إلى أرض الشهادة


( 152 )


( 153 )

وغادر الاِمام الحسين ( عليه السلام ) مكّة ، ولم يمكث فيها ، فقد علم أن الطاغية يزيد قد دسّ عصابة من الاِرهابيين لاغتياله ، وان كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، فخاف أن يراق دمه في البيت الحرام ، وفي الشهر الحرام ، وبالاِضافة إلى ذلك فان سفيره مسلم بن عقيل قد كتب إليه يحثّه على القدوم إلى الكوفة ، وان أهلها يترقّبون قدومه ، ويفدونه بأرواحهم ودمائهم ، ويقدمون له الدعم الكامل لتشكيل حكومة علوية في بلادهم.
وسار الاِمام مع عائلته تحفّ بها الكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم السلام الذين يمثّلون القوة والعزم والاِباء ، وعلى رأسهم سيّدنا أبوالفضل ( عليه السلام ) فكانت رايته ترفرف على رأس أخيه أبي الاَحرار من مكّة المكرّمة إلى أرض الشهادة والفداء كربلاء ، وكان يراقب بدقّة حركة القافلة وسيرها خوفاً على عيال أخيه وأطفاله من أن يصيبهم عناء أو أذى من وعورة الطريق ، وقد تكفّل جميع شؤونهم وما يحتاجون إليه ، وقد وجدوا في رعايته وحنانه من البرّ ما يفوق حدّ الوصف.
وواصل الاِمام سيرته الخالدة ، وقد طافت به هواجس مريرة ، فقد أيقن أنّه سيلاقي مصرعه ، ومصارع أهل بيته على أيدي هؤلاء الذين كاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، وقد تشرّف بمقابلته في الطريق الشاعر الكبير الفرزدق همام بن غالب ، فسلّم عليه وحيّاه ، وقال له:
« بأبي أنت وأمّي يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما أعجلك عن الحجّ ؟ ».


( 154 )

فأحاطه الاِمام علماً بما عزمت عليه السلطة من اغتياله قائلاً:
« لو لم أعجل لاَخذت.. ».
وسارع الاِمام قائلاً:
« من أين أقبلت؟.. »
« من الكوفة.. ».
« بيّن لي خبر الناس.. »
كشف الفرزدق للاِمام بوعي وصدق الحالة الراهنة في الكوفة ، وانّها لا تبشّر بخير ، ولا تدعو إلى التفاؤل قائلاً:
« على الخبير سقطت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء ... وربّنا كل يوم هو في شأن.. ».
واستصوب الاِمام حديث الفرزدق ، وأخبره عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانه ماضٍ قدماً في جهاده ، وذبّه عن حرمة الاِسلام ، فان نال ما يرومه فذاك ، وإلاّ فالشهادة في سبيل الله قائلاً له:
« صدقت لله الاَمر من قبل ، ومن بعد ، يفعل الله ما يشاء ، وكل يوم ربّنا في شأن ، ان نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر وان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدّ من كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته » وأنشأ الاِمام هذه الاَبيات:

لئن كانـت الدنيـا تعـدّ نفيسـة*فـدار ثواب الله أعلـى وأنبــل
وان كانـت الاَبدان للموت أنشئت*فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل
وان كانـت الاَرزاق شيئـاً مقدراً*فقلة سعي المرء في الرزق أجمـل
وان كانـت الاَموال للترك جمعها*فما بال متـروك به المرء يبخـل


( 155 )

ودلّ هذا الشعر على زهده في الدنيا ، ورغبته الملحّة في لقاء الله تعالى ، وانّه مصمّم كأشدّ ما يكون التصميم على الجهاد ، والشهادة في سبيل الله.
إنّ التقاء الاِمام مع الفرزدق كشف عن خنوع الناس ، وعدم اندفاعهم لنصرة الحق فالفرزدق الذي كان يملك وعياً اجتماعياً ، ووعياً ثقافياً متميزاً رأى ريحانه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو ماضٍ في طريقه إلى الشهادة قد تضافرت قوى الباطل على حربه فلم يندفع إلى نصرته ، والالتحاق بموكبه ، واختار الحياة على الشهادة ، فاذا كان هذا حال الفرزدق فكيف بغيره من جهّال الناس وسوادهم.

