التحكيم ، المارقون ، ومصرع الامام

لقد حاول علي ـ جهد استطاعته ـ ان يتجنب الحرب التي سعى معاوية ما امكنه ـ الى اشعال نارها . كما حاول عبثا ـ اقناع معاوية وصحبه بالكف عن ايذائه وايذاء رعاياه . فأوكل ـ مضطراً ـ أمره الى السيف . فبدأت الحرب بين الجانبين .
« ولما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية : هل لك في أمر اعرضه عليك لايزيدنا الا اجتماعا ولايزيدهم الا فرقة ؟
قال : نعم .
قال : نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها بيننا وبينكم .
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم . فلما رآها الناس قالوا : نجيب كتاب الله . فقال لهم علي : عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم . فان معاوية وعمرو وابن ابي معيط ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن .
أنا اعرف منكم بهم قد صحبتهم اطفالا ثم رجالا . ويحكم ما رفعوها الا خديعة .
فقال اصحابه : لا يسعنا ان ندعي الى كتاب الله فنأبى ان نقبله . فقال لهم علي : انما اقاتلهم ليدينوا لحكم كتاب الله . فانهم قد عصوا الله فيما امرهم . فأصر اصحابه الا وقف القتال وقبول التحكيم .
واقترح اصحاب معاوية ان يبعث كل فريق من يمثله على ان يعمل الحكمان بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم يتبع الفريقان ما اتفق عليه الحكمان ، فاختار اهل الشام عمرو ، وبعض اهل العراق ابا موسى الاشعري .
فقال علي لقومه : قد عصيتموني في أول الامر ـ فأوقفتم القتال ـ فلا تعصوني الآن .


( 169 )

اني لا ارى ان اولي ابا موسى . فانه ليس بثقة . قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني . فأبوا الا ابا موسى .
فقال : فاصنعوا ما اردتم .. فكتب كتاب التحكيم :
هذا ما تقاضى عليه علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان .
اننا ننزل عند حكم الله وكتابه .. فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به ، وما لم يجداه .. فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة .
وأخذ الحكمان ؛ من علي ، ومعاوية ، ومن الجندين ، من العهد والمواثيق انهما آمنان واهليهما والامة » (1) .
وشهد على مافي الكتاب من اصحاب علي :
« الحسن والحسين ابنا علي بن ابي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله ابن جعفر بن ابي طالب ، والاشعث بن قيس ، والاشتر بن الحارث ، وسعيد ابن قيس ، والحسين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب وابو سعيد بن ربيعة الانصاري وعبد الله بن خباب ابن ارت وسهل بن حنيف ، وابو بشر بن عمر الانصاري وعون بن الحارث بن عبد المطلب ، ويزيد بن عبد الله الاسلمي ، وعقبة ابن عامر الجهني ، ورافع بن خديج الانصاري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، والنعمان بن العجلان الانصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، ويزيد بن حجية النكري ، ومالك بن كعب الهمداني ، وربيعة بن شرحبيل ، والحارث بن مالك ، وحجر بن يزيد ، وعلبة بن حجية .
ومن اهل الشام : حبيب بن مسلمة ، وابو الاعور السلمي ، وبسر بن ارطأة القرشي ، ومعاوية بن خديج الكندي ، والمخارق بن الحارث ، ومسلم بن السكسكي ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وحمزة بن مالك ، وسبيع بن يزيد الحضرمي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعلقمة بن يزيد الكلبي ، وخالد بن الحصين
____________
(1) ابن الاثير : « الكامل في التاريخ » 3 / 160 ـ 168 .
( 170 )

السكسكي ، وعلقمة بن يزيد الحضرمي ، ويزيد بن ايجر العيسى ، ومسروق بن جبلة العكي ، وبسر بن ابي يزيد الحميري ، وعبد الله بن عامر القرشي ، وعتبة بن ابي سفيان ، ومحمد بن ابي سفيان ، ومحمد بن عمرو بن العاص ، وعمار بن الاحرص الكلبي ، ومسعدة بن عمرو العتبي ، والصباح بن جهلمة الحميري ، وعبد الرحمن بن ذى الكلام ، وتمامة بن حوشب ، وعلقمة بن حكم » (1) .
ثم اتفق علي ومعاوية على ما يذكر الدينوري (2) « على ان يكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل ـ وهو المنصف بين العراق والشام . ووجه علي مع ابي موسى شريح بن هانىء في اربعة الاف من خاصته وصير عبد الله بن عباس على صلاتهم وبعث معاوية عمرو بن العاص وابا الاعور السلمي في مثل ذلك من اهل الشام .
فساروا من صفين حتى وافوا دومة الجندل . وانصرف على بأصحابه حتى وافى الكوفة (3) ، وانصرف معاوية بأصحابه حتى وافى دمشق ، ينتظران ما يكون من امر الحكمين .
وكان علي اذا كتب الى ابن عباس في امر اجتمع اليه اصحابه فقالوا : ماكتب اليك امير المؤمنين ؟ .. وتأتي كتب معاوية الى عمرو بن العاص فلا يأتيه أحد من اصحابه يسأله عن شيء من امره .. وعندما اجتمع الحكمان وتداولا في الامر (4) . قال عمرو لابي موسى . وأين انت من معاوية ؟ قال ابو موسى :
ما معاوية موضعا لها .. قال عمرو : الست تعلم ان عثمان قتل مظلوماً ؟ قال بلى .
____________
(1) الدينوري ، « الاخبار الطوال » ص 198 ، 199 .
(2) الاخبار الطوال : ص 200 ـ 203 .
(3) فامتنع الذين اصروا على وقف القتال ، وقبلوا التحكيم من اصحاب الامام من دخول الكوفة مع الامام ، فيكون منهم المارقون الذي ارغموا الامام ـ بعد ذلك ـ على حربهم بالنهروان .
(4) واوحى عمرو الى رفيقه : ان موضوع خلع على من الخلافة قد بات مفروغاً منه ، وان المشكلة هي اتفاقهما على من سيخلفه .

