الدكتور نوري جعفر

عَليٌّ وَمُناوِئُوه

قدم له

الاستاذ عبد الهادي مسعود

بوزارة الثقافة والارشاد القومي
ومدير الفهارس العامة بدار الكتب المصرية

راجعه وعلق عليه

السيد مرتضى الرضوي

مؤلف كتاب مع رجال الفكر في القاهرة

مطبوعات النجاح بالقاهرة



( 2 )



( 3 )

بسم الله الرحمن الرحيم

واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
قرآن كريم


( 4 )

كلمة مجلة المسلم وجريدة المساء القاهرية

حول كتاب : « علي ومنائوه »

في رحلتي الى القاهرة عام 1394 هـ موافق 1974 م لنشر كتابي « مع رجال الفكر في القاهرة » كنت قد راجعت كتاب : « علي ومناوئوه » للدكتور نوري جعفر وعلقت عليه في الهامش بعض التعاليق التي كان يجب التنبيه عليها والاشارة اليها وكنت اهملتها في الطبعة الثانية لضيق الوقت آنذاك وهذه الطبعة هي الطبعة الثالثة كما تجدها كاملة والحمد لله .
وقد نشرت مجلة المسلم الغراء في عددها الرابع في السنة الخامسة والعشرين الصادر في ذي القعدة عام 1394 هـ الكلمة التالية :
علي ومناوئوه :
اصدر السيد الرضوي في سلسلة مطبوعات النجاح بالقاهرة كتاب : « علي ومناوئوه » للدكتور نوري جعفر بتقديم الاستاذ عبد الهادي مسعود وبتعليق السيد مرتضى الرضوي ، وهو حديث مفصل عن الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية بتحقيق حديث في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير ، وطباعة فيها عناية واضحة ، واهتمام بالغ .
وقد نشرة جريدة المساء القاهرية في عددها الصادر يوم السبت 28 ديسمبر عام 1974 م الكلمة التالية :
مكتبة النجاح في طهران اصدرت بحثا تاريخيا عن الامام علي ـ رضي الله تعالى عنه في تعليق السيد مرتضى الرضوي وتقديم العالم الاسلامي المصري عبد الهادي مسعود .
الكتاب في مائتي صفحة ويتناول تاريخ صدور الاسلام ، وما كان بين رجال الشورى واهل الحل والعقد بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرض لنا المؤلف خاصة ما دار من حروب بين علي ومعاوية وبين اهل العراق واهل الشام وما كان من مقتل علي وتولي معاوية للخلافة من بعده فانتقل نظام الحكم في الاسلام من الشورى والاجماع الى حكم السيف والقوة ، والاستبداد .
مرتضى الحاج سيد محمد الرضوي


( 5 )

بسم الله الرحمن الرحيم


لقد كان من واجبي ان اعترف على نفسي بالتقصير او القصور ، اذ كتبت ترجمات عديدة عن شخصيات اوربية او اجنبية ولم اتمكن من الكتابة عن عظماء التاريخ الاسلامي ، وعلى رأس هؤلاء الامام علي عليه السلام .
ولم يكن بد ـ كما يحدث غالبا ـ ان القي بظلال هذا العتاب على الظروف والملابسات التي مرت ولاتزال تمر بي لأدفع عن نفسي هذا القصور والتقصير امام جمهور احبه كل الحب ـ بل احبه الى حد العشق ـ وهو جمهور القارئين في الاقطار العربية والاسلامية الشقيقية .
وتقدم الى الاستاذ مرتضى الرضوي لاكتب مقدمة لكتاب الدكتور نوري جعفر : « علي ومناوئوه » ، وكان ذلك في منتصف شهر شعبان 1394 هـ الموافق اواخر الشهر الثامن اغسطس 1974 م ، فقلت مالنا ومناوئيه ولست منهم ولاشك ايها القارىء الكريم ، كما وانني لست منهم على التحقيق ، ولقد اقبل الموسم القضائي ـ ايها الصديق المرتضى ـ ولنا فيه معارك على ساحة مجلس الدولة ، مما قد يشغلنا عن كثير مما يتوجب بذل الجهد والوقت فيه من قضايا الفكر والعقيدة والايمان .
كنت اتوق الى الكتابة عن الامام عاي بن ابي طالب ـ منذ امد بعيد ـ وهو اول فتى في الاسلام وفارس فرسانه ، وكنت ولازلت اتوق لان تكون الكتابة عنه تمهيدا لي وتمهيدا للقراء ان اكتب عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .


( 6 )

والكتابة عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب كتابة عن الايمان وكتابة عن الحكم الاسلامي في ظل الايمان ، وكتابة عن الاسلامية الصحيحة ، ودفاع عن المسلمين على مر العصور ، من حضر منهم في عهد علي عليه السلام ، ومن حضر بعده او قبله ، منذ نزلت الرسالة على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كان عليّ ان انتظر سانح فرصة .. لأسجل بعض ما خطر في ذهني عن هذا الرجل العظيم .
وكان علي بن ابي طالب عليه السلام كما ورد في « الاصابة » : قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والاقدام فهل كانت شهرته قاصرة على هذا المجال فحسب ؟ !
لقد اجمع الرواة ـ وترى ذلك متواترا طبقة عن طبقة ـ أن علي بن ابي طالب هو اول فتى دخل في الاسلام ، وسارت الركبان بهذا الحديث يسوقونه على انه ميزة لعلي ، بمعنى انه لم يعش الجاهلية ، وانما يكاد يكون مسلما ـ منذ ادرك ـ فهل كانت هذه هي ميزته فحست ؟ !
كان علي ابن عم الرسول الاعظم ومتبناه .
وكان علي اخا لرسول الله والرسول اخوه ـ كما يروي الرواة الثقات ـ نقلا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ، حيثما كان يتحدث عن ابن عمه علي .
وكان بمنزلة هارون من موسى ، غير انه لم يكن ثمة نبي بعد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان هو وزير النبي وخليفته من بعده (1) .
____________
(1) انظر المستدرك على الصحيحين 3 / 109 ، مسند الامام احمد 4 / 281 ، الطبعة الاولى ـ خصائص الامام علي للحافظ النسائي ص 21 طبعة مصر ـ تفسير الفخر الرازي 13 / 48 ـ 49 ، اسباب النزول للواحدي 135 طبعة مؤسسة الحلبي ـ حياة محمد للأستاذ محمد حسين هيكل الطبعة الاولى ص 104 ـ جريدة السياسة المصرية ملحق عدد 2751 .
( 7 )

وتلك نصوص قاطعة عن الرسول ، قاطعة الدلالة على امامة علي ، فهل تكفي هذه الاشارات اللامحة للكشف عن احقيته في الامامة عليه الاسلام ؟ !
قال ابن مسعود في شأن الامام : « كنا نتحدث عن ان افضل اهل المدينة هو علي » .
بل ان عمر نفسه كان يتعوذ من معضلة ليس لها ابو الحسن ، وكان يقول : « لولا علي لهلك عمر » .
وهناك جوانب اخرى عديدة يجب ان نجليها لانفسنا وللعالم كله على السواء ...
لقد نقض بعض الذين بايعوا عليا ، ونقضوا ما عقدوا عليه العزم وكانت الحروب بين المسلمين ان انتهى صراعها بانتصار الاقوياء ، ولم تنته المعارك بانتصار الحق ، اذ لو انتصر الحق لكان علي ـ عليه السلام ـ هو الحقيقة المجسدة ، وكان نصره فوق كيد الكائدين ، وقوة المال والسلاح ، وسطوة البغي والغرض ، والدهاء والاغراء .
ولأمر ما اراد الله ان تدخل دولة المسلمين في محنة كبرى ، ولما تستقر اصول الاسلام في نفوس الناس ، ولاسرت روحه في دمائهم على الوجه الذي كنا نظنه في اول دراسة لنا لقضية صدر الاسلام ، ومن المعلوم الذي يجب ان يكون بديهة في نفوس الباحثين ان نعلم ان الاسلام هو صحوة المستقبل للعالم كله ، ولم يكن ـ كما كنا نتخيل احيانا ـ دعوة الزمن الذي ظهر فيه وحده ... لان اطاره المكاني هو العالم كله ، والاطار الذي يتحرك من خلاله ـ من حيث الازمنة والعصور ـ هو كل الازمنة وكل العصور ، منذ ظهر الرسول ـ صلوات الله عليه ـ حتى يرث الله الارض ومن عليها .
ولقد علمنا من الصراع بين علي عليه السلام وبين معاوية ان السلطة قد انتقلت الى معاوية بن ابي سفيان بن حرب ... وامه هند آكلة الاكباد .. التي نهشت جسد عم الرسول حمزة عليه السلام ، وفلقت رأسه .. واكلت كبده .. شفاء لحقدها على الرسالة واهلها ـ حينذاك ـ واستبد معاوية بالناس ، واحال