وصول النبأ بمقتل مسلم:
وسارت قافلة أبي الاَحرار تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى (زرود) وإذا برجل قد أقبل من جهة الكوفة ، فلمّا رأى الامام الحسين ( عليه السلام ) عدل عن الطريق وقد وقف الامام يريد مسألته فلمّا رآه قد مال عنه واصل سيره ، وكان مع الاِمام عبدالله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الاَسديان فسارعا نحو الرجل حينما عرفا رغبة الاِمام في سؤاله ، فأدركاه ، وسألاه عن خبر الكوفة فقال لهما: إنّه لم يخرج حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىَ بن عروة ، ورآهما يجرّان بأرجلهما في الاَسواق ، فودّعاه وأقبلا مسرعين حتى التحقا بالاِمام ، فلما نزل الثعلبية قالا له:
« رحمك الله ان عندنا اخباراً ان شئت حدّثناك به علانية ، وان شئت سرّاً ».
ونظر الاِمام إلى أصحابه الممجّدين فقال:
« ما دون هؤلاء سرّ ».


( 156 )

« أرأيت الراكب الذي استقبلته عشاء أمس؟.. »
« نعم وأردت مسألته... ».
« والله استبرأنا لك خبره ، وهو أمرؤ منّا ذو رأي ، وصدق ، وعقل ، وانه حدّثنا انّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم ، وهانىَ ورآهما يجرّان في الاَسواق بأرجلهما.. ».
وتصدّعت قلوب العلويين وشيعتهم من هذا النبأ المفجع ، وانفجروا بالبكاء واللوعة ، حتى ارتجّ الموضع بالبكاء ، وسالت الدموع كالسيل ، وشاركنهم السيّدات من أهل البيت بالبكاء ، وقد استبان لهم غدر أهل الكوفة ونكثهم لبيعة الاِمام ، وانّهم سيلاقون المصير الذي لا قاه مسلم ، والتفت إلى بني عقيل فقال لهم:
« ما ترون فقد قتل مسلم؟.. ».
ووثبت الفتية كالاَسود ، وهي تعلن استهانتها بالموت ، وسخريتها من الحياة ، مصمّمة على المنهج الذي سار عليه مسلم قائلين:
« لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.. ».
راح أبو الاَحرار يقول بمقالتهم:
« لا خير في العيش بعد هؤلاء.. ».
وقال متمثلاً:
« سأمضي وما بالموت عار على الفتى*إذا ما نوى حقاً وجاهد مـســلمـا
فان مُتّ لم أندم وإن عشت لـــم ألم*كفى بك عاراً أن تــذل وتـرغما »

لقد مضيت ـ يا أبا الاَحرار ـ قدماً إلى الموت ، بعزم وتصميم ، وأنت مرفوع


( 157 )

الرأس ، ناصع الجبين في سبيل كرامتك ، ولم تخضع ، ولم تلن لاَولئك الاَقزام الذين غرقوا في الرذائل والموبقات.

النبأ المفجع بشهادة عبدالله:
وسار موكب الاِمام لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى زبالة ، فوافاه النبأ الفظيع بشهادة عبدالله بن يقطر الذي أوفده للقيا مسلم بن عقيل ، فقد ألقت الشرطة القبض عليه ، وبعثته مخفوراً إلى ابن مرجانة ، فلمّا مثل عنده صاح به الخبيث الدنس:
« اصعد المنبر ، والعن الكذّاب ـ يعني الامام الحسين ـ ابن الكذّاب ، حتى أرى رأيي فيك.. ».
وظنّ ابن مرجانة انّه على غرار شرطته ، ومن سنخ جلاّديه الذين باعوا ضمائرهم عليه ، وما درى أنّه من أفذاذ الاَحرار الذين تربّوا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وسجّلوا الفخر والشرف لهذه الاَمة ، واعتلى البطل العظيم أعواد المنبر ، ورفع صوته صوت الحقّ الهادر قائلاً:
« أيّها الناس أنا رسول الحسين بن فاطمة ، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة الدعيّ ابن الدعيّ.. ».
واسترسل في خطابه الثوري ، وقد دعا فيه إلى نصرة ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والذبّ عنه ، ومناهضة الحكم الاَموي الذي عمد إلى إذلال الاِنسان المسلم ، وسلب حريته وإرادته ، وانتفخت أوداج ابن مرجانة وورم أنفه ، فأمر بإلقاء هذا العملاق من أعلى القصر ، فأخذته الشرطة ، ورمته من أعلى القصر فتكسّرت عظامه ، وبقي به رمق من الحياة ، فأسرع إليه الخبيث عبد الملك اللخمي فذبحه ليتقرّب إلى سيّده ابن مرجانة.