( 171 )

قال : فان معاوية وليّ عثمان .. قال ابو موسى : ان ولى عثمان ابنه عمرو . ولكن ان طاوعتني احيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره بتوليتنا ابنه عبد الله ..
هلم نجعلها للطيب ابن الطيب . قال عمرو :
ياابا موسى لايصلح لهذا الامر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر .
قال ابو موسى : ارى ان نخلع هذين الرجلين ـ علياً ومعاوية ـ ثم نجعلها شورى بين المسلمين يختارون لانفسهم من احبوا .
قال عمرو : فقد رضيت بذلك ، وهذا الرأي الذي فيه صلاح الناس » .
كان ابو موسى قد عوده عمرو ان يتقدم في الكلام عليه .
وكثيراً ما كان عمرو يقول له : « أنت صاحب رسول الله واسن مني فتكلم واتكلم ، وتعود ذلك ابو موسى ، واراد عمرو بذلك ان يقدمه في خلع علي .
فلما اتفقا على خلع علي ومعاوية .. اقبلا الى الناس وهم مجتمعون . فقال عمرو :
ياابا موسى اعلمهم ان رأينا اتفق ، فتكلم ابو موسى فقال :
ان رأينا اتفق على امر نرجو ان يصلح الله به امر هذه الامة .
فقال عمرو : صدق وبر . تقدم ياابا موسى فتكلم فتقدم ابو موسى ليتكلم فقال ابن عباس : ويحك اني والله لاظنه قد خدعك ، ان كنتما قد اتفقتما على رأي فقدمه ليتكلم به قبلك ، ثم تكلم بعده ، فانه رجل غادر ولا آمن ان يكون قد اعطاك الرضا بينكما . فاذا قدمت في الناس خالفك .
وكان ابو موسى مغفلا فقال : انا قد اتفقا وقال : ايها الناس انا قد نظرنا في امر هذه الامة فلم نر اصلح لامرها ولا الم لشعثها .. الا ان نخلع عليا ومعاوية ، ويولي الناس امرهم من احبوا .. واني قد خلعت عليا ومعاوية ..
ثم تنحى واقبل عمرو فقام وقال : ان هذا قد قال ماسمعتموه وخلع صاحبه . وانا اخلع صاحبه كما خلعه ؛ واثبت صاحبي معاوية فانه وليّ ابن عثمان والطالب بدمه واحق الناس بمقامه .


( 172 )

قال ابو موسى الاشعري لعمرو : لاوفقك الله غدوت وفجرت .
انما مثلك كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تتركه يلهث ، قال عمرو :
ان مثلك كمثل الحمار يحمل اسفاراً .. والتمس اهل الشام ابا موسى فهرب الى مكة .
ثم انصرف عمرو واهل الشام الى معاوية فسلموا عليه بالخلافة » (1) .
يتضح مما ذكرنا : ان رفع المصاحف حيلة دبرها عمرو بن العاص للحيلولة بين القاسطين وبين الفرار امام جيوش الامام .
وقد فطن الامام الى ذلك ووصف عمرو معاوية وابن ابي معيط بأنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن .
وقد مر بنا ذكر شيء من سيرة معاوية وابن ابي معيط ، ونود في هذه المناسبة ـ ان ننقل الى القارىء قبل الاسترسال في موضوع التحكيم ـ طرفاً من سيرة عمرو بن العاص ليتبين الاسس التي استند اليها علي في وصمه عمرواً وصاحبيه بالبعد عن الدين والقرآن ، وعمرو هو : ابن العاص السهمي الذي « كان من المستهزئين بالنبي .
وقد انزل الله فيه قول : ان شانئك هو الابتر » (2) .
أما المستهزؤون الآخرون فقد ذكرهم ابن خلدون (3) بقوله :
« ولما رأت قريش النبي قد امتنع بعمه وعشيرته ، وانهم لايسلمونه ، طفقوا يرمونه ـ عند الناس ممن يفد على مكة ـ بالسحر والكهانة والجنون والشعر ، يرومون بذلك صدهم عن الدخول في دينه ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والايذاء ، منهم :
عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وعقبة بن ابي معيط ـ احد المستهزئين .
وابو سفيان من المسهتزئين ، والحكم بن امية من المستهزئين ايضاً .
____________
(1) ابن الاثير « الكامل في التاريخ » 3 / 160 ـ 168 .
(2) ابن الاثير « الكامل في التاريخ » 2 / 49 ، 50 .
(3) ابن خلدون « كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر » 2 / 177 .

