(3)
تواضعه وعدله

ذكر الشعبي ـ على مايقول ابن الأثير (1) :
إن علياً وجد درعاً عند نصراني « فأقبل الى شريح قاضيه وجلس الى جانبه يخاصم النصراني مخاصمة رجل من رعاياه ، وقال : انها درعي ولم أبع ولم اهب ، قال شريح للنصراني : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟
قال النصراني : ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين بكاذب ؟ !
فالتفت شريح ، الى علي يسأله . يا أمير المؤمنين ، هل من بينة ؟ فضحك علي ..
وقال : اصاب شريح ، مالي من بينة ؟ فقضى بالدرع للنصراني فاخذها ومشى .. وأمير المؤمنين ينظر اليه .. الا ان النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : أما أنا فأشهد ان هذه أحكام أنبياء .. أمير المؤمنين يدينني الى قاضيه .. وقاضيه يقضى عليه ، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين » .
وكان الإمام ، لشدة تواضعه وحرصه على إقامة العدل بين رعيته ، اذا أراد أن يشتري شيئا بنفسه ، على ما يذكر الدكتور طه حسين « تحرى بين السوقة رجلا لا يعرفه فاشترى منه ما يريد .
وكان يكره ان يحابيه البائع ان عرف انه أمير المؤمنين ، ثم كان لايرضى عن نفسه الا اذا أدى للناس حقهم عليه في دينه فأقام لهم صلاتهم وعلمهم بالقول والعمل وقام على اطعام فقرائهم طعام العشاء وتحرى ذوى الحاجة منهم فأغناهم عن المسألة .
وكان يخلو لنفسه اذا كان الليل فينصرف عن الناس الى عبادته الخاصة مصلياً مجتهداً حتى يتقدم الليل ، فإذا اخذ بحظه من النوم غلس بالخروج الى المسجد » (2) .
____________
(1) الكامل في التاريخ 2 / 201 ، 202 .
(2) الدكتور طه حسين : « الفتنة الكبرى علي وبنوه » ص 159 .

( 191 )

(4)
تحليل لسياسته العامة

« أعلم أن قوماً ممن لم يعرفوا حقيقة فضل علي بن ابي طالب ، زعموا : أن عمر ابن الخطاب كان أسوس منه ، وإن كان هو أعلم من عمر ، وصرح بذلك أبو علي ابن سينا : وعلي بن ابي طالب كان مقيداً بقيود الشريعة مدفوعاً الى اتباعها .
ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير اذا لم يكن للشرع موافقاً .
فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن يلتزم بذلك ، ولسنا ـ بهذا القول ـ زارين على عمر .. ولكن عمر كان مجتهداً يعمل بالقياس ..
ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء والاستنباط من أصول تقضى خلاف ما يقتضيه عموم النص ، ويكيد خصمه ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة ، ويؤدب بالدرة والسوط ـ من يغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب .
ولم يكن علي يرى ذلك ، وكان يقف مع النصوص لا يتعداها الى الاجتهاد والاقيسة ، ويطبق امور الدنيا على أمور الدين ويسوق الكل مساقاً واحداً .
ولا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والنص ..
ولم يكن يرى مخالفة الشرع لاجل السياسة سواء اكانت سياسته دينية ام دنيوية .
أما الدنيوية : فنحو أن يتوهم الإمام في انسان أنه يروم فساد خلافته من غير ان يثبت ذلك عليه يقيناً .
فإن علياً لم يكن يستحل قتله ولا حبسه ولا يعمل بالتوهم وبالقول غير المحقق .
وأما الدينية : فنحو ضرب المتهم بالسرقة فإنه لم يكن يعمل به بل يقول : أن يثبت عليه بإقرار أو بينة أقمت عليه الحد والا لم اعترضه .


( 192 )

... واذا كان مذهبه ما قلناه وكان معاوية عنده فاسقاً وقد سبق عنده مقدمة اخرى ويقينية هي : ان استعمال الفاسق لا يجوز ، ولم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة فقد تعين مجاهرته بالعزل ، وإن أفضى ذلك الى الحرب .. وجواب ـ على الاعتراض على عزله معاوية ـ وهو : أنا علمنا أن الاحداث التي نقمت على عثمان .. توليته معاوية الشام مع ماظهر من جوره وعدوانه ومخالفته احكام الدين .. وقد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر ..
فلو أن علياً فتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام واقراره فيه أليس كان يبتدى .
أول أمره بما انتهى اليه عثمان في آخره ؟ ..
ولو كان اقراره معاوية في حكم الشريعة سائغاً والوزر فيه مأموناً لكان غلطاً قبيحاً في السياسة وسبباً قرباً للعصيان والخالفة . ولم يكن يمكن علياً ان يقول للمسلمين .
إن حقيقة رأيي هي : عزل معاوية عند استقرار الامر وطاعة الجمهور .
وإن قصدي ـ بإقراره على الولاية ـ مخادعته وتعجل طاعته .. لان اظهاره لهذا العزم كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه ..
ومما اعترض على علي به : أنه ترك طلحة والزبير حتى خرجا الى مكة وأذن لهما في العمرة ، وظهر عنه الرأي في ارتباطهما قبله ومنعهما من البعد عنه ـ في عهد عمر ـ .
وقد روى عن عليّ أنه قال لهما ـ .
والله ما تريدان العمرة وانما تريدان الغدرة وخوفهما بالله من التسرع الى الفتنة .
وأخذ عليهما عهد الله وميثاقه في الرجوع الى المدينة ؛ وما كان يجوز له ـ في الشرع ان يحبسهما ، ولا في السياسة ، فلإنه لو اظهر التهمة لهما ـ وهما من افاضل السابقين وجلة المهاجرين ـ لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى ومن الطعن عليه ما هو معلوم ..


( 193 )

لاسيما وأن طلحة كان اول من بايعه . والزبير لم يزل مشتهراً بنصرته » (1) .

