حديث السقيفة

أ ـ أبو بكر الصديق

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول :
ان عليا كان مهيئا للخلافة بعد الرسول ، هذا اذا نظرنا للخلافة من جوانبها الزمنية ، وان صلاته بالرسول وبالاسلام ، وصلات الاسلام والرسول به تؤهله لذلك .
ولو احتج المسلمون اثناء السقيفة بعد وفاة النبي : « ان عليا كان اقرب الناس اليه ، وكان ربيبه ، وكان خليفته على ودائعه ، وكان اخاه . بحكم تلك المؤاخاة ، وكان ختنه وابا عقبه ، وكان صاحب لوائه ؛ وكان خليفته في اهله ، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي « ص » نفسه .
لو قال المسلمون هذا كله واختاروا عليا بحكم هذا كله لما ابعدوا ولا انحرفوا .
وكان كل شيء يرشح عليا للخلافة ... قرابته من النبي ، وسابقته في الاسلام ، ومكانته بين المسلمين ، وحسن بلائه في سبيل الله ، وسيرته التي لم تعرف العوج قط ، وشدته في الدين ، وفقهه بالكتاب والسنة ، واستقامة رأيه » (1) .
وقد لخص ابن حجر العسقلاني اهم خصائص الامام حين قال : (2)
علي بن ابي طالب .. اول الناس اسلاما في قول كثير من اهل العلم ، ربى في حجر
____________
(1) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » 152 ، 153 .
(2) الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 ، 502 .

( 40 )

النبي ، ولم يفارقه ، وشهد معه المشاهد الا غزوة تبوك ، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة :
الا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى ...
وكان لواؤه بيده في اكثر المشاهد . ولما آخى النبي اصحابه قال له : انت اخي . ومناقبه كثيرة حتى قال الامام احمد بن حنبل لم ينقل لاحد من الصحابة ما نقل لعلي .
وقال غيره : كان سبب ذلك بغض بني امية له . فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته . وكلما ارادوا اخماده وهددوا من حدث بما فيه لا يزداد الا انتشارا ...
ولم يزل بعد النبي متصديا لنصرة العلم والفتيا ...
ومن خصائص علي قول الرسول يوم خيبر :
لادفعن الراية غدا الى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ... فدفعها لعلي .
فقال عمر : ما احببت الامارة الا ذلك اليوم ...
وبعثه يقرأ براءة على قريش وقال : لا يذهب الا رجل مني وانا منه ..
وقال : علي وليي في الدنيا والاخرة . واخذ رداء فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين ، وقال :
« انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ... الاية » (1) .
ولبس ثوبه ونام في مكانه ، وكان المشركون قصدوا قتل النبي ... وقال :
انت ولي كل مؤمن بعدي . وسد الابواب الا باب علي (2) فيدخل المسجد جنبا ، وهو طريقه ليس له طريق غيره . وقال :
من كنت مولاه فعلي مولاه .. ولما نزلت هذه الاية : « قل تعالوا ندع ابناءنا
____________
(1) الاحزاب : 33 .
(2) حديث سد الابواب الا باب علي . ذكره السمهودي في وفاء الوفاء . « الناشر »

( 41 )

وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ... الاية » (1) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء اهلي ..
واخرج الترمذي باسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها رسول الله : ما تريدون من علي ؟ ان عليا مني وانا من علي ، وهو ولي كل مؤمن بعدي » .
فما الذي حال اذن دونه ودون ارتقاء منبر النبي بعد وفاته مباشرة ؟
ان الاجابة على هذا السؤال تستلزم ان يتطرق الباحث الى ذكر ظروف وفاة الرسول ؛ وانشغال الامام بتغسيله وتجهيزه ودفنه والصلاة عليه من جهة ، وباجتماع الانصار في سقيفة بني ساعدة وموقف عمر بن الخطاب من ذلك كله من جهة اخرى ، والى قول ذكره عمر ، على ما يظن ، وتردد على ألسنة بعض القرشيين يتضمن كرههم ان تجتمع النبوة والخلافة للهاشميين .
وخلاصة الامر ان الرسول توفي داره بالمدينة سنة 11 هـ وانشغل علي بأمر تغسيله وتكفينه والصلاة عليه . وكان الجو السياسي خارج دار النبي آنذاك نشطا مملوءاً بالمفاجآة والاحداث الجسام ، وفي مقدمتها مسألة خليفة الرسول .
اجتمع عمر بأبي عبيدة بمسجد المدينة وتشاورا في امر الخلافة ، واجتمع سعد ابن عبادة بسقيفة بني ساعدة يشاور الاوس والخزرج في امر الخلافة ايضا . واجتمعت في اماكن شتى زمر اخرى تتحدث في هذا الامر الخطير . على حين ان الامام عليا قد لازم في دار النبي ، وكان منهمكا باعداد الجثمان لوضعه في مثواه الاخير يساعده نفر من اهل البيت المفجوعين ، ومنهم ابو بكر (2) .
ومما يلفت النظر ان ابا بكر قد قدم من السنح (3) بعد ان بلغه خبر وفاة الرسول ،
____________
(1) آل عمران : 61 .
(2) ابو بكر لم يكن من المفجوعين بوفاة النبي ( ص ) ليساعد الامام علي في اعداد جثمان الرسول في مثواه الاخير وانما دخل دار الرسول ( ص ) ليتطلع الاخبار ويدبر امر الخلافة راجع كتابنا مع رجال الفكر في القاهرة .
(3) السنح ـ بالضم ، ثم السكون ، وآخره حاء مهملة احدى محال المدينة . كان بها منزل ابي بكر ، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج ، بقوا الى المدينة . 1 هـ « مراصد الاطلاع » لابن عبد الحق البغدادي 2 / 745 طبعة عيسى الحلبي بالقاهرة . « الناشر »

( 42 )

فدخل دار النبي في حين ان عمر بن الخطاب قد بقي خارج الدار .
وفي زحمة تلك الظروف طرق باب دار النبي رجل اوفده ابن الخطاب يدعو ابا بكر لمقابلة عمر للتشاور معه في امر عظيم ، فخرج ابو بكر والتقى بصاحبه وسارا معا الى السقيفة ، حيث اجتمع الاوس والخزرج بسعد بن عبادة .
استمر الامام المفجوع منهمكا في امر الجثمان والالم يحز نفسه على وفاة الرسول .
وساور العباس عم النبي قلق شديد يتصل بارث النبي ، وبالمهة السرية التي قدم عمر متكتما من اجلها للتداول مع ابي بكر دون سواه ممن في الدار ، فهم بمبايعة الامام .
غير ان عليا رفض ذلك بشدة احتراما لجلال الموقف الرهيب ..
وتقدم ابو سفيان لمبايعة الامام بالخلافة ايضا فنهره ... ثلاث مرات ...
ويلوح الباحث ان اجتماع الانصار بابن عبادة في السقيفة لم يكن في ابتدائه راميا للاستئثار بتراث النبي بقدر ما كان راميا لتقرير منزلتهم في العهد الجديد .
ومهما يكن الامر فقد رافق اجتماع السقيفة شيء من التأزم والامتعاض ، وبخاصة عندما حضره ابو بكر وابو عبيدة بن الجراح ، غير انه انتهى بمبايعة ابي بكر على الشكل المعروف .
وخلاصة ذلك (1) ان الانصار من الاوس والخزرج ـ وفيهم سعد بن عبادة الذي كان مريضا حينذاك ـ قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول مباشرة للتداول في تقرير مصيرهم في العهد الجديد فقال سعد بن عبادة لبعض بنيه :
____________
(1) هذه الخلاصة موجودة في امهات كتب التاريخ الاسلامي ، وهي هنا ملخصة عن الطبري : تاريخ الامم والملوك .
( 43 )

انه لا يستطيع ان يسمع المجتمعين صوته لمرضه ، وامره ان يتلقى منه قوله ويردده على مسامع الناس ، فكان سعد يتكلم ويستمع اليه ابنه ، ويرفع صوته بعد ذلك .
قال سعد : يخاطب الحاضرين : « ان لكم سابقة الى الدين ، وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب ... ان رسول الله لبث في قومه بضع عشرة يدعوهم الى عبادة الرحمن وخلع الاوثان . فما آمن من قومه الا قليل ، حتى اراد بكم خير الفضيلة وساق اليكم الكرامة وخصكم بدينه ، فكنتم اشد الناس على من تخلف عنه ، واثقلهم على عدوه من غيركم . ثم توفاه الله وهو عنكم راض . . فشدوا ايديكم بهذا الامر فانكم احق الناس واولاهم به » .
واتى الخبر عمر فأتى باب منزل النبي واستدعى ابا بكر ـ كما ذكرنا ـ وخرجا الى السقيفة ، وخطب ابو بكر في المجتمعين فقال :
« انا معاشر المسلمين المهاجرين اول الناس اسلاما . ونحن عشيرة رسول الله .. وانتم انصار الله .. واخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين ، وفيما كنا فيه من خير فأنتم احب الناس الينا واكرمهم علينا .. وانتم المؤثرون على انفسهم حين الخصاصة ، واحق الناس ان لايكون انتقاض هذا واختلاطه على ايديكم ، وانا ادعوكم الى ابي عبيدة : او عمر ، فكلاهما قد رضيت لهذا وكلاهما اراه له اهلا ، فقال عمر وابو عبيدة : ماينبغي لاحد من الناس ان يكون فوقك .. فأنت احق الناس بهذا الامر .. فقام الحباب بن المنذر من الجموع فقال :
« يا معاشر الانصار املكوا عليكم ايديكم .. والله ما عبد الله علانية الا عندكم ، فأنتم اهل الايواء والنصرة . واليكم كانت الهجرة .. فان ابي هؤلاء فمنا امير ومنهم امير » .
فقال عمر : هيهات ..
فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الانصار من تأمير سعد ابن عبادة ، وكان حاسدا له : وكان من سادات الخزرج قام فقال :


( 44 )

« ايها الانصار انا وان كنا ذوي سابقة فانا لم يرد بجهادنا ، واسلامنا الا رضا الله وطاعة نبينا .. ان محمدا رجل من قريش وقومه احق بميراث امره .. فاتقوا الله ولاتنازعوهم » .
فقام ابو بكر وقال : « هذا عمر وابو عبيدة ، بايعوا ايهما شئتم ، فقالا : « والله لا نتولى هذا عليك .. ابسط يدك نبايعك » .
فلما بسط يده وذهبا يبايعانه .. سبقهما اليه بشير بن سعد فبايعه .. فناداه الحباب ابن المنذر :
« يابشير عقق عقاق ، والله ما اضطرك الى هذا الامر الا الحسد لابن عمك » .
ولما رأت الاوس ان رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع قام اسيد بن حضير وهو رئيس الاوس فبايع حسدا لسعد ايضا ومنافسة له ان يلي الامة فبايعت الاوس كلها لما بايع اسيد .
وحمل سعد بن عبادة وهو مريض فأدخل الى منزله فامتنع عن البيعة .
ثم خرج الى الشام فاغتيل في اواخر خلافة ابي بكر ، وقد اتهم خالد بن الوليد بتدبير مؤامرة الاغتيال .
وبعد الانتهاء من ذلك قصد البراء بن عازب دار النبي وفيها جثمان الرسول وحوله علي واهل بيته فخاطبهم قائلا :
« لقد شهدت ابا بكر بعد السقيفة بعيني : الى يمينه عمر ، والى يساره ابن الجراح لا يمر بهم احد ولايمرون بأحد الا قدموا يده ـ شاء ام ابى ـ فمسحوها على يد ابي بكر » (1) .
تلك قصة السقيفة ، وهي قصة لاتخلو من امور واحداث تسترعي انتباه الباحثين
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود ( الامام علي بن ابي طالب ) 1 / 149 .
( 45 )

فمن يتصفح اجتماع السقيفة بدقة وامعان ويتأمل النتيجة التي ادى اليها ذلك الاجتماع الذي اسفر عن ارتقاء ابي بكر منبر النبي لا يسعه ان يغفل الدور الحاسم الذي لعبه عمر بن الخطاب في هذا الموضوع الخطير .
ولاندري لماذا احجم ابن الخطاب عن دخول دار النبي والمساهمة في تهيئة الجثمان ووضعه في مثواه الاخير .
ولماذا احجم ثانية عن دخول الدار « حينما رأى اجتماع الاوس والخزرج في السقيفة ، للاتصال مباشرة بأبي بكر ؟ .
لماذا فضل عمر ان يمكث بباب دار النبي ويرسل شخصا غيره يدعو ابا بكر ليقابله خارج الدار ؟ .
ولماذا اقتصرت المشاورة على ابي بكر دون سواه من اهل البيت ومن اصحاب الرسول ؟ .
هل كان وجود ابي بكر داخل دار النبي وبقاء عمر خارجها طليقا يتصل ويفاوض ، من الامور التي وقعت مصادفة ؟ ام كان موضوعا وفق خطة معينة اتفق عليها الرجلان ؟
هل بقي ابو بكر في دار النبي رقيبا على من فيها لضمان عدم مفارقتها اياها ولمعرفة من يتصل بهم من الاشخاص الموجودين خارجها لتحديد هذا الاتصال في حالة حدوثه ، او لمنع حدوثه بمجرد وجوده هناك ؟
هل هناك علاقة بين هذه الحادثة ، وبين جيش اسامة وقضية الدواة والقرطاس ؟
ما هي الامور التي تم الاتفاق عليها بين عمر ، وابن الجراح ، عندما كانا يتناجيان في مسجد المدينة قبل ان يدعي اليهما ابو بكر ؟
لماذا احتج ابو بكر على الانصار بأفضلية المهاجرين ؟
هل كان ابو بكر يعني المهاجرين اطلاقا ، ام الذين حضروا السقيفة ـ هو وعمر وابو عبيدة ـ لكسب معركة الرئاسة ؟
واذا كان المهاجرين اولى بميراث النبي ـ من غيرهم ـ لسابقتهم في الاسلام


( 46 )

ولكونهم عشيرة النبي على حد قول ابي بكر ، افلا يصبح الهاشميون اولى من قريش ؟ وعلي اولى من الجميع ؟ ـ لان مقياس الفضل ـ الذي وضعه ابو بكر في كلمته التي ذكرناها ، كان ينحصر في السابقة الى الاسلام وفي القرابة من النبي .
لماذا رشح ابو بكر صاحبيه للخلافة دون سائر المهاجرين ؟ ماحقه في ذلك الترشيح ؟
ما اثر رضائه عن عمر ، وابي عبيدة من الناحية الشرعية ؟
الم يكن باستطاعنه ان يدعو الانصار الى مبايعة من يرتضونه من المهاجرين اذا كان لابد من حصر الخلافة في المهاجرين ؟
لماذا اقتصر ترشيحه على عمر ، وابي عبيدة ؟
ولماذا رفض عمر وابو عبيدة هذا الترشيح ؟ ورشحا ابا بكر ؟
هل حدث ذلك صدفة ام انه كان جاريا وفق اتفاق سابق ؟
هل لتلك الاحداث علاقة بجيش اسامة ؟ وبمناجاة عمر وابي عبيدة في مسجد المدينة ؟ وباجتماعهما بأبي بكر اثناء المسير الى السقيفة ؟
اين كان المهاجرون الاخرون اثناء اجتماع السقيفة .
هل حصل التنابز بين الانصار ـ الاوس والخزرج ـ عفوا ؟ ام كانت هناك اياد خفية اثارته في تلك اللحظة الحاسمة من التاريخ ؟
هل كان باستطاعة ابي بكر او عمر عن يقترحا على الانصار تأجيل البت في امر الخلافة الى ما بعد الانتهاء من دفن جثمان الرسول ؟
هل لذلك صلة بحديث الدواة والقرطاس . وبجيش اسامة .
تلك اسئلة تسترعي انتباه الباحثين .
وعندي ان الاجابة عليها ذات صلة وثقي بشخصية عمر بن الخطاب ، « ان الذي يؤخذ على ابن الخطاب حقا انه دعا ابا بكر من دار النبي ولم يدع معه احدا من آل الرسول .. وأنه وضع أبا بكر في كفة الترجيح دون مشورة رجل واحد غير أبي عبيد ابن الجراح كأنه وكل بقلوب المسلمين يكشفها ، وبألسنتهم يجري عليها الكلام رغم


( 47 )

تخلفه عن كثيرين منهم وسبقهم عليه بالاسلام ..
ولقد كانت في الرجل دفعة لامراء ، عرفت فيه ابان اسلامه وشركه .. استبدت به جاهليته ذات ليلة ... فأقسم ليمشين الى محمد فيقتله .. تلك كانت دفعة عمر عرفت فيه كبعض خلقه ، راضها الاسلام .. ولكنه لم يأت عليها .. حتى في حضرة الرسول كانت تملكه ..
وكذلك كان يوم الحديبية .. فان عمر لم يتحر مشورة رجل واحد من المسلمين قبل ان يبعث رسوله الى دار النبي يدعوا صاحبه اليه .. لم يتحر مشورة مسلم واحد في ترشيح الرجل الذي ستصير اليه قيادة الاسلام » (1) .

* * *

لقد مر بنا وصف مجمل للظروف التي احاطت بوفاة الرسول وبيعة ابي بكر .
وهناك امر آخر يتعلق اشد التعلق بموضوع تحويل الخلافة من علي اشار اليه الجاحظ فيما يتصل بموقف زعماء قريش من علي بعد وفاة الرسول لابد من ذكره في هذه المناسبة .
فالامام في حروبه مع النبي ضد قريش كان قد وترها كما يقول الجاحظ : « وسفك دماءها وكشف عن منابذها .. وليس الاسلام بمانع من بقاء الاحقاد في النفوس .. هب انك كنت من سنتين او ثلاث جاهلياً ..
وقد قتل واحد من المسلمين ابنك او اخاك ثم اسلمت ، اكان اسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه ؟ ..
هذا اذا كان الاسلام صحيحا .. لا كاسلام كثير من العرب ـ فبعضهم تقليدا ، وبعضهم للطمع والكسب ، وبعضهم خوفا من السيف ، وبعضهم عن طريق الحمية والانتصار لعداوة قوم آخرين من اضداد الاسلام واعدائه .
واعلم ان كل دم اراقه رسول الله بسيف علي وبسيف غيره فان العرب بعد
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 1 / 184 .
( 48 )

وفاته عصبت تلك الدماء بعلي وحده لانه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعتهم وعادتهم ان يعصب به تلك الدماء الا علي وحده » (1) .
يتضح مما ذكرنا ان الذي حال بين علي والخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة ، اذا استثنينا النص على وصيته الذي يقول به فريق من المسلمين ، ليس هو شيئا متعلقا بأهليته لتحمل مسئولية هذا المنصب الخطير ولكنه كان ، كما رأينا ، نتاج ظروف اجتماعية خاصة نتجت عن انشغال الامام بجثمان الرسول وعن تنازع بعض كبار المهاجرين والانصار للاستئثار بتراث الراحل العظيم .
ولو انصف الناس حق الانصاف لارجأوا البيعة حتى يتم لهم مواراة جثمان الرسول .. كان ذلك ادنى الى الصواب ـ ان لم يكن هو الصواب ـ ان يترك القوم من المهاجرين والانصار لايتنازعون سلطان محمد بينهم ، ومحمد ما زال مسجى على فراشه لم يغيبه عن عيونهم مثواه »(2) . ومهما يكن من الامر فقد نحى الامام علي عن الخلافة ، ولكنه مع ذلك ، تعاون مع ابي بكر بقلبه ولسانه ويده في جميع الامور التي تتصل بجوهر الاسلام والمحافظة عليه ، استمع اليه يقول :
« اما بعد ، فان الله بعث محمداً نذيراً للعالمين .. فلما مضى تنازع المسلمون الامر بعده ، فوالله ماكان يلقى في روعي ولايخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الامر من بعده عن اهل بيته ، ولا انهم منحوه عني من بعده ، فما راعني الا انثيال الناس على فلان (3) . يبايعونه . فأمسكت بيدي حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ...
فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان ارى فيه ثلما او هدما تكون المصيبة به عليّ اعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع ايام قلائل » (4) .
____________
(1) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 3 / 283 طبعة اولى .
(2) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 1 / 184 .
(3) كناية عن ابي بكر بن ابي قحافة .
(4) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 164 : 165 الطبعة الاولى بمصر .

( 49 )

ولم يختلف الامام مع ابي بكر او مع الذين جاءوا من بعده الا في الامور التي ساقه اجتهاده الشخصي اليها حرصا على الاسلام كذلك .
ويتجلى كبر نفس الامام في هذا الباب اذا تذكرنا بعض المواقف الغليظة التي وقفها منه ابو بكر في صدر خلافته ، ربما بتأثير من عمر ، وبخاصة في قضية ميراث فدك :
« فقد سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب وهو يسير الى دار فاطمة ... لطلب البيعة لابي بكر . وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها ان تروى قصة حطب امر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة وفيها علي وصحبه !! (1) .
وخلاصة قصة فدك : قرية حجازية قريبة من المدينة ، سكنها اليهود منذ زمن بعيد وعمروها وزرعوها .
وفي السنة السابعة للهجرة اعلن سكانها خضوعهم للرسول ـ دون حرب ـ فأصبحت فدك خالصة للنبي من دون المسلمين وفق منطوق الاية الكريمة : « وما افاء الله على رسوله منهم فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب » (2) .
وقد وهب الرسول فدك في حياته لابنته فاطمة ـ بعد ان غرس فيها بيده الكريمة احدى عشرة نخلة . فكانت السيدة فاطمة هي التي تتصرف بفدك منذ ان وهبها لها ابوها حتى وفاته حيث انتزعها منها ابو بكر بعد توليته الخلافة مباشرة .
وقد اشار الى ذلك الامام في احدى رسائله الى عثمان بن حنيف حين قال :
« بلى كانت في ايدينا فدك من كل ما اظلته السماء فشحت بها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ... » (3) .
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود : الامام علي بن ابي طالب 1 / 216 .
(2) الحشر : 6 .
(3) ابن ابي الحديد : « شرح نهج البلاغة » 4 / 78 الطبعة الاولى بمصر .

( 50 )

فالسيدة فاطمة اذن تستحق ميراث فدك من ناحيتين . هما الميراث والنحلة .
وكان علي الخليفة ـ وقد ارتأي انتزاعها منها ـ ان يبقيها تحت تصرفها مجاملة للرسول ولها ، ويقترح ـ في حالة اختلافه معها ـ انفاق بعض غلتها في وجوه الخير التي يتفق عليها الطرفان .
هذا اذا سلمنا جدلا بأنها لاترث ابيها ، وان النبي لم يهبها اياها في حياته .
كما كان على الخليفة كذلك ، من الناحية القانونية العرفية ، وقد قرر ان ينتزعها من السيدة ، ان يستبقيها في يدها الى ان يثبت له عدم احقيتها بها .
ومن الطريف ان نذكر قبل التصدي للبحث في طبيعة النزاع بين الزهراء وابي بكر في قضية فدك ، ان فدك بقيت بيد الخلفاء الراشدين .
فلما استولى معاوية على الملك قسمها مثالثة بين مروان بن الحكم ، وعمرو ابن عثمان بن عفان ، ويزيد ابنه ـ وهو امر على جانب كبير من الغرابة ـ غير انها قد اصيحت خالصة لمروان في خلافته فوهبها لابنه عبد العزيز الذي وهبها بدوره لابنه عمر الذي ردها عند توليته الخلافة ، لاولاد فاطمة . وكان رده اياها ، على ما يقول المؤرخون :
اول ظلامة ردها ، فلما ولى يزيد قبضها منهم فصارت في ايدي بني مروان ، وبقيت كذلك الى سقوط دولتهم .
فما جاء العباسيون ردها السفاح الى اهلها . ثم قبضها المنصور .
وردها ابنه المهدي ، وقبضها الهادي والرشيد .
وردها المأمون بعد ان ناظره في امرها شيخ طاعن في السن . ثم قبضها المعتصم
وبعد ذلك ضاعت معالمها على المؤرخين .
ويلوح مما ذكرنا ان فدك كانت وسيلة بيد الخليفة ان شاء ردها لاهلها ، وان شاء قبضها عنهم وفق مزاجه الخاص وحالته النفسية من جهة ، وموقف الطالبيين في زمانه من الاحداث السياسية العامة في الدولة من جهة اخرى .


( 51 )

ولما كان ارجاع فدك الى ورثة السيدة فاطمة قد حصل في عهد المأمون بشكل يدعو الى التأمل ويشير بصراحة ، لا لبس فيها ولاغموض ، الى حق السيدة في فدك لذلك نرى هنا اثباته هنا بالشكل الذي ذكره البلاذري (1) :
« ولما كانت سنة عشرة ومئتين امر المأمون .. برد فدك الى ولد فاطمة وكتب بذلك الى قثم بن جعفر عامله على المدينة :
اما بعد ، فان المؤمنين بمكانة من دين الله وخلافة رسوله والقرابة به ، اولى من استن سنته ونفذ امره وسلم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته .
وقد كان رسول الله اعطى فاطمة بنت رسول الله فدك وتصدق بها عليها . وكان ذلك امراً ظاهرا معروفا لا اختلاف فيه ..
فرأى امير المؤمنين ان يردها الى ورثتها ويسلمها اليهم تقربا الى الله باقامة حقه وعدله والى رسول الله بتنفيذ امره وصدقته .
فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتابة به الى عماله :
فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض الله رسوله أن يذكر كل من كانت له صدقة او عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عدته ، ان فاطمة لاولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله لها . وقد كتب امير المؤمنين الى المبارك الطبري مولى امير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك الى : محمد بن يحيى بن الحسين ابن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب لتولية امير المؤمنين اياهمها القيام بها لاهلها .
فأعلم ذلك من رأى امير المؤمنين وما الهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب اليه والى رسوله . واعلمه من قبلك .
____________
(1) فتوح البلدان ص 46 ، 47 .
( 52 )

وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام » .
وقد كتب ذلك في يوم الاربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة 210 هـ وتصدي ابو بكر للرد على السيدة فاطمة (1) في موضوع فدك من ناحية الميراث الى حديث انفرد بذكره على مايبدو ، هو :
« نحن معاشر الانبياء لا نورث . ما تركناه صدقة » .
وقد انفرد ابو بكر كذلك بذكر حديث آخر عندما اختلف المسلمون في محل دفن النبي فقال : سمعت رسول الله يقول : « ما قبض نبي الا ودفن حيث قبض » في حين ان التاريخ ـ على ما يذكر الطبري ـ يخبرنا ان الكثيرين من انبياء بني اسرائيل قد دفنوا في غير الاماكن التي قبضوا فيها .
وقد استغربت السيدة من ذلك اشد الاستغراب ، وكانت هي دون شك اولى من غيرها بسماعه ، لانه يخصها اكثر مما يخص ابي بكر .
كما ان عليا لم يسمعه كذلك بدليل ان فاطمة لم تخرج الى ابي بكر مطالبة بميراثها من فدك الا بعلم منه واذن منه كذلك .
ولاندري لماذا همس الرسول بهذا الحديث الى ابي بكر دون سائر المسلمين .
وقبل ان يصبح ابو بكر طرفا في النزاع على هذا الميراث الذي يتصل بفاطمة وبنيها اشد الاتصال ؟ .
ومما يضعف هذا الحديث ـ بنظر فاطمة ـ انه يتنافى هو وكثير من الآيات القرآنية الصريحة في هذا الباب .
____________
(1) وقد امتعضت السيدة فاطمة من موقفه ، ولم تكلمه الى ان توفيت ـ بعد وفاة ابيها باثنتين وسبعين ليلة ـ وذكر البخاري في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها . « الناشر »
( 53 )

فقد جاء في ذكر الميراث بشكل مطلق ـ دون ان يستثنى الانبياء من ذلك قوله تعالى في سورة النساء : « يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين » (1) .
وجاء في ذكر الميراث الذي وقع بالفعل للانبياء الذين سبقوا محمدا قوله تعالى في سورة النمل : « وورث سليمان دواد وقال يا ايها الناس علمنا منطق الطير واوتينا من كل شيء ان هذا لهو الفضل المبين » (2) .
وخاطب زكريا ربه في سورة مريم « قال رب اني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم اكن بدعائك رب شقيا ، واني خفت الموالي من ورائي وكانت امرائتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (3) » .
لقد اشارت السيدة فاطمة الى ذلك كله في مناقشتها لابي بكر بمحضر جماعة من الصحابة ، ثم ختمت محاورتها مع الخليفة قائلة :
« فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ... فنعم الحكم الله ... والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ...
ياابن ابي قحافة افي كتاب الله ان ترث اباك ولا ارث ابي ؟ لقد جئت شيئا فريا ، افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء اظهركم ؟
الم تسمع قوله تعالى : « واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله ؟
اخصكم الله بآية اخرج ابي منها ؟ ام تقولون : اهلي ملتين لا يتوارثان ؟ اولست انا وابي من اهلي ملة واحدة ؟ ام انتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من ابي وابن عمي ؟ » .
ولما رأت السيدة فاطمة ان الخليفة مصر على رأيه تركت الامر واعرضت عنه . ويلوح للباحث ان السيدة فاطمة كانت عارفة منذ البداية ان الخليفة سوف
____________
(1) النساء 11 .
(2) النمل 16 .
(3) مريم 5 ، 6 .

( 54 )

لا يعيد لها فدك ، وانها ذهبت اليه لالقاء الحجة عليه ، ولعل ذلك راجع الى انها لم تعرف من حيث الاساس بشرعية خلافته ، فالشخص الذي له القدرة والجرأة على سلب الخلافة من صاحبها الشرعي بنظرها لهو اقدر على سلب فدك وامثالها ! ؟
واذا امعن الباحث في الحديث الذي ذكره ابو بكر في ضوء سيرة الرسول بصورة عامة امكنه ان يقول :
ان الرسول لم يستثن نفسه من الخضوع للقواعد العامة التي جاء بها الاسلام .
فما عرف عنه انه قال : « نحن معاشر الانبياء لا نصلى او لا نصوم .. الخ » فكيف يعزل عن ميراث فدك وحده !
فهل لقضية فدك جانب سياسي ؟
هل قصد بذلك اخضاع السيدة فاطمة وزوجها لاوامر الخليفة لارغامها على الاعتراف بخلافته التي قابلاها بالصدود والامتعاض ؟
وهل لهذا الموضوع جانب اقتصادي ؟ هل قصد بذلك حرمان علي من التمتع بواردات فدك وهي مورده الوحيد ، لكيلا يصبح مكتفيا من الناحية الاقتصادية وليصرفه ذلك عن المطالبة بالخلافة ؟
هل لموضوع فدك جانب مالي يتصل بوضع الدولة الاسلامية آنذاك وحاجتها الى المال لمواجهة الذين اتهموا بالارتداد عن دفع الزكاة ؟
هل لقضية فدك جانب معنوي يتعلق بمحاولة تضعيف موقف آل النبي عند عامة المسلمين ؟ فيقال : ان النبي قد حرمهم كل شيء حتى ميراثه من فدك ؟ فتضعف حجتهم بالمطالبة بالخلافة ؟ هل لموضوع فدك اكثر من عامل واحد ؟ ثم لماذا وضع الرسول ـ ان صح الحديث الذي استشهد به الخليفة ـ صيغته بهذا الشكل من الاطلاق بحيث جعله يشمل معاشر الانبياء كافة ؟ ما الهدف الذي كان يرمي اليه الرسول من هذا الحديث !
هل كان يخشى ان تتصرف السيدة فاطمة بعوائد فدك في غير اوجهها السليمة ! واذا كان الامر كذلك فلماذا وضعها تحت تصرفها في حياته !!


( 55)

ويجمل بنا قبل ان نتصدى لبحث فدك من ناحية النحلة ان ننبه القارىء الى اننا عثرنا على نقاش رائع من حيث الفكرة والاسلوب حصل بين قاضي القضاة والشريف المرتضى ذكره ابن ابي الحديد (1) الاول : ينفي ان يورث الانبياء ، والثاني : يثبته .
يدلل الاول ـ على رأيه بأن ما ورد في القرآن لا يتضمن الا وراثة العلم والفضل .
ويبرهن الثاني ـ على ان الارث يتضمن المال والعقار او لا ، ومن ثم العلم والفضل من باب التجوز ؛ وان كلمة ميراث في اللغة ، وما يتصل بها من المشتقات تعني بميراث الامور المعنوية من باب التجوز والاتساع ، وان الدلالة اذا دلت في بعض الالفاظ على معنى المجاز فلا يجب ان يقتصر عليه ، بل يجب ان نحمل معناها على الحقيقة التي هي الاصل اذا لم يمنع من ذلك مانع . واذا فرضنا جدلا ان الميراث يقتصر على العلم والفضل ، الا يكون آل النبي ، بحكم ذلك الميراث ، اولى من غيرهم بالخلافة !
ذلك ما يتصل بموضوع فدك من ناحية الميراث .
اما ما يتصل به من ناحية النحلة فقد ذكرت السيدة فاطمة لابي بكر .
ان رسول الله قد وهبها فدك . فطلب الخليفة منها البينة على ذلك ، فقدمت له عليا ، وام ايمن ـ مربية الرسول ـ فلم يلتفت الى ذلك وبدا كالمتشكك في شهادة سيدة ، قمين بأبي بكر ان يسمو بها عن التشكك (2) .
فليس من المتوقع ان تكذب السيدة فاطمة على ابيها بعد موته بعشرة ايام فقط ، وفي مسألة تافهة كفدك ، او ان تكذب ام ايمن العجوز الجليلة التي رافقت الرسول من المهد الى اللحد ـ ام ايمن التي خرجت مهاجرة الى رسول الله من مكة الى المدينة ، وهي ماشية وليس معها زاد ـ ام ايمن زوج زيد بن حارثة مولى النبي وام اسامة بن زيد !! او ان يكذب ابن ابي طالب !!
____________
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 78 ـ 103 .
(2) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 1 / 216 .

( 56 )

ولاندري كيف فات ابا بكر ان يتذكر ان الله قد انزل قرآنا في علي وفاطمة واذهب عنهما الرجس (1) .
وقد كان المتوقع ان يكتفي الخليفة برواية فاطمة وحدها كما اكتفى ابوها قبل ذلك حين نازعه اعرابي في ناقة ادعى كل منهما انها ناقته .
فشهد خزيمة بن ثابت للرسول فأجاز شهادته وجعلها شهادتين فسمى ذا الشهادتين ، ولكن موضوع السيدة فاطمة ـ مع هذا لا يحتاج الى شهود ـ ذلك لانها روت رواية عن ابيها ، كما روى ابو بكر رواية اخرى .
وان السيدة فاطمة لم تطلب منه البينة على ما ادعاه على الرغم من شكها في صحته ـ اما الشهود فموقعهم في الدعوى .
استمع الى قوله تعالى في سورة البقرة :« يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه ... واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان » (2) .
والجحة التي نستند اليها في اهمية شهادة فاطمة ان موقفها عند الرسول ـ من حيث صدقها ـ لا يقل ، على اسوأ الفروض ، عن موقع خزيمة بن ثابت .
ويصدق الشيء نفسه على ام ايمن ، وابن ابي طالب الذي لم يعرف عنه قط الا اتباع الحق وقول الصدق .
فموقف ابي بكر غريب في بابه : واغرب منه انه ترك سيف رسول الله ، ونعله ، وعمامته ، في يد علي على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت .
كما انه لم ينتزع من علي الخاتم والسيف اللذين وهبهما له النبي اثناء مرضه .
ولم يطالب كذلك بثياب الرسول التي مات فيها فأخذتها فاطمة بعد موته . ولا بحجر رسول الله التي بقيت بيد نسائه .
____________
(1) انظر : الاحزاب 33 .
(2) البقرة 282 .

( 57 )

ولم يطلب ابوبكر من جابر على رواية البخاري (1) البينة على دعواه حين زعم ان رسول الله وعده باعطائه مقدارا معينا من المال ، بل سلمه اياه عندما ورده مال من قبل العلاء بن الحضرمي .
كما ان ابا بكر ايضا ام يطلب البينة ـ عندما قدم عليه مال من البحرين ـ من ابي بشير المازني حين ادعى ان النبي قال له اذا جاءنا شيء فائتنا ، وانما دفع له حفنتين او ثلاثا من ذلك المال .
واذا كان النبي لايورث ، وما تركه صدقة ، فكيف يجوز ان يواري جثمانه في الحجرة التي كانت تسكنها زوجته عائشة بنت الخليفة ؟
لان تلك الحجرة قد اصبحت صدقة بعد وفاة الرسول مباشرة بحكم ذلك الحديث » .
ثم كيف نوفق بين ذلك الحديث وبين الحديث الآخر الذي انفرد بذكره ابو بكر القائل بأن الانبياء يدفنون حيث يقبضون ؟ افي الحديث ناسخ ومنسوخ ؟
ثم كيف نفذ الخليفة محتويات « الحديثين » على تناقضهما ؟
وبقدر ما يتعلق الامر بالحديث الثاني يمكننا ان نقول : ان النبي يموت في احد موضعين : ما كان يملكه قبل وفاته ! وما كان يملكه غيره من الناس .
ولايجوز ان يدفن جثمانه في المحل الاول لانه اصبح صدقة على رواية ابي بكر عن النبي ، كما لا يجوز دفنه في المحل الثاني لان ملكيته عائدة لغيره .
كيف السبيل الى الخروج من هذا المأزق الحرج ؟
ثم كيف جاز لابي بكر نفسه ان يطلب بدفن جثمانه قرب النبي ؟ في ارض لاحق له بها من الناحية الشرعية ؟ .
واذا كان دفن جثمان النبي على الشكل الذي ذكرناه مستندا الى الحديث الذي ذكره ابو بكر ، فالى اي حديث يستند ابو بكر في طلب دفنه بجوار النبي ؟
هل قال النبي : يدفن الخليفة الاول قريبا مني ؟
____________
(1) صحيح البخاري 3 / 180 .
( 58 )

كل ذلك غريب في بابه ، واغرب منه ان كثيرا من المفسرين قد تكلفوا فيما بعد تفسير آيات الميراث ، فزعموا للرد على من طعن بصحة الحديث بأن الوراثة المذكور في القرآن مقصورة على العلم والفضل ، دون سائر الامور .
ولسنا نعلم كيف يورث العلم والفضل ، وهو امر يخالف ما الفه الناس من قديم الزمان ، ويتعارض مه ابسط مبادىء علم النفس وعلم الاجتماع ؟
واغرب من ذلك كله ان الخليفة يحرم السيدة فاطمة ميراث فدك ليطبق الحديث الذي انفرد بذكره في الوقت الذي يخالف فيه حديثا آخر اجمع الرواة على صحته باعتراف ابي بكر نفسه :
« فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله » (1) .
ولاندري ، بالاضافة الى كل ماذكرنا . كيف فات ابا بكر ان يتذكر موقف الرسول من ابي العاص بن الربيع زوج زينب بنت خديجة زوج النبي حين اسر في بدر مع المشركين .
والى القارىء تلك القصة على مارواها ابن الاثير (2) .
« وكان في الاسارى ابو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس زوج زينب بنت خديجة (3) .
____________
(1) اخرجه البخاري في صحيحه . « الناشر »
(2) الكامل في التاريخ 2 / 93 ـ 95 .
(3) وامه هالة بنت خويلد اخت خديجة زوج رسول الله ، فسألته ان يزوجه زينب ففعل قبل ان يوحى اليه ، فلما اوحى اليه آمنت به زينب وبقى ابو العاص مشركا ، ولم يستطع الرسول في بادىء الامر ان يفعل شيئا تجاه زينب المسلمة او زوجها المشرك ، فلما هاجر الى المدينة ووقعت بدر واسر ابو العاص واطلق سراحه كما ذكرنا اخبر النبي بأنه سوف يرسل اليه زينب الى المدينة ، فأرسل الرسول زيد بن حارثة مولاه ورجلا آخر من الانصار ليصحبا زينب من مكة . فلما قدم ابو العاص امرها باللحاق بالنبي ففعلت ذلك . ـ المؤلف ـ

( 59 )

فما بعثت قريش في فداء الاسارى بعثت زينب بفداء ابي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة ادخلتها معها ، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة ، وقال :
ان رأيتم ان تطلقوا اسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ، فأطلقوا لها اسيرها وردوا القلادة ...
فلما كان قبل الفتح خرج ابو العاص تاجرا الى الشام بأمواله واموال رجال قريش .
فلما عاد لقيته سرية لرسول الله فأخذوا ما معه وهرب منهم ، فما كان الليل اتى الى المدينة فدخل على زينب .
فلما كان الصبح خرج رسول الله الى الصلاة فنادت زينب من صفة النساء :
« ايها الناس اني قد اجرت ابا العاص .. فقال رسول الله : ان رأيتم ان تردوا عليه الذي له فانا نحب ذلك ، واذا ابيتم فهو في الله الذي افاء عليكم وانتم احق به .
قالوا : يا رسول الله نرده عليه ، فردوا ماله كله حتى الشظاظ » (1) .
نقول : الم يكن باستطاعة ابي بكر ـ في حالة التسليم معه بأن السيدة فاطمة لا ترث ابيها ، وان النبي لم يهب فدكا لها ـ ان يتخذ موقفا كهذا الذي اشرنا اليه ؟ مع وجود الفارق الكبير بين الحالتين ، فقد وهب المسلمون حقهم لابي العاص المشرك ، وكانوا ـ دون شك ـ على استعداد تام لوهب حقوقهم ـ في حالة التسليم بصحة الاجراءات التي اتخذها الخليفة ـ الى ابنة الرسول . الم يكن تصرف الرسول مع ابي العاص ـ في الحالتين سنة ! فهل يعتبر ترك ابي بكر لها ـ في هذه الحالة ـ منسجما مع السنة !!
____________
(1) شظاظ ، على وزن كتاب ، وهو خشبة عقفاء تجعل في عروتي الجولقين .