( 173 )

والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه : نبيه ومنبه .
وقاموا يستهزئون بالنبي ويتعرضون له بالاستهزاء والاذاية حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده » . اما ام عمرو بن العاص « فثمة صحيفة من صحائف فجور الجاهلية تنتشر عن الباغية ام عمرو كامرأة تلقفتها آونة مضاجع الرجال .
فلما خرج ابنها الى النور تهامست الالسن عن ابيه وتاهت حقيقة نسبة بين بضعة نفر .. منهم العاص ومنهم ابو سفيان . ولكن الام حزمت امرها على ان تلصق وليدها بأول الرفيقين اذ كان اوفر النفر ثروة واسخاهم عليها في الانفاق فكأنها بهذا الاختيار قد ضربت لابنها اول مثل في تغليب المادة على اوثق العلاقات وانه لمبدأ رضعه من ثدييها وظل يدين بناموسه مدى عمره المديد » (1) .
هذا هو البيت الذي نشأ فيه عمرو بن العاص .
أما مواقف عمرو نفسه من الاسلام ـ في اوائل عهده ـ فمعروفة لدى الكثيرين .
فقد كان اشد الكفار خصومة للنبي يوم احد .
ويحضرنا ـ في هذه المناسبة ـ بعض شعره :

لما رأيت الحرب ينزو شرها بالرضف نزوا
ايـقنت أن الــموت حق والحياة تكون لغوا
حملت أثوابي على عُتَد يبذ الخيل رهوا (2)

ولما يئس عمرو من الانتصار على النبي في الحرب لجأ الى الغدر والدس والتواري عن الانظار . قال عمرو ، على ما يذكر ابن هشام (3) :
« لما انصرفنا من الاحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني . فقلت لهم : اني ارى أمر محمد يعلو الامور علواً
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود « الامام علي بن ابي طالب » 2 / 275 .
(2) ابن هشام « سيرة النبي محمد » 3 / 116 . ينزو : يرتفع ويثب . وارضف الحجارة المحماة بالثار ، العتد : الفرس الشديد ، يبذ : يسبق ، والرهو : الساكن ، اللين .
(3) سيرة النبي محمد : 2 / 177 .

( 174 )

منكراً .. فأرى ان نلحق بالنجاشي فنكون عنده . فان ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي ، فانا ان نكون تحت يديه احب الينا ان نكون تحت يدي محمد .
وان ظهر قومنا : فنحن من عرفوا . »
وقد كان عمرو ـ كما رأينا ـ من أكبر المؤلبين على عثمان .
وهو الذي صرفه عن تطبيق حد الله في عبيد الله بن عمر بن الخطاب لقتله الهرمزان .
« فقد اقبل ابن العاص على عثمان ـ حين رأى عثمان أن ينظر في الاقتصاص من عبيد الله ...
فقال له : يا أمير المؤمنين ان الله قد اعفاك ان يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان . انما كان الحدث ولاسلطان لك » (1) .
ولما بلغ عمرو ـ وهو بفلسطين كما ذكرنا ـ بأن الناس قد بايعوا عليا بأن معاوية يأبى البيعة اتصل عمرو بمعاوية وحبذ له فكرة المطالبة بدم عثمان .
ومن الطريف ان نذكر ـ في هذه المناسبة ـ : ان المؤرخين يكادون يجمعون على ذكر قصة استشارة عمرو لولديه عبد الرحمن ومحمد ، وهو بفلسطين ـ في شأن موقفه من النزاع بين علي ومعاوية « فقال له عبد الله : ان كنت لابد فاعلا فالى علي . قال عمرو : اني ان اتيت علياً يقول لي : انما انت رجل من المسلمين . وان اتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في الامر . وكان محمد ابنه الآخر على هذا الرأي .
فقال لهما عمرو : اما انت ياعبد الله فقد اخترت لآخرتي .
واما انت يامحمد فقد اخترت لدنياي .. وقدم عمرو على معاوية .. وسأله اترى اننا خالفنا عليا لفضل منا عليه ؟ .. لا والله ان هي الا الدنيا نتكالب عليها » (2) .
____________
(1) عبد الفتاح عبد المقصود الامام علي بن ابي طالب 4 / 83 ، واذا كان الامر كذلك فقد قتل عثمان وليس لعلي سلطان على الناس فلماذا اقام عمرو الدنيا عليه واقعدها .
(2) عباس محمود العقاد « معاوية بن ابي سفيان » ص 53 ـ 55 .