(5)
بعض أقواله المأثورة

1 ـ الدنيا منتهى بصر الاعمى لا يبصر مما وراءها ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أن الدار وراءها ، فالبصير منها شاخص والاعمى اليها شاخص ، والبصير منها متزود والاعمى لها متزود (2) .
2 ـ ليس لواضع المعروف في غير حقه وعند غير أهله الا محمدة اللئام وثناء الاشرار ومقالة الجهال ما دام منعماً عليهم .
3 ـ إنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء اخفى من الحق ولا اظهر من الباطل ولا اكثر من الكذب على الله .. ولا في البلاد شيء انكر من المعروف ولا اعرف من المنكر .
4 ـ اذا أقبلت الدنيا على قوم اعارتهم محاسن غيرهم ، واذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن انفسهم .
5 ـ خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم ، وإن عشتم حنوا اليكم .
6 ـ إحذروا صولة الكريم اذا جاع ، واللئيم اذا شبع .
7 ـ هلك فيّ رجلان : محب غال ومبغض قال .
8 ـ احذروا أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون ..
يمشون الخفاء ويدبون الضراء .. لهم بكل طريق صريع .
____________
(1) ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » 2 / 573 ـ 583 .
(2) هذا القول وما بعده من الاقوال مأخذوة من « شرح نهج البلاغة » لابن ابي الحديد .

( 194 )

وإلى كل قلب شفيع ، ولكل شجو دموع ، يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء .
إن سألوا ألحفوا ، وإن عذلوا كشفوا ، وإن حكموا اسرفوا .
وقد اعدوا لكل حق باطلا ، ولكل قائم مائلا ، ولكل حي قاتلاً ، ولكل باب مفتاحاً ، ولكل ليل مصباحاً .
9 ـ احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكره لعامة المسلمين .
واحذر كل عمل يعمل به في السر ويستحى منه في العلانية .
واحذر كل عمل اذا سئل صاحبه أنكره أو اعتذر منه .
10 ـ فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه .
11 ـ الصبر صبران : صبر على ما تكره وصبر عما تحب .
12 ـ من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه .
13 ـ إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان ، وسبيلان مختلفان ، فمن احب الدنيا وتولاها ابغض الآخرة وعاداها .
وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما كلما قرب من واحد بعد من الآخر .
14 ـ صاحب السلطان كراكب الاسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه .
15 ـ من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته .
16 ـ العدل صورة واحدة والجور صور كثيرة ، ولهذا سهل ارتكاب الجور وصعب تحري العدل ، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها .
وإن الإصابة تحتاج الى ارتياض وتعهد ، والخطأ لا يحتاج الى شيء من ذلك .
17 ـ أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها . ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلا فتحت له حرصاً عليها ولهجاً بها .


( 195 )

18 ـ لقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه الا إدباراً والشر فيه الا إقبالاً ... اضرب بصرك حيث شئت من الناس ، فهل تبصر الا فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدل نعمة الله كفراً او بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفراً .. أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً .. لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به .
19 ـ يا أبا ذر : غضبت لله فارج من غضبت له .
إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيدهم ماخافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم ، وما أغناك عما منعوك !
20 ـ إن لسان المؤمن من وراء قلبه ، وإن قلب المنافق من وراء لسانه ، لأن المؤمن اذا اراد ان يتكلم بكلام تدبره في نفسه ، فإن كان خيراً أبداه ، وإن كان شراً واراه . وان المنافق يتكلم بما اتى على لسانه ، لايدرى ماذا له وماذا عليه .
21 ـ والله ما معاوية بأدهى مني ، ولكنه يغدر ويفجر .
22 ـ ومن وصية له للحسن كتبها اليه بحاضرين من صفين :
من الوالد الفاني .. المستسلم للدهر ...
الى المولود المؤمل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك .. تاجر الغرور ، وغريم المنايا .. وصريع الشهوات .
أوصيك بتقوى الله اي بني ولزوم امره . وامر بالمعروف تكن من اهله ، وانكر المنكر بيدك ولسانك .. ولاتأخذك في الله لومة لائم ..
وخض الغمرات للحق حيث كان .
وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه .
وأخلص في المسألة لربك ..
واعلم : أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه ..


( 196 )

اي بني : إني وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في اعمالهم ، وفكرت في اخبارهم ، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى الى من امورهم قد عمرت مع اولهم الى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره ، اعلم يا بني ان احب ما أنت آخذ به وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك .
يابني اجعل من نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك . فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك او اكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم ، واحسن كما تحب ان يحسن اليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك .
وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وإن قَّل ماتعلم .
واعلم : انك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا .. وانت طريد الموت الذي لا ينجو منه هارب .. فكن منه على حذر ان يدركك وانت على حالة سيئة .
وإياك ان تغتر بما ترى من اخلاد اهل الدنيا اليها وتكالبهم عليها .. فإنما أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها على بعض ويأكل عزيزها ذليلها .. سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، فتاهوا في حيرتها .. ونسوا ما وراءها .
واعلم يابني : ان من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وان كان واقفاً ..
واكرم نفسك عن كل دنية وان ساقتك اليه الرغائب ... وماخير ؛ خير لا ينال الا بشر ، وبشر لا ينال الا بعسر .. وتلافيك ما فرط من صمتك ايسر من ادراكك ما فات من منطقك .. والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور .
إحمل نفسك من اخيك عند صرمه على الصلة ، وعند صدوده على اللطف والمقاربة .. وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد .. وإياك ان تضع ذلك في غير موضعه ..
لا تتخذ من عدو صديقك صديقا ، فتعادي صديقك ، وامحض اخاك النصيحة حسنة كانت ام قبيحة .
ولن لمن غالظك فإنه يوشك ان يلين لك .


( 197 )

إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع اليها إن بدا له ذلك يوما ما ..
ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى ..
استدل على مالم يكن بما قد كان ، فإن الامور اشباه ، ولاتكون ممن لاتنفعه العظة الا اذا بالغت في ايلامه ، فإن العاقل يتعظ بالآداب ، والبهائم لاتتعظ الا بالضرب .

