إلا عليّ
أو
اصلب من الأيام
غداً ترون أيامي ويكشف
لكم عن سرائري
كمال السيد


( 4 )

( 5 )

الاهداء :
اليك يا رسول الله ...
وانا ..
اشهد انّ علياً
وليً الله ..

( 6 )

( 7 )

بسم الله الرحمن الرحيم
في البدء ..
    لايعدو الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ .. ألا محاولة لاستكشاف شواطئ بحر لا نهائي ..وما فصوله سوى توقفات مع ومضاتٍ من الجانب التسجيلي لحياة ذلك العظم ..
    لقد احسست منذ « البدايات » ، انني سأضيع في عالم زاخر بالنجوم .. وفي كل مرّة كنت اثوب إلى نفسي فأعود إلى الشواطئ ، واكتفي بتأمل الأمواج من بعيد ..
    كنت واثقاً بان الاقتراب اكثر سوف يودي بي إلى الغرق .. من أجل هذا اكتفيت في رحلتي بالضفاف .. وفي رأيي سوف تبقى الكتابة في كل شيء أمراً ممكنا .. « الا علي » .

كمال السيد


( 8 )

( 9 )
    الفصل الأول
    في ظلال محمد صلى الله عليه وآله
    « كنت اتبعه اتباع الفصيل اثرامه ...»

( 10 )

( 11 )
    البدايات ...
    مضت على عام الفيل ( 1 ) ثلاثون سنة ، وقد اضحت قصة اصحاب الفيل مجرد ذكريات يحكيها الأجداد للاحفاد ؛ حتى إذا أطل عام 600 للميلاد كانت الكعبة على موعد مع حادث جديد .
    بدا أبو طالب سيّد مكة وشيخ البطحاء حزيناً ، كان آخذاً سمته صوب الكعبة يتضرع إلى اله إبراهيم وأسماعيل ، فلقد اشتد بزوجه الطلق وتعسّرت الولادة .
    كانت غيمة حزن تطوف وجهه المضيء ، وضع ابن عبد المطلب كفّه على جبينه ، وقد طغت على وجهه الكآبة ، قالت نسوة من العرب :
    ـ ما شأنك يا أبا طالب ؟ !
    ( 1) في عام 570 م زحفت جيوش الأحباش بقيادة ابرهة الأشرم باتجاه مكة مستهدفة تدميرالكعبة وتحويل انظار العرب إلى كنيسة « القليس » في محاولة لتنصير سكان شيه الجزيرة العربية ، اضافة إلى اهداف الحملة الاقتصادية في السيطرة على طريق التجارة البري ، وقد تم ذلك بتشجيع من الرومان كحلقة من حلقات الصراع الدولي الكبير الذي نشب آنذاك بين امبراطوريتي الروم والفرس .
( 12 )
    اجاب ابن راعي البيت :
    ان فاطمة بنت اسد في شدّة المخاض .
    وضع يديه على وجهه ليحجب حزنه ؛ ربّما ليغمض بصره لتنفتح بصيرته على عوالم سماوية .
    وأقبل « محمد » رجل في الثلاثين فالفى عمّه وكافله وحامي طفولته غارقاً في حزن مرير . ومدّ الشاب يده إلى عمّه يساعده على النهوض ، ووجد الشيخ نفسه ينقد مع ابن اخيه فطالما رأى بركات هذا الفتى الهاشمي ذكرى شقيقه « عبد الله » .
    وجاءت ابنة اسد تحفّها النسوة إلى بيت الله . قالت وهي تتمسح بجدران البيت العتيق :
    ـ يا رب .. اني مؤمنة بك وبما جاء به رسلك واني مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل ، فبحق من بنى البيت العتيق يسّر علي ولادتي .
    واشتدّ المخاض ؛ وفي تلك اللحظات عندما يتحد الإنسان مع السماء انشق الجدار لتلج فاطمة إلى جوف الكعبة إلى الاحضان الدافئة المفعمة بالسلام لتترك أهل مكة في حيرة وذهول .
    وتمرّ أيام ثلاثة حتى إذا اشرق اليوم الرابع خرجت فاطمة من اعماق الكعبة وهي تحمل صبياً في منظر ملائكي لا يقل بريقاً عن

