(21)
المقدمة
     تبقى الكتابات التاريخية محبوسة الأنفاس بين ما احتكره أهل الصنعة من التزوير ، وبين ما استحسنه الحكام من كتابته ، بما ينسجم وتطلعاتهم في إلغاء مسلمات الواقع ، أو فرض تخيلات القصاصين على كاهل تاريخ يمتد بعطاءاته منذ بزوغ فجر الرسالة إلى ما شاء الله له أن يقوم .
     وإذا أردنا أن نحسن الظن بما سطره هؤلاء وأولئك من مروياتهم ، فلا ينبغي أن نتعامل معها بحسن ظن يفقدنا مصداقيتنا في الرغبة إلى معرفة الحق ومجرياته ، وشؤون الواقع وتطلعاته .
     وهكذا تبقى المرويات التاريخية مكتمة ، لا يحق لها أن « تتفوه » عما أضافته يد الوضع عليها ، أو تلك النابعة من تخيلات القصاصين مجاراة لوضع سياسي قائم ، أو مدارة لنزعات تكتل معين ، أو تنفيذا لرغبة نفسية جامحة في الانتقاص من هذا ، وسلب محاسنه لتزويق صورة ذاك ، أو رمي هذا بداء ذاك دون وازع من دين ، أو تحرج من عرف ، أو حتى لو تعارض مع مبتنيات علمية ، أو أسس منطقية ، بل ومبادئ أخلاقية ، استجابة لمصالح


(22)
شخصية عارمة ، أو طموحات سياسية هائجة ، تسحق معها كل مبدأ ، وتقتل من خلالها كل فضيلة ، وتوأد بسببها كل مكرمة . وليس في منطق هؤلاء غير استدرار رضا أسيادهم ، وإشباع حاجات أوليائهم من « نهم » الوضع والتزوير ، ونزعة الكذب والتضليل .
     وهكذا يبقى الصراع قائما بين توجهات هؤلاء ، وأسس المنطق العلمي الذي من خلاله يقرأ الواقع التاريخي دون تزلف لعصبة ، أو مراء في حقيقة أو تجن على واقع .
     والذي بين أيدينا نموذج مما جنته الأهواء في كتابة التاريخ ، وما فرضته المصالح من تزوير ، وما أفرزته صراعات التكتلات السياسية من تضليل ، فخال لهم ما وضعوه « مسلمة » أجورها على ألسن السذج من الناس ، وأوهموا بها الحمقى من القصاصين ؛ ليستظرفوا بها كتبهم ، ويستملحوا بها قراءهم .
     وكان نصيب هؤلاء من تخيلاتهم في مروياتهم ، وطعونهم على أهل البيت عليهم السلام ، أن صوروا السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام ، الملقبة بسكينة ، أنها من أهل الظرافة والبطر .
     فهي تتعاطى الغناء ، كما هي تتعاطى التحكيم بين الشعراء والمغنين ، وتترامى في أحضان أزواجها الأمويين والزبيريين دون وازع من دين أو مانع من عرف ، وكأنها « موقوفة » لبني مروان وآل الزبير . فبين مفارق لها ، وبين كاره ، وبين خاطب ، وبين مطلق ، وكأن لم يكن من بني هاشم كفء يتولى أمرها ، أو ولي يحسن منعها عما ترتكبه مما يخالف الدين وينافي العرف .


(23)
     في خضم هذه « الأهوال » التي تحدثها زوابع ثقافية ، يتسكع أصحابها على أبواب السلطان ، ويعيشون في دهاليز البلاط ، ويدفع بها هؤلاء ، ويتجاذبها أولئك .. ليحاولوا إقحامها في مرتكزات العامة ، ويدعوها لسذج الناس .
     لم تدم هذه المحاولات الخائبة طويلا حتى قيض الله لذلك من يبطل أحدوثتهم ، ويرد مكائدهم ، ليطالعنا الحجة المحقق السيد عبدالرزاق المقرم قدس سره ، الذي عرف بالدفاع عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، فيثبت دجل الوضاعين ، مما ادعوه من وصمة الظرافة واللهو ، وتعدد الأزواج التي يلصقونها بالسيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام الملقبة « بسكينة » ، فأثبت براءتها عن كل تهمة وشائنة ، بكتابه الرائع « سكينة بنت الحسين عليهما السلام » .
     وكتابنا هذا هو حلقة مكملة لجهود العلامة المقرم رضوان الله تعالى عليه ، وليميط اللثام عما ارتكبه هؤلاء القصاصين ؛ من تخيلات ترضي أهواء أسيادهم ، وتنتقص من مقامات آل البيت عليهما السلام .
     ولسوف يرى قراؤنا ما أحدثته السياسة من فجوة بين الحق الباطل ، وبين الحقيقة والخيال ، حرصا منا على تحرير القارئ من أسر توجهات الكتابات التاريخية المنفلتة عن قيم الدين ومبادئ العقل ، ومسلمات الوجدان .
     وكان لمؤسسة السبطين عليهما السلام العالمية التي يشرف عليها آية الله السيد مرتضى الموسوي الإصفهاني « حفظه الله تعالى » ، الأثر الكبير في إنجاز هذا المشروع ورعايته ، وقد لمست الجد والإخلاص في إنجاز هذا العمل من لدن فضلائها الأخيار ، وأخص بالذكر سماحة العلامة الشيخ


(24)
عباس الساويز الكاشاني الذي بذل جهده في مراجعة الكتاب ، والأستاذ السيد عدنان الحسيني في إخراجه ، ولجميع فريق عمل هذه المؤسسة الخيرة كل تقدير وإكبار ، سائلا المولى التسديد لهم لتقديم المزيد من مشاريع الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام .
ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام
3 جمادى الثانية 1423 هـ
السيد محمد علي السيد يحيى الحلو
قم المقدسة






(25)
تنوية
اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ،
وسكينة لقب لقبتها به أمها
ابن خلكان في
وفيات الأعيان 1 : 378

     ورد في الكتاب اسم السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام ، بدل سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، توخيا لإثبات اسمها الصحيح ، وربما أشرنا إلى إثبات اسم السيدة آمنة إلى جانب اسم سكينة بنت الحسين ، إشارة إلى مسايرة بعض الأخبار الموضوعة بما تقتضيه سيرة البحث ، إمعانا في إرشاد القارئ وتنبيهه إلى استخدام اسم السيدة « آمنة » بدل « سكينة » ، وحرصا منا على تداول الاسم الصحيح وهو :

السيدة آمنة بنت الحسين عليهما السلام
وراثة نبوية
« وأما الحسين فله جودي وشجاعتي » (1)
     هكذا كان ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ، فورث الحسين عليه السلام جوده وشجاعته ، وورث الحسن عليه السلام هيبته وسؤدده . كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ، فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ، وقال : « اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد » وأنزل الله عز وجل : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2) (3) . ولطالما كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا حرب لمن حاربكم
(1) الإرشاد للمفيد 7 : 2 ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي : 210 ، الخصال للصدوق77 : 1 وفيه : جرأتي وجودي وفي رواية أخرى : سخائي وشجاعتي ، بحار الأنوار 293 : 43 ، مقتل الحسين للخوارزمي 105 : 1 ، الإصابة لا بن حجر 316 : 4 رقم 481 ترجمة زينب بنت أبي رافع ، أسد الغابة130 : 7 رقم 6955 ، البداية والنهاية 161 : 8 ، ذخائرالعقبى لمحب الدين الطبري : 129 ، المعجم الأوسط للطبراني 136 : 7 ح 6241 وفيه : كرامتي وجودي ، مجمع الزوائد 185 : 9 ، وأخرجه ابن منده ، وابن عساكر في تاريخه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وأبو نعيم وغيرهم .
(2) الأحزاب 33 : 33 .
(3) المستدرك على الصحيحين 160 : 3 ح 4709 ، دار الكتب العلمية .

(28)
وسلم لمن سالمكم » (1) .
     ولكم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينوه عن حبه لابنيه هذين حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك مناسبة إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما .
     فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة لبعض الحاجة ، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه ؟ فكشف فإذا حسن وحسين على وركيه فقال : « هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما » (2) .
     ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا .
     وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما ؟ فقال : إن هذين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما (3) ؟!
     هذه عناية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولديه ، ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ، عند رحيله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملكوت الله الأعلى ؛ ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال : « يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 161 ح 4713 .
(2) سنن الترمذي 5 : 656 ح 3769 كتاب المناقب ، ب31 مناقب الحسن والحسين .
(3) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر من تاريخ دمشق ، تحقيق المحمودي : 146 ح188 .

(29)
و عترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (1) .
     ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم ، فهذا علي عليه السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ، ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ، تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين . فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون عليا عليه السلام إلى بيعتهم مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ، إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ، وليس للحسن بن علي عليهما السلام شأن للنصرة عند هؤلاء القوم ، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ، واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ، ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده .
     وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛ ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلا وتنكيلا . فأحرقوا خيامهم ، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء .
     لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا ، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة : « أيها الناس من عرفني
(1) المعجم الكبير للطبراني 3 : 65 .
(30)
فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا .
     أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي » .
فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو : هلكتم وما تعلمون (1) .
     وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ، ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق ، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه .
     بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي عليهما السلام تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ، وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب ، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ، الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم وصمود الآل .
     كانت زينب عليها السلام صامدة رغم ما تعانيه من تتابع الأهوال ، وهي في هذا تتابع الأحداث ، والخطب جلل ، والجرح لما يندمل ، فقالت من خطبة لها :
     « ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق
(1) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم : 316 و317 .