجلاوزة سبيله لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً حتى ندم على ذلك فأمر بإحضاره فلمّا مثل عنده صاح به:
لا نجد شيئاً أصلح مما قال صاحبك: « إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه.. ».
وبادرت الجلاوزة فقطعت يديه ورجليه ، ولم يحفل هذا العملاق العظيم بما كان يعانيه من الآلام ، وراح يذكر مساوىَ بني أميّة وجورهم


( 111 )

ويحفز الجماهير على الثورة عليهم ، وأسرعت الجلاوزة إلى زياد فأخبروه بالاَمر فأمرهم بقطع لسانه ، فقطع وتوفي في الحال هذا المجاهد العظيم(1) الذي نافح عن عقيدته وولائه لاَهل البيت حتى النفس الاَخير من حياته.
هؤلاء بعض أعلام الاِسلام الذين صفّاهم ابن هند جسدياً لاَنّهم كانوا ينشرون القيم الاِسلامية ، ويذيعون بين الناس فضائل أهل البيت : الذين هم مصدر الوعي والفكر في الاِسلام.

مناهضة أهل البيت:
ولمّا استتبّ الاَمر إلى معاوية سخر جميع أجهزة دولته ووسائل إعلامه لمناهضة أهل البيت الذين هم وديعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أمّته ، والعصب الحسّاس في هذه الاَمّة ، وقد استخدم هذا الذئب الجاهلي أخطر الوسائل في مناهضتهم ، ومن بين ما قام به:

1 ـ افتعال الاَخبار ضدّهم:
وأقام معاوية شبكة من عملائه لوضع الاَخبار وافتعالها على لسان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) للحطّ من شأن أهل بيته ، والتقليل من أهمّيتهم ، وقد عمد الوضّاعون لافتعال الاَخبار تارة في فضل الصحابة ، لجعلهم قبال العترة الطاهرة ، وقد عدّ الامام الاَعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) أكثر من مائة حديث افتعلت لهذا الغرض كما افتعلوا طائفة من الاَخبار في ذمّ أهل البيت عليهم السلام ، كما وضعوا أحاديث أخرى في مدح الاَمويين ، وخلق الفضائل
____________
(1) سفينة البحار 1: 522.
( 112 )

لهم ، وهم الذين ناجزوا الاِسلام في جميع مراحل تأريخهم ، ولم تقتصر الشبكة التخريبية على ذلك ، وانّما عمدت لافتعال الاَخبار فيما يتعلّق بأحكام الشريعة الاِسلامية ، ومن المؤسف جدّاً انّها دوّنت في الصحاح والسنن ، وجعلت جزءاً من الشريعة الاِسلامية ، ولم يلتفت المؤلّفون إلى وضعها ، وقد تصدّى بعض المحقّقين إلى تأليف بعض الكتب ، ذكروا فيها بعض الاَخبار الموضوعة ، فقد ألّف المحقّق السيوطي كتابه الشهير (اللئالي المصنوعة في الاَخبار الموضوعة) ذكر فيه طائفة كبيرة من تلك الموضوعات ، وقد سجّل المحقق الاَميني في (الغدير) أرقاماً لبعض الاَخبار الموضوعة بلغت زهاء نصف مليون حديث ، وعلى أي حال فان من أعظم ما مُني به الاِسلام من الكوارث هي الاَخبار الموضوعة التي شوّهت الواقع المشرق للاِسلام ، وألقت المسلمين في شرّ عظيم ، فقد حجبتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وما أثر عنهم من الاَخبار الصحيحة التي هي من ذخائر الاِسلام.

2 ـ سبّ الاِمام أمير المؤمنين:
وأعلن معاوية رسمياً سبّ الاِمام أمير المؤمنين ، وأوعز إلى ولاته وعمّاله أن يذيعوا ذلك بين المسلمين ، واعتبره عنصراً أساسياً في بناء دولته ، وإقامة حكومته ، وأخذ الاَذناب والعملاء ووعاظ السلاطين يصعّدون سبّ الاِمام وينتقصونه لا في نواديهم الخاصة والعامة فحسب ، وانّما في خطب صلاة الجمعة ، وسائر المناسبات الدينية ، معتقدين أن ذلك مما يوجب القضاء على شخصية الاِمام ، واندثار ذكره ، وقد خابت ظنونهم ، وتبت أيديهم ، فقد عادت اللعنات عليهم وعلى من ولاهم ومكنهم من


( 113 )

رقاب المسلمين ، فقد برز الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على مسرح التأريخ البشري كألمع قائد إنساني أسّس معالم العدالة الاجتماعية ، وأقام أركان الحقّ في الاَرض.
لقد عاد الاِمام في جميع الاَعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الانسان ، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الاِنسانية جناية لا تعدلها أية جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الاِنسانية ، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

3 ـ استخدام معاهد التعليم:
واستخدم معاوية معاهد التعليم ، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت عليهم السلام الذين هم المركز الحسّاس في الاِسلام ، وغذّت هذه الاَجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وذريته ، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الاِمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا ، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الاَرض ، وهو أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الاَرض ، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير.
لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لاَهل البيت عليهم السلام واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام


( 114 )

واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والاِسلامي.

إشاعة الظلم:
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الاِسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والاِساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الاِرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الاَليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والاِعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم ، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله.
لقد عجّت البلاد الاِسلامية من الظلم والجور ، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت عليهم السلام فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسلمت منهم الاَعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لاَهل البيت عليهم السلام .
وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت ، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الاَموية ، لاِنقاذ الاَمة من محنتها ، وإعادة الحياة الاِسلامية بين المسلمين.