( 13 )
مشهد مريم ابنة عمران يوم جاءت تحمل عيسى وقد اشتد بها المخاض عند جذع النخلة .
    وانطلق البشير إلى ابي طالب فاقبل وأهل بيته مسرعين وقد غمرت الفرحة قلوبهم ، وكان اكثرهم فرحة محمد الذي ضم الصبي إلى صدره الدافئ وحمله إلى بيت أبي طالب .
    وكما يومض البرق في السماء ومض اسم « علي » في ذهن ابي طالب ؛ لقد كان علي هدية السماء الى الأرض ؛صبي خرج من اعماق الكعبة المعظمة كما تخرج اللؤلؤة من صدفتها الجميلة .
    ونما علي يتخطى الأيام والشهور ، يتأمل وجوهاً نظرة تحنو عليه وتبتسم له وتناغيه وكان احبها إليه وجه يحمل اسماً جميلاً هو « محمد » ؛ وهكذا تدفق نبع من الحب السماوي بين محمد وعلي .
    وتعصف ازمة اقتصادية بمكّة ويعاني أبوطالب من وطأتها فقد كان كثير العيال ؛ وهنا يتقدم محمد إلى عمّه الثري العباس ويقترح عليه التخفيف من اعباء سيد مكّة وزعيم بني هاشم ويرحب الباس بذلك فيأخذ جعفراً ويأخذ محمداً وليد الكعبة علياً . وانتقل الصبي إلى ظلال وارفة لينشأ في بيت خديجة المفعم بالمحبّة والسلام .
    ومن ذلك التاريخ لم يفارق علي كافلة ومعلمه العظيم وهكذا قدّر لعلي أن يكون صورة مصغرة لمحمد المثال الأسمى للإنسانية

( 14 )
عبر التاريخها الطويل .
    هل رأيت الفصيل وهو يتبع امّه ، انه لا يشعر بالطمأنينة والأمن إلا في احضانها أو بالقرب منها ، وهكذا كان الصبي يتبع ابن عمّه يلازمه كظل ، يرافقه في طوافه حول الكعبة بيت ابراهيم وينطلق معه صوب جبل حراء موعده في كل عام ، ولم يكن حراء قريباً بل كان يبعد عنها ثمانية أميال ، وكان محمد قد اختار في بلك المفوح غاراً لا يكاد يسع إلا لثلاثة اشخاص .
    وكان محمد يستغرق في تأملاته التي تأخذه بعيداً عن ويلات الأرض وادرانها ؛ وكان علي يراقب معلّمه يتعلم من حركاته وسكناته وتأملاته ما يجعله يرى بوضوح حقائق العالم ؛ لقد وعى علي كل التحولات الروحية لابن عمّه العظيم فكان له كالمرآة الصافية تنعكس فيها شخصية محمد ، وتتجلّى فيها اخلاقه الرفيعة .
وهبط جبريل :
    وعندما بلغ الصبي العاشرة من عمره شهد بكل جوارحه اعظم حدث في تاريخ الأرض يوم هبط الملاك يحمل البشرى لمحمد هاتفاً :
    ـ يا محمد ! أنت رسول الله .. وأنا جبريل .
    ولقد افزع هذا الحادث الشيطان فاطلق رنة يأس وهو يرى النور يغمر حراء وسيغمر العالم كلّه ؛ وتساءل الفتى :

( 15 )
    ـ يا رسول الله ما هذه الرّنة ؟
    واجاب آخر الأنبياء :
    ـ هذا الشيطان قد أيس من عبادته .
    وألقى النبي نظرة حبّ على أخيه الصغير :
    ـ انك تسمع ما اسمع وترى ما أرى ..
    ومنذ ذلك التاريخ أي في عام 610 للميلاد وعلي يتشرب آيات السماء وكلمات القرآن ، وفي مجتمع غارق في الوثنية حتى اذنيه كان علي الفتى الوحيد الذي اضاءت قلبه حقيقة التوحيد التي جعلته ينظر إلى مئات الاصنام والاوثان المحيطة بالكعبة نظرة ازدراء ويتجه بقلبه إلى السماء ... إلى الأفاق اللانهائية حيث تتجلّى عظمة الإله الأوحد .
    وكان رسول الله ينظر نظرة حبّ إلى مثال انساني رفيع اختارته السماء ليمون عوناً في ابلاغ آخر الرسالات فلقد حمل علي كل ملامح محمد إلا النبوة .
الانذار :
    وانتقلت دعوة الإسلام إلى اطار أوسع عندما هبط جبريل بالآية الكريمة :« وانذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فان عصوك فقل اني بريء مما تعملون » .