( 158 )

ولمّا علم أبو الاَحرار بمصرع عبدالله شقّ عليه ذلك ، ويئس من الحياة ، وعلم أنّه يسير نحو الموت ، وأمر بجمع أصحابه ، والذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق ، ليعلمهم بما آل إليه أمره من تخاذل الناس عنه ، وانصرافهم إلى بني أميّة قائلاً:
« أمّا بعد: فقد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام.. ».
وتفرّق ذوو الاَطماع الذين اتبعوه من أجل الغنيمة ، والظفر ببعض مناصب الدولة وخلص إليه الصفوة الكريمة من أصحابه الممجدين الذي اتبعوه على بصيرة من أمرهم وليست عندهم أية أطماع.
لقد صارح الاِمام أصحابه بالواقع في تلك المرحلة الحاسمة ، فأعلمهم أنّه ماضٍ إلى الشهادة لا إلى الملك والسلطان ، وان من يلتحق به سيفوز برضا الله ، ولو كان الامام من عشّاق السلطة لما أدلى بذلك ، وكتم الاَمر لاَنّه في أمسّ الحاجة إلى الناصر والمحامي عنه.
لقد كان الاِمام ( عليه السلام ) ينصح أصحابه وأهل بيته بالتخلي عنه في كل موقف والسبب في ذلك أن يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ولا يدّعي أحد منهم أنّه كان على غير علم بالاَمر.

الالتقاء بالحرّ:
وسار موكب الاِمام يطوي البيداء حتى انتهى إلى « شراف » وفيها عين ماء فأمر الاِمام فتيانه بالاستقاء والاكثار منها ، ففعلوا ذلك ، وسارت القافلة ، فانبرى بعض أصحاب الاِمام بالتكبير ، فاستغرب الامام منه ، وقال له:
« لمَ كبّرت؟... »


( 159 )

« رأيت النخل... ».
وأنكر عليه رجل من أصحاب الاِمام ممن عرف الطريق ، فقال له:
« ليس ها هنا نخل ، ولكنها اسنّة الرماح ، وآذان الخيل »...
وتأمّلها الاِمام ، فطفق يقول: وأنا أرى ذلك ـ أي أسنّة الرماح وآذان الخيل ـ وعرف الاِمام أنّها طلائع الجيش الاَموي جاءت لحربه فقال لاَصحابه:
« أما لنا من ملجأ نلجأ إليه ، فنجعله وراء ظهورنا ، ونستقبل القوم من وجه واحد.. ».
وكان بعض أصحابه عارفاً بسنن الطريق فقال له:
« بلى هذا ذو حُسم(1) إلى جنبك ، تميل إليه عن يسارك ، فان سبقت إليه فهو كما تريد.. ».
ومال موكب الاِمام إليه ، فلم يبعد كثيراً حتى أدركه جيش مكثف بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي ، قد عهد إليه ابن مرجانة أن يجوب في صحراء الجزيرة للتفتيش عن الاِمام ، وإلقاء القبض عليه ، وكان عدد ذلك الجيش فيما يقول المؤرّخون زهاء ألف فارس ، ووقفوا قبال الاِمام في وقت الظهر ، وقد أشرفوا على الهلاك من شدّة الظمأ ، فرقّ عليهم الاِمام ، فأمر أصحابه أن يسقوهم الماء ، ويرشفوا خيولهم ، وسارع أصحابه فسقوا الجيش المعادي لهم عن آخره ، ثم انعطفوا إلى الخيل فجعلوا يملاَون القصاص والطساس فإذا عبّ الفرس فيها ثلاثاً ، أو أربعاً ، أو خمساً ، عزلت ، وسقى الآخر حتى سقوها عن آخرها.
____________
(1) ذو حسم: ـ بضم الحاء وفتح السين ـ جبل هناك.
( 160 )

لقد تكرّم الاِمام ( عليه السلام ) على أُولئك الوحوش الانذال الذين جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل ، ولم تهزّهم هذه الاَريحية وهذا النبل ، فقابلوه بالعكس ، فمنعوا الماء عنه ، وعن أطفاله حتى تفتّت قلوبهم من الظمأ.

