فلما استوثق لطلحة والزبير امرهما ، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما اصحابهما قد البسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب . فانتهوا الى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف اليه واقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره اصحاب طلحة والزبير ، وقدموا الزبير ، فجاءت السيابجة (1) . فأخروا الزبير وقدموا عثمان بن محنيف ، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخروا عثمان ، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع ، وصاح بهم : المسجد .. فغلب الزبير فصلى بالناس .
فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المسلمين : ان خذوا عثمان بن حنيف ، فأخذوا وضربوه ضرب الموت ، ونتف حاجباه واشفار عينيه وشعر رأسه ووجهه واخذوا السيابجة ... فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف الى عائشة .. فأمرت بذبح السيابجة ، فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف اول غدر كان في الاسلام » (2) .
ويجمل بنا ـ اكمالا للبحث في هذه النقطة ـ أن ننقل للقارىء قصة الناكثين كما رواها ابن الاثير (3) :
« خرجت عائشة الى مكة وعثمان محصور ، ثم خرجت من مكة تريد المدينة ، فلما كانت بسرف (4) لقيها رجل من اخوالها من بني ليث يقال له : عبيد الله بن ابي سلمة ـ وهو ابن أم كلاب ـ فقالت له : مهيم ؟ قال : قتل عثمان وبقوا ثمانيا .. قالت : ثم صنعوا ماذا ؟ قال : اجتمعوا على بيعة علي فقالت :
ليت هذه انطبقت على هذه .. ردوني .. فانصرفت الى مكة تقول : قتل عثمان .
____________
(1) وهم : الشرطة حرس بيت المال ، وهم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحرس سجون .
(2) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 2 / 497 ـ 501 .
(3) الكامل في التاريخ : 5 / 105 ـ 133 .
(4) موقع بين مكة والمدينة .

( 148 )

مظلوما (1) ، فقال لها عبيد الله بن ابي سلمة :
ان اول من امال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلا فقد كفر .

فمنك البداء ومـنـك الغيـر * ومنك الريـاح ومنـك المطر
وأنت أمـرت بقتـل الامام * وقلت لـنا : انـه قد كـفر
فهبنا اطعنـاك في قتـلـه * وقـاتله عندنا من أمــر

فانصرفت الى مكة فقصدت الحجر فتسترت فيه ، فاجتمع الناس حولها ، فقالت : ايها الناس ان الغوغاء من اهل الامصار .. سفكوا الدم الحرام .. والله لاصبع عثمان خير من طباق الارض .
وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير ، ويعلى بن امية ـ بن منية ـ من اليمن فلقيا عائشة ، فاستقام الرأي على البصرة ، وكان ازواج النبي مع عائشة على قصد المدينة ، فلما تغير رأيها الى البصرة تركن ذلك .
وخرجت عائشة ومن معها من مكة ، فلما خرجوا منها اذن مروان بن الحكم
ثم جاء طلحة والزبير وقال : على ايكما اسلم بالامرة ، فقال عبد الله بن الزبير على ابي ، وقال محمد بن طلحة على ابي ، فأرسلت عائشة الى مروان وقالت له :
أتريد أن تفرق أمرنا ؟ ليصل بالناس ابن أختي عبد الله بن الزبير .
وكان معاذ بن عبد الله يقول : والله لو ظفرنا لاقتتلنا ، ماكان الزبير يترك طلحة والامر ، ولا كان طلحة يترك الزبير والامر .. فلما بلغوا ذات عرق لقى سعيد بن العاص مروان بن الحكم واصحابه بها فقال : أين تذهبون وتتركون ثأركم على اعجاز الابل وراءكم ؟ يعني عائشة ، وطلحة والزبير ، اقتلوهم ثم ارجعوا الى منازلكم .
____________
(1) لابد ان القارىء قد لاحظ ان السيدة عائشة لم تعلق بشيء حين سمعت بمقتل عثمان ، ولكنها ثارت لمجرد سماعها باجماع المسلمين على بيعة علي فطلبت ان يردوها الى مكة واصبح عثمان مظلوما بنظرها .
( 149 )

ثم خلا بطلحة والزبير فقال : ان ظفرتما لمن تجعلان الامر ؟ ومضى القوم ، ومروا بماء الحوأب فنبحتهم كلابه ، فأتوا الحفير .
ولما بلغ ذلك اهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين ، وابا الاسود الدؤلي وقال لهما : انطلقا الى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها .
فخرجا : فأتيا اليها بالحفير ، فأذنت لهما فدخلا وسلما ، وسألاها عن سبب خروجها .
فقالت : المطالبة بدم عثمان ... فأتيا طلحة ... فقال : المطالبة بدم عثمان ، فأتيا الزبير وقال لهما : مثل قول طلحة ، فرجعا الى عثمان بن حنيف وأخبراه ...
واقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا الى المربد ... فتكلم طلحة بالناس وذكر عثمان وفضله ... ودعا الى الطلب بدمه وحثهم على الاخذ به .
وكذا فعل الزبير ، وعائشة ... واقبل جارية بن قدامة السعدي وقال : يا أم المؤمنين :
والله لقتل عثمان اهون من خروجك من بيتك ... وقد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وابحت حرمتك ...
وخرج غلام شاب من بني سعد الى طلحة والزبير وقال : هل جئتما بنسائكما ؟

صنـتم حلائلكم وقدتم امـكم * هذا لـعمرك قلة الانصـاف
أمرت بـجر ذيولها في بيتها * فهوت تشق البيد بالايجـاف
غرضا يقـاتل دونها ابناؤها * بالنيـل والخطى والاسيـاف
هتكت بطلحة والزبير ستورها * هذا الـمخبر عنهم والكـاف


ـ وجرت بين الطرفين مناوشات باللسان وبالسيف ـ
ثم كتبا كتابا للصلح وتهادنا .. وجاء في كتاب الصلح :
هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما ... وعثمان بن حنيف ومن معه .
ان عثمان يقيم حيث ادركه الصلح على مافي يده ، وان طلحة والزبير يقيمان


( 150 )

حيث ادركهما الصلح على مافي ايديهما .. ولايضار واحد من الفريقين في مسجد ولا سوق ولا طريق .. ولكن طلحة والزبير جمعا رجالهما في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر .
ثم قصد المسجد فوافقا صلاة العشاء .
فقاتلوا أصحاب عثمان بن حنيف في المسجد .. وأخذوا عثمان أسيرا .
وضربوه اربعين سوطا ونتفوا لحيته ، وحاجبيه واشفار عينيه وحبسوه .
وكتبت عائشة الى زيد بن صوحان :
من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله الى ابنها الخالص زيد بن صوحان اما بعد : فان اتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا فان لم تفعل فخذل الناس عن علي ، فكتب اليها :
اما بعد : فأنا ابنك الخالص ان اعتزلت ورجعت الى بيتك . والا فأنا اول من نابذك . وقال زيد :
رحم الله أم المؤمنين امرت ان تلزم بيتها وامرنا ان نقاتل ، فتركت ما امرت به وامرتنا به وصنعت ما امرنا به ونهيتنا عنه .
وقام طلحة والزبير خطيبين يطالبان بدم عثمان .. فقال الناس لطلحة : يا ابا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا .. ثم قام رجل من عبد قيس فقال :
يا معشر المهاجرين .. لما توفي الرسول بايعتم رجلا منكم فرضينا وسلمنا . . ثم مات واستخلف عليكم رجلا فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا .
فلما توفي جعل امركم الى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا
ثم انكرتم منه شيئا فقتلتموه عن غير مشورة منا .
ثم بايعتم عليا عن غير مشورة منا . فما الذي نقمتم عليه فنقاتله ؟ هل استأثر بفيء ؟ ام عمل بغير الحق ؟ أو أتى شيئا تنكرونه ؟ فنكون معكم عليه . والا فما هذا ؟ فهموا بقتل ذلك الرجل فمنعته عشيرته .
فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منه سبعين .


( 151 )

وبقى طلحة والزبير [ بعد اخذ عثمان بن حنيف ] بالبصرة ومعهم بيت المال والحرس .
وتجهز علي الى الشام . فبينما هو كذلك اتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة . فتوجه الى البصرة ووقعت الحرب وانتصر علي ، فدخل البصرة ... وراح الى عائشة وهي في دار عبد الله بن خلف .. وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة ... فلما رأته كلمته بكلام غليظ . فلم يرد عليها شيئا ، ودخل على عائشة وسلم عليها وقعد عندها . ثم قال : جبهتنا صفية ... فلما خرج اعادت صفية عليه قولها . فكف بغلته وقال :
هممت أن افتح هذا الباب ـ واشار الى باب في الدار ـ واقتل من فيه . وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم .
وكان مذهبه الا يقتل مدبرا ولا يدنف على جريح (1) ولا يكشف سترا ولا يأخذ مالا .
ولما خرج علي ... قال له رجل من أسد : والله لاتغلبنا هذه المرأة . فقال له :
لا تهتكن سترا ، ولا تدخلن داراً ، ولا تهيجن امرأة بأذى ، وان شتمن أعراضكم وسفهن امراءكم وصلحاءكم .. ومضى فلحقه رجل فقال يا امير المؤمنين :
قام رجلان على الباب فتناولا من هو امض شتما لك من صفية . قال :
ويلك لعلها عائشة ! قال نعم ، فبعث القعقاع بن عمرو الى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على رجلين من ازد الكوفة وهما : عجلان ، وسعد ، ابنا عبد الله ، فضربهما مئة سوط واخرجهما من ثيابهما .
ثم جهز عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك ، وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها الا من احب المقام ، واختار لها اربعين امرأة من نساء البصرة والمعروفات .
وسير معها اخاها محمد بن ابي بكر .
____________
(1) يدنف : اي مجهز عليه بالقال . « الناشر »
( 152 )

فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه اتاها علي فوقف لها .
وحضر الناس ، فخرجت وودعتهم ، وقالت :
يا بني لا يعتب بعضنا على بعض ، انه والله ما كان بيني وبين علي في القديم الا ما يكون بين المرأة وأحمائها ... وشيعها على اميالا وسرح بنيه معها يوما .
وقال عمار حين ودعها : ما ابعد هذا المسير من العهد الذي عهد اليك ؟ قالت : والله انك ـ ما علمت ـ تقول الحق . قال : الحمد لله الذي قضى على لسانك لي » .
تلك هي قصة الناكثين . ولا نشك في ان القارىء قد لاحظ معنا الجرائم الكثيرة التي قاموا بها ؛ ومدى صلتها بالمطالبة بدم الخليفة الذبيح . فقد لفق الزبير وطلحة خمسين شاهد زور لعائشة في ماء الحوأب .
وكانت اول شهادة زور في الاسلام ، على مايروي المؤرخون . وفي معرض التحدث عن شهادة الزور بنظر النبي يقول البخاري في صحيحه ( ج 8 ص 48 ) بأسانيده المختلفة عن ابي بكرة قال : « قال النبي اكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور ثلاثاً اقولها ، او اقول شهادة الزور .
فما زال يكررها ، قلنا : ليته سكت !! » .
على أن أم المؤمنين ـ لو كانت جادة في امر عودتها الى المدينة قبل ان تبلغ البصرة ـ لما ثناها عن ذلك ـ برأينا ـ شهود الزور . ذلك لانهم لم ينفوا مرورهم بالحوأب وانما قالوا : انهم مروا به قبل فترة .
وقد نكث الزبير وطلحة بيعتهم لعلي ، ونقضا عهدهما لعثمان بن حنيف مخالفين بذلك نص الاية الكريمة :
« وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسئولا »
كما اعتديا على حرمة المسجد وعلى الصلاة وقتلا السيابجة غدراً وصنعا ماصنعا بعثمان


( 153 )

ابن حنيف والي البصرة ، ولعل موقف الناكثين في باطلهم من عثمان بن حنيف ـ في حقه ـ يعيد الى الذاكرة ـ على قاعدة وبضدها تتميز الاشياء ـ موقف النبي على حقه من سهيل بن عمرو ـ وهو على باطل ـ حين قال عمر بن الخطاب للنبي على مايحدثنا الطبري (1) . :
« انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين ، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن ابداً . فقال رسول الله : لا امثل به فيمثل الله بي وان كنت نبياً » .
فقد امتنع الرسول الكريم عن التمثيل بأحد شيوخ المشركين ، في حين ان عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد مثلوا بأمير البصرة وهو شيخ من افاضل المسلمين دون ان يقترف ذنبا يستحق عليه العقاب اللهم الا الوقوف بوجه العصاة على الخليفة ومن ورائه كتاب الله وسنة الرسول .
ولسنا نعلم صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان .
وهل : الاعتداء على عثمان ـ بغض النظر عن مسبباته ـ اكثر فظاعة من الاعتداء على عثمان بن حنيف واصحابه ؟
ولماذا اعتدى طلحة والزبير على مسلمي البصرة ؟
هل يجيز الدين الحنيف ذلك الاعتداء من حيث المبدأ العام ؟ ومن حيث الشكل الذي وقع فيه ؟
ذكر الامام مسلم (2) بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : « قال رسول الله : اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : اذا حدث كذب ، واذا عاهد غدر ، واذا وعد اخلف ، واذا خاصم فجر » .
____________
(1) تاريخ الامم والملوك 2 / 289 .
(2) صحيح مسلم 1 / 42 .

( 154 )

والمنافقون ، كما وصفهم الله في سورة المنافقين :
« واتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ألا ساء ما كانوا يعملون » (1) .
ونحن نترك للقارىء تقدير الخلال الاخرى « تزيد عن الخلال الاربع » التي اتصف بها الناكثون .
ويتجسم ذلك الموقف اذا ما وازنه القارىء بموقف الامام الكريم ، في حربه وسلمه ، مع خصومه وانصاره على السواء .

* * *

____________
(1) المنافقين : 2 .
( 155 )

القاسطون

لقد مر بنا الحديث ـ في فصل سابق ـ عن حركة الناكثين ، تلك الحركة التي زرعت بذور التمرد ـ على النظام ـ في جسم المجتمع الاسلامي في عهد الامام
وحركة الناكثين ماهي ـ في الواقع ـ الا جانب واحد من جوانب الصراع المسلح بين علي ومناوئيه ، وهي صورة من اروع صور الصراع بين الحق والباطل .
وقد شجعت فتنة الجمل ـ القاسطين ـ الحائرين ـ معاوية واصحابه على القيام بعصيان مسلح على نظام الحكم في البلاد ، كما أتاحت لهم فرصة التجمع وحشد قوى الشر والارهاب لمقاومة مبادىء الدين الحنيف الممثلة في خلق الامام وفي سياسته العامة .
وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الامام لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والاخلاق . من ذلك مثلا :
أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب كان قد التحق بمعاوية « خوفا من علي ان يقيده بالهرمزان . وذلك ان ابا لؤلؤة ـ غلام المغيرة بن شعبة ـ قاتل عمر كان في ارض العجم غلاما للهرمزان فلما قتل عمر شد عبيد الله على الهرمزان فقتله ...
وكان الهرمزان عليلا في الوقت الذي قتل فيه عمر .. فعفا عثمان عن عبيد الله فلما صارت الخلافة لعلي اراد قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان لقتله اياه ظلما من غير سبب استحقه . فلجأ الى معاوية » (1) .
____________
(1) المسعودي « مروج الذهب ومعادن الجوهر » 2 / 261 .
( 156 )

ولجأ الى معاوية كذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ عامل علي في احدى خطط فارس .
وسبب ذلك ان مصقلة كان قد اشترى اسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم . « فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال : لو طلبت اكثر من هذا المال الى ابن عفان مامنعني اياه .
ثم احتال حتى هرب من البصرة ولحق بمعاوية . فتلقاه معاوية احسن لقاء واطمعه وارضاه حتى طمع مصقلة في ان يحمل اخاه نعيم بن هبيرة على ان يلحق به . » (1)
وهكذا نجد ابن هند يحتضن الجناة ـ الفارين من وجه العدالة ـ ويغدق عليهم العطاء من بيت مال المسلمين فيزرع بتصرفه هذا بذور فساد الاخلاق في المسلمين ويشجع الناس على الخروج على مبادىء الدين الحنيف .
ولم تقتصر نتائج ذلك الزمن الذي عاش فيه ابن أبي سفيان بل تعدته فسارت في سجل الزمن منذ مصرع الإمام حتى يومنا هذا .
لقد تمرد معاوية على الخليفة وتنكر لمبادىء الدين متظاهرا بالطلب بدم عثمان ابن عفان (2) . ومعاوية ـ كما ذكرنا هو :
ابن هند آكلة الاكباد ، وأبوه ابو سفيان : الذي حارب النبي ... ولم يسلم الا بأخرة حين لم ير من الاسلام بداً ، وحين لم يكن الا ان يختار بين الاسلام والموت ...
ولم تكن ام معاوية بأقل من أبيه تنكراً للاسلام وبغضا لاهله وحفيظة عليهم .. حتى فتحت مكة فأسلمت كارهة كما اسلم زوجها كارها . (3) .
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 127 .
(2) في حين ان ولى عثمان الذي يسوغ له المطالبة بدمه من الناحية الشرعية هو ابنة عمرو كما ذكرنا .
(3) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 61 .

( 157 )

وكان على معاوية ـ اذا فرضنا انه يجوز له ان يطالب بدم عثمان ـ (1) ولو انصف واخلص نفسه للحق ان يبايع كما بايع الناس .
ثم يأتي الى علي ـ مع اولياء عثمان ـ فيطالبون بالاقادة ممن قتله . ولكن معاوية لم يكن يريد ان يثأر لعثمان (2) بمقدار ما كان يريد ان يصرف الامر عن علي . وآية ذلك ان الامر استقام له ـ بعد مصرع الامام ـ فتناسى ثأر عثمان ولم يتبع قتلته ..
فالطلب بدم عثمان اذن لم يكن الا اقصوصة اشترك في صوغها كل منافس لعلي ، حاقد عليه . وقد وسع كل شيء ووصل الى كثير من الغايات الا الثأر للشيخ القتيل » .
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 301 .
(2) ليس لدى الباحث من الادلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراك معاوية ـ بطريقة غير مباشرة ـ في التآمر على قتل عثمان ، فقد وهن العظم من عثمان وبلغ من الكبر عتيا . وليس من الممكن او المعقول ان تنتقل الخلافة الى معاوية دون ان يقتل عثمان ، وان بقاء عثمان سنتين او ثلاثا في الحكم ـ وتعديل سيرته السياسية ـ لم يكن في صالح معاوية واذا لم يكن معاوية قد الب الناس على الشيخ او خذلهم عن نصرته فقد تقاعس عن مساعدته في احرج الظروف ، فقد ساهم في قتله من الناحية السلبية على أسوأ الفروض . ذلك لان معاوية ، بحكم مركزه في الشام الذي استمر زهاء عشرين عاما كان هو الوالي الوحيد الذي باستطاعته انقاذ حياة ابن عفان . ويجمل بنا في هذا الصدد ، ان نذكر القارىء بالمحاورة الطريفة التي جرت بين معاوية وابي الطفيل حول تقاعس كل منهما عن نصرة عثمان . فقد سأل معاوية ابا الطفيل ـ متخابثا ـ عن تقاعسه عن نصرة الخليفة ، فأجاب هذا بأن تقاعسه كان ضمن التقاعس العام الذي ابداه المهاجرون والانصار . ثم وجه السؤال نفسه الى معاوية فأجابه بأن طلبه بدمه ـ في خلافة علي ـ نصرة له . فضحك ابو الطفيل ثم قال : انت وعثمان كما قال الشاعر :

لا الفينك بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي

هذا الى ان معاوية باسناده امارة مصر لابن العاص ـ الذي عزله عثمان عنها فجعله من المؤلبين عليه ـ قد برهن بوضوح على ان المطالبة بدم عثمان وسيلة للثورة على علي .

( 158 )

وكان رأي علي في الموضوع كما يذكر ابن حجر العسقلاني (1) « أن يدخل معاوية واصحابه في الطاعة .
ثم يقوم ولي دم عثمان بن عفان فيعمل الامام معه ما فيه حكم الشريعة . » .
وقد اشار الامام علي الى ذلك في احدى رسائله الى اهل الامصار بعد صفين حين قال (2) :
« وكان بدء امرنا ان التقينا والقوم من اهل الشام والظاهر ان ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الاسلام واحدة ... والامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء . فقلنا تعالوا نداوي مالا يدرك باطفاء الثائرة وتسكين العامة حتى يشتد الامر ويستجمع فنقوى على وضع الحق في مواضعه .
فقالوا : بل نداويه بالمكابرة . فأبوا حتى ضجت الحرب .. فلما ضرستنا واياهم ووضعت مخالبنا فينا وفيهم اجابوا عند ذلك الى الذي دعوناهم اليه . » .
ويلوح للباحث ان الخروج على ما توطا الناس عليه من العرف والخلق كان هو القاعدة العامة للاسرة الاموية في الجاهلية والاسلام .
وكتب التاريخ العربي زاخرة بالامثلة على ذلك . وقد مر بنا ـ في فصل سابق ـ ذكر كثير من الشواهد والامثلة في هذا الباب عندما تظاهر رؤوس الامويين في الانضواء تحت لواء الاسلام .
أما في الجاهلية فيجد الباحث :
على الرغم من قلة الاخبار الموثوقة عن سيرتهم ـ قصصا ممتعة في هذا المضمار . من ذلك مثلا ماذكره ابن الاثير (1) حين قال :
« كان لعبد المطلب جار يهودي يقال له : أذينة : يتجر وله مال كثير . فغاظ ذلك
____________
(1) الاصابة في تمييز الصحابة 2 / 501 ، 502 .
(2) شرح نهج البلاغة 4 / 161 ، 162 .
(3) الكامل في التاريخ 2 / 9 .

( 159 )

حرب بن امية .. فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله . فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن حرب بن عمرو بن كعب التيمي جد ابي بكر » .
وتتلخص حركة القاسطين ـ من حيث وقوع حوادثها من الناحية التاريخية ـ على الشكل التالي (1) :
« لما عاد علي الى البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة ... وبعث جرير بن عبد الله البجلي ... وكتب معه كتابا الى معاوية يدعوه فيه الى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والانصار من طاعته ، فسار جرير الى معاوية .
فلما قدم عليه ماطله معاوية واستنظره ، واستشار عمرو بن العاص فأشار عليه ان يجمع اهل الشام ويلزم عليا دم عثمان ويقاتله بهم . ففعل معاوية ذلك . وكان اهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان ـ الذي قتل فيه ـ مخضوبا بالدم ..
وضع معاوية القميص مدة وهو على المنبر . واقسموا الا يمسهم الماء للغسيل من الجنابة والا يناموا على الفراش حتى يقتلوا : قتلة عثمان ، ومن قام دونهم قتلوه .
فلما عاد جرير الى علي واخبره خبر معاوية واجتماع اهل الشام على قتاله . خرج علي فعسكر بالنخيلة .. وسرح الاشتر ببعض الجند امامه .. وقال له :
اياك ان تبدأ القوم بقتال : ولاتدن منهم دنو من يريد ان ينشب الحرب ، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس . حتى اقدم عليك ..
واصبح علي على غدوة الاشتر ..
وكان معاوية قد سبق .. فأخذ شريعة الفرات .. فطلب اصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا . فأتوا عليا فأخبروه بعطشهم .. فدعا صعصعة بن صوحان . فأرسله الى معاوية يقول له :
____________
(1) ابن الأثير : « الكامل في التاريخ » 3 / 141 ـ 160 .
( 160 )

انا سرنا سيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الاعتذار اليكم . فقدمت لنا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل ان نقاتلك ، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك . وهذه اخرى قد فعلتموها ، منعتم الناس عن الماء .. فأبعث الى اصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ... لننظر فيما بيننا وبينك ، وفيما قدمنا له ..
فأصر معاوية واصحابه على المنع ..
فلما علم علي بذلك قال :
قاتلوهم على الماء ... فقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء .
وصار الماء في ايدي اصحاب علي ، فقالوا :
والله لاتسقيه اهل الشام ، فأرسل علي الى اصحابه ان خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم ..
ثم ان عليا دعا أبا عمر وبشير بن عمرو بن محصن الانصاري ، وسعيد بن قيس الهمداني ، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم : ائتوا هذا الرجل وادعوه الى الله والى الطاعة والجماعة ... فأتوه .. فبتدأ بشير ... وقال يامعاوية :
انشدك الله ان تفرق هذه الامة وتسفك دماءها بينها ..
فقطع معاوية عليه الكلام وقال :
ونترك دم عثمان ؟ والله لا افعل ذلك ابداً . فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي ... فقال : يامعاوية .
والله لايخفى علينا ما تطلب ، انك لم تجد شيئا تستغوى به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم الا قولك قد قتل امامك مظلوما ، فنحن نطالب بدمه .. وقد علمنا انك ابطأت عنه بالنصر واحببت له القتل لهذه المنزلة التي اصبحت تطلب .
فاتق الله يا معاوية ولا تنازع الامر اهله ، قال معاوية :
ان اول ماعرفت به سفهك ... ان قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم ... كذبت ولؤمت ايها الاعرابي الجلف ...


( 161 )

انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم الا السيف .. فأتوا عليا فأخبروه بذلك .. فجرت مناوشات بالسلاح بين الفريقين بدأها أهل الشام في اوخر عام 36 هـ .
ثم دخلت سنة 37 هـ وفيها جرت موادعة بين علي ومعاوية ، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضى المحرم طمعاً في الصلح .
واختلف بينهما الرسل .. فلم يسفر ذلك عن شيء .. فلما انسلخ المحرم .. خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبثان الناس .. وعلي يقول لاصحابه :
لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فأنتم على حجة وترككم قتالهم حجة اخرى ، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ، ولاتجهزوا على جريح ، ولاتكشفوا عن عورة ، ولاتمثلوا بقتيل .
ولاتهتكوا ستراً ، ولاتدخلوا داراً ، ولاتأخذوا شيئاً ، ولاتهيجوا امرأة وان شتمن اعراضكم وسببن امراءكم وصلحاءكم .
وكان علي يقول بهذا المعنى لاصحابه في كل مكان » .
ذلك مايتصل بالمرحلة التمهيدية لحرب صفين قبل ان ينشب القتال بين الطرفين ، ونحسب ان القارىء قد لاحظ معنا جملة أمور :
منها : سعى الامام الى دعوة ابن ابي سفيان ـ بالطرق السليمة المألوفة ـ الى عدم شقه عصا الطاعة على النظام ، واحداث الفتنة بين المسلمين ، ليتسنى للخليفة ـ بعد ذلك ـ ان ينظر في الطلب الذي يقدمه له عمرو بن عثمان بن عفان ـ ولى عثمان حسب منطوق الآية التي ذكرناها ـ بشأن المتهمين بقتل عثمان كي يجري التحقيق اللازم ويتخذ الاجراءات القانونية بحق الجناة .
ولكن معاوية ألب الناس على الامام واتخذ قميص عثمان ستاراً للخروج على النظام ؛ وسار بجيوشه متمرداً باغيا يريد العراق . واستولى على ماء الفرات في موقع تجمع الجيشين ومنع اصحاب الامام الذين لم يخرجوا لقتاله بل للتفاوض معه عساه يثوب الى رشده فيحقن دماء المسلمين .


( 162 )

فاضطر الامام الى دعوة اصحابه لقتالهم على الماء فقط ، بعد ان فشلت مساعي صعصعة ابن صوحان كما رأينا ، وبعد أن بلغ العطش بأصحابه حداً لا يطاق .
وعندما اصبح الماء بحوزة اصحابه امرهم بالسماح لخصومه بالاستقساء .
ولم يثنه غدر ابن ابي سفيان وامشاجه ـ وخروجهم متمردين من الشام ، وابتداؤهم اصحابه بالقتال وحجزهم الماء عنهم ـ عن مواصلة مساعيه السلمية .
فأرسل بشير الانصاري ، وسعيد الهمداني ، وشبث التميمي ، لمفاوضة معاوية واقناعه بالانصياع الى اوامر الله وسنة الرسول .
فأغلظ معاوية لهم القول وشتمهم وطردهم بعد ان حاول ان يوقع ـ بين سعيد ، وشبث ـ العداوة والبغضاء باثارة العصبية الجاهلية التي حاربها الاسلام . فأبى معاوية الا الاستمرار في الطيش والعبث بأرواح الناس ومقدراتهم والاستهانة بمبادىء الدين الحنيف .
فحدث القتال المرير بين الجانبين وانهزمت قوى الشر امام جيوش الامام . فلجأ معاوية الى الحيلة والغدر ـ كعادته ـ فرفعت المصاحف وحصل التحكيم وخرج المارقون واغتيل الامام كما سنرى .
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول مرة اخرى :
ان الصراع بين القاسطين وبين قوى الامام ماهو ـ في جوهره ـ الا صراع بين رجلين يختلفان ـ كل الاختلاف ـ في الخلق وفي العقيدة . فمعاوية : « رجل لم يردعه وازع عن التماس اي اسلوب ... مشروع او غير مشروع للوصول الى هدفه وهو انتزاع الحكم من الامام ـ ولم ير حرجا في الدس ، ولافي الغدر ولافي الادعاء الباطل .
فقد كان همه ان يغدر وان وطئت قدمه الملوثة قدس الحق وقيم الاخلاق .
وكانت الخطة التي درج عليها الامام تغاير ذلك .
لهذا فقد تباينت الاسلحة . فهي في يد علي معدومة وفي يد خصمه وفيرة ، وتعددت ميادينها امام معاوية وضاقت حلقتها على الامام ـ الا ما أقره منها الدين وارتضته المثل


( 163 )

الانسانية الرفيعة » (1) .
وتباين المقربون كذلك في الخلق والدين والهدف . فهم عند علي من خيرة اصحاب النبي وهدفهم السير وفق مستلزمات الاسلام . وهم ـ عند معاوية ـ من الوصوليين الانتهازيين :
عمار بن ياسر ومن هم على شاكلته من جهة ، وعمرو بن العاص ومن لف لفه من جهة اخرى .
وتباين الاتباع كذلك . فقد كان معاوية يحارب الامام « بمئة الف ما فيهم ـ على حد قوله ـ من يفرق بين الناقة والجمل » (2) .
وقد بلغت طاعة اهل الشام لمعاوية حداً يفوق الوصف (3) .
فقد صلى بهم على ما يذكر المسعودي ـ عند مسيرهم الى صفين ـ الجمعة : يوم الاربعاء ، واعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها » .
وفي معرض التحدث عن موقف اهل الشام ازاء معاوية .
يقول المسعودي (4) : ان احد اخوته من اهل العلم قال له : « كنا نقعد فنتناظر في ابي بكر وعمر ، وعلي ومعاوية ، فقالت لي ذات يوم بعض اهل الشام ـ وكان من اعقلهم . واكبرهم لحية ـ كم تظنون في علي ومعاوية ؟
فقلت له : من هو علي ؟ فقال ... قتل علي في غزوة حنين مع النبي .
ولما خرج عبد الله بن علي في طلب مروان الى الشام ... وجه الى ابي العباس السفاح اشياخا من اهل الشام من ارباب النعم والرئاسة ، فحلفوا للسفاح انهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية حتى وليتم الخلافة »
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود : « الامام علي بن ابي طالب » 5 / 66 ، 67 .
(2) عباس محمود العقاد : « عبقرية الامام » ص 50 .
(3) المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 334 .
(4) المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 51 .

( 164 )

وكان ذلك دون شك من آثار معاوية في تضليل الناس والتغرير بهم . فيكون معاوية ـ بالاضافة الى ما ذكرنا ـ مسئولا عن تشويه كثير من حقائق التاريخ الاسلامي وتزوير حوادثه .
أما أساليبه في الغدر بمناوئيه وتدبير المؤمرات لاغتيالهم فمعروفة لدى الكثيرين ، فقد دبر قضية سم الاشتر والحسن ، بعد ان نكث عهده .
وتتلخص قضية الاشتر النخعي في ان الامام عليا قد ولاه مصر بعد ان عزل عنها محمد بن ابي بكر . « ولكن الاشتر لم يكد يصل الى القلزم حتى مات » .
واكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية اغوى صاحب الخراج في القلزم ... ان هو احتال في موت الاشتر ، فدس هذا الرجل للاشتر سما في شربة من عسل فقتله ليومه .
وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان ان لله جنودا من عسل » (1) ، وكان غدره يترواح بين الشدة واللين حسب الظروف ، فيلجأ الى القسوة اذا اعيته الحيلة والمراوغة والدس ، من ذلك مثلا :
انه اختار بسر بن ارطأة المعروف بقساوته ، وسيره على رأس جيش لتعقب خصومه .
وقد اوصى معاوية بسر بن ارطأة أن يقسو على البادية من شيعة علي .
فمضى بسر ونفذ وصية معاوية واضاف لها من عنده قسوة وغلظة واسرافاً في الاستخفاف بالدماء ، والاموال ، والحقوق والحرمات ، فكان كثير الفتك في البادية ، وجاء المدينة فروع اهلها ... وامرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا مرغمين .
ومضى الى اليمن ففر عنها عامل علي واعوانه .
ونشر فيها الروع بالاسراف في القتل ، ثم اخذ البيعة لمعاوية .
وبلغ خبره علياً فأرسل جارية بن قدامة ليرده عن اليمن ، ففر عنها بسر بن ارطأة ورجع الى الشام مفسداً في الارض اثناء رجوعه ومسرفاً في القتل والنهب حتى ذبح ابنى عبيد الله بن العباس وكانا صبيين .
____________
(1) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 131 .
( 165 )

ورد جارية اليمن الى طاعة الامام ، وعاد الى مكة فعرف فيها ان عليا قد قتل » (1) .
يتضح مما ذكرنا ان خلق معاوية كان اقرب الى الوحشية منه الى الانسانية ، على انه كان في ـ وحشيته الخلقية ـ كالوحش المفترس تارة ، وكالثعلب المراوغ تارة اخرى اما الامام فكان انسانا كاملا في دينه ، وسياسته واخلاقه ، فقد امتلأت نفسه الكبيرة من خشية الله ، وحب الناس ، ونشر العدالة والاخاء بين المسلمين .
وكان موقف اتباعه منه ـ على حقه ـ مغايراً لموقف اتباع معاوية له على باطله كما رأينا .
والى القارىء طائفة من اقوال الامام لاتباعه وهو في احرج ساعات نزاعه مع مناوئيه : « أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم ليس لانهم اولى بالحق منكم ولكن لاسراعهم الى باطلهم وابطائكم عن حقي .
ولقد اصبحت الامم تخاف ظلم رعاتها ، واصبحت اخاف ظلم رعيتي .
أيها الشاهدة ابدانهم الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة اهواؤهم المبتلى بهم امراؤهم ، صاحبكم : يطيع الله وانتم تعصونه ، وصاحب اهل الشام : يعصى الله وهم يطيعونه
والله لكأني بكم فيما اخالكم ان لو حمس الوغى وحمى الضرب قد انفرجتم عن ابن ابي طالب انفراج المرأة عن قبلها ، واني لعلي بينة من ربي ، ومنهاج من نبي ، واني لعلى الطريق الواضح القطه لقطاً » (2) ، وقال في مكان آخر :
« ولكن بمن والى من ! أريد ان اداوي بكم وانتم دائي » كناقش الشوكة بالشوكة
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى علي وبنوه » ص 150 .
(2) « شرح نهج البلاغة » لابن ابي الحديد 2 / 182 ـ 185 .
( حمس الوغى . اشتد وعظم . الوغى في الاصل : الاصوات والجلبة ، وسميت الحرب نفسها وغى لما فيها من ذلك . وانفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة . وقوله القطه لقطا يريد ان الضلال غالب على الهدى وأنه التقط طريقه من ههنا وههنا كما يسلك الانسان طريقاً دقيقة قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيها كليهما فهو يلتقط النهج التقاطا ).

( 166 )

وهو يعلم ان ضلعها معها » (1) وأشار الامام ـ في مناسبة اخرى ـ الى العامل الرئيسي في تقاعسهم عن نصرة الحق فقال : « أتأمرونني ان أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ؟ ؟
والله لا اطور به ما سمر سمير ... ولو كان المال لي لسويت بينكم فكيف وانما المال مال الله ؟ ؟ وان اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله » (2) .
وخاطب اتباعه ـ في موقع آخر ـ فقال :
« أيتها النفوس المختلفة ، الشاهدة ابدانهم والغائبة عنهم عقولهم ، اظأركم على الحق وانتم تنفرون منه ، هيهات ان اطلع بكم سرار العدل ، او اقيم اعوجاج الحق ؟ ؟
اللهم انت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الاصلاح في بلادك » ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من سننك » (3) .
____________
(1) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » ص 261 ، 262 .
ولكن بمن كنت اعمل ذلك والى من اخلد في فعله .. واما الحاضرون لنصرتي فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان .
واما الغائبون من شيعتي ـ كأهل البلاد النائية ـ فالى ان يصلوا قد بلغ العدو غرضه مني ولم يبق من اخلد اليه في اصلاح الامر وابرام هذا الرأي ... الا اذا استعين ببعضكم على بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة .
يقول : لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فان احداهما في القوة والضعف كالاخرى . فكما ان الاولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية ـ اذا حاولت استخراج الاولى بها ـ تنكسر في لحمك .
(2) ابن ابي الحديد « شرج نهج البلاغة » 2 / 305 .
(3) المصدر نفسه 378 ، 379 أظأركم : اعطفكم .. والسرار آخر ليلة في الشهر وتكون مظلمة ، ويمكن عندي : ان يفسر على وجه آخر وهو : ان يكون السرار ههنا بمعنى السرر ، وهي : خطوط مضيئة في الجبهة .. فيكون معنى الكلام هيهات ان تلمع بكم لوامع العدل ، وتتجلى اوضاعه ، ويبرق وجهه وهو يمكن ان يكون فيه ايضا وجه =

( 167 )

وخاطبهم في موقف آخر فقال : « لم تكن بيعتكم اياي فلتة (1) ؛ وليس امري وامركم واحداً ، اني اريدكم لله وانتم تريدونني لانفسكم .
ايها الناس اعينوني على انفسكم ، وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه ، ولاقودن الظالم بخزامته حتى اورده منهل الحق وان كان كارها » (2) .
* * *

____________
= آخر وهو ان ينصب سرار ههنا على الظرفية ويكون التقدير : هيهات ان اطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخقائه فيكون قد حذف المفعول به .
(1) الفلتة : الامر يقع في غير تدبر ولا روية . وفي الكلام تعريض ببيعة ابي بكر لان المشهور عن عمر انه قال : « ان بيعة ابي بكر فلتة وقانا الله شرها » .
(2) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 2 / 403 .