يوم عاشوراء

وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الاَحزان.

دعاء الامام:
وخرج أبو الاَحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لاِراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الاَجر الزهيد من الاِرهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الاِمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً:
« اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وكفيته ،


( 185 )

فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة.. »(1).
لقد أناب الاِمام إلى الله ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به.

خطبة الاِمام:
ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة ، فدعا براحلته فركبها ، واتجه نحوهم ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج ، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:
« أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فان قبلتم عذري ، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون ، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.. ».
وحمل الاَثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العباس ، وابنه عليّاً ، وقال لهما:
سكّتاهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ ، ولما سكتن استرسل في خطابه
____________
(1) تأريخ ابن عساكر 13: 14.
( 186 )

فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وعلى الملائكة والاَنبياء ، وقال في ذلك: ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ، ولا بعده أبلغ منه في منطقه(1).
وكان مما قاله:
« أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتنته ، فلا تغرنّكم هذه الدنيا ، فانها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ».
لقد وعظ الاِمام ( عليه السلام ) أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الاَنبياء ومحنتهم في أممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته ، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الاَليم ، والسخط الدائم ، ثم استرسل الاِمام الممتحن في خطابه فقال:
« أيّها الناس: انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم ، وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي ، وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأول المؤمنين بالله ، والمصدق
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 242.
( 187 )

لرسوله ، بما جاء من عند ربّه ، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الطيّار عمّي ، أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي « هذان سيّدا شباب أهل الجنّة » فان صدّقتموني بما أقول: وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم ، سلوا جابر بن عبدالله الاَنصاري ، وابا سعيد الخدري ، وسهل ابن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولاَخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، .. ».
وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الاِمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه ، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الاَموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله.
وتصدّى لجواب الاِمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له:
« هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.. ».
وحقاً انه لم يع ما يقول الاِمام فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له:
« والله انّي لاَراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.. ».


( 188 )

والتفت الاِمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم:
« فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ، ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة.. ».
وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثم التفت الاِمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم:
« يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الاَشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار ، وأخضر الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة... ».
وأنكر أُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للاِمام ، فقالوا له « لم نفعل ذلك.. ».
وبهر الاِمام من ذلك وراح يقول:
« سبحان الله!! بلى والله لقد فعلتم.. ».
وأعرض الاِمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً:
« أيّها الناس: إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الاَرض.. ».
وتصدّى لجوابه قيس بن الاَشعث وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له:
« أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فانّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه.. ».
فردّ عليه الاِمام قائلاً:


( 189 )

« أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.. »(1).
ومثلت هذه الكلمات عزّة الاَحرار وشرف الاَباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام.
وتكلّم أصحاب الاِمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الامويين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة ، وقتالهم لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .

خطاب آخر للامام الحسين:
وانبرى سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الاَموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالاَمر ، فانطلق ( عليه السلام ) نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الاَنبياء والاَوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال:
« تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ(2) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُمْ(3)
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 43.
(2) موجفين: أي مسرعين إليكم.
(3) حششتم: أي أوقدتم النار.

( 190 )

عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(1) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ.
مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ(2) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا(3) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ(4).
فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الاَُْمَّةِ ، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ.
أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ؟!
أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ(5) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ(6) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ.
أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ(7) وَالذِّلَةِ ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ: مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ.
____________
(1) إلبا: أي قوة لاَعدائكم ، وذلك باجتماعهم.
(2) مشيم: أي السيف في غمده لا يسل.
(3) الدبا: بفتح الدال ، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير.
(4) الفراش: جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها.
(5) وشجت: أي التفت عليه أصولكم.
(6) تأزرت: أي نبتت عليه فروعكم.
(7) السلة: بكسر السين استلال السيوف.