( 8 )

الخلافة ملكا عضوضا ، واستحصل من الناس ـ جبرا وقسرا ـ على عهد لابنه « يزيد » .. ونحن نعلم من هو « يزيد » وما كان عجبا ان يكون هو « يزيد » لانه وارث القسوة والفجر ، ومستمد الفساد من شجرة الفساد .. والعرق دساس ... ونحن لانجري الابحاث ـ مع الاسف الشديد ـ عن شجرة الرجال ، واصول الرجال .
لقد عمل اليهود ـ من خلال كل الجهود ـ على تدمير علم الانساب لتختلط العائلات ويمكن من خلال هذا الاختلاط ان يندس في وسط كل قطر من اقطار الاسلام طبقة من اليهود يدعون الاسلام ليفسدوا فيه ، وكانوا يناصرون كل من يدعو للفتنة .
ولكن بنية الاسلام القوية رغم كل ما مر بها لم تتوقف عن النماء ولم يزعزع عقيدة الاسلام ما مارسه بنو امية من طغيان .
ولقد احاط المفسدون بحكام الدولة الاسلامية ليحولوا بينهم وبين كل اصلاح ... محاولين ايقاع الفتنة في دولة المسلمين .
لقد قيل : ان بناء الجماعة تصدع على عهد علي ، ومن قبله كان الثائرون يحاصرون بيت عثمان ، فهل قرر هذا او ذاك : مصير الاسلام والقرآن ؟ !
ان هذا الدين الخالد مر بهذه المحنة وبغيرها من المحن وخرج منها اقوى مما كان من قبلها . ذلك ان بنية العقيدة اقوى من ان تحطمها الرضوض والآلام .
اكلت الحروب بين علي وخصومه عددا كبيرا من المسلمين ولم يكن متوقعا ان يحدث ذلك على وجه من الوجوه ، الا ان اتساع الملك والسلطان كان يقتضي ذلك ، وكان يقتضي غيره من الوان الصراع ... وكانت هذه المحن ـ في رأيي ـ هي درجة الغليان التي احاطت بالدين الجديد فحفظت الشعب ان ينهار امام الحضارات المجاورة ، وامام الفتوحات الوسيعة المدى ، بما تحتويه من افكار جديدة ، واتجاهات متعددة مختلفة الالوان والاحجام .


( 9 )