( 175 )

ولاندري ما صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان !!
هذا هو ممثل معاوية في التحكيم .
أما ممثل على فهو ابو موسى الاشعري الذي كان يخذل الناس عن نصرة الخليفة حين كان واليا له على الكوفة الامر الذي اضطر الخليفة الى عزله .
ولنعد الآن الى موضوع التحكيم .
فاذا نظرنا اليه من الناحية المبدئية العامة ـ اي تحكيم كتاب الله وسيرة نبيه فيما يحصل من اختلاف بين وجهات نظر المسلمين في امورهم الدينية ، والدنيوية ـ فان الامام علي لا يرضى بغير ذلك بديلاً .
وقد بنى سياسته العامة ـ في السلم والحرب ومع انصاره واعدائه على السواء ـ وفق مستلزمات القرآن والسنة . وتألب عليه خصومه ـ وهرب منه بعض انصاره ـ لتمسكه بذلك في جميع تصرفاته . وقد مر بنا رفضه ـ قبول الخلافة اثناء الشورى ـ لوضع شرط ثالث بجانب الكتاب والسنة . كما مر بنا جانب من موقفه مع الناكثين ودعوته اياهم الى تحكيم الكتاب والسنة فيما خرجوا عليه ، فلم يعترض الامام « اذن » على التحكيم الذي دعا اليه معاوية واصحابه ـ من حيث المبدأ .
وانما اعترض على الشكل الذي جاء فيه والظروف التي احاطت به .
فقد رفع خصومه المصاحف على الرماح في الوقت الذي كانت فيه جيوشه سائرة الى نصرها المبين .
ودعوا ( كاذبين ) الى تحكيم القرآن الذي حاربوا ، وحاربوا من انزل عليه في الجاهلية والاسلام .
واخترقوا نصوصه ( وسنة الرسول ) في تصرفاتهم العامة من الناحيتين الدينية والدنيوية .
فقد امر معاوية ـ باقتراح من ابن العاص كما ذكرنا ـ اصحابه ان يربطوا المصاحف على اطراف القنا ، فربطت المصاحف .
واول ما ربط مصحف دمشق الاعظم ، ربط على خمسة ارماح يحملها خمسة رجال .


( 176 )

ثم ربطوا سائر المصاحف ، جميع ما كان معهم . واقبلوا في الغلس (1) . ونظر اهل العراق الى اهل الشام قد اقبلوا وامامهم شيبه بالرايات ، فلم يدروا ما هو حتى اضاء الصبح ، فنظروا فاذا هي المصاحف . واقبل ابو الاعور السلمي على برذون (2) اشهب وعلى رأسه مصحف وهو ينادي :
يا أهل العراق هذا كتاب الله حكماً فيما بيننا وبينكم .
فتكلم على وقال :
عباد الله انا احرى من اجاب الى كتاب الله ... ان القوم ليسوا يريدون بذلك الا المكر ، وقد عضتهم الحرب ، والله لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها . وليس يسعني ـ مع ذلك ـ ان ادعى الى كتاب الله فلا اجيب . وكيف ! وانما قاتلتهم ليدينوا بحكمه ! » (3) .
وعندما وقف القتال ، وانصاع القاسطون ـ في الظاهر ـ الى رأي الامام في تحكيم القرآن والسنة لحسم النزاع بين المعسكرين .
وافق الامام على قبول التحكيم ـ التحكيم الذي هو مبدؤه في تصرفاته كافة ـ استمع اليه يخاطب ابن ابي سفيان : ان البغي والزور يوقعان بالمرء في دينه ودنياه ... ويبديان خلله عند من يعيبه . قد علمت انك غير مدرك ما قضى فواته .
وقد رام اقوام امراً بغير الحق فتأولوا على الله فأكذبهم ... وقد دعوتنا الى حكم لقرآن ولست من اهله . ولسنا اياك اجبنا ولكننا اجبنا القرآن في حكمه » (4) .
وخاطبه ـ في موضع آخر ـ فقال : « لقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي . فجعل
____________
(1) الغلس : بعد العشاء الآخرة وقبل الفجر « الناشر » .
(2) البرذون ، صنف من الخيل الغير العربية « الناشر » .
(3) الدينوري : « الاخبار الطوال » ص 191 ، 192 .
(4) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 113 ، 114 .