(6)
ماينطبق عليه من آي الذكر الحكيم

سورة النساء : « ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً » .
سورة فصلت : « إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألاتخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهى انفسكم ولكم فيها ماتدعون »
سورة المنازعات : « وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى : » .


( 198 )

نماذج من تصرفات الخليفة الجديد

لقد مر بنا نماذج من تصرفات معاوية تجاه خصومه واتباعه معاً . وكان طابع تلك التصرفات ، كما لاحظ القارىء ، الغدر والإيقاع بالخصوم ، وبذل المال وتوزيع المناصب على الأتباع .
أي ان سياسة معاوية كانت سياسة وصولية انتهازية تسير على المبدأ القائل : بأن الوسائل تبررها الغايات ، ولو كانت الغايات نبيلة عادلة تهدف الى توزيع العدل الاجتماعي بين الناس لكان هناك مجال امام الباحث للدفاع عنها ، ولكنها كما رأينا :
أهداف شخصية نفعية غرضها الظاهر التوصل إلى الحكم بمختلف الأساليب والوسائل .
وهدفها البعيد تحطيم روح الإسلام والقضاء على مثله العليا في السياسة والاخلاق .
وقد نجح معاوية ـ مع الاسف الشديد ـ فيما كان يتوق الى التوصل إليه ، فاستولى على خلافة المسلمين ، وسار بها وفق أهوائه ومصالحه ، وخلف للمسلمين والعرب هذا التراث الاجتماعي البغيض وهذه العصبية الطائفية والقبلية المجرمة التي نكتوي بنارها في الوقت الحاضر .
وإلى القارىء نماذج اخرى من تصرفات ابن ابي سفيان ، سقناها لغرض موازنتها بتصرفات ابن ابي طالب ، ليرى القارىء الفرق الكبير بين الرجلين ، ومدى التدهور الذي اصاب نظام الحكم في الإسلام ، وقديماً قيل : وبضدها تتميز الاشياء .

* * *


( 199 )

(1)
مأساة حجر بن عدي

ذكر ابن الأثير (1) قصة حجر واتباعه فقال : « دخلت سنة إحدى وخمسين وفيها قتل حجر بن عدي واصحابه وسبب ذلك ان معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة احدى واربعين . فلما امره عليها دعاه وقال :
قد اردت ايصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك ، ولست تاركاً ايصاءك بخصلة : لاتترك شتم علي وذمه ، والترحم على عثمان ، والعيب لاصحاب علي ، والإفصاء لهم ، والإطراء بشيعة عثمان ، والإدناء لهم .
فأخذ المغيرة يشتم علياً .. فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال :
بل إياكم ذم الله ولعن . أنا أشهد ان من تذمون احق بالفضل .
وقد حبس المغيرة أرزاق حجر واصحابه . فكان حجر يناديه بقوله :
مر لنا ايها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك .
ثم توفى المغيرة وولى زياد فاستمر على الفعل نفسه .
وجمع زياد من أصحاب عدي اثنا عشر رجلا في السجن واحضر شهوداً وقال : إني لأحب ان يكون الشهود أكثر من اربعة ، فدعا الناس ليشهدوا فشهد جمع كبير منهم : اسحق ، وموسى ، ابنا طلحة بن عبيد الله ، والمنذر بن الزبير ، وعمار ابن عقبة ابن ابي معيط .
ثم دفع زياد حجر بن عدي وأصحابه الى وائل بن حجر الحضرمي وكثير ابن شهاب وامرهما ان يسيرا بهم الى الشام فخرجوا عشية فلما بلغوا الغريين لحقهم شريح بن هاني واعطى وائلا كتابا فقال : ابلغه امير المؤمنين فأخذه . وساروا حتى انتهوا بهم الى مرج عذراء عند دمشق وكانوا :
____________
(1) الكامل في التاريخ 3 / 233 ـ 239 .
( 200 )

حجر بن عدي الكندي ، والارقم بن عبد الله الكندي ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيع العبسي ، وكريم بن عفيف الخثعمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمى البجلي ، وكدام بن حسان ، وعبد الرحمن العنزيان ، ومحرر بن شهاب التميمي ، وعبد الله بن حوية السعدي ..
وأتبعهم برجلين هما : عتبة بن الاخمس بن سعد بن بكر ، وسعد بن نمران الهمداني . فتموا اربعة عشر رجلا .
ودفع وائل الى معاوية كتاب شريح بن هاني . فإذا فيه : بلغني ان زياداً كتب شهادتي وان شهادتي على حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال » .
وروى الطبري (1) مأساة ابن عدي وصحبه على الشكل التالي :
« جاء قيس بن عباد الشيباني الى زياد فقال له : ان شخصا منا من بني همام يقال له صيفي بن فسيل من رؤوس اصحاب حجر وهو اشد الناس عليك ، فبعث اليه زياد فأتى به فقال له زياد : يا عدو الله ما تقول في ابي تراب قال : ما اعرف ابا تراب .
قال : اما تعرف علي بن ابي طالب ؟ قال : بلى . قال : فذاك ابو تراب .
قال : كلا ذاك ابو الحسن والحسين .
فقال له صاحب الشرطة : يقول لك الأمير هو ابو تراب ؟ وتقول انت لا . قال : وإن كذبت الأمير اتريد ان اكذب واشهد له على باطل كما شهد . قال له زياد : وهذا ايضا مع ذنبك !!! عليَّ بالعصا . فأتى بها فقال ما قولك ؟
قال : احسن قول انا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين
____________
(1) تاريخ الامم والملوك 6 / 149 ـ 155 .
( 201 )

قال : اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلتصق بالارض فضرب حتى لزم الارض .
ثم قال : اقلعوا عنه فسأله : إيه ما قولك في علي .
قال : والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني .
قال : لتلعننه او لاضربن عنقك قال : اذا تضربها والله قبل ذلك فإن ابيت الا ان نضربها رضيت بالله وشقيت انت قال : ادفعوا في رقبته .
ثم قال : اوقروه حديداً والقوه في السجن .
ويستمر الطبري على سرد تلك المأساة فيروي لنا قصة شهادة الزور الكبرى التي لفقتها حكام المسلمين آنذاك على هؤلاء النفر من المسلمين .
« هذا ما شهد عليه ابو بردة بن ابي موسى لله رب العالمين شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة .
وجمع اليه الجموع يدعوهم الى نكث البيعة وخلع امير المؤمنين معاوية وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء . فقال زياد :
على مثل هذه الشهادة فاشهدوا ، أما والله لاجدن على قطع خيط عنق الخائن الاحمق .
فشهد رؤوس الارباع على مثل شهادته وكانوا اربعة .
ثم إن زياداً دعا الناس فقال : اشهدوا على مثل شهادة رؤوس الارباع .
فقرأ عليهم الكتاب فقال اول الناس عناق بن سرجيل بن ابي دهم التيمي فقال : زياد : أبدأوا بأسامي قريش ثم اكتبوا اسم عناق في الشهود ومن نعرفه ويعرفه امير المؤمنين .
فشهد إسحق بن طلحة بن عبيد الله ، وموسى بن طلحة ، واسماعيل بن طلحة والمنذر بن الزبير ، وعمارة بن عقبة بن ابي معيط ، وعبد الرحمن بن هناد ، وعمر ابن سعد بن ابي وقاص ، وعامر بن مسعود بن امية ، ومحرز بن ربيعة بن عبد العزى


( 202 )

ابن عبد شمس ، وعبيد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي ، وعناق بن شرجيل بن ابي دهم ووائل بن حجر الحضرمي ، وكثير بن شهاب ابن حصين الحارثي وقطن ابن عبد الله بن حصين والسرى بن وقاص الحارثي .
وكتبت شهادته وهو غائب في عمله ـ والسائب بن الاقرع الثقفي وشبث ابن ربعي وعبد الله بن ابي عقيل الثقفي ، ومصقلة بن هبيرة الشيباني والقعقاع بن شور الدهلي ، وشداد بن المنذر بن الحارث بن وغلة الذهلي .. وحجار بن ابجر العجلي ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ولبيد بن عطارد التميمي ، ومحمد بن عمير ابن عطارد التميمي ، وسويد بن عبد الرحمن التميمي واسماء بن خارجة القزاري ، وشمر بن ذى الجوشن العامري وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان ، ومحصن ابن ثعلبة بن عائدة القرشي ، والهيتم بن الاسود النخعي ـ وكان يعتذر اليهم ـ وعبد الرحمن بن قيس الاسدي ، والحارث وشداد ابنا الازمع الهمدانيان وكريب بن سلمة بن يزيد الجعفي ، وعبد الرحمن بن ابي سبرة الجعفي ، وزحر بن قيس الجعفي ، وقدامة بن العجلان الازدي ، وعزرة بن عزة الاحمس .
وكتبت شهادة هؤلاء الشهود في صحيفة ثم دفعها زياد الى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي ، وبعثهما عليهم ، وامرهما ان يخرجا بهم .
وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هاني الحارثي .
فأما شريح القاضي فقال :
سألني عن حجر فأخبرته أنه كان صواماً قواماً .
وأما شريح بن هاني الحارثي فكان يقول :
ما شهدت ولقد بلغني ان قد كتبت شهادتي فأكذبته ولمته .. فمضوا بهم حتى انتهوا الى الغريين فلحقهم شريح بن هاني معه كتاب .
فقال لكثير : بلغ كتابي هذا أمير المؤمنين .


( 203 )

ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هاني فقرأه فإذا به : أما بعد فإنه بلغني أن زياداً كتب اليك بشهادتي على حجر بن عدي وان شهادتي على حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويديم الحج والعمرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال » .
وأما من قتل من أصحاب حجر فهم كما يقول الطبري :
« حجر بن عدي وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة ابن ضبيعة العبسي ، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي وعبد الرحمن بن حسان العنزي الذي رد الى زياد فدفن حياً » (1) .
وقد رثت هند بنت زيد بن مخرمة الانصارية حجراً :

ترفع أيـها الـقمـر الـمنيـر * تبصر هل تـرى حـجراً يسير
يسير الى مـعاوية بن حـرب * ليقتله كمـا زعــم الأميــر
ألا يا حجر حجـر بـن عدي * توقتـك السلامـة والســرور
أخاف عليـك مـا أرضى عديا * وشيخاً في دمشـق لـه زئيـر
يرى قتل الخيار عليـه حـقاً * له من شــر أمتـه وزيــر

وهكذا انتهت ، على ما يقول الدكتور طه حسين (2) :
« هذه المأساة المنكرة التي استباح فيها أمير من أمراء المسلمين ان يعاقب الناس على معارضة لا إثم فيها ، وأن يكره وجوه الناس واشرافهم على ان يشهدوا عليهم زوراً وبهتاناً ، وان يكتب شهادة القاضي على غير علم منه ولا رضا ...
استباح أمير من امراء المسلمين لنفسه هذا الإثم ، واستحل هذه البدع واستباح إمام من ائمة المسلمين ان يقضى بالموت على نفر من الذين عصم الله دماءهم ، دون ان يراهم او يسمع لهم او يأذن لهم في الدفاع عن انفسهم » .
____________
(1) تاريخ الامم والملوك 6 / 155 .
(2) الفتنة الكبرى . علي وبنوه ص 243 .

( 204 )

(2)
نماذج أخرى من غدر معاوية

لقد مر بنا الإلماع الى بعض حوادث غدر معاوية بخصومه ، وبخاصة تدبيره مؤامرة قتل الاشتر في طريقه الى مصر . ولعل ابرز تلك الحوادث :
غدره بالحسن بن علي بعد الصلح المعروف الذي عقد بين الطرفين .
ولم يكتف معاوية بالنكث بذلك العهد ، وإنما ذهب إلى تدبير مؤامرة قتل الحسن .
قال المسعودي (1) « وذكر أن امرأة الحسن جعدة بنت الاشعث بن قيس الكندي سقته السم ، وقد كان معاوية دس لها » .
وذكر المسعودي كذلك (2) « أن عبد الله بن العباس وفد على معاوية فقال : والله إني لفي المسجد اذ كبر معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء .. فخرجت فاختة بنت قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد المناف ـ وهي زوج معاوية بن ابي سفيان ـ من خوخة لها فقالت :
سرك الله يا أمير المؤمنين ماهذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال موت الحسن » وفعل معاوية شيء مشابه لما ذكرناه في قضية تدبيره مؤامرة قتل عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد .

* * *

____________
(1) مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 303 .
(2) المصدر نفسه 2 / 307 .

( 205 )

(3)
إلحاقه زياد بن أبية بأبي سفيان

ذكر المسعودي (1) : « ولما هم معاوية بإلحاق زياد بأبي سفيان ـ أبيه ـ وذلك في سنة أربعين شهد عنده زياد بن اسماء الحرمازني ، ومالك بن ربيعة السلوى ، والمنذر بن الزبير بن العوام ان ابا سفيان اخبر أنه ابنه ... ثم زاده يقيناً إلى ذلك شهادة ابي مريم السلولي .
وكان أخبر الناس ببدء الامر ، وذلك انه جمع بين ابي سفيان وسمية ام زياد في الجاهلية على زنى ، وكانت سمية من ذوات الرايات بالطائف تؤدى الضريبة الى الحرث بن كلدة وكانت تنزل في الموضع الذي تنزل فيه البغايا بالطائف وخارجاً عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا ... »
ثم ذكر المسعودي نص شهادة الاستلحاق : « قال ابو مريم السلولي :
أشهد ان أبا سفيان قدم علينا بالطائف . وانا خمار في الجاهلية فقال : ابغني بغياً فأتيته وقلت لم اجد الا جارية الحارث بن كلدة سمية .
فقال : ائتني بها على ذفرها وقذرها .
فقام يونس بن عبيد اخو صفية مولاة سمية .
فقال : يا معاوية قضى الله ورسوله ان الولد للفراش وللعاهر الحجر وقضيت ان الولد للعاهر .. مخالفة لكتاب الله » . ويستطرد المسعودي في ذكر هذه القصة الطريفة فيروى ما قاله عبد الرحمن بن ام الحكم في ذلك من شعر :

ألا أبلــغ معاوية بن حـرب * مغلغلة عن الرجل اليمـــاني
أتغضب ان يقال : ابوك عف * وترضى ان يقال : أبوك زاني

____________
(1) مروج الذهب ومعادن الجوهر 2 / 310 ـ 312 .
( 206 )

فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان

وفي زياد وإخوته يقول خالد البخاري :

إن زيـــاداً ونـافعــاً وأبـا * بكرة عندي أعجب العجــب !!
إن رجــالا ثلاثـة خــلقـوا * من رحم أنثــى مخالفي النسب
ذا قرشي فيمـا يقــول : وذا * مولى وذا ابـن عمــه عربي

ويروى ابن ابي الحديد (1) ظروف قصة الاستلحاق على الوجه التالي : « فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس وقال : العجب من ابن آكلة الاكباد ورأس النفاق يهددني ، ثم كتب الى علي وبعث بكتاب معاوية في كتابه .. وكتب له الإمام :
إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذره ثم احذره ... فلما قتل علي بقى زياد في عمله وخاف معاوية جانبه وعلم صعوبة ناحيته وأشفق من ممالأته الحسن ... فكتب إليه ...
أما بعد : فإنك عبد قد كفرت النعمة واستدعيت النقمة ... لا أم لك ، بل لا أب لك .
يا ابن سمية إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة .. وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعى . وأقسم قسماً مبرراً ان لا اوتى بك إلا في زمارة ، تمشي حافيا من أرض فارس الى الشام حتى اقيمك في السوق وابيعك عبداً واردك الى حيث كنت فيه وخرجت منه ...
فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضباً شديداً وجمع الناس وصعد المنبر .
وقال : إن ابن آكلة الأكباد وقاتلة اسد الله ، ومظهر الخلاف ، وسر النفاق ، ورئيس الاحزاب .
ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله ، كتب الى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها .
____________
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 68 ـ 72 .
( 207 )

ثم نزل ، وكتب إلى معاوية .. لقد وصل الي كتابك .. فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع .. ولولا حلم ينهاني عنك .. لانرت لك مخازي لايغسلها الماء .. وإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة .
أما زعمك أنك تخطفني بأضعف ريش ، فهل سمعت بذئب أكله خروف .
فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه واحزنه وبعث الى المغيرة بن شعبه فخلا به .
قال المغيرة .. إن زياداً رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة ، وألنت له الكتاب ، لكان لك أميل وبك وأوثق ، فاكتب اليه وأنا الرسول .
فكتب معاوية .. الى زياد بن ابي سفيان .. حملك سوء ظنك بي وبغضك لي على ان عققت قرابتي وقطعت رحمي .. حتى كأنك لست أخي وليس صخر بن حرب أباك وابي . وشتان ما بيني وبينك . أطلب بدم ابن العاص وأنت تقاتلني .
فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس فلما رآه زياد قدمه وأدناه ولطف به فرفع اليه الكتاب . فجعل يتأمله ويضحك .
ثم جمع الناس .. وصعد المنبر .. وقال : لقد نظرت في امور الناس منذ قتل عثمان .. فوجدتهم كالاضاحي في كل عيد يذبحون .
وكتب كتاب الجواب الى معاوية :
الحمد لله الذي عرفك الحق وردك الى الصلة . ولست ممن يجهل معروفاً ولا يغفل حسباً ..
وروى المدائني قال : لم اراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه من الشام جمع من الناس وصعد المنبر واصعد زياداً معه .
ثم قال : إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد ، فمن كان عنده شهادة فليقم بها .. فقام ابو مريم السلولي وكان خماراً في الجاهلية فقال :
إن أبا سفيان قدم علينا بالطائف ، فأتاني فاشتريت له لحماً وخمراً وطعاماً ،