ان علينا ان ندرس كل اولئك حين ندرس شخصية هذا البطل العظيم في تاريخ الاسلام علي بن ابي طالب عليه السلام .
وعلينا ان نعلم : ان انفصام عرى الوحدة بين المسلمين ، وتفرقهم في الآراء والمذاهب والاحزاب ؛ كل ينصر رأيه بالقول وبالعمل على رأي خصمه ، وكل يصارع في سبيل عقيدته هذه او تلك بالفكرة حينا وبالسلوك احيانا ، وعلينا ان ندرك ان هذا كله وغيره ليس الا دلائل صحة ، لا دلائل وهن او هزيمة ، وان الصراع دائما يدل على اليقظة لا على الموت ، ما دام لا يفضي الى انشقاق في صفوف الامة ، او مواجهة عدائية بين الطوائف .
وقد اكتمل الدين حينما اكتمل نزول القرآن ، ولقد كان الاسلام على عهد الرسول دعوة وفكرة ـ اكثر منه دولة وسلطانا ، واذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اقام دولة على اساس من التشريع القرآني ، فقد كانت دولة صغيرة الحدود على اية حال ، ولكنها كانت نوية قوية ، قابلة دائما على النمو والازدهار ، وبقي ان تكتمل الدولة بعد ذلك فتوسع من آفاقها وتنشر من سلطانها على هذه الاسس السليمة ، كانت نواة في مثل صلابة « الجرانيت » يحمل لواءها نفر من المؤمنين الاتقياء لا يبالون اين يكون الموت ، اذ هو ـ عندهم ـ دور من ادوار الحياة ، ومرحلة من مراحل الوجود ، فهم لا يخشون شيئا ولا احدا ولا دولة من الدول ، ولاحكومة من الحكومات ، وانما يذيعون نظريتهم في مجال الفكر وفي مجال التطبيق على السواء ، وقد بدأ صفوة المسلمين ـ وعلى رأسهم ـ علي عليه السلام يتوقون الى بناء الدولة الوليدة ، على اساس من النظرية والعقيدة ، واختلفت الآراء بين الصفوة وبين عامة من المسلمين ، ممن لم تتدخل العقيدة في مسرى دمائهم ...
كانت الدولة وليدة في المهد ، وقد تعرض والوليد لكل ما يتعرض له الوليد من محن تكبر في عينه هو ، وان صغرت في عين الزمن ، الذي اثبت دائما ان البقاء للاصلح ، وان الخلود للايمان .


(10)

مرت دولة المسلمين في محنة كبرى فآذت المحنة دولتهم ، ولم تنل من دينهم ، وللنشأة الجديدة ثورات وحركات وصراعات ، سنرى جوانب منها حين ندرس الامام ، وما احاط به ، وبالمسلمين من حوادث ، واحداث ...
وسنرى جوانب منها حين نطالع صفحات هذا الكتاب .

عبد الهادي مسعود

القاهرة في
18 شعبان 1314هـ
5 سبتمبر 1974 م



( 11 )

مقدمة المؤلف

خالجتني فكرة البحث في هذا الموضوع منذ زمن بعيد ، غير ان امورا كثيرة قد حالت ـ مع الاسف الشديد ـ بيني وبين اخراجها الى حيز الوجود ، وعند ما قررت الحكومة العراقية اعفائي عن الخدمة ـ بالشكل المعروف ـ ساورني الم وامتعاض شديدان ، فطفت ابحث عن وسائل تعينني على التعبير عن ذلك الالم وهذا الامتعاض ، وما هذه الدراسة في جوهرها الا احد الجوانب الايجابية لذلك التعبير ، وقد شجعني على ذلك عامل اشار اليه ابو جعفر ابن ابي زيد نقيب البصرة قبل زهاء سبعمائة عام ذكره ابن ابي الحديد حين قال : « قلت لابي جعفر النقيب ما سبب حب الناس لعلي .. دعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ؟ ... فضحك وقال ... ان اكثر الناس موتورون في الدنيا . اما المستحقون فلا ريب في ان اكثرهم محرومون ! نحو عالم يرى ان لاحظ له في الدنيا ، ويرى جاهلا غيره مرزوقا وموسعا عليه ، وشجاع قد ابلى في الحرب .. وليس له عطاء يكفيه .. ويرى غيره ـ وهو جبان ـ مالكا لقطر عظيم .. وعاقل سديد التدبير قد قدر عليه رزقه ، وهو يرى غيره احمق مائقا تدر عليه الخيرات .
فاذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم ان عليا كان مستحقا محروما ، بل هو امير المستحقين المحرومين .
ومعلوم ان الذين ينالهم الضيم يتعصب بعضهم لبعض .. وعلي رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل .. وهو مع ذلك محروم محدود قد جرعته الدنيا علاقمها .. وعلا عليه من هو دونه .. ثم كان في آخر الامر ان قتل هذا الرجل الجليل في محرابه ، وقتل بنوه وسبي حريمه ونساؤه ، وتتبع اهله وبنوه بالقتل والطرد والتشريد والسجون ، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم وانتفاع الخلق بهم » (1) .
____________
(1) يدنف : اي يجهز عليه بالقال .
( 12 )