( 177 )

أحدنا حجة على الآخر . فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني ، وعصيته انت واهل الشام بي . والب عالمكم جاهلكم وقائمكم قاعدكم » (1) فالامام اذن لم يعترض على مبدأ التحكيم .
بل التحكيم بالشكل الذي دعاه اليه معاوية والظروف التي حصل فيها . وبعد ان زالت تلك الظروف ووضعت الحرب اوزارها اختفت عوامل ممانعة الامام بقوله .
غير ان الامام اعترض ـ بعد ذلك ـ على تعيين بعض اصحابه ابا موسى الاشعري ليمثله في ذلك .
وقد كان اعتراض الامام مبنياً ـ من حيث الاساس ـ على القول بأن الممثل يجب ان يتبنى فكرة من يمثله ـ بغض النظر عن سلامتها ـ ليتسنى له القيام بواجبه على وجهه الاتم . فعمرو بن العاص خير من يمثل معاوية في هذه الناحية .
فلما اصر اصحاب الخليفة على رأيهم في تعيين ابى موسى رجع الامام الى نفسه ـ على مايبدو ـ وقلب الامر على وجوهه فلم ير بأسا من الموافقة على ذلك لان موضوع التحكيم سوف يسير ـ حسبما اتفق الجانبان المتعاقدان ـ على نصوص القرآن وسنة النبي حيث ينكشف لابي موسى زيفه السابق في التخذيل عن الامام .
وما دام موضوع التحكيم ـ برأي الامام ـ منصبا على حسم الخلاف بينه وبين معاوية ـ وهو نزاع يتصل ـ على ما ادعى معاوية ـ بالمطالبة بدم الخليفة القتيل ، فسوف ينظر الحكمان ـ في القرآن والسنة ـ فيما اذا كان عثمان قد قتل مظلوماً من جهة ؟
وفيما اذا كان لمعاوية الحق في المطالبة بدم عثمان من الناحية الشرعية ـ اي انه ولى عثمان ـ من جهة ثانية ؟
وفيما اذا كان الاسلوب الذي اتبعه معاوية للمطالبة المذكورة ـ في حالة شرعيتها ـ هو الاسلوب السليم من جهة ثالثة ؟
وفيما ينبغي للخليفة ان يفعله من جهة رابعة ؟
____________
(1) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 160 والاشارة هنا الى مقتل عثمان .
( 178 )

فاطمأن علي الى ذلك كل الاطمئنان .
غير أن اجتماع الحكمين قد جعل الموضوع يسير باتجاه آخر لا صلة له اطلاقاً بموضوع المطالبة بدم عثمان ابن عفان .
فأغفل عمرو صاحبه ابتداءً ـ كما رأينا .
والقى في روعه ان موضوع التحكيم ينحصر في تعيين خليفة جديد للمسلمين كأن خلع علي من الخلافة قد بات أمراً مفروغاً معه .
فاقترح عمرو اسم معاوية فرفضه ابو موسى كما رأينا . واقترح عمرو ـ بعد ذلك ـ اسم ابنه عبد الله فرفضه ابو موسى ايضا ، الامر الذي حدا بأبي موسى ان يتقدم هو بمرشح جديد . وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب .
ولما اطمأن عمرو الى ثبوت ذلك الرأي في ذهن زميله ـ اي فكرة خلع الخليفة وتعيين آخر بدله ـ جعل موضوع البحث ينحصر في الاتفاق على المرشح الجديد .
ولما ظهر انهما لم يتفقا على شخص معين بالذات ، طلب من ابي موسى ان يقترح حلا للخروج من ذلك المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير الحكم في البلاد والذي يرقبه المسلمون ـ بفارق الصبر ـ في كل مكان .
فتقدم ابو موسى باقتراح جديد ظنه كسبا له واندحار لعمرو بن العاص .
فقد خيل اليه انه سينتصر اذا ماوافق عمرو على « خلع » معاوية بعد أن بات خلع الامام امرا متقفا عليه . فوافق عمرو ـ في الظاهر ـ على الفكرة واغراء باعلانها على الناس ، ثم عاد فغدر به على الشكل الذي وصفناه .
وقد برز عمرو ـ في ذلك كله ـ بأبشع مايبرز فيه الرجل من الخداع ، والدس ، والتدني عن مستويات الاخلاق الرفيعة . فأغفل صاحبه وأغراه على خلع على ومعاوية على السواء ليترك الامر للمسلمين يختارون من يشاؤون .
فلما اعلن ابو موسى رأيه على الناس ـ كما مر بنا ـ نهض عمرو فأكد خلع علي


( 179 )

وتثبيت ابن ابي سفيان . ولاندري علاقة ذلك كله بالمطالبة بدم عثمان !! وهل تنازع علي ومعاوية على الخلافة ؟
وهل كان معاوية خليفة حتى يخلعه ابو موسى ويثبته ابن العاص ؟
ومهما يكن من شيء فقد حصل خلع الامام وتثبيت معاوية . فارتاع دعاة التحكيم في عسكر الامام .
فظهر المارقون من الخوارج .. وقالوا : لاحكم الا لله وهي كلمة حق يراد بها باطل على ما ذكر الخليفة . واراد اصحاب علي قتال الخوارج في بادىء الامر ولكنه ابى عليهم ذلك وانكره ـ كشأنه في مواقفه الاخرى ضد مناوئيه ـ وقال :
« ان سكتوا تركناهم وان تكلموا حاججناهم وان افسدوا قاتلناهم » (1) .
بدأ المارقون نشر الفساد في المناطق التي كانوا يسكنون فيها ، فنهبوا واغتالوا وتعاطوا كثيرا من الموبقات . « فقتلوا عبد الله بن الخباب بن الارت ـ وخباب من خيرة الصحابة ـ وقتلوا نسوة كن مع عبد الله . وجعلوا يتعرضون الناس ويذيعون الذعر .
فأرسل اليهم علي رجلاً من اصحابه يسألهم عن هذا الفساد .
فلم يكد هذا الرسول يدنو منهم حتى قتلوه » (2) .
فلم يجد علي بداً من مقاتلتهم في النهروان .
وقد وجد الامام نفسه مع ذلك كله ، وامام هذه الامور العظام ، وفي قلب هذه الفتنة الغليظة المظلمة .. كأحسن ما يجد الرجل نفسه .
صدق ايمان ، ونصحاً للدين ، وقياماً بالحق ، واستقامة على الطريق المستقيمة ، لاينحرف ولا يميل ولا يداهن من أمر الاسلام في قليل ولاكثير .
وانما يرى الحق فيمضي اليه لا يلوى على شيء ولايحفل بالعاقبة ، ولا يعنيه
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 113 .
(2) المصدر نفسه ص 113 .

( 180 )

ان يجد في آخر طريقه نجحا او اخفاقا ، ولا ان يجد في آخر طريقه حياة او موتا .
وانما يعنيه كل العناية ان يجد اثناء طريقه ـ وفي آخرها ـ رضا ضميره ورضا الله » (1) .
فلا عجب ان رأينا حياته بعد النهروان خاصة ، على ما يقول الدكتور طه حسين (2) .
« محنة شاقة الى اقصى حدود المشقة ، كان يرى الحق واضحا صريحا .. وقد ظل الخوارج معه بعد ذلك يعايشونه في الكوفة ؛ ويعايشون عامله في البصرة ، وينبثون في اطراف السواد بين المصريين .. وكانوا يكيدون للامام .
يشهدون صلاته ويسمعون خطبه واحاديثه ، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة والحديث ، وهم على ذلك مطمئنون الى عدله .
ويأخذون تعيينهم من الفىء وحظوظهم من المال !!
فأطمعهم عدله واسماحه ، واغراهم لينه وبره .
جاء احدهم ذات يوم وهو : الحريث بن راشد السامي فقال له : والله لا اطعت امرك ولا صليت خلفك .. فلم يغضب على ذلك ولم يبطش به ، وانما دعاه الى ان يناظر ويبين له وجه الحق لعله ان يثوب اليه .
فقال له الحريث : اعود اليك غداً فقبل منه علي فانصرف الرجل الى قومه .
ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الكوفة يريد الحرب . ولقى الحريث واصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما .
وكان احدهما يهوديا ، فلما انبأهم بدينه خلوا سبيله .
وأما الآخر فكان مسلما من الموالي ، فلما انبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي
____________
(1) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 122 .
(2) المصدر نفسه 122 ـ 126 .
(3) المصدر نفسه 133 .

( 181 )

فقال خيراً ، فوثبوا عليه فقتلوه » (1) .
واستمر الحريث واصحابه على عبثهم وفسادهم بأرواح الناس وممتلكاتهم مما اضطر الامام الى تجهيز حملة لتأديبهم وانقاذ الناس من اعتدائهم .
ولم يقف امتحان الامام عند الحد الذي وصفناه من خروج الناكثين فالقاسطين فالمارقين ، وانما تعداه الى ابن عباس عامله على البصرة اقرب الناس اليه . « وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا ، ومن المكانة في بني هاشم وفي قريش عامة ، وفي نفوس المسلمين جميعاً ما كان خليقا ان يعصمه من الانحراف » (2) .
ويلوح للباحث ان ابن عباس « آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرة تخالف المألوف من امر على ومن امره هو .
وكأنه أنس من صاحب بيت المال ـ وهو ابو الاسود الدؤلي ـ شيئاً من النكير فأغلظ له في القول ذات يوم .
وضاق ابو الاسود بما رأى وسمع فكتب الى علي ... فروعه ...
ولكن علياً صبر نفسه على ما تكره ، كما تعود ان يفعل دائما ..
فكتب الى ابن عباس ... بلغني عنك امر ان كنت فعلته فقد اسخطت ربك وخنت امانتك وعصيت امامك وخنت المسلمين .
فارفع الى حسابك ، واعلم ان حساب الله اشد من حساب الناس ..
وليس غريبا ان يكتب علي الى ابن عباس ما كتب ، فهو لم يتعود الرفق في امر المال ، ولا الادهان في امر من امور المسلمين ..
ولكن ابن عباس اعرض عن هذا كله ، فاعتزل عمله ولكنه مع ذلك لم يستعف
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى . علي وبنوه » ص 133 .
(2) المصدر نفسه ص 130 ، 138 .