( 16 )
    ورأى النبي « صلى الله عليه وآله وسلم » أن يدعو بني عبد المطلب إلى وليمة في منزلة فأمر علياً ان يهيأ لذلك ؛ لقد كان طعاماً مباركاً شبع المدعوون منه لحماً وارتووا لبناً ؛ فعلّق أبو لهب دون أدب قائلاً :
    ـ ما اشدّ سحر محمد .
    وبذلك فوّت الفرصة على النبي الذي اعتصم بالصمت ، ونهض أبو طالب وهو ينظر الى اخيه من ابيه نظرة غضب ، ونهض الجميع .
    وادرك علي ان الجوّ لم يكن مناسباً للحديث في أمر هام ، بعد الذي تفوّه به أبو لهب .
    وتمرّ الأيام ورأى رسول الله أن يدعو قومه مرّة أُخرى فقال لربيبه علي :
    ـ يا علي قد رأيت كيف سبقني هذا الرجل إلى الكلام فاصنع ليا غداً كما صنعت بالأمس واجمعهم لعلّي اكلمهم بما أمرني الله . وتمّت الدعوة عندما احتشد اربعون رجلاً من بني عبد المطلب ، وكان أبو لهب ينظر إلى محمد ولكنه لم ينبس ببنت شفة فقد هيمن شخص ابي طالب على المكان وكانوا يعرفون مدى حبّ سيّد مكة لابن اخيه محمد ، وتحدّث النبي بأدب يبهر كل من اصغى إلى منطقه قائلاً :
    ـ ما اعلم انساناً في العرب جاء قومه بمثل ما جئتكم به .. لقد

( 17 )
جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني ربي أن ادعوكم اليه .. فأيكم يؤازرني على هذا الأمر فيكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ؟
    وهيمن الصمت ؛ كان علي يصغي إلى النبي وعيناه تتألقان بحماس الشباب ؛ فنهض يعلن استعداده المطلق في نصرة النبي قائلاً :
    ـ أنا يا نبي الله .
    وطلب الرسول من فتاه أن يجلس ؛ وكرر عرضه مرّة ومرّة ولكن دون جدوى ، وفي كل مرّة كان علي ينهض وتأثر النبي لمنظره فاتجه إليه يعانقه ويبكي وتمتم بكلمات تكاد تخترق الزمن : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي .
    وانتفض أبو لهب ساخراً كعادته ، والتفت إلى أخيه شيخ مكّة .
    ـ قد أمرك محمد أن تسمع لابنك وتطيع !
    وفي تلك اللحظات ولد الميثاق بين رجلين تفصلهما ثلاثون سنة ، وبرز علي لتحمل مسؤولية لا ينهض ، بها إلا الأوصياء .
فوق جبل الصفا :
    الحقائق الكبرى تضطرم في قلب محمد تسطق بنور يكاد سنا برقه يضيء العالم ؛ ويأوي محمد إلى فراشه وهو ينوء بثقل

( 18 )
الرسالات ؛ وجاءت خديجة زوجته المؤمنة الصدّيقة فدثرته بالغطاء وغادرت الحجرة تاركة رسول الله في استراحة هانئة ؛ وفجأة دوى الصوت الذي سمعه في حراء من قبل :
    ـ « يا أيها المدثر قم فانذر وربّك فكبّر » .
    ودخلت خديجة لترى زوجها العظيم غارقاً في تأمّلاته وجبينه ينضح عرقاً فقالت باشفاق .
    ـ لم لا تنام يا أبا القاسم !
    فاجاب آخر الأنبياء في التاريخ :
    ـ انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة .. امرني جبريل أن انذر الناس .
    وانطلق رسول الله إلى جبل الصفا ، حتى إذا استوى على قمته نادى بصوت عال :
    ـ يا معشر قريش !
    وهب الرجال إلى الجبل ، ونفوسهم تتطلع إلى ما سيقوله محمد .. حتى إذا اجتمع الناس هتف النبي صلى الله عليه وآله .
    ـ أرأيتم لو اخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل اكنتم تصدقون ؟ وانطلقت صيحات التصديق من هنا وهناك :
    نعم .. فأنت عندنا الصادق المصدّق .. ما جرّبنا عليك كذباً

( 19 )
قط ؛ وعندها اعلن النبي رسالة السماء :
    ـ اني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ... لا إله إلا الله وأنا رسول الله !
    وانتفض أبو لهب وجسمه البدين يكاد يتشظّى حقداً قائلاً :
    ـ تبّاً لك سائر اليوم .
    وتأثر النبي بشدّة لموقف ابي لهب وما لبث جبريل أن هبط يحمل سورة تتشظّى لهباً :
    « تبت يدا أبي لهب وتب * ما اغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد » .
    وفي هذا المقطع الزمني دخلت دعوة الإسلام ادق مراحلها وأكثرها حساسيّة ؛ فقد انتشرت كلمات الله ، وراحت تطوف بيوت مكّة ، واستنشق شذاها المحرومون والمقهورون كما يستنشقون نسمات « الصبا » وهي تحمل لهم بشارة الربيع القادم .
    ما أن ينشر السماء ستائره ، وتتألق النجوم في صفحة السماء الصافية حتى يسهد منزل النبي حركة غير عادية حيث يهفو الظامئون في غمرة الظلام إلى نبع النور كما الفراشات تبحث عن الشموع .
لقاء في الكعبة :
    عبرت كلمات السماء حدود مكة ؛ انتشر شذاها في ربوع