( 208 )

فلما أكل قال : يا أبا مريم اصب لي بغياً . فخرجت فأتيت بسمية .. تجر ذيلها فدخلت معه .
وروى شيخنا ابو عثمان : أن زياداً مر وهو والي البصرة بأبى العريان العدوى وكان شيخاً مكفوفاً ذا لسن وعارضة شديدة . فقال ابو العريان ماهذه الجلبة ؟ قالوا : ، زياد ابن ابي سفيان . قال : والله ماترك ابو سفيان الا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمداً ، فمن أين جاء زياد : فبلغ الكلام زياداً .
وقال قائل له : لو سددت عنك فم هذا الكلب فأرسل إليه بمائتي دينار ! فقال له رسول زياد : إن ابن عمك زياداً الامير قد ارسل إليك مائتي دينار .. ثم مر به زياد من الغد في موكبه . فوقف عليه وسلم . وبكى ابو العريان . فقال مايبكيك ؟ قال : عرفت صوت ابي سفيان في صوت زياد . فبلغ ذلك معاوية فكتب الى ابي العريان :

ما ألبثتك الدنانيـر التـي بعثـت * أن لونتـك أبــا العـريان ألوانا
أمسى إليك زيـاد فـي أرومتـه * نكراً فأصبح ما أنكـرت عرفانـا
لله در زيـــاد لـو تعجلهــا * كانت له دون ما يخشــاه قربانا

فلما قرىء كتاب معاوية على ابي العريان قال : أكتب جوابه ياغلام :

أحدث لنا صلة تحيــا النفوس بها * قد كدت يا ابن أبي سفيـان تنسانا
أما زياد فقد صـحت مـناسبـه * عندي فلا أبتغى في الحـق بهتانا
من يسد خيراً يصبه حين يفعلـه * أو يسد شراً يصبه حيثما كـان (1)

وقد تم ذلك سنة 56 هـ أي قبل ان ينتصف القرن [ الاول ] على وفاة النبي ورحم الله الحسن البصري فقد كان يقول فيما يروى الطبري : « أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الامة بالسفهاء حتى ابتزها امرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ؛
____________
(1) ابن ابي الحديد « شرح نهج البلاغة » 4 / 68 ـ 70 .
( 209 )

واستخلافه ابنه بعده سكيراً وخميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله :
الولد للفراش وللعاهر الحجر ؛ وقتله حجر بن عدي » (1) .

(4)
أقواله المأثورة

1 ـ ذكر أبن الأثير(2) :
لما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه دعا ابنه يزيد فقال : يابني إني كفيتك الشد والترحال ، ووطأت لك الامور ، وذللت لك الاعداء ، واخضعت لك رقاب العرب ، وجمعت لك مالم يجمعه أحد .
وإني لست أخاف عليك ان ينازعك في هذا الامر الا اربعة نفر من قريش : الحسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن ابي بكر .
فأما ابن عمر فإنه رجل قد وقدته العبادة . فإذا لم يبق أحد غيره بايعك .
وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه ..
وأما ابن أبي بكر فإنه رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ، وليس همه الا في النساء واللهو .
وأما الذي يجثم لك جثوم الاسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن امكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير .
فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطعه إرباً إرباً » (3) .
____________
(1) الدكتور طه حسين « الفتنة الكبرى ، علي وبنوه » ص 248 .
(2) الكامل في التاريخ 3 / 259 ، 260 .
(3) يذكر بعض الرواة ـ ومنهم ابن الأثير نفسه ـ أن عبد الرحمن بن ابي بكر كان قد مات قبل معاوية . وقيل : إن يزيد كان غائباً من مرض ابيه وموته ، وإن معاوية احضر الضحاك بن قيس ، ومسلم بن عقبة المرى فأمرهما أن يؤديا عنه رسالته التي ذكرناها في المتن الى يزيد ابنه .

( 210 )

2 ـ قال معاوية لما حضرته الوفاة : إن رسول الله كساني قميصاً فحفظته ، وقلم أظفاره فأخذت قلامة فجعلتها في قارورة . فإذا مت فألبسوني ذلك القميص واسحقوا تلك القلامة وذروها في عيني وفمي فعسى الله ان يرحمني ببركتها (1) .
3 ـ ذكر الطبري بأسانيده المختلفة عن أبي مسعدة الفزاري قال :
قال لي معاوية : يا ابن مسعدة رحم الله ابا بكر لم يرد الدنيا ولم ترده .
وأما ابن حنتمة ـ اي عمر ـ فأرادته الدنيا ولم يردها .
وأما عثمان فأصاب من الدنيا واصابت منه ، وأما نحن فتمرغنا فيها (2) .
4 ـ أغلظ رجل لمعاوية فأكثر ، فقيل له : أتحلم عن هذا ؟
فقال : إني لا احول بين الناس والسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين ملكنا (3) .
5 ـ لام معاوية (4) عبد الله بن جعفر على الغناء (5) . فدخل يوما ومعه بديح ومعاوية واضع رجلا على رجل ، فقال عبد الله لبديح إيهاً ! فتغنى فحرك معاوية رجليه وقال : إن الكريم طروب .
6 ـ قام معاوية خطيباً ـ بعد أن دس السم للأشتر ـ فقال :
____________
(1) الكامل في التاريخ 3 / 260 . ومما يلفت النظر حقا أن يحتفظ معاوية بقلامة ظفر النبي ولا يحافظ على سنته ! !
(2) الطبري : « تاريخ الامم والملوك » 6 / 186 . وفي رواية اخرى « اما انا فقد تضجعتها ظهراً لبطن وانقطعت إليها فانقطعت لي » .
(3) الطبري ، « تاريخ الامم والملوك » 6 / 187 .
(4) المصدر نفسه 6 / 187 ، 188 .
(5) هذا الحديث مخالف لما عليه المؤرخون من قداسة عبد الله بن جعفر لما ذكروه من جلالة قدره وتوثيقه . راجع تاريخ الطبري ، والاستيعاب لابن عبد البر واسد الغابة لابن الأثير وغيرها . « الناشر »

( 211 )

أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين وقطعت الاخرى اليوم (1)
7 ـ سأل معاوية عمرو بن العاص : مابلغ من عقلك ؟ قال : مادخلت في شيء قط الا خرجت منه ، قال معاوية : لكنني مادخلت في شيء قط واردت الخروج منه (2) .
8 ـ لو ان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت :
إذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها (3) .
9 ـ جاء في الطبري ان معاوية كان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول : والله ما اشبع وإنما اعيا (4) .
10 ـ روى الوافدي ان عمرو بن العاص دخل يوما على معاوية بعد ما كبر .
فقال له : ما بقى مما تستلذه ؟ فقال : أما النساء فلا إرب لي فيهن .
وأما الثياب فقد لبست من لينها وجيدها حتى وهى بها جلدي ، فما ادري ايها الين .
وأما الطعام فقد اكلت من لذيذه وطيبه حتى ما ادري ايه الذ واطيب .
فما شيء الذ عندي من شراب بارد في يوم صائف ومن ان انظر الى بنيّ وبني بنيّ يدورن حولي (5) .
____________
(1) العقاد « معاوية بن ابي سفيان » ص 74 . ويقصد بذلك عمار بن ياسر والاشتر .
(2) المصدر نفسه ص 77 .
(3) المصدر نفسه ص 82 .
(4) المصدر نفسه ص 126 .
(5) المصدر نفسه ص 132 .

( 212 )

(5)
معاوية في الميزان

كل شيء في الحياة الانسانية هين اذا هان الخلل في موازين الانسانية . وانها لاهون من ذلك اذا جاوز الامر الخلل الى انعكاس الاحكام وانقلابها من النقيض الى النقيض . فمن الناس من يحب ان تتغلب المنفعة على الحقيقة او على الفضيلة ... لانه يرجع الى طبيعته فيشعر بحقارتها اذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة والحقائق الصريحة ، ولانه يكره ان يدان الناس او تقاس الاعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه ولايقدر على التماس المعذرة لها في نقيصتها او في طبيعتها التي لافكاك منها .
وليس ابغض الى الإنسان من احتقاره لنفسه ؛ وليس احب اليه من اعتذاره لها عن حقيقتها . إنه يتعصب في كل شعور يدفع به النقص ويمهد به العذر وينفى به الاضطرار الى الاقرار بسبق السابقين له ، وارتفاع المرتفعين عليه .
وإنه ليعترف بالجهل اذا استطاع ان يدعى لنفسه تعلة يسمو بها على اهل المعرفة .
وإنه ليعترف بالعجز اذا استطاع ان ينزل بالقادرين الى « مستواه » بخديعة من خداع النفس .
وإنه ليعترف بالرذيلة اذا استطاع ان يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة ... ويكفى ان ينسب الى العظيم المثالي عمل من الاعمال التي لايقدر عليها النهاز ولايسعى اليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة بينه وبين ذلك العمل العظيم المثالي ... ويضطره الى ذلك وقوفه بين طريقين :
أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه ، والآخر مألوف يطرقه كل يوم .
واذا لم يرجح من اخبار فترة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان الا الخبر الراجح


( 213 )

عن لعن علي على المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان .
فإن الذي يعلن لعن خصمه على منابر المساجد لا يكف عن كسب الحمد لنفسه في كل مكان وبكل لسان ، ولو لم يرد من اخبار تلك الفترة الا ان معاوية كان يغدق الاموال على الاعوان ومن يرجى منهم العون لكان لعن خصمه على المنابر كافيا للإبانة عما صنعه لكسب الثناء عليه وإسكات القادحين فيه .
ولكن اخبار الاموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها كتب المادحين والقادحين ومن لايمدحون ولايقدحون .
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام احمد بن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية ؟ فقال :
اعلم ان علياً كان كثير الاعداء ، ففتش له اعداؤه عيباً فلم يجدوا ، فجاءوا الى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كياداً منهم له (1) .
وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين : أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام حصة معاوية ، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة عليّ من الحجاز والعراق ، وقد تدخل مصر فيها حيناً وتخرج منها اكثر الاحايين ..
فكانت أعباء الخلافة كلها على علي , وكانت احوال الملك كلها مع معاوية ، مواتية له ، محيطة به فيما يريد .. وفيما لا يريد .
كان الناس مع علي ينظرون الى سنة الرسول .
وكان الناس مع معاوية ينظرون الى هرقل وكسرى ...
____________
(1) هذه الفترة وما يليها مقتطفات من كتاب العقاد « معاوية بن ابي سفيان في الميزان » ص 9 ، 11 ، 12 ، 14 ، 16 ، 17 ، 35 ، 38 ، 48 ، 49 ، 70 ، 71 ، 112 ـ 115 ، 181 ، 182 ، 185 ـ 191 ، 203 ـ 205 .
( 114 )

فكان المجتمع الإسلامي مجتمعين .. افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية .
فكان علي يكبح تياراً جارفا لا حيلة في السير معه ولا في دفعه .
وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاهم بغير مدافعة وبغير حيرة ...
وسبب آخر من اسباب الولع بالحديث عن الدهاء انه اصبح كفؤاً للشجاعة او راجحاً عليها في موازين الصفات الاجتماعية .
فإذا عيب رجل من رجالهم بقلة الشجاعة وجد العزاء ـ وفوق العزاء ـ بشهرة الدهاء .
فالدهاء عندهم مزية وضرورة وعزاء وغطاء للخوف والجبن ..
لقد كانوا يطلقون الدهاء على كل وسيلة غير صريحة يبلغ بها صاحبها مأربه .
وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء إلقاء الشبهة بين خصومه .
وقد احتال بمثل هذه الحيلة على قيس بن سعد حتى اوقع الريبة منه في نفس الإمام .
وحيلة أخرى لانجزم بها ولكننا نشير اليها في مكانها مما رواه الرواة عن الوسائل الخفية التي توسل بها معاوية للغلبة على خصومه ومنافسيه ..
ومات الحسن ، ومات مالك بن الأشتر .. ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وعوجلوا جميعاً بغير علة ظاهرة فسبق الى الناس ظن كاليقين انها غيلة مدبرة ، وان صاحبها من كان له نفع عاجل بتدبيرها ، وهو : معاوية .
لقد علم المراقبون لطبائع الحيوان ان المطاردة عنده تقوم على حركات متتابعة ولا تقوم على حركة واحدة .
فإذا لمح الحيوان من خصمه انه يجفل منه أخذ في الهجوم .
وإذا عدا خصمه امامه اخذ في العدو وراءه .
وإذا ادركه ولم يجد منه مقاومة تمادى في صرعه وافتراسه .
وقد دخل حجر بن عدي على معاوية ومعاوية ينتظر منه صدمة يتبعها حذر


( 215 )

لواجب الحلم والأناة ، فلما دخل حجر محيياً له بالإمارة وزال الحاجز الاول زالت معه الحواجز الاخريات ، ولم يعلم الرجل اين يكون الوقوف . ونظن ان هذه الخليقة قد اوشكت ان تبرز في طوية معاوية من وعيه الباطن الى وعيه الظاهر .
وقد صبر معاوية على الوان من الخضوع في طلب وجاهته السياسية لا يصبر عليها كثير من عامة الناس ... واحتاج ان يقول مرة كما جاء في الطبري مستنداً الى سعيد بن سويد : ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ... ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم .
ثم نشبت الفتنة الوبيلة في خلافة عثمان ، ومعاوية بمعزل منها .
وقتل عثمان فاتخذ مقتله ذريعة للخروج على الإمام وإنكار بيعته .
وأسرف كل الإسراف في التذرع بهذه الذريعة قبل استقلاله بالخلافة .
فما كان له من مسوغ يتعلل به غير مقتل عثمان يردده في كل حديث وفي كل خطاب وفي كل جواب . وعلى قدر اللهج بهذه الفاجعة قبل استقلاله بالخلافة سكت عنها واغفلها بعد ذلك فلم يعد إليها قط لا ليعتذر الى قرابة الخليفة المقتول من سكوته وإغفاله .
وكان معاوية عظيم العناية بأطايب الخوان ، كثير الزهو بالثياب الفاخرة والحلية الغالية ، وكان يأكل ويشرب في آنية الذهب والصحاف المرصعة بالجوهر ويأنس للسماع واللهو ولا يكتم طربه بين خاصة صحبه .
وقد ألجأته الحاجة الى إنفاق المال في أبهة الملك والإغداق على الاعوان والخدم الى ارهاق الرعية بالضرائب ومخالفة العهود مع اصحاب الجزية .
فكان من الولاة من نطيعه ومنهم من يحيبه معترضاً .
ومن الولاة الذين انكروا ان تستصفى الاموال لبيت مال الخليفة : والى خراسان الذي كتب اليه زياد يأمره الا بقسم في الناس ذهباً ولا فضة ، فكتب الوالي الى زياد :
بلغني ماذكرت من كتاب امير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله تعالى قبل كتاب


( 216 )

كتاب أمير المؤمنين .. وليس أضل ضلاله ولا اجهل جهلاً من المؤرخين الذين سموا سنة إحدى وأربعين هجرية بعام الجماعة لانها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة .
فلم يشاركه أحد فيها لان صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الامة كما تفرقت في تلك السنة ، ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها كما وقع فيها .
إذ كانت خطة معاوية في الأمن والتأمين قائمة على فكرة واحدة وهي التفرقة بين الجميع .
ولم يقصر هذه الخطة على ضرب خصومه ببعضهم .. كضرب الشيعة بالخوارج . والعرب بالموالي .. واليمانية بالقيسية .. بل كان يفعل ذلك في صميم البيت الاموي من غير السفيانيين .
وواضح من هذه التفرقة انه كان يكف يده عن البطش والنكاية في معاملتهم جميعا .. لانه كان يغرى بعضهم ببعض فيستغنى بالوقيعة بينهم عن الإيقاع بهم ، ولكنه ـ على هذا كله ـ كان يؤيد سياسة الإيقاع مهما يكن من قسوتها .
وكان يختار لها من الولاة من يعلم انه يفرط فيها ولا يقتصد في شرورها وبقاتها .
ولا يبالى ان يأخذ البرىء يذنب الاثيم ولا ان ينكل بالقريب قصاصاً من البعيد
وخرج معاوية من الملك بالأيام التي قضاها في نعمته وثرائه ولانقول في صولته وعزه فقد كان يذل لكل ذي بيعة منشودة ذلا لم يصبر من بايعوه على مثله . أما تبعته العامة في امر الملك فأمر جسيم لا تعد له جسامة عمل في عصره لانه نكص بالملك خطوات ... ولو انه أنشأ هذا الملك والناس لا يعرفون غيره لخف نصيبه من اللوم ... غير ان الناس عرفوا في زمانه فارقا شاسعا بين ولي الامر الذي يتخذ الحكم خدمة للرعية ... وبين الحكم الذي يجري على سنة المساومة ويملى لصاحبه في البذخ والمتعة ويجعله قدوة لمن يقتدون به في السرف والمغالاة بصغائر الحياة .

* * *


( 217 )

(6)
ما ينطبق على تصرفاته من القرآن

سورة آل عمران : « إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم . أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين 3 : 21 ، 22 »
سورة يونس : « إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون 10 : 7 ، 8 »