( 182 )

امامه ولم ينتظر ان يعفيه ، وانما اعفى نفسه وترك البصرة ، ولحق بمكة حيث لا يبلغه سلطان الامام » .
غير ان ابن عباس « لم يكتف بما بلغ من هذه المغاضبة ، ولا بما انتهى اليه من هذا التصرف الغريب بل اضاف اليه شراً عظيما لم يسوء به الامام وحده .
وانما اساء به الرعية كلها وعامة اهل البصرة خاصة .
فهو قد ازمع الخروج الى مكة ولكنه لم يخرج منها فارغ اليدين من المال كما دخلها حين ولى عليها .
وانما خرج منها وقد ملأ يديه بما كان في بيت المال مما ينقل .
وهو يعلم ان ليس له في هذا المال حق الإ مثل ما لأهل البصرة جميعا فيه » (1) .
فمضى امتحان على « على هذا النحو المر : خيانة من الوالي ، وكيدا من العدو . وهو بين ذلك كله مصمم على خطته الواضحة ، لا يرضى الدنية من الامر ، ولايداهن في دينه ولايتحول عن سياسته الصريحة قليلا ولا كثيراً .
والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها اثر بعض ، وهو ماض في طريقه لا ينحرف عنه الى يمين او شمال » (2) .
وفي غمرة النضال وزحمة الصراع مع الباطل تصدى له ابن ملجم فأصاب منه مقتلا « ويروى المؤرخون : ان عليا امر من حوله ان يحسنوا اطعام ابن ملجم ويكرموا منواه . فان برىء من ضربته نظر ، فاما عفا واما اقتص .
وامرهم : ان مات ان يلحقوه به ولا يعتدوا : ان الله لا يحب المعتدين » .

* * *

____________
(1) الفتنة الكبرى ـ علي وبنوه ص 129 .
(2) المصدر نفسه ص 183 .

( 183 )

القسم الثالث

بين علي ، ومعاوية ـ :

1 ـ الفصل السابع : مقتطفات من سيرة الامام
2 ـ الفصل الثامن : نماذج من تصرفات معاوية



( 185 )

مقتطفات من سيرة الامام

أشرنا في الفصول السابقة الى كثير من الحوادث التي دلت على تمسك الامام بكتاب الله وسنة رسوله فيما يتعلق بتصرفاته العامة والخاصة ، في زمن الحرب وفي وقت السلم ، مع أنصاره وخصومه على السواء . وها نحن ننقل الى القارىء بعض آثاره التي رواها كبار المؤرخين المسلمين .


( 185 )

(1)
فلسفة الحكم

تتلخص فلسفة الحكم ـ عند الامام ـ في عهده للأشتر الذي ولاه مصر فدس له السم ـ في الطريق ـ احد الاشخاص بتحريض من معاوية وعمرو بن العاص كما يحدثنا الرواة . والى القارىء ملخص العهد (1) :
« هذا ما امر به عبد الله أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر .. أمره بتقوى الله وايثار طاعته واتباع ما امر به في كتابه ..
ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور ، وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه الى امور الولاة قبلك .
ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم ..
فليكن أحب الذخائر اليك خيرة : العمل الصالح .
أشعر قلبك الرحمة للرعية .. فإنك فوقهم ..
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك .. وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل ، وأجمعها لرضى الرعية . فإن سخط العامة ، يجحف برضاء الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة ..
وليكن أبعد رعيتك منك .. أطلبهم لمعايب الناس .. إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً ، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة ..
ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بالحق لك .. ألصق بأهل الورع والصدق ، ثم حثهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله ..
____________
(1) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 119 ، 152 .
( 186 )

ولايكونن المحسن والمسيء عندك سواء : فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإسائة .
والزم كلا منهم ماالزم نفسه ، واعلم أنه ليس شيء أدعى الى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤنات عليهم ..
لا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة ..
وصلحت عليها الرعية .
ولاتحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن ..
وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء ..
واعلم : أن الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض ؛ فمنها الجنود ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل وعمال الإنصاف وأهل الجزية والخراج من أهل الذمة ، ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجات والمسكنة .
وكل قد سمى الله له سهمه ، ووضع على حده وفرضه في كتابه أو سنة نبيه ..
إن فضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية ..
اختر للحكم بين الناس : أفضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم .. ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وإثرة ..
أسبغ عليهم الارزاق ، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم ان خالفوك أمرك ..
ثم تفقد اعمالهم وابعت العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم .. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في اصلاحهم صلاحا لمن سواهم .. لأن الناس كلهم عيال على الخراج ..
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً .. واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مضر للعامة وعيب على الولاة .


( 187 )

فامتنع من الاحتكار ، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف .
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين ..
إجعل لهم قسما من بيت المال .. ولا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم .
وتفقد أمور من لايصل اليك منهم . ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع لترفع إليك أمورهم ..
واجعل لذوى الحاجات وقتاً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه ..
وتعقد عنهم جندك وأعوانك من حراسك وشرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متعتع .. ثم احتمل الخرق منهم والعيّ ونح عنهم الضيق ..
ولا تطولن احتجاجك عن رعيتك .. فالاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه .. فيشاب الحق بالباطل . وانما الوالي بشر لايعرف ما توارى عنه الناس من الامور . وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ..
ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في المعاملة :
فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الاحوال ..
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ..
وحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة .. فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد عليه اجتماعاً ـ مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ـ من تعظيم الوفاء بالعهود ..
ولا تغدرن بذمتك .. واياك والدماء وسفكها بغير حلها .. ولاعذر لك عند الله ولاعندي في قتل العمد ..
وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء ..


( 188 )

وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ..
أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك .. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها ...
فضع كل أمر موضعه .. أملك حمية انفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك .
واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار » .

(2)
حرصه على بيت المال

لقد مر بنا جانب من ذكر حرص الإمام على أموال المسلمين عندما تحدثنا عن موقفه من ولده الحسين في قضية العسل ، ومن أخيه عقيل حين قدم عليه طالباً زيادة حصته من الدقيق .
وإلى القارىء طائفة من الامثلة الاخرى في هذا الباب .
قال هارون بن عنترة عن أبيه : دخلت على علي بالخورنق ـ وهو فصل شتاء ـ وعليه خلق قطيفة وهو يرعد فيه فقلت :
يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً ؛ وأنت تفعل هذا بنفسك ؟ فقال :
والله ما أرزأكم شيئا . وماهي الا قطيفتي التي اخرجتها من المدينة » (1) .
ولم ينزل الإمام ـ على ما يحدثنا الرواة ـ « القصر الابيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي كان يسكنها الفقراء . وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام .
وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال : دخلت على علي فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسرة يابسة . فقلت : يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا ؟
____________
(1) العقاد : « عبقرية الإمام علي » ص 13 ، وابن الأثير : « الكامل في التاريخ » 3 / 200 .
( 189 )

فقال لي : يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ، ويلبس أخشن من هذا ـ وأشار الى ثيابه ـ فإن لم آخذ بما أخذ به خفت الا الحق به » (1) .
وكتب ابن الأثير : ان عاصم بن كليب روى عن ابيه انه قال : « قدم على علي مال من اصبهان فقسمه على سبعة اسهم . فوجد فيه رغيفاً فقسمه على سبعة ودعا امراء الاسباع فأقرع بينهم لينظر ايهم يعطى أولاً .
وذكر يحيى بن مسلمة : أن علياً استعمل عمرو بن مسلمة على أصبهان « فقدم ومعه مال كثير وزقاق فيها عسل وسمن .
فأرسل أم كلثوم بنت على الى عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً . فأرسل اليها ظرف عسل وظرف سمن . فلما كان الغد خرج علي واحضر المال والسمن والعسل ليقسم . فعد الزقاق فنقصت زقين . فسأله عنهما . فكتمه وقال : نحن نحضرهما . فعزم عليه الا ذكرهما له . فأخبره . فأرسل الى أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا ، فأمر التجار بتقويم مانقص منهما ، فكان ثلاثة دراهم .
فأرسل اليها فأخذها منها ! ، ثم قسم الجميع ..
وقال سفيان : إن علياً لم يبن آجرة على آجرة ، ولا لبنة على لبنة ، ولاقصبة على قصبة .
وقيل : إنه أخرج سيفاً الى السوق فباعه وقال : لو كان عندي اربعة دراهم ثمن إزار لم ابعه ، وكان لا يشتري ممن يعرفه ، واذا اشترى قميصاً قدر كمه على طول يده وقطع الباقي ، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه ويقول :
لاأحب ان يدخل بطني الا ما اعلم » (2) .
____________
(1) عباس محمود العقاد « عبقرية الإمام علي » ص 25 .
(2) الكامل في التاريخ 3 / 200 ـ 202 .