( 115 )

منح الخلافة ليزيد:
واقترف معاوية أخطر جريمة في الاِسلام فقد منح الخلافة الاِسلامية إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرداً من جميع القيم الاِنسانية ، وغارقاً في الآثام والجرائم وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على دمشق:

نعب الغراب فقلت صح أولا تصح * فلقد قضيت من النبي ديوني

نعم لقد استوفى ديون الاَمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه ، وقال مرّة اُخرى:

لست من خندف إذ لم انتقم من * بني أحمد ما كان فعل

هذا هو يزيد في الحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية ، وإزالة الاِسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وسبيه لذراريه.

إغتيال الشخصيات الاِسلامية:
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات الاِسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الاِسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتجه إليهم الاَنظار ،


( 116 )

وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم:

1 ـ سعد بن أبي وقاص:
أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الاِسلامية ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله(1).

2 ـ عبد الرحمن بن خالد:
أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبدالرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك(2).

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر:
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها ، وقال: لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً
____________
(1) مقاتل الطالبيين: 29.
(2) حياة الاِمام الحسين 2: 216.

( 117 )

فقتله(1).

4 ـ الاِمام الحسن:
وأقض الاِمام الحسن ( عليه السلام ) مضجع ابن هند ، وراح يطيل التفكير للتخلّص منه ، لاَنّه قد شرط عليه في بنود الصلح أن ترجع إليه الخلافة بعد هلاكه واستعرض معاوية حاشية الامام وخاصته ليشتري ضمائرهم بأمواله لاغتيال الاِمام ، فلم يقع نظره على أحد سوى الخائنة جعدة بنت الاَشعث زوجة الاِمام ، فهي من أسرة لم تنجب شريفاً قطّ ، ولم يؤمن أي فرد منها بالقيم الاِنسانية ، وأوعز معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على يثرب فاتّصل بها ، وقدم لها الاَموال ، ومنّاها بزواج يزيد ، فاستجابت نفسها الخبيثة لاقتراف الجريمة ، فناولها سمّاً فاتكاً ، فأخذته ، ودسّته للاِمام ، وكان صائماً ، ولما وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، فالتفت إلى الخبيثة ، فقال لها:
« قتلتيني ، قتلك الله ، والله لا تصيبنّ منّي خلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك ، يخزيك الله ويخزيه.. ».
وأخذ سبط النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وريحانته يعاني آلاماً قاسية من شدّة السم فقد تفاعل مع أجزاء بدنه ، وقد ذبلت نضارته ، واصفّر لونه ، وكان يلهج بذكر الله وتلاوة كتابه حتى ارتفعت روحه العظيمة إلى بارئها تحفّها ملائكة الرحمن وأرواح الاَنبياء.
لقد وافاه الاَجل المحتوم ، ونفسه العظيمة مترعة بالمصائب من ابن
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 216.
( 118 )

هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة ، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، واسمعه سبّه ، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه.

تجهيزه:
وقام سيّد الشهداء ( صلى الله عليه وآله ) بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره.

فتنة الاُمويين:
ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ليوارى إلى جنبه ثار الاَمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين « أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً.. ». واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه.. ».
فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة:
« لئن دفن الحسن بجوار جدّه ـ لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها.. ».
والتفتت إلى المشيّعين قائلة:
« لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ.. ».
وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت عليهم السلام ، ويتساءل


( 119 )

السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ ابوها عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال:
« نحن معاشر الاَنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة » فبيت النبيّ ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وانّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لاَبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية وان النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) كبقيّة الاَنبياء يرثه ذرّيته ، فالامام الحسن ( عليه السلام ) هو الذي يرثه لاَنّه سبطه ، أما أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فلا يرثن من البيت ، وانّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء.
وعلى أيّ حال فقد تمادى الاَمويون بالشر ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أو عزوا إلى عملائهم برمي جنازة الاِمام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والاَمويين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى مناجزة الاَمويين ، وتمزيقهم ، فمنعه أخوه الامام الحسين ( عليه السلام ) من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في امره ملَ محجمة من دم.. وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والاِمامة.
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الاَحداث المروعة التي حلّت بأخيه الامام أبي محمد ( عليه السلام ) فزهدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله.

معارضة الامام الحسين لمعاوية:
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين


( 120 )

والمعادية لاَهدافهم ، قام أبو الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالاِنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت اجهزة الاَمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتخاذ الاجراءات القاسية ضدّه ان لم يستجب له ، فأجابه أبو الاَحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الاَحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الاِسلامي.
انّ جواب الاِمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية ، فقد وضع الاِمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الاَحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية(1).

مؤتمر الامام الحسين في مكّة:
وعقد الاِمام أبو عبدالله الحسين ( عليه السلام ) مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والاَنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس
____________
(1) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الاِمامة والسياسة 1|189 والكشي في رجاله.
( 121 )

قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه:
« أمّا بعد! فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتهم ، وشهدتم ، وانّي أريد أن أسألكم عن شيء ، فان صدقت فصدقوني وان كذبت فكذّبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم ، وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا ، فانّي أتخوّف أن يدرس هذا الاَمر ، ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ».
ويقول سُليم بن قيس: وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً مما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في أبيه وأخيه ، وفي نفسه وأهل بتيه إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه: اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي: اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه ، وأئتمنه من الصحابة ، فقال ( عليه السلام ) : أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به من تثقون به وبدينه.. »(1).
وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الامام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام وستر فضائلهم ، وقد دعا الاِمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبّيتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاَمة الاِسلامية.

هلاك معاوية:
واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة مما اقترفه من
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 228 ـ 229.
( 122 )

الاَحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً: ويلي من ابن الاَدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ ان يومي منه لطويل ، نعم ان يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وانّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد ، وهو الذي حارب دولة الاِسلام ، وأقام الدولة الاَموية التي اتخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الاَحداث والموبقات في الاِسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسبطه الاِمام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت عليهم السلام على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله.
وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان.
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الاِسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم.