(20)
الاموال والاسراف في النفقات الخاصه علي حساب الاغلبية المحرومة ، وكان من نتائج ذلك ان ابتعد الخليفة عن الرعية واهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.
    قال ابن كثير في حوادث سنة 249 ـ خلافة المستعين ـ : قد ضعف جانب الخلافة ، واشتغلوا بالقيان والملاهي ، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك (1).
    اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين...وكان يكسر ويعربد علي الندماء (2) ، فقد قال السيوطي وغيره : انهمك باللهو واللذات ، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس (3).
    ولعل ذلك هو احدالاسباب في تعاطف عامة الناس سيما اهل بغداد مع بعض الطابيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار ، ومنهم يحيي بن عمر الشهيد سنة250هـ فضلا عن حسن سيرته ، قال ابوالفرج : كان هوي اهل بغداد مع يحيي ، ولم يرو قط انهم مالوا الي طالبي خرج غيره (4). وقال ابن الاثير : تولاه العامة من اهل بغداد ، ولايعلم انهم تولوا احدا من[اهل]بيته سواه (5).
    كما انكر اهل بغداد علي المتوكل وكتبوا شتمه علي الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء ، وحينما امر بهدم قبر الامام الحسين عليه السلام وهدم ما حوله من الدور

(1) البداية والنهاية11 : 3.
(2) سير اعلام النبلاء12 : 552.
(3) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282 ، سير اعلام النبلاء12 : 540.
(4) مقاتل الطالبيين/ابو الفرج الاصفهاني : 421 ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.
(5) الكامل في التاريخ6 : 157.



(21)
ومنع الناس من زيارته (1).

    السمة الرابعة ـ تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية
    كان نتيجة اضطراب السلطة وضعفها وسوء ادارتها ان تركزت الثروات بيد قلة من ابناء الاسرة الحاكمه والمتنفذين في السلطة ، فتفشي التفاوت الطبقي بين ابناءالامة تبعا للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته ، فهناك قلة متخمة تستاثر براس المال والثراء الفاحش وتبدده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذهم ، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان ، وتنهكها النزاعات والحروب ، وتئن تحت وطاة الغلاء وفتك الاوبئة ومختلف الامراض والكوارث الطبيعية التي ازدادت في هذا العصر ، مما ترك اثار وخيمة علي بنية المجتمع وسلوك افراده.
    فمن تداعيات الحروب الداخلية وعلي راسهاثورة الزنج (255 ـ270هـ) التي اثارت الخوف والجوع واستهلكت الاموال والانفس والثمرات ، ان ارتفعت الاسعار واشتدت المجاعة في سائر ديار الاسلام ، وقلت البضاعة ، وهجر بعض الناس بلدانهم طلبا للقمة العيش.
    فذكروا في حوادث سنة251هـ انه بلغ سعرالخبز في مكة ثلاثة اواق بدرهم. واللحم رطل باربعة دراهم ، وشربة الماء بثلاثة دراهم (2).
    وفي حوادث سنة251و252هـ نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين علي الكرسي الخلافة شمل اهل بغداد الحصار والغلاء بالاسعار واجتمع

(1) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 268.
(2) الكامل في التاريخ6 : 181 ، البداية والنهاية11 : 10.



(22)
علي الناس الخوف والجوع (1).
    وقال اليعقوبي في حوادث سنة252هـ : وغلت الاسعار ببغداد وسر من راي حتي كان القفيز بمائة درهم ، ودامت الحروب ، وانقطعت الميرة وقلت الاموال (2).
    وذكرالطبري وغيره حوادث سنة 260هـ انه في هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الاسلام ، فانجلي عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاورا الي المدينة وغيرها من البلدان ، ورحل عنها عاملها الذي كان بها مقيما وهو بريه ، وارتفع السعر ببغداد ، فبلغ الكرالشعير عشرين ومائة دينار ، والحنطة خمسين ومائة ، ودام ذلك شهورا (3).
    اما الامراض والاوبئة التي غالباما تكون من افرازات الحروب وتردي الاوضاع الاقتصادية ، فقد تحدث عنها المؤرخون كثيرا في هذا العصر. قال السيوطي مشيرا الي ايام المعتمد (256ـ279) : وفي ايامه دخلت الزنج البصرة واعمالها واخربوها وبذلوا السيف واحرقوا وخربوا وسبوا ، وجري بينهم وبين عسكره عدة وقعات...واعقب ذلك الوباء الذي لايكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق ، فمات خلق لايحصون (4).
    ويبدوا انه قد بلغ التدهور اوجه في ايام المعتمد ، ففي حوادث سنة258هـ

(1) البداية والنهاية11 : 9.
(2) تاريخ اليعقوبي2 : 499.
(3) تاريخ الطبري9 : 510 ، الكامل في التاريخ6 : 248 ، سيراعلام النبلاء12 : 543 ، البداية والنهاية11 : 31.
(4) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282.



(23)
يقول ابن كثير وغيره : وفيها وقع الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامراء وواسط وغيرها من البلاد ، وحصل للناس ببغداد داء يقال له القفاع (1).
    ويقول اليعقوبي : وقع فيها وباء باالعراق ، فمات خلق من الخلق ، وكان الرجل يخرج من منزلة فيموت قبل ان ينصرف ، فيقال انه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر الف انسان (2).

    السمة الخامسة ـ التدهوروعدم الاستقرار
    سادت الكثير من مظاهر الفوضي والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية ، تمتثل في انتقاض اطرافها ، واستقلال بعض ولاياتها ، والعدوان الاجنبي علي بعض اعمالها ، وكثرة الثورات الداخلية وعلي راسها ثورة الزنج والخوارج الي غير ذلك من مظاهرعدم الاستقرار السياسي الامني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها لتدخل قادة الجند الاتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها واشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لاهم تلك المظاهر ، ونذكر بعض الامثلة من المصادر التي ارخت لهذا العصر :

    اولا : انتقاض اطراف الدولة
    صار اغلب العمال والولاة في هذا العصر غير مقيدين بالارتباط الوثيق بعاصمة الملك اوالموالاة للدولة ، فكان بامكانهم الانفصال ومناجزة الاخرين

(1) البداية والنهاية11 : 30 ، الكامل في التاريخ6 : 238.
(2) تاريخ اليعقوبي2 : 510.



(24)
القتال ، فكانت الحروب سجالا بين امراء الجند والولاة والعمال في اطراف الدولة ، فكثر المتغلبون فيها ، واصبحت المدن الاسلامية تستقبل كل فترة عاملاجديدا يحكمها ويدير شؤونها ويجبي خراجها.
    فمثلا كانت الاندلس تحت سيطرة الامويين (1) ، والشمال الافريقي تحت امرة ال الاغلب (2) ، ومصر تحت سيطرة احمدبن طولون التركي (3) ، كما تغلب يعقوب بت الليث الصفار علي خراسان ونيسابور حتي بلغت شوكته ان حارب جيش المعتمد في دير العاقول بعد ان استولي علي واسط (4) ، وسيطرالحسن بن زيد العلوي علي طبرستان واسس الدولة العلوية هناك (5) ، وتغلب علي اذربيجان محمد بن البعيث في زمان المتوكل (6) ، وعلي تفليس اسحاق بن اسماعيل مولي بني اميه (7) ، كما تغلب البطارقة علي ارمينية (8) ، و استحوذ محمد

(1) سيراعلام النبلاء8 : 260 ـ 263
(2) الكامل في التاريخ6 : 66و89و102و126و132و155
(3) الكامل في التاريخ6 : 195و213و227و238 ، سير اعلام النبلاء13 : 94/53
(4) تاريخ اليعقوبي2 : 504 ، الكامل في التاريخ6 : 114و151و193و197و232و242و246 ، سير اعلام النبلاء12 : 513/191
(5) تاريخ الطبري9 : 271 ، ومروج الذهب4 : 410 ، 426 ، 431و542 ، والكامل في التاريخ6 : 158و204و227و233و238و246و336 ، البداية والنهاية11 : 6و15و24و30.
(6) االكامل في التاريخ6 : 100و104 ، البداية والنهاية10 : 312.
(7) تاريخ اليعقوبي2 : 489 ، الكامل في التاريخ6 : 116.
(8) تاريخ اليعقوبي2 : 489.



(25)
ابن واصل التميمي علي الاهواز ثم علي بلاد فارس (1) ، كما خضعت مرو لشركب الحمار وقيل : الجمال (2) ، وقد حصل كل هذا في الفترة من سنة238 الي سنة 259هـ الامر الذي يشير الي تدهور السلطة في هذا العصر الي حد بعيد.

    ثانيا : ضعف الثغور الاسلامية
    ومن مظاهر التدهور السياسي الكبير في هذا العصر اهمال المتصدين لقيادة الدولة للثغورالاسلامية اهمالا ادي بالنتيجة الي تعرض اطراف الدولة الي غزوات راح ضحيتها الاف المسلمين ونهبت اموالهم وانتكهت اعراضهم وسبيت نساؤهم ، كما في غزو مصر من قبل الافرنج والسودان والروم مرات عديدة بمالاحاجة الي تفصيلها (3).

    ثالثا : اعمال الشغب والعصيان
    وتمثل تلك الاعمال مظهراً آخر من مظاهرعدم الاستقرار الامني والسياسي للدولة ، وهي اعمال كثيرة في هذا العصر ادت الي تفاقم الاوضاع وتدهورها.
    فاليمامة مثلا عات بها بنو نمير (4)واهل ارمينية قتلوا عاملهم واعلنوا

(1) البداية والنهاية11 : 24و29.
(2) تاريخ الطبري9 : 502 ، الكامل في التاريخ6 : 244 ، البداية والنهاية11 : 31.
(3) راجع في ذلك : تاريخ الطبري9 : 509و511 ، وتاريخ اليعقوبي2 : 488 ، والكامل في التاريخ6 : 117و131و245 ، والبداية والنهاية10 : 317و324و342و11 : 31 ، وتاريخ الخلفاء/السيوطي : 269و283