( 191 )

أَلا وَإِنّى زاحِفٌ بِهذِهِ الاَُْسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النّاصِرِ ».
ثُمَّ أَوْصَلَ كَلامَهُ ( عليه السلام ) بِأَبْياتِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكِ الْمُرادي:

« فَـإِنْ نَهْـزِمْ فَهَزّامُونَ قِدْماً*وَإِنْ نُغْلَـبْ فَغَيْـرُ مُغَلِّبيـنا
وَمــا إِنْ طِبُّنا جُبْـنٌ وَلكِنْ*مَنايانــــا وَدَوْلَة آخَرينا
إِذا مَا الْمَوْتُ رَفَّعَ عَـنْ أُناسٍ*كَلاكِلَـــهُ أَنـاخَ بِآخِرينا
فَأَفْنى ذلِكُـمْ سَـرَواتِ قَوْمي*كَما أَفْنـى الْقُـرُون الاََْوَّلينا
فَلَـوْ خِلْـدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنا*وَلَوْ بَقِـيَ الْكِـرامُ إِذاً بَقينا
فَقُـلْ لِلشّامِتيــنَ بِنا: أَفيقُوا*سَيَلْقىَ الشّامِتُونَ كَما لَقينا »

ثُمَّ قالَ: « أَيْمُ وَاللهِ لا تَلْبَثُونَ بَعْدَها إِلاّ كَرَيْثِ ما يُرْكَبُ الْفَرَسُ حَتّى يَدُورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحى وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْوَرِ ، عَهْدٌ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبي عَنْ جَدّي ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ ، ثُمَّ اقُضوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ.
إِنّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتها ، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ.
أَللّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّماءِ ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلامَ ثَقيفٍ يَسُومُهُمْ كَأْساً مُصْبَرَةً ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونا وَخَذَلُونا ، وَأَنْتَ رَبُّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ ».
ومثلّ هذا الخطاب الثوري صلابة الاِمام ، وقوّة عزيمته ، وشدّة بأسه ، فقد استهان بأولئك الاَقزام الذين هبّوا إليه يستنجدون به ، ويستغيثون لينقذهم من جور الامويين وظلمهم ، فلما أقبل إليهم انقلبوا عليه رأساً على


( 192 )

عقب ، فسلّوا عليه سيوفهم وشهروا عليه رماحهم تقرّباً للطغاة والظالمين لهم ، والمستبدّين بشؤونهم في حين أنّه لم يبدو من أولئك الحكام أية بارقة من العدل فيهم ، كما أعلن الاِمام عن رفضه الكامل لدعوة ابن مرجانة من الاستسلام له ، فقد أراد له الذلّ والهوان ، وهيهات أن يرضخ لذلك وهو سبط الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والممثّل الاَعلى للكرامة الاِنسانية ، فقد صمّم على الحرب بأسرته التي مثّلت البطولات ليحفظ بذلك كرامته ، وكرامة الاَمة.
وقد أخبرهم الاِمام عن مصيرهم بعد قتلهم له أنّهم لا ينعمون بالحياة ، وان الله يسلّط عليهم من يسقيهم كأساً مصبرة ، ويجرعهم الغصص وينزل بهم العذاب الاَليم ، وقد تحقّق ذلك فلم يمض قليل من الوقت بعد اقترافهم لقتل الاِمام حتى ثار عليهم البطل العظيم ، والثائر المجاهد ، ناصر الاِسلام الزعيم الكبير المختار بن يوسف الثقفي فقد ملاَ قلوبهم رعباً وفزعاً ، ونكّل بهم تنكيلاً فظيعاً ، وأخذت شرطته تلاحقهم في كل مكان فمن ظفرت به قتلته أشرّ قتلة ، ولم يفلت منهم إلاّ القليل.
وقد وجم جيش ابن سعد بعد هذا الخطاب التأريخي الخالد ، وودّ الكثيرون منهم أن تسيخ بهم الاَرض.

