وقد كتب الى عثمان جماعة من الصحابة فيهم : المقداد ، وعمار ، وطلحة ، والزبير ، على مايقول البلاذري : (1) « كتابا عدوا فيه احداث عثمان وخوفوه ربه واعلموه انهم موائبوه ان لم يقلع ، فأخذ عمار الكتاب واتياه به ، فقرأ سطرا منه .
فقال له عثمان : اعلي تقدم من بينهم ؟ فقال عمار : لاني انصحهم لك .
فقال : كذبت يا ابن سمية ، فقال : انا والله ابن سمية وابن ياسر .
فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا كبيرا ، فغشى عليه » .
ويلوح للباحث ـ في ضوء ما ذكرناه ـ ان السياسة العامة للدولة كانت مبنية ـ في جوانبها المالية والاداريه ـ على العبث بمقدرات المسلمين ، وعلى الخروج على روح الاسلام لكسب ولاء الناس للامويين من جهة ، وللتنكيل بمن يناوئونهم او ينتصرون للدين الحنيف وحتى « لسيرة الشيخين » تلك السيرة التي تسلم عثمان الخلافة على اساس السير وفق مستلزماتها كما ذكرنا ـ عند البحث في الشورى ـ من جهة اخرى ـ قال الواقدي (2) :
« انكر الناس على عثمان اعطاءه سعيد بن العاص منه الف درهم ، فكلمه عليّ وآخرون في ذلك ، فقال :
ان له قرابة ورحما ، قالوا : افما كان لابي بكر وعمر قرابة وذو رحم ؟ فقال :
ان ابا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما ، وانا احتسب في اعطاء قرابتي » .
فهل هذه السياسة نتفق مع « سيرة الشيخين » ؟ ويبدو الباحث كذلك .. ان سيرة عثمان في رعيته لم تكن ـ في كثير من وجوهها ـ غير منسجمة مع « سيرة الشيخين » فحسب ، بل كانت « في كثير من الاحيان » غير متفقة ـ كل الاتفاق ـ مع نصوص القرآن وسنة الرسول ـ وجملة القول :
ان عثمان ـ في كثير من تصرفاته ـ بالاضافة الى سياسته المالية التي ذكرناها « وبالاضافة الى سياسته الادارية التي سنذكرها ، كان مجافيا لروح الاسلام
____________
(1) البلاذري « انساب الاشراف » 5 / 49 .
(2) المصدر نفسه 5 / 27 .

( 107 )

ذلك ما يتصل بالسياسة المالية لابن عفان :
اما ما يتصل بالسياسة الادارية « والسياسية » فقد اعتمد عثمان في ادارته على ذوي قرابته ـ بالدرجة الاولى ـ وليس في ذلك ضير ، وان كان الناس ـ منذ قديم الزمان ـ ينكرون على حكامهم ايثار ذوي قرباهم بشئون الحكم والادارة وما ينتج عنهما . هذا اذا كان ذوو القرابة من اصحاب الكفاءة والسيرة الحسنة ، فكيف بهم اذا كانوا من النوع الذي اعتمد عليه عثمان ! ؟ فبعضهم نزل بهم قرآن في نفاقهم وكذبهم .
وهانحن نقص على القارىء جانبا من سيرتهم على سبيل التمثيل لا الحصر .
لنبدأ بالوليد بن عقبة بن ابي معيط والي الكوفة ، متتبعين تاريخه منذ عهد الرسول . ذكر ابن هشام (1) ان النبي بعث « الى بني المصطلق ، بعد اسلامهم ، الوليد بن عقبة بن أبي معيط ... يطالبهم بالصدقة .. فرجع الى الرسول فأخبره ان القوم قد هموا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم ... فبيناهم على ذلك قدم وفدهم الى رسول الله ، فقالوا :
يارسول الله سمعنا برسولك فخرجنا اليه لنكرمه ونؤدي ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعا ، فبلغنا انه زعم انا خرجنا لنقتله .
فانزل الله فيه : « يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين (2) » .
وذكر بعض الرواة (3) ان امرأة الوليد بن عقبة جاءت الى النبي تشتكي اليه الوليد لانه كان يضربها ، فأمرها النبي بالرجوع اليه واخباره بأن الرسول قد اجارها ، فانطلقت
____________
(1) سيرة النبي محمد 3 / 340 ، 341 .
(2) الحجرات : 6 .
(3) ابن ابي الحديد : « شرح نهج البلاغة » المجلد الرابع ص 195 طبعة مصر .

( 108 )

ثم رجعت « فقالت : انه ما اقلع عني ، فقطع الرسول هدية من ثوبه ، وقال :
اذهبي بها اليه وقولي : ان رسول الله قد اجارني ، فانطلقت ، فمكثت ساعة ثم رجعت ، فقالت : مازادني الا ضربا » .
وذكر المسعودي (1) في معرض التحدث عن هذا المنافق اثناء توليته « من قبل عثمان » امرة الكوفة :
ان الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنيه من اول الليل الى الصباح ، فلما اذن المؤذن للصلاة خرج منفصلا في غلائله ، فتقدم الى المحراب في صلاة الصبح ، فصلى بهم اربعا ، وقال : تريدون ان ازيدكم ؟ وقيل : انه قال في سجوده وقد اطال : اشرب واسقني ؟ فقال له بعض من كان خلفه في الصف الاول :
والله لا اعجب الا ممن بعثك الينا والياً وعلينا اميراً .
وخطب الناس الوليد : فحصبه الناس بحصباء المسجد ، فدخل قصره يترنح ويتمثل بأبيات تأبط شراً :

ولست بعيــداً عن مدام وقينــة * ولا بصفا صلد عن الخير معــزل
ولكنني اروى من الخمــر هامتي * وامشي الملا بالساحـب المتسلسل (2)

وكان الوليد زانيا يشرب الخمر ، فشرب بالكوفة وقام ليصلي .. فتقيأ في المحراب بعد ان قرأ بهم رافعا صوته :

علق القلب الربابا * بعد ما شابت وشابا

فشخص اهل الكوفة الى عثمان فأخبروه بخبره وشهدوا عليه بشرب الخمر ، فأتى به ، فأمر رجلا من المسلمين ان يضربه الحد ، فلما دنا منه قال :
نشدتك الله وقرابتي ... فتركه ، فخاف على ان يعطل الحد فقام اليه فحده بيده ... فخرج رهط من اهل الكوفة الى عثمان في امر الوليد ، فقال ؛
____________
(1) المسعودي : مروج الذهب 2 / 224 ، 225 .
(2) ويذكر المسعودي في « مروج الذهب 2 / 225 » ان ابا الوليد كان يهوديا .

( 109 )

اكلما غضب رجل على اميره رماه بالباطل !! .. فاستجاروا بعائشة ، واصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة .
فقال : اما يجد فساق العراق ومراقها ملجأ الا بيت عائشة !! فسمعت عائشة ، فرفعت نعل رسول الله وقالت : تركت سنة صاحب هذا النعل (1) ؟ » .
ويذكر بعض الرواة ان سبب امارة الوليد بن عقبة الكوفة من قبل عثمان « انه لم يكن يجلس مع عثمان على سريره الا العباس بن عبد المطلب ، وابو سفيان بن حرب ، والحكم بن ابي العاص ، والوليد بن عقبة .
ولم يكن سريره يسع الا عثمان وواحدا منهم ، فأقبل الوليد يوما فجلس فجاء الحكم بن ابي العاص ، فأومأ عثمان الى الوليد فرحل له عن مجلسه ، فلما قام الحكم قال الوليد :
لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك على ابن عمك .
وكان الحكم عم عثمان ، والوليد اخاه لامه ، فقام عثمان :
ان الحكم شيخ قريش ، فما البيتان ؟ قال الوليد :

رأيت لعم المرء زلفــى قرابة * دوين اخيه حادثا لم يـكن قدمـا
فأملت عمرا ان يشب (2)وخالدا * لكي يدعواني يوم نائبــة عمـا

فرق له عثمان ، وقال : قد وليتك الكوفة (3) » .
ذلك ما يتصل بالوليد بن عقبة ـ كيفية توليته امارة الكوفة وموقفه من الرسول والاسلام في عهد النبي ، وعبثه بالشريعة السمحاء في تصرفاته التي وصفنا طرفا منها ،
____________
(1) المسعودي : مروج الذهب 2 / 224 .
(2) يعنى عمراً ، وخالدا ، ابني عثمان بن عفان .
(3) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 193 .

( 110 )

حتى ليقال ان الوليد بن عقبة « ... حين دخل الكوفة واليا عليها مكان سعد قال له سعد : ازائرا ياابا وهب ؟ ام اميرا ؟
قال الوليد : بل اميرا يا ابا اسحاق ، قال سعد :
والله ما ادري ، احمقت بعدك ، ام كست بعدي ؟ ؟ قال الوليد ما حمقت بعدي ، ولا كست بعدك ؟ وانما ولي القوم الامر فاستأثروا ، قال سعد : ما اراك الا صادقا (1) » .
اما ما يتصل بالولاة الاخرين فمعروف ـ نذكر منهم : عبد الله بن عامر الذي ولاه عثمان البصرة ، وكان شابا حدثا « لم يتجاوز سنه الخامسة والعشرين بعد ، وان في المهاجرين والانصار وغيرهم من العرب من هم اكبر منه سنا واكثر تجربة واقدم منه سابقا في الدين (2) » .
اما عبد الله بن سعد بن ابي سرح الذي ولاه عثمان مصر فكان عثمان نفسه يعلم ان الله انزل في دمه قرآنا ... وان النبي كان قد اهدر دمه يوم الفتح (3) » .
تلك جوانب من تصرفات ولاة عثمان .
اما تصرفات عثمان نفسه تجاه بعض كبار الصحابة الذين انكروا عليه بعض اعماله او اعمال ولاته لعدم انسجامها مع مبادىء الدين الحنيف ، فهي الاخرى كانت على جانب كبير من الغلظة : فقد خالف عبد الله بن مسعود عثمان بن عفان رأيه في جمع القرآن ، فلم يعالجه عثمان بالاقناع او يصرفه بالمعروف .
بل امر به ان يؤدب لاجترائه . فصر به بعض عبيده وضربوا به الارض امعانا منهم في الشدة عليه حتى كسروا اضلاعه . ثم لم تقر عين الخليفة حتى اتبع هذا التعذيب بقطع العطاء عنه . » .
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » ص 187 .
(2) المصدر نفسه : عثمان بن عفان ص 188 .
(3) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 33 .

( 111 )

وراع ابا ذر اسراف عثمان وتبديده اموال المسلمين على ذوى قرباه فأنكر ذلك عليه واستكثره واستشهد بآيات من القرآن .
« وقد شكا مروان بن الحكم الى عثمان مقالة ابي ذر هذه ، فأرسل عثمان اليه مولاه ينهاه . فقال ابو ذر : لئن ارضى الله بسخط عثمان احب الي من ان ارضى عثمان بسخط الله . فنفاه عثمان الى الربذة فمات هناك . » (1)
وعندما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال رحمه الله على ما يحدثنا البلاذري (2) فقال : عمار بن ياسر نعم .. فرحمة الله من كل انفسنا . فقال له عثمان :
يا عاض اير ابيه اتراني ندمت على تسييره !
وامر فدفع في قفاه وقال : الحق بمكانه ، فلما تهيأ للخروج جاء بنو مخزوم الى علي فسألوه ان يكلم عثمان فيه .
فقال له علي : ياعثمان اتق الله فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فمات في تسييرك . ثم انت الان تريد ان تنفى نظيره .
وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان لعلي : انت احق بالنفي منه .
فقال علي : رم ذلك ان شئت .
واجتمع المهاجرون فقالوا :
ان كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فان هذا شيء لايسوغ . فكف عن عمار . » .
وتداول الزبير بن العوام الرأي كما ذكرنا ، مع نفر من الصحابة ، في سوء الاوضاع العامة فانتهى بهم الامر الى كتاب رفعوه الى عثمان فحمله عمار بن ياسر اليه
فلما دخل عمار على عثمان ومعه مروان ، قال مروان لعثمان :
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » ص 163 .
(2) انساب الاشراف 5 / 54 ، 55 .

( 112 )

ان هذا العبد الاسود قد جرأ عليك الناس ، وانك ان قتلته نكلت به من وراءه ..
فما اسرع ان قره عثمان على رأيه العجيب البغيض .
وتناول عصاه فضرب بها الشاكي واعانه على الضرب اهل بيته ، ومن حضر مجلسه من بني امية . حتى فتقوا بطن الرجل والقوه على جانب الطريق في ذلك اليوم البارد الممطر (1) .
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول ـ مع الدكتور طه حسين :
ان عثمان ـ مهما يكن اعتذار اهل السنة والمعتزلة عنه ـ فانه قد اسرف وترك عماله يسرفون في العنف بالرعية ضربا ونفيا وحبسا . وهو نفسه قد ضرب ـ او بضرب ـ رجلين من اعلام صحابة النبي .
ضرب عمار بن ياسر حتى اصابه الفتق ، وامر من اخرج عبد الله بن مسعود من مسجد النبي اخراجا عنيفا حتى كسر بعض اضلاعه .
ومهما يكن من امر هذين الرجلين الجليلين .. فما نعلم انه حاكمهما واقام عليهما الحجة واباح لاحد منهما الدفاع عن النفس وانما سمع فيهما قول عماله او قول حاشيته . ثم عاقبهما دون ان يقيم البينة .
وليس له من هذا كله شيء .. وهو نفسه شق على أبي ذر حتى نفاه لا لشيء ، الا لانه انكر سياسته العامة في الاموال ..
ثم هو أذن لعماله ان يخرجوا الناس من ديارهم كلما آنسوا منهم بعض ما يكرهون . فجعل عماله يتقاذفون فريقا من اهل الكوفة يرسلهم سعيد الى معاوية ثم يردهم معاوية الى سعيد ، ثم يرسلهم سعيد الى عبد الرحمن بن خالد دون ان يحاكموا او تقوم عليهم البينة ، ويسمع منهم دفاعهم عن انفسهم (2) » .
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 34 ، 35 .
(2) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » ص 198، 199.

( 113 )

وقد روى لنا البلاذري (1) قصة عزل عثمان عبد الله بن مسعود عن بيت المال في الكوفة واسباب ذلك العزل ونتائجه . اما التعليق على ذلك فنتركه للقارىء :
« لما قدم الوليد بن عقبة واليا على الكوفة الفى ابن مسعود على بيت المال » فاستقرضه مالا ...سس فأقرضه .. ثم انه اقتضاه اياه ، فكتب الوليد في ذلك الى عثمان فكتب عثمان الى عبد الله بن مسعود : انما انت خازن لنا فلا تعرض للوليد في اخذ المال . فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال :
كنت اظن اني خازن للمسلمين . فأما اذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك
واقام بالكوفة بعد القائه مفاتيح بيت المال » فكتب الوليد بذلك الى عثمان « فكتب اليه عثمان يأمره باشخاصه وشيعته اهل الكوفة فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن . فقالوا له :
جزيت خيرا . فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، واقرأتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ...
وقدم أبن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر الرسول . فلما رآه قال :
انه قدمت عليكم دويبة سوء ..
فقال ابن مسعود : لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله :
ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد اخراجا عنيفا وضرب به عبد الله بن زمعة الارض (2) .
فأقام عبد الله بن مسعود بالمدينة « لا يأذن له عثمان في الخروج منها الى ناحية من النواحي ... حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين ..
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه اتاه عثمان عائدا .
فقال : ما تشتكى ؟ قال : ذنوبي .
____________
(1) انساب الاشراف 5 / 54 ، 55 .
(2) المصدر نفسه 5 / 36 .

( 114 )

قال فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي . قال : افلا آمر لك بعطائك ؟ قال :
منعتنيه وانا محتاج اليه ، وتعطنيه وانا مستغن عنه .
قال : يكون لولدك . قال : رزقهم على الله . فقال عثمان : استغفر الله لي يا ابا عبد الرحمن .
قال : اسأل ان يأخذ لي منك بحقي . واوصى ان لايصلي عليه عثمان » (1) .
لقد أنكر المسلمون على عثمان تصرفاته التي ذكرنا جانبا منها ، لخروجها على روح الاسلام ، وسنة الرسول و « سيرة الشيخين » .
كما انكروا تصرفات اخرى كثيرة .. كان بعضها خروجا سافرا على القرآن وسنة النبي .
وقد لخصها الدكتور طه حسين بقوله : « لقد انكر خصوم عثمان عليه انه لم يكن يبدأ خلافته حتى عطل حداَ من حدود الله . وخالف نصا من نصوص القرآن خلافا خطيرا . وذلك حين عفا عن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ولم يقتص منه للهرمزان وجفينة ، وبنت ابي لؤلؤة .
فقد كان الهرمزان اميرا فارسا مسلما ـ وكان الاخران ذميين . والله قد عصم دماء المسلمين ودماء الذميين ـ وبين الحدود التي تقام حين يعتدى أحد على بعض أولئك او هؤلاء .. فقال المعارضون : ان اقامة الحد على عبيد الله واجبة بنص القرآن (2) .
وقال عثمان : قتل ابوه امس واقتله اليوم (3) والمهم هو ان عثمان عفا عن
____________
(1) البلاذري « انساب الاشراف » 5 / 37 .
(2) البقرة والنساء والمائدة .
(3) وليس في القرآن ما يشير الى استثناء الشخص الذي يقتل ابوه من التعرض لاقامة الحدود الدينية بسبب ذلك القتل . وجريرة عبيد الله انه ـ بعد أن قتل ابو لؤلؤة أباه ـ تناول السيف فقتل ابا لؤلؤة ، كما قتل الهرمزان ، وجفينة ، وبنت أبي لؤلؤة دون ان يثبت اشتراكهم في القتل .
وكان الواجب على عبيد الله ان يتقدم بالشكوى الى الخليفة حسب الاصول المعروفة .

( 115 )

عبيد الله ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه بعد هذه القصة مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته ، وذلك حين اتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي ، والشيخان وقصرها عثمان نفسه اعواما ..
وقد ينبغي ان تعلم ان مصدر هذا الذي اصاب اصحاب النبي حين رأوا عثمان يتم الصلاة بمنى هو مخالفة السنة الموروثة اولا . وشيء آخر عظيم الخطر جدا في نفوس المهاجرين ، وهو :
ان النبي بعد الهجرة قد اتخذ المدينة له ولاصحابه دار اقامة ، واتخذ مكة وما حولها دار غربة ، وكره لنفسه واصحابه ان يصلوا الاقامة بمكة حتى لايظن انهم يرجعون او يهمون بالرجوع اليها بعد ان هاجروا منها ، وكره ان يموت بعض اصحابه المهاجرين في مكة .
وانكر خصوم عثمان عليه شيئا آخر يتصل بركن آخر من اركان الدين . فقالوا :
انه اخذ الزكاة على الخيل ، وكان النبي قد اعفى من زكاة الخيل وسار الشيخان سيرته .
وعاب المسلمون على عثمان انه حمى الحمى ، والله ورسوله قد اباحا الماء والهواء والكلأ للناس جميعا ..
وهناك اعتراض آخر وجهه خصوم عثمان اليه وهو انه اخذ من اموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة . (1)
قال المعترضون : ان لاموال الصدقة مصارف معينة بينها الله في قوله :
« انما الصدقات للفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (2) »
وعاب خصوم عثمان عليه : انه حمل الناس على مصحف واحد .. فحرق ما عدا هذا المصحف من الصحف التي كتب فيها القرآن .. فليس على عثمان بأس
____________
(1) اعتراض غير وجيه لان الانفاق من الصدقات سواء كان في الحرب او في غيره من المرافق العامة « الناشر »
(2) التوبة : 60 .

( 116 )

في دينه من هذه الناحية . وقد يمكن ان تعترض عليه في انه كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من اصحاب النبي وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه وعلموا الناس في الامصار .. وهنا نفهم غضب ابن مسعود . فقد كان ابن مسعود من احفظ الناس للقرآن ... اخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد . فايثار عثمان لزيد بن ثابت واصحابه وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا الى استماع القرآن عن النبي وحفظه عنه قد اثار عليه بعض الاعتراض ..
وربما تحرج المسلمون من تحريق ما حرق عثمان من الصحف ..
واذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل من جهة الدين ولا من جهة السياسة فقد يكون لنا ان نأسف لتحريق تلك الصحف ، لانه ان لم يكن قد اضاع على الاسلام شيئا من دينهم فقد اضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها على ان الامر اعظم خطرا وارفع شأنا من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات ..
وانكر المنكرون على عثمان خصلة اخرى ما نعرف ان العذر يمكن ان يقوم له فيها . ذلك انه رد عمه الحكم بن أبي العاص واهله الى المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اخرجهم منها اخراجا عنيفا .
وكان بيت الحكم بن أبي العاص في الجاهلية مجاورا لبيت النبي . فكان الحكم يؤذي جاره الكريم اشد الاذى واقبحه ..
وقد اقبل الحكم بعد فتح مكة مسلما ولكن اسلامه لم يكن الا جنة يتقى بها الموت . وآية ذلك أنه استمر يؤذي النبي بقوله وفعله ، فكان يسعى وراءه ويغمزه ويقلد حركاته ساخرا منه ..
فقد كان أيسر الرعاية لحرمة النبي يقتضي الا يرده عثمان الى المدينة ، ليساكن النبي فيها ميتا بعد أن أبى النبي أن يساكنه فيها حيا .
وقد دلت سيرة عثمان مع الحكم وبنيه ـ بعد ذلك ـ على انه انما ردهم الى المدينة


( 117 )

ايثارا لهم بالخير وتكاثرا بهم على غيره من المسلمين واستعانة بهم على امور السياسة .
وقد ولى عثمان الحارث بن الحكم شئون المدينة فأسرف على الناس وعلى نفسه وسار سيرة لاتلائم الامانة ، ولا التورع ... ثم لا يقف عثمان عند هذا الحد .
وانما اعطى الحارث مالا كثيرا .
ثم اختص عثمان بمروان بن الحكم فأعطاه ، وحباه ، واتخذه لنفسه وزيرا ومشيرا .. ولم يكن عثمان ليقف بأحداثه عند هذا الحد وانما تجاوزه ، هو وعماله الى اشياء كثيرة تمس حقوق الناس ومصالحهم وحرياتهم » (1) .
ومما زاد الوضع الحرج حراجة ان قسما من اهل بيت عثمان ومن المقربين اليه وممن ساعد على جعله خليفة قد بدأ يؤلب الناس عليه .
« فهذا محمد بن ابي حذيفة .. آذاه ان يؤثر الخليفة عليه سواه من اهله .. فكان يلقى الرجل عائدا من غزوة الروم فيتخابث ويسأل :
امن الجهاد ؟ فيجيبه الرجل بنعم ، فيشير بابهامه الى ناحية الحجاز ويقول :
لقد تركنا خلفنا الجهاد .. جهاد عثمان .. حتى مضى وحقده رائده الى مصر يلوذ بجماعات المخالفين ، (2).
والى هذه الحادثة يشير البلاذري (3) بقوله :
« وكانت غزاة ذات الصواري في المحرم سنة 34 وعليها عبد الله بن سعد ، فصلى بالناس ، فكبر ابن ابي حذيفة تكبيرة افزعه بها .. وجعل ابن ابي حذيفة يقول :
يا اهل مصر انا خلفنا الغزو وراءنا ـ يعنى غزو عثمان .
وبعث عثمان الى ابن ابي حذيفة بثلاثين الف درهم ويحمل عليه كسوة .
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى . عثمان بن عفان » ص 175 ـ 176 .
(2) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 48 .
(3) انساب الاشراف 5 / 50 ، 51 .

( 118 )

فأمر به فوضع في المسجد وقال : يامعشر المسلمين الا ترون الى عثمان يخادعني عن ديني ويرشدني عليه فازداد اهل مصر عيبا لعثمان وطعنا عليه » .
وذاك عبد الرحمن بن عوف يقول للناس : « لو استقبلت من امري ما استدبرت لما وليت عثمان شسع نعلي .
وقال : وهو على فراش الموت : عاجلوه .. عاجلوه قبل ان يتمادى في ملكه » (1) .
وذكر البلاذري (2) :
« حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابراهيم بن سعد ان ابيه قال :
لما توفي ابو ذر بالربذة ، تذكر علي وعبد الرحمن بن عوف فعل عثمان فقال علي :
هذا عملك .
فقال عبد الرحمن : اذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي . انه قد خالف ما اعطاني
وحدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن ابراهيم بن سعد عن ابيه ان عبد الرحمن اوصى ان لا يصلي عليه عثمان » (3) . وذلك عمرو بن العاص ، الذي وجد على عثمان حين عزله عن مصر ..
فكان يؤلب الناس ويحرضهم عليه ما وسعه ذلك سرا . على انه لم يتردد اذ قال لعثمان جهرة في المسجد : انك ركبت بالناس امورا ، وركبناها معك فتب الى الله فنتب . وتلقى عثمان ذلك اسوأ لقاء فلما اشتدت الفتنة ، وعرف عمرو انها منتهية الى غايتها آثر ان يعتزلها في طورها ذاك . فخرج الى ارض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها وجعل يتنسم الاخبار .
وكان عمرو وابناه على ماهم عليه بفلسطين حتى جاءهم النبأ بقتل عثمان . فقال
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود الامام علي بن ابي طالب 2 / 47 .
(2) انساب الاشراف 5 / 74 .
(3) فصلى عليه الزبير بن العوام على رواية ، وسعد بن ابي وقاص على اخرى ، وكان ذلك سنة 32 هـ .

( 119 )

عمرو : انا ابوك عبد الله ما حككت قرحة الا ادميتها . يريد انه مهد للفتنة والثورة لعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الامر الى غايته » (1) .
ويحدثنا عمرو نفسه عن بعض ما فعله في التأليب على عثمان وهو في طريقه الى فلسطين فيقول : والله اني كنت لالقى الراعي فأحرضه على عثمان ! » (2) . وقد هدد عمرو بن العاص عثمان ، حين حضر الحصار الاول قائلا : انك ياعثمان ركبت بالناس النهابير .
فاتق الله وتب اليه . فقال :
يا ابن النابغة وانك ممن يؤلب على الطغام لاني عزلتك عن مصر . فخرج الى فلسطين فأقام بها في ماله هناك ، وجعل يحرض الناس على عثمان حتى رعاة الغنم . فلما بلغه مقتله قال :
أنا أبو عبد الله ، اني اذا حككت قرحة نكأتها ، » (3) .
وتلك عائشة ام المؤمنين خرجت بقميص النبي ، فقالت للناس :
للناس « هذا قميص رسول الله لم يبل وعثمان قد ابلى سنته . ثم تقول : اقتلوا نعثلا . قتل الله نعثلا » (4) .
ولقد كانت عائشة « اشد نساء النبي انكارا على عثمان . ولم تتحرج ان تصيح به من وراء سترها على المنبر حين عاب عبد الله بن مسعود فأسرف في عيبه .
ولم تكن تتحفظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ، ومن سيرة عماله حتى ظن كثير من الناس انها كانت من المحرضين على الثورة به » (5) .
وكانت عائشة تؤلب الناس على عثمان « وتدعوا الى قتله بكل مكان .. ولم تبق بالمدينة لتكف عنه أذى الناس حين حصروه بداره .. وتمضي على الاثر الى مكة فلا يمنعها خروجها لاداء واجب ديني مقدس من محاولة التخذيل عن الشيخ ، وبث كراهيته في نفوس الحجيج القادمين من كافة الاقطار ..
____________
(1) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 67 ، 68 .
(2) عباس محمود العقاد « عبقرية الامام » ص 83 .
(3) البلاذري « انساب الاشراف » 5 / 74 .
(4) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 458 .
(5) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 29 .

( 120 )

ثم راحت ، وهي بموطن الاحرام لاتنى تستنبىء كل قادم ، وتتنسم اخبار المدينة بلهفة .
فلما القى اليها ذات يوم بنبأ مكذوب نم عن انتصار الشيخ على خصومه ، وقتله المصريين ، صاحت بغضب واستنكار :
ايقتل قوما جاءوا يطلبون الحق وينكرون الظلم ؟ « (1) وكانت عائشة ، قبل خروجها الى ـ مكة ، كما ذكرنا ـ كثيرة النقد لعثمان . وقد اغلظت له ذات يوم على مايحدثنا البلاذري (2) « واغلظ لها . وقال :
وما أنت وهذا ؟ أنما أمرك الله أن تقري في بيتك .. فغضبت واخرجت شعرا من شعر رسول الله وثوبا من ثيابه ونعلا من نعاله . ثم قالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم ! وهذا شعره ، وثوبه ، ونعله ، لم يبلى !! » .
فنشأ عن ذلك كله تذمر عام انتشر في ارجاء بلاد الاسلام وبخاصة في الحجاز ومصر والعراق . والغريب في الامر هو : ان عثمان لم يصغ لنصح الناصحين من اعلام الصحابة .. بل استمر خاضعا لتوجيهات مروان بن الحكم ، وتصرفات عماله وامرائه الذين كانوا ـ في الواقع ـ مصدر القلق وموضع الشكوى في بلاد الاسلام .
ولما اخذ الامر يتفاقم على عثمان ، وبدأ الميزان السياسي بالاختلال ، جمع عثمان ـ 34 هـ على ما يقول الرواة ـ كبار امرائه :
معاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن أبي سرح ، وعبد الله بن عامر ، وسعيد ابن العاص ليستشيرهم فيما يجب عليه ان يتخذه من الاجراءات لتطليف حدة التوتر بينه وبين رعيته .
« فلما التأمت جماعتهم قال عثمان : أن لكل امام وزراء ، وانكم وزرائي ..
فامأ معاوية فلم يزد على أن طلب اليه أن يرد العمال الى امصارهم ..
وان يعتمد عليهم في ان يضبط كل واحد مصره ويحزم امره ..
واما سعيد بن العاص فأشار عليه ان يقتل قادة المعارضة وزعماء الفتنة .
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 276 ـ 278 .
(2) انساب الاشراف / 48 ، 49 .

( 121 )

واما عبد الله بن سعد بن أبي سرح : فأشار عليه ان يترضى الناس ويعطيهم من بيت المال ويأخذهم عن طريق اطماعهم .
واما عبد الله بن عامر : فأشار عليه بأن يرسل الناس الى الجهاد ويشغلهم بالحرب ويطيل اقامتهم بالثغور » (1) .
ويلاحظ القارىء أن هذا المؤتمر ـ بالاضافة الى أن اعضاءه هم مصدر الشكوى والتذمر ـ لم ينجح في الاتفاق على حل للمشكلة التي واجهها عثمان .
وسبب ذلك على مايبدو هو : ان اعضاءه لم يتفهموا طبيعة المشكلة التي كانت تهدد خلافة عثمان وحياته على السواء .
وقد شغل اعضاؤه انفسهم ـ كما رأينا ـ في ابتداع اساليب فاسدة جديدة لالهاء الناس في أمور خارجية وصرفهم عن التحدث بمشكلات الساعة ـ اي ان المؤتمرين واجهوا المشكلة بالهروب عنها وعدم التعرض لها .
ومما يلفت النظر : ان عثمان نفسه لم يبد رأيه في المشكلة اطلاقا ، ولم يتخذ اي اجراء ـ وقائي او علاجي ـ لمواجهة الموقف المتأزم ، بله محاولة التغلب عليه .
وخطب عثمان في المتذمرين : ولكنه بدلا من ان يعالج الموقف المتأزم قد ساعد على جعله اكثر تأزما وحراجة حين قال : « اما بعد : فان لكل امة آفة وان لكل نعمة عاهة .
وان آفة هذه الامة وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون ..
اما والله يا معشر المهاجرين والانصار لقد عبتم علي اشياء ونقمتم في امور قد اقررتم لابن الخطاب بمثلها . ولكنه وقمكم وقما ..
اما والله لانا اكثر من ابن الخطاب عدداً » ..
فعثمان ، كما يبدو ، من خطابه هذا ، يشجب الذين انتقدوا سياسته ـ لعدم
____________
(1) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى : عثمان بن عفان » ص 206 ، 207 .
( 122 )

انسجامها مع القرآن والسنة وسيرة الشيخين ـ كما رأينا ـ ويصفهم بأنهم عيابون طعانون ، دون ان يشير الى الامور التي يعيبونها عليه ويطعنون بها على سياسته العامة ، ودون ان يناقش تصرفاته ، وتصرفات عماله وذوي قرابته في ضوء الاحداث القائمة آنذاك .
وانكى من ذلك ان عثمان حاول تبرير ما اخذه المسلمون عليه بقوله :
ان عمر بن الخطاب كان قد فعل مثله دون ان ينقم المسلمون عليه .
والانكى من كل ذلك انه ختم خطبته بالتهديد والوعيد .
وكان الاولى به ان يختمها بذكره وجوه الاصلاح الذي كان الناس يتوقون اليه ، والوعد بالابتعاد عما اعتبره المسلمون المعاصرون لعثمان خروجا على الدين .
ومهما يكن من الامر فقد ازداد التذمر ، وانتشر بين صفوف الجيش في الثغور .
وعاد عبد الله بن سعد ظافراً بقهر اسطول الروم في موقعة ذات الصواري .
ولكنه عاد وقد افسد عليه ـ أبن أبي حذيفة ـ جيشه بما اظهر من النكير عليه وعلى خليفته ، وبما كان يقوله للمحاربين :
انكم تسعون الى الجهاد ـ والجهاد وراءكم في المدينة ـ حيث يقيم عثمان فيسوس الامة على غير كتاب الله ، وسنة رسوله ، وسياسة صاحبيه .
ويعزل اصحاب رسول الله من العمل ، ويولي أمور المسلمين جماعة من الفساق واصحاب المجون .
انظروا الى واليكم وقائدكم الى الجهاد انه نزل القرآن بكفره واهدر النبي دمه .
ولكن عثمان يوليه امركم على ذلك لانه اخوه في الرضاعة » (1) .
وقد نتجت عن ذلك كله ـ بالاضافة الى ماذكرنا ـ معارضة شعبية خفية تجري بها الالسنة ولا يعرف صاحبها . كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي فقال الناس :
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » ص 128 .
( 123 )

يوسع مسجد النبي ويترك سنته ، وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة واقبل الشباب على الرمي فتقدم عثمان الى الناس في ذبح الحمام .
وولى رجلا يمنع الرمي بالبندق ، فقال الناس : يأمر بذبح الحمام ، ويؤوي طريد رسول الله !! يشيرون بذلك الى ايواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه » (1) .
قال البلاذري (2) « حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : خطب عثمان فأمر بذبح الحمام .. فقال الناس : يأمر بذبح الحمام وقد آوى طرداء رسول الله » .
والسؤال الذي لابد من طرحه وتلمس الاجابة عليه هو :
« اين نشأت المعارضة لسياسة عثمان ؟ انشأت في المدينة مستقر الخلافة ؟ ام نشأت في الامصار ؟ وبعبارة ادق ..
هل نشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والانصار ثم انتقلت عنهم الى الجند المرابطين في الامصار ؟
ام نشأت في الجند ثم انتقلت الى اصحاب النبي في المدينة ؟
وواضح جداً ان للاجابة على هذا السؤال خطراً وأي خطر .
فان نشأة المعارضة في المدينة معناها : ان اصحاب النبي قد كانوا اول من انكر على عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس .
ونشأة المعارضة في الامصار معناها : ان الجند هم الذين سبقوا الى الخلاف ثم اقحموا فيه وفي نتائجه اصحاب النبي .. ونرى ان المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها ، وانما نشأت فيها وفي الاقاليم ، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في اطراف الاقاليم » (3) .
____________
(1)الدكتور طه حسين :« الفتنة الكبرى » عثمان بن عفان ص 168 .
(1)انساب الاشراف » 5 / 27 .
(3)الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، عثمان بن عفان » ص 136 .

( 124 )

ومن الادلة على ذلك ما سلف ان ذكرناه من مواقف كبار الصحابة من تصرفات ابن عفان . فقد مر بنا ذكر جانب من موقف ابي ذر ، وعبد الله ابن مسعود ، وعمار بن ياسر .
وفي التاريخ الاسلامي امثلة كثيرة اخرى من هذا القبيل ، ويلوح للباحث ان النقمة على عثمان قد انتقلت ـ في عاصمة النبي ـ من طبقات كبار الصحابة الى من يأتون بعدهم مباشرة في المركز الاجتماعي والديني .
وموقف جبلة بن عمرو الساعدي وامثاله معروف لدى الكثيرين .
وقد ذكر البلاذري (1) موقف جبلة هذا حين قال : « مر عثمان بن عفان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو على باب داره وقد انكر الناس عليه ما انكروه . فقال : يا نعثل والله لاقتلك ولاحملنك على قلوص جرباء .. اطمعت الحارث ابن الحكم السوق وفعلت ما فعلت ! !
وكان عثمان ولى الحارث بن الحكم السوق . فكان يشتري الحليب بحكمه ويبيعه بسومه ويجبي مقاعد المتسوقين ، ويصنع صنيعا منكراً .
فكلم في اخراج السوق من يده فلم يفعل . وقيل لجبلة في امر عثمان وسئل الكف عنه فقال : والله لا القى الله غداً فأقول : انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا » (2) .
وقد دفع ذلك الامتعاض والاضطراب الذي حدث في بعض الاقاليم الاسلامية اصحاب الرأي فيها الى ان يرسلوا بعض وجوههم وفوداً الى عاصمة الخلافة لمقابلة عثمان والتداول معه في الامر لايجاد مخرج من هذه الازمة الحادة والفتنة الغليظة المظلمة .
غير أن تصرفات مروان بن الحكم ـ وزير الخليفة وموضع سره ومصدر توجيهه ـ قد أفسدت الامر . ومع ذلك فقد رجعت الوفود الى امصارها يحدوها اليأس الذي لا يخلو من أمل في الاصلاح ، وتساورها الرهبة من البطش ممزوجة بالرغبة في التريث وانتظار مجريات الامور .
____________
(1) انساب الاشراف 5 / 47 .
(2) الأحزاب : 67 .

( 125 )

ولكن مؤامرات مروان لم تقف عند حد فاختلق على لسان الخليفة كتابه المعروف للايقاع بأهل مصر .
واطلع هؤلاء على المؤامرة قبل أن تطأ اقدامهم أرض الكنانة فانقلبوا راجعين .. فثار الناس على عثمان فقتلوه .. (1)

* * *

لقد مر بنا التحدث عن مقتل عثمان ويجمل بنا ـ قبل أن نتطرق الى ذكر انتقال الخلافة الى علي بن ابي طالب ـ أن ننبه القارىء الى أن مروان بن الحكم ، ومعاوية بن أبي سفيان قد بدءا ـ منذ ان سمعا بمقتل عثمان ، وبيعة المسلمين لعلي ـ بالتهيؤ للخروج على امام زمانهما متذرعين بالمطالبة بدم الخليفة القتيل .
وكانت باكورة اعمالهما ارسال جملة كتب الى من آنسا فيهم القدرة على مشاركتهما اساليبهما واهدافهما تمهيداً للقيام بعصيان مسلح ضد الخليفة الجديد .
والى القارىء نبذاً من تلك الرسائل :
كتب مروان الى معاوية .. « اني كتبت اليك هذا الكتاب بعد مقتل عثمان .
____________
(1) يجد القارىء نص الكتاب وملابسات القضية موجودة في أمهات كتب التاريخ ، وقد وجدنا تلخيصاً جميلاً لذلك كله في « الاصابة في تمييز الصحابة » 2 / 455 ، 456 ، لابن حجر العسقلاني ، وفي كتاب « الوزراء والكتاب » للجهشياري ص 22 ـ 30 مطبعة مصطفى محمد ، الطبعة الاولى بمصر عام 1938 م ، قال الجهشياري : « لما صار المصريون بأيلة راجعين عن عثمان مر بهم راكب انكروا شأنه فأخذوه ، فاذا هو غلام لعثمان على جمل له معروف ، وكان عثمان يحج عليه ، ففتشوه فوجدوا معه قصبة من رصاص فيها صحيفة عليها خاتم عثمان ، ففتحوا الصحيفة فاذا فيها كتاب من عثمان الى عبد الله بن سعد عامله على مصر فيه : اذا قدم عليك فلان وفلان ، وفلان وفلان فاضرب اعناقهم ، وفلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم ... فكروا راجعين ... فأقرءوا الكتاب اصحاب النبي ، فعاتب قوم عثمان على ذلك ، فقال : أما الخط فخط كاتبي مروان ، وأما الخاتم فخاتمي ، والله ما أمرت بذلك ... فقال القوم : ان كنت كاذباً فلا امامة لك ، وان كنت صادقاً فليس يجوز أن يكون اماما من كان بهذه المنزلة من الغفلة » .
( 126 )

بعد أن وثبوا عليه وسفكوا دمه وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد افرغت ماءها منكفئين قبل ابن ابي طالب انكفاء الجراد ابصر المرعى .
فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الامر بمجرى العيوق فان لم يثأره ثائر فان شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه » .
فلما ورد الكتاب على معاوية امر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة ابكى منها العيون وقلقل القلوب حتى علت الرنة وارتفع الضجيج وهم النساء ان يتسلحن .
ثم كتب الى طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن والعوام ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله ابن عامر ، والوليد بن عقبة ، ويعلى بن امية . فكان كتاب طلحة :
« أما بعد فانك اقل قريش في قريش وتراً مع صباح وجهك ، وسماحة كفك ، وفصاحة لسانك ، فأنت بازاء من تقدمك في السابقة ، وخامس المبشرين بالجنة ، ولك يوم أحد وشرفه ، وفضله ، فسارع الى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعفك التخلف عنه ولا يرضى الله منك الا بالقيام به . فقد احكمت لك الامر من قبلي ، والزبير غير متقدم عليك بفضل . وايكما قدم صاحبه فالمقدم الامام وامر من بعده للمقدم له » .
وكتب الى الزبير : أما بعد فانك الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه وسلفه وصهر ابي بكر وفارس المسلمين .
اعلم ان الرعية اصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي . فسارع الى حقن الدماء .
فقد احكمت لك الامر من قبلي ولصاحبك ، على ان الامر المتقدم ثم لصاحبه من بعده ..
ثم كتب معاوية الى مروان بن الحكم : أما بعد .. فقد وصل الى كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين .. فاذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لايصطاد الا غيلة ولا يتشازر الا عن حيلة ، وكالثعلب لا يفلت الا روغاناً .