خطاب الاِمام في الجيش:
وخطب الاِمام ( عليه السلام ) خطاباً بليغاً في قطعات ذلك الجيش ، فأوضح لهم أنّه لم يأتهم محارباً ، وانّما جاءهم محرراً ومنقذاً لهم من جور الاَمويين وظلمهم ، وقد توافدت عليه وفودهم وكتبهم تحثّه بالقدوم لمصرهم ليقيم دولة القرآن والاِسلام ، وهذه فقرات من خطابه الشريف:
« أيّها الناس ، انّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ ، وإليكم ، إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت بها عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فانّه ليس لنا إمام ، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم ، وان كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.. ».
وأحجموا عن الجواب لاَن أكثرهم ممن كاتبوه وبايعوه على يد سفيره العظيم مسلم بن عقيل.
وحضر وقت صلاة الظهر فأمر الاِمام مؤذّنه الحجاج بن مسروق أن يؤذّن ويقيم للصلاة ، وبعد فراغه منها التفت الامام إلى الحرّ فقال له:
« أتريد أن تصلّي بأصحابك؟.. ».
فقال الحرّ بأدب:


( 161 )

« بلى نصلّي بصلاتك.. ».
وائتمّ الجيش بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعد الفراغ من الصلاة انصرفوا إلى اخبيتهم ، ولما حضر وقت صلاة العصر جاء الحرّ مع قومه فاقتدوا بالامام في الصلاة وبعد الانتهاء منها خطب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) خطاباً رائعاً ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:
« أيّها الناس: إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحق لاَهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الاَمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فان أنتم كرهتمونا ، وجهلتم حقّنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم... ».
لقد دعاهم إلى تقوى الله ، ومعرفة أهل الحقّ ، ودعاة العدل فان في ذلك رضاً لله ونجاة لاَنفسهم ، كما دعاهم إلى مناصرة أهل البيت عليهم السلام روّاد الشرف والفضيلة ، ودعاة العدل الاجتماعي في الاِسلام ، وهم أولى وأحقّ بولاية أمور المسلمين من بني أميّة الذين حكموا فيهم بغير ما أنزل الله ، وإذا لم يستجيبوا لذلك ، وتبدّلت نيّاتهم فانّه ينصرف عنهم إلى المكان الذي جاء منه.
وانبرى إليه الحرّ ، وكان لا يعلم بشأن الكتب التي بعثتها جماهير أهل الكوفة إلى الاِمام فقال له:
« ما هذه الكتب التي تذكرها؟.. ».
فأمر الاِمام عقبة بن سمعان بإحضارها فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين يدي الحرّ ، فبهر منها ، وجعل يتأمّل فيها ، وقال للاِمام:
« لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك... ».


( 162 )

ورام الاِمام أن ينصرف إلى المكان الذي جاء منه فمنعه الحرّ ، وقال له:
« أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد.. ».
ولذعت الامام هذه الكلمات القاسية ، فثار في وجه الحرّ ، وصاح به « الموت أدنى إليك من ذلك.. ».
وأمر الاِمام أصحابه بالركوب فلمّا استووا على رواحلهم أمرهم بالتوجه إلى يثرب فحال الحرّ بينهم وبين ذلك ، فصاح به الحسين:
« ثكلتك أمّك ما تريد منّا؟.. ».
واطرق الحرّ برأسه إلى الاَرض ، وتأمّل ، ثم رفع رأسه إلى الامام وقال له بأدب:
« ولكن والله ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه.. ».
وسكن غضب الامام ، وأعاد عليه القول:
« ما تريد منّا..؟ »
« أريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد.. ».
« والله لا أتبعك.. ».
« إذن والله لا أدعك.. ».
وكاد الوضع أن ينفجر باندلاع الحرب إلاّ أن الحر ثاب إلى رشده ، فقال للاِمام:
« إنّي لم أُؤمر بقتالك ، وانّما أُمرت أن لا افارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يردّك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد ، فلعلّ الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بأمرك ».


( 163 )

واتفقا على هذا الاَمر فتياسر الاِمام عن طريق العذيب والقادسية ، وأخذت قافلة الاِمام تطوي البيداء ، وكان الحرّ مع جيشه يتابع الامام عن كثب ويراقبه كأشدّ ما تكون المراقبة.

خطاب الإمام:
وانتهى موكب الاِمام إلى (البيضة) فألقى الاِمام خطاباً رائعاً على الحرّ وأصحابه أعلن فيه عن دوافع ثورته ودعاهم إلى مناصرته ، وكان من بنود هذا الخطاب هذه الفقرات:
« أيّها الناس: إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله »..
« إلاّ أن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ ممن غيّر ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم انّكم لا تسلموني ، ولا تخذلوني ، فان أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ، وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، ولكن فيَّ أسوة ، وإن لم تفعلوا ، ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي ، فلعمري ما هي لكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي ، وابن عمّي مسلم فالمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم.. ».
وأعلن أبو الاَحرار في هذا الخطاب الرائع دوافع ثورته المقدّسة على


( 164 )

حكومة يزيد ، وانّها لم تكن من أجل المطامع والاَغراض الشخصية الخاصة ، وانّما كانت استجابة للواجب الديني الذي لا يقرّ بأيّ حال من الاَحوال حكومة السلطان الجائر الذي يستحلّ حرمات الله ، وينكث عهده ، ويخالف سنّة رسوله ، وإن من لم يندفع إلى ساحات الجهاد لمناهضته فانّه يكون شريكاً له في ظلمه وجوره ، كما ندّد ( عليه السلام ) بالاَمويين وقد نعتهم بأنّهم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، واستأثروا بالفيء ، وعطّلوا حدود الله ، والاِمام ( عليه السلام ) أحقّ وأولى من غيره بتغيير الاَوضاع الراهنة وإعادة الحياة الاِسلامية المشرقة إلى مجراها الطبيعي بين المسلمين ، وأعرب لهم أنّه إذا تقلّد شؤون الحكم فسيجعل نفسه مع أنفسهم ، وأهله مع أهليهم من دون أن يكون له أي امتياز عليهم ، وقد وضع الاِمام بهذا الخطاب النقاط على الحروف ، وفتح لهم منافذ النور لو كانوا يبصرون ، ولما أنهى الاِمام خطابه قام إليه الحرّ فقال له:
« أنّي أذكرك الله في نفسك ، فانّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ... ».
وردّ عليه أبو الشهداء قائلاً:
« أبالموت تخوّفني ، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وما أدري ما أقول لك ، ولكنّي أقول: كما قال أخو الاَوس لابن عمّه ، وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أين تذهب ، فانّك مقتول ، فقال له:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى*إذا ما نوى خيراً وجاهد مسلماً
ووآس الرجـال الصالحيـن بنفسـه*وخالف مثبوراً وفارق مجرما
فان عشت لـم أندم وان متّ لم أُلـم*كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما


( 165 )

ولما سمع الحرّ ذلك تنحّى عنه ، وعرف أنّه مصمّم على الموت والتضحية لاِنقاذ المسلمين من ويلات الاَمويين وجورهم:

رسالة ابن مرجانة إلى الحرّ:
وتابعت قافلة الاِمام سيرها في البيداء ، وهي تارة تتيامن ، وأخرى تتياسر وجنود الحرّ يذودون الركب عن البادية ، ويدفعونه تجاه الكوفة ، والركب يمتنع عليهم ، وبينما هم كذلك ، وإذا براكب يجدّ في سيره ، فلبثوا هنيئة ينتظرونه فإذا به رسول من ابن زياد إلى الحرّ ، فسلّم الخبيث على الحرّ ، ولم يسلّم على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وناول الحرّ رسالة من ابن مرجانة جاء فيها:
« أمّا بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ، ويقدم عليك رسولي ، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن ، ولا على غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.. ».
وأعرض ابن مرجانة عما عهد به إلى الحر من إلقاء القبض على الاِمام ، وإرساله مخفوراً إلى الكوفة ، ومن المحتمل أنّه خاف من تطوّر الاَحداث ، وانقلاب الاَوضاع إليه ان وصل الاِمام إلى الكوفة ، فرأى التحجير في الصحراء بعيداً عن المدن أولى بالوصول إلى أهدافه.
وقرأ الحرّ كتاب ابن مرجانة على الاِمام ، وكان يريد أن يستأنف سيره ليحطّ رحله صوب قرية أو ماء ، فامتنع عليه الحرّ لاَنّ نظرات الرقيب الوافد من ابن زياد كانت تتابعه ، وكان يسجّل عليه كل بادرة يخالف أوامر سيّده ابن مرجانة ، وأشار زهير بن القين وهو من أعلام أنصار الاِمام ومن خلّص أصحابه عليه أن يبادر إلى قتال الحرّ ، فامتنع عليه الاِمام ، وقال ما كنت أبدأهم بقتال.