( 20 )
الجزيره ؛ وشهدت جلسات السمر في مضارب القبائل احاديث عن رجل مكي اسمه محمد ، من بني هاشم وخفقت القلوب لكلمة التوحيد ، فجاءت تقطع المسافات تتنسم اخبار النبي ؛ وذات يوم شدّ جندب من قبيلة غفار الرحال إلى مكّة ، فدخلها على حذر ، واتجه إلى الكعبة بيت الله الحرام علّه يعثر على ضالته ؛ وراح يراقب عن كثب الوجوه ، فقد يرى محمداً ، ويصغي إلى الأحاديث المتناثرة فلعله يمسك بخيط فيها يدلّه على النبي ولكن دون جدوى .
    توارت الشمس خلف تلال مكّة ، ودبّ المساء ، واقفرت الكعبة من الوافدين ، والرجل الغفاري ما يزال جالساً ينتظر ، وقد اعتصر اليأس قلبه .. مرّت لحظات فدخل شابٌ حرم المسجد وراح يطوف حول البيت العتيق ؛ ودار حوار مقتضب بينه وبين القادم الغريب :
    ـ من الرجل ؟
    من غفار .
    قم إلى منزلك .
    وأكبر الرجل الغفاري سماحة الفتى المكّي فنهض معه إلى منزله .
    امضى الغفاري ليلته في بيت أبي طالب ، فوجد من الكرم

( 21 )
العربي والسماحة ما بعث في قلبه الأمل ولم يكن الغفاري ليعلم من يكون هذا الفتى ؟
    وفي الصباح عاد الرجل الغريب ادراجه إلى الكعبة وراح كعاده يتصفح الوجوه ويصغي إلى الأحاديث ؛ وحلّ المساء ، ومرّ الفتى والقى كلمته بودّ :
    ـ أما آن للرجل ان يعرف منزله ؟!
    ونهض الرجال الغفاري ملبّيا دعوة الفتى ومضى معه إلى منزل كريم .
    ويتكرر ذات المشهد في اليوم الثالث ، وقد ارتاح جندب إلى ذلك الفتى الطيب ، وان لم يعرف هويّته بعد . والتزم الرجل الغريب كعادته الصمت وان بدت الحيرة على وجهه فسأل الفتى ضيفه :
    ـ اراك متفكراً ففيم تفكر ؟
    ووجد الغريب نفسه يصارح الفتى بشيء من الاحتياط .
    ـ ان كتمت عليّ خبرتك .
    ـ أكتم عليك ان شاء الله .
    وارتاح الغريب لكلمة حبيبة إلى قلبه ؛ فافصح عن مهمّته التي جاء من أجلها مكّة .
    ـ بلغنا انه قد خرج هنا رجل يزعم انه نبي فأردت ان القاه .

( 22 )
    ـ اما انك قد رشدت اتبعني حيث اذهب ، فان رأيتُ احداً اخافه عليك قمت إلى الحائط كأني اصلح نعلي فامض في طريقك .
    وهكذا سار الفتى وسار خلفه الرجل الغفاري ، حتى وصلا منزل النبي ، واسفر اللقاء عن اسلام جندب الذي اصبح اسمه « أبا ذر » ، ولم ينسَ المسلم الجديد أن يسأل رسول الله عن الفتى الذي دلّه عليه فاجاب النبي صلى الله عليه وآله باعتزاز :
    ـ هو ابن عمي وأخي علي بن أبي طالب .
    وتحول أبو ذر منذ تلك الليلة الحاسمة في حياته إلى بركان بعد أن اضطرمت في اعماقه حقيقة الايمان فهتف بعزم :
    ـ والذي بعثك بالحق نبياً لأصرخنّ بها في المسجد الحرام .
    ما أن أشرقت شمس اليوم التالي حتى كان أبو ذر في وسط المسجد يتحدى جبروت قريش وهو يهتف بصوت جهوري .
    ـ ما معشر قريش اني اشهد ان لا إله إلا الله واشهد أن محمداً رسول الله .
    ولقد هزّت الصرخة الوضع السائد ليبدأ فصل جديد في تاريخ الإسلام .