استجابة الحرّ:
واستيقظ ضمير الحرّ ، وثابت نفسه إلى الحقّ بعدما سمع خطاب الاِمام ، وجعل يتأمّل ، ويفكّر في تلك اللحظات الحاسمة من حياته فهل يلتحق بالحسين ، ويحفظ بذلك آخرته ، وينقذ نفسه من عذاب الله وسخطه ، أو أنّه يبقى على منصبه كقائد فرقة في الجيش الاَموي ، وينعم بصلات ابن مرجانة ، واختار الحرّ نداء ضميره الحيّ ، وتغلّب على هواه ،


( 193 )

فصمم على الالتحاق بالاِمام الحسين ( عليه السلام ) وقبل أن يتوجّه إليه أسرع نحو ابن سعد القائد العام للقوات المسلّحة فقال له:
« أمقاتل هذا الرجل ، .. ».
ولم يلتفت ابن سعد إلى انقلاب الحرّ فقد أسرع قائلاً بلا تردّد:
« أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الاَيدي.. ».
لقد أعلن ذلك أمام قادة الفرق ليظهر إخلاصه لابن مرجانة ، فقال له الحرّ:
« أفمالكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضا.. ».
واندفع ابن سعد قائلاً:
« لو كان الاَمر لي لفعلت ، ولكن أميرك أبى ذلك.. ».
ولما أيقن الحرّ أن القوم مصمّمون على حرب الاِمام عزم على الالتحاق بمعسكر الاِمام ، وقد سرت الرعدة بأوصاله ، فأنكر عليه ذلك زميله المهاجر ابن أوس فقال له:
« والله إن أمرك لمريب ، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، .. ».
وأعرب له الحرّ عمّا صمّم عليه قائلاً:
« إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، ولا اختار على الجنّة شيئاً ولو قطعت وأحرقت .. ».
وألوى بعنان فرسه نحو الاِمام(1) وكان مطرقاً برأسه إلى الاَرض حياءً وندماً على ما صدر منه تجاه الاِمام ، ولما دنا منه رفع صوته ودموعه تتبلور
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 244.
( 194 )

على خدّيه قائلاً:
« اللهمّ إليك أُنيب ، فقد أرعبت قلوب أوليائك ، وأولاد نبيّك ، يا أباعبدالله إنّي تائب فهل لي من توبة.. ».
ونزل عن فرسه ، وأقبل يتضرّع ويتوسّل إلى الاِمام ليمنحه التوبة قائلاً:
« جعلني الله فداك يا بن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وجعجعت بك في هذا المكان ، ووالله الذي لا آله إلاّ هو ، ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً ، فقلت في نفسي: لا أُبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم ، وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلون منك ما ركبتها منك ، وانّي قد جئتك تائباً مما كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك أفترى لي توبة ، .. ».
واستبشر به الاِمام ، ومنحه الرضا والعفو ، وقال له:
« نعم يتوب الله عليك ويغفر.. »(1).
وملاَ الفرح قلب الحرّ حينما فاز برضاء ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واستأذنه أن ينصح أهل الكوفة لعلّ بعضهم أن يرجع إلى الحقّ ، ويتوب إلى الرشاد ، فأذن له الاِمام في ذلك ، فانبرى الحرّ إليهم رافعاً صوته:
« يا أهل الكوفة لاَمكم الهبل(2) والعبر(3) أدعوتموه حتى إذا أتاكم
____________
(1) الكامل 2: 288.
(2) الهبل: الثكل.
(3) العبر: البكاء وجريان الدمع.

( 195 )

اسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه ، وأحطتم به ، ومنعتموه من التوجه إلى بلاد الله العريضة ، حتى يأمن ، ويأمن أهل بيته ، فأصبح كالاَسير ، لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا يدفع عنها ضرّاً ، ومنعتموه ومن معه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه ، وها هو وأهله قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) في ذريّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا ، وتفزعوا عمّا أنتم عليه... »(1).
وودّ الكثير منهم أن تسيخ بهم الاَرض ، فهم على يقين بضلالة حربهم إلاّ أنّهم استجابوا لرغباتهم النفسية في حبّ البقاء ، وتوقح بعضهم فرموا الحرّ بالنبل وكان ذلك ما يملكونه من حجّة في الميدان.
____________
(1) الكامل 3 : 229 .

* * * * *