طفقت اذن ابحث في هذا الموضوع المعقد الشائك ، وقد انار امامي سبيل البحث كبار المؤرخين المسلمين من حيث تدوين الوقائع التاريخية ، كما انار سبيلي كذلك ـ من حيث تحليل تلك الحوادث وتفسيرها ـ فريق من الكتاب المصريين المحدثين ، فانقسمت هذه الدراسة من حيث وحدة موضوعها الى ثلاثة اقسام :
بحثت في القسم الاول منها : قصة الخلافة بثلاثة فصول ، تطرقت في الفصل الاول الى مسألة الوصية ، وفي الفصل الثاني الى حديث السقيفة الذي بدأ ـ على ما ارى ـ والرسول مسجى على فراش الموت ، وانتهى بمقتل عثمان ، لا بخلافة ابي بكر كما هو معروف ، وبحثت في الفصل الثالث خلافة الامام .
اما القسم الثاني من الكتاب فيتضمن البحث فيما سميته « قميص عثمان » ـ ويقع في ثلاثة فصول ايضا ، تطرقت في الفصل الاول منها الى حركة الناكثين ـ اصحاب الجمل .
وفي الفصل الثاني الى تمرد القاسطين : اصحاب صفين .
وفي الفصل الثالث الى مسألة التحكيم وخروج المارقين ومصرع الامام .
لقد ساقني البحث ـ في معرض التحدث عن قميص عثمان ـ الى الاعتقاد بأن الصراع بين علي ومناوئيه ما وهو في جوهره الا صراع بين فلسفتين : فلسفة خلقية مثلي ـ تستمد اصولها من القرآن وسنة الرسول ـ سار عليها الامام في حكمه ، وفلسفة ملتوية غادرة ـ تستمد مقوماتها من حياة العرب في جاهليتهم ـ انغمس فيها مناوئوه الى الاذقان . ولعل الصراع بين علي ومناوئيه يعيد الى الذاكرة قصة الصراع الذي حدث بين النبي وكفار قريش تحت زعامة الامويين . واذا كان النصر قد كتب للنبي في نزاعه مع مناوئيه لاعتصامهم بالاوثان فان النصر لم يكن في متناول الامام لتقمص مناوئيه (1) رداء الاسلام .
____________
(1) معاوية ومن هم على شاكلته ، ومن المحزن حقا ان يتخذ بعض الناس من هؤلاء ابطالا يدرسون سيرتهم للناشئة في الوقت الذي يريدون من تلك الناشئة ان تتحلى بمكارم الاخلاق التي جاء بها الدين الحنيف ، فالاستقامة التي يدعو اليها الدين ، والغدر الذي سار عليه معاوية ضدان لايجتمعان .
( 13 )

فكان خصوم الرسول المندحرين من الامويين ومن هم على شاكلتهم قد حاربوا ابن عمه بعقائد آبائهم الكامنة وراء ستار الاسلام . فمعاوية ـ مثلا ـ هو ابن هند آكلة الاكباد ، وابوه ابو سفيان اول المشركين في كل حرب ، ورأسهم في كل فتنة ، لم ترفع على الاسلام راية الا وكان صاحبها . تظاهر بالاسلام غير منطو عليه ، واخفى الكفر غير مقلع عنه ، ويلوح لي ان غدر معاوية قد اصاب روح الاسلام قبل ان يصيب ابا تراب (1) . فقد انفسح باغتيال علي المجال واسعا امام قوى الشر التي حبسها الامام في نطاق ضيق من خشية الله ، ومبادىء الدين الحنيف . فتلاشت من القلوب حرارة الايمان التي كانت تجمع بين قلب الخليفة الكبير وقلوب رعاياه . واستهان الولاة والحكام بتطبيق مبادىء الاسلام على شئون الحياة ، وعمدوا الى كسب ولاء الناس بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة ، او الارهاب والتجويع . فذرى روح الاسلام وانطوت مبادئه على نفسها بدلا من ان تسير في طريق التوسع والانتشار . وكانت حصيلة ذلك انتشار التذمر والالحاد في جسم المجتمع العربي وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحكام والمحكومين على السواء . فبرز الاستهتار والظلم والخروج على القرآن ، وتعاليم الرسول من جهة الحاكمين ، والانقياد والملق والنفاق من جهة الرعايا . واختفى القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد . فأصبح المطالبون بحقوقهم « زنادقة » و « ملحدين » و « رافضة » وصار الوصوليون والمنافقون اصحاب الحظوة والكلمة النافذة ، فجريرة معاوية ـ اذن ـ اكبر من مجرد غدره بالامام لانها اصابت صرح الاسلام من حيث هو نظام للحكم ومجموعة من المثل العليا ومكارم الاخلاق .
ذلك ما يتصل بالقسمين الأول والثاني من هذه الدراسة .
اما القسم الثالث فيروي للقارىء مقتطفات من سيرة الامام ـ رواها كبار المؤرخين المسلمين ـ ونماذج من سيرة معاوية اثناء نزاعه مع الخليفة . وبما اني كتبت هذا البحث متأثرا بالمثل العليا التي جاء بها محمد ؛ والتي حرص عليٌّ على تطبيقها في الحكم ـ وبخاصة ما يتصل منها بتوزيع العدالة الاجتماعية بين الناس وبالتحلي بمكارم الاخلاق .
____________
(1) لامجال للتفكيك بين الاسلام وعلي عليه السلام « الناشر » .
( 14 )

فلا عجب ان وجدني القارىء انتقد الذين خرجوا على تلك المثل في الاقوال وفي الاعمال من الحكام والامراء والولاة . قال تعالى في سورة آل عمران : « ان الذي يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط بين الناس فبشرهم بعذاب اليم . اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين 3 : 21 ، 22 » .
وذكر مسلم بن الحجاج في صحيحه بأسانيد مختلفة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى ينزعها : اذا حدث كذب ، واذا عاهد غدر ؛ واذا وعد اخلف ، واذا خاصم فجر » (1) .
والمنافقون ؛ كما وصفهم الله في سورة المنافقين الاية : 3 « اتحذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما كانوا يعملون » .
وسوف نتخذ هاتين الآيتين والحديث الآنف الذكر مقياسا للحكم على علي ومناوئيه اثناء البحث في « قميص عثمان » .
حق وباطل ، ابديان سرمديان . لكل زمان حقه وباطله . ولكل زمان علي ومناوئوه .
بغداد في : 1/ 1 / 1956
نوري جعفر

____________
(1) انظر صحيح مسلم ج 1 ص 42 .
( 15 )

القسم الاول



( 16 )

قصة الخلافة 11 ـ 35 هـ
1 ـ الفصل الاول : مسألة الوصية
2 ـ الفصل الثاني : حديث السقيفة
أ ـ ابو بكر الصديق ( 11 ـ 13 هـ )
ب ـ عمر بن الخطاب ( 13 ـ 23 هـ )
ج ـ عثمان بن عفان ( 23 ـ 35 هـ )
3 ـ الفصل الثالث : خلافة الامام ( 35 ـ 40 هـ )


( 17 )

مسألة الوصية

الخلافة ـ بنظر فريق من المسلمين ـ مركز ديني ودنيوي في آن واحد . فهي دينية من حيث كونها تستند الى تعاليم الاسلام في تصريف شئون الناس فيما يتعلق بصلاتهم في جميع مظاهرها من جهة ومن حيث كون صاحبها معصوما من الخطأ كعصمة الأنبياء عالما بجميع أمور الدين ومن جهة اخرى ، وهي دنيوية فيما يتصل بكون الخليفة شخصا لا ينزل عليه الوحي ؛ وانما هو مكلف ، بنص من النبي ووحي من الله بالمحافظة على تعاليم الدين وتطبيقها على سنن الحياة والنهوض بالرسالة النبوية وبثها بين البشر كافة .
فالخلافة على هذا الاساس ظاهرة تأتي بعد مرتبة النبوة مباشرة في القدسية والاهمية ؛ فلا غرابة والحالة هذه ، على ما يقول حملة هذا الرأي ، ان امر الله نبيه محمدا بالنص على ولاية خليفته من بعده : وهذا الخليفة هو الامام علي بن ابي طالب غير ان قسما من المسلمين ـ حسب وجهة النظر هذه ـ قد سلب الامام عليا حقه في الخلافة حينما نقلها منه الى غيره من الصحابة ، ولكن الامام عليا ـ مع هذا بنظر هؤلاء ـ هو الخليفة الحقيقي للمسلمين بعد الرسول ، وان لم يمارس منصبه هذا بحكم طبيعة الظروف التي عاش فيها .
والاساس الذي يستند اليه هذا الفريق من المسلمين في اعتباره الخلافة منصبا دينيا ؛ هو ان الرسول ، بعد ان فارق الحياة الدنيا تاركا تعاليمه الدينية . كان لابد له من تولية شخص يأتي من بعده في الكفاءة والخلق ليقوم بتصريف امور الناس ـ وذلك لان الغاية من نزول الدين ليست محصورة على تطبيقه في عهد الرسول وبين قريش او العرب وحدهم ، ولابد لتطبيق تعاليمه بعد وفاته من شخص كما ذكرنا ، اقرب الناس اليه من حيث فهمه لاصول الدين واتصافه بمتانة الاخلاق .


( 18 )

وليس من المعقول ان يترك امر المسلمين ، بعد وفاة الرسول ، الى الصدف والظروف في هذه المسألة الحيوية التي يتوقف عليها مصير الشريعة السمحاء من حيث التطبيق والانتشار . وان قصة اختيار المسلمين لخليفتهم بعد النبي ، امر على جانب كبير من الخطر والمجازفة .
فمن هم الذين يوكل اليهم اختيار الخليفة الجديد ؟ هل هم جميع المسلمين ؟ ام فئة خاصة منهم ؟ ما خصائص هذه الفئة ؟ هل هي مقصورة على ابي بكر وعمر وابي عبيدة في بادىء الامر ونفر من الانصار اجتمعوا في السقيفة كما سنرى ؟ اليس استبعاد علي وبني هاشم وسعد بن عبادة وابنه ، وسلمان الفارسي ، وابي ذر الغفاري ، والمقداد بن الاسود ، وعمار بن ياسر والزبير بن العوام وخالد بن سعيد ، وحذيفة بن اليمان وبريدة وغيرهم « وهم من خيرة اصحاب النبي » بجعل الخلافة ، وفي حالة اقتصارها على رأي فئة خاصة من الصحابة ، غير كاملة الشروط ؟
هل يمكن ان يتوصل المسلمون الى اختيار افضلهم للخلافة مع ما بينهم من احقاد وعنعنات قبلية جاهلية لم يستأصلها الاسلام كما سنرى ؟
هل كان الرسول راغبا في اثارة تلك العصبيات ؟
كيف يجري اختيار الخليفة : بالتصويت الشفوي ؟ ام بالكتابة ؟
كم من المسلمين يستطيعون ان يقرأوا ويكتبوا آنذاك ؟
اين يجري الانتخاب ؟ افي الحواضر والبوادي ؟ وكيف يمهد لذلك الانتخاب ؟ وكم يستغرق من الوقت ؟ وكيف تصرف شئون المسلمين اثناء فترة الانتخاب
تلك اسئلة محيرة ... ؟
لقد مر بنا ذكر رأي فريق من المسلمين في قضية خلافة الرسول . وقد لخص احد الباحثين موضوع الخلافة والوصية من وجهة النظر هذه بقوله (1) :
____________
(1) عبد الحسين احمد الاميني النجفي « الغدير في الكتاب والسنة والادب » الطبعة الاولى مطبعة الغري في النجف ؛ 1945 م ، ص 8 ـ 11 .
( 19 )

« اجمع رسول الله الخروج الى الحج في سنة عشر من مهاجره ، وآذن في الناس بذلك . فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجته تلك التي يقال عليها : حجة الوداع ... ولم يحج غيرها منذ هاجر الى ان توفاه الله ...
ولما قضى مناسكه وانصرف راجعا الى المدينة .. ووصل غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، نزل عليه جبرائيل عن الله يقول : « يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك (1) » .. وامره ان يقيم عليا علما للناس ..
ثم قام الرسول خطيبا .. واخذ بيد علي فرفعها .. فقال : ان الله مولاي وانا مولى المؤمنين .. والولاية لعلي ، من كنت مولاه فعلي مولاه (2) .. ثم نزلت الآية : « اليوم اكملت لكم دينكم » (3) .
فقال رسول الله :[ الحمد لله ](4) على اكمال الدين واتمام النعمة ... والولاية لعلي من بعدي » .
ومن الطريف ان نذكر هنا ان المقريزي (5) قد اشار الى احتفال قسم من المسلمين القدامى بذكرى عيد الغدير حين قال :
« اعلم ان عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا ، ولا عمله احد من سالف الامة المقتدى بهم ، واول ماعرف في الاسلام بالعراق ايام معز الدولة علي بن بابويه ، كان احدثه في سنه اثنتين وخمسين وثلثمائة ، فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا ، واصلهم فيه ماخرجه الامام احمد في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب قال :
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرتنا فنزلنا بغدير خم ونودي :
____________
(1) المائدة : الاية 67 .
(2) انظر « عبقات الانوار » مجلد حديث الولاية .
(3) المائدة : الاية 3 .
(4) ما بين المعقوفين سقط من الاصل . ( الناشر )
(5) الخطط 1/ 288 ـ 389 .

( 20 )

الصلاة جامعة ، وكسح لرسول الله تحت شجرتين فصلى الظهر ، واخذ بيد علي بن ابي طالب فقال : الستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ؟ قالوا : بلى .. قال :
من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قال :
فلقيه عمر بن الخطاب فقال : هنيئا لك يا ابن ابي طالب اصبحت مولى (1) كل مؤمن ومؤمنة . ( وغدير خم ) على ثلاثة اميال من الجحفة يسرة الطريق وتصب فيه عين وحوله شجر كثير .
ومن سننهم في هذا العيد وهو ابدا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ان يحيوا ليله بالصلاة ويصلوا في صبيحته ركعتين قبل الزوال ، ويلبسوا فيه الجديد ويعتقوا الرقاب ، ويكثروا من عمل البر ومن الذبائح .
ولما عمل الشيعة هذا العيد بالعراق ارادت عوام السنة مضاهدة فعلهم ونكايتهم فاتخذوا في سنة تسع وثمانين وثلثمائة بعد عيد الغدير بثمانية ايام عيدا اكثروا فيه من السرور واللهو وقالوا :
هذا يوم دخول رسول الله الغار هو وابو بكر .
وبالغوا في هذا اليوم في اظهار الزينة .. ولهم في ذلك اعمال مذكورة في اخبار بغداد !! » (2) .
والخلافة . بنظر فريق آخر من المسلمين : مركز دنيوي صرف من حيث وجوده ، وان كان مبنيا على الدين من حيث الاسس النظرية التي ينبغي ان يسير وفق مستلزماتها ، وعلى هذا الاساس فليس هناك نص صريح من جانب الرسول على توليته خليفة للمسلمين ، لانتفاء الضرورة الدينية الى ذلك .
____________
(1) وفي نسخة : مولاي ومولى .. الخ . ( الناشر ) .
(2) يراجع : سيرة ابن هشام ، والسيرة الحلبية ، والبخاري ، وعيد الهجرة : في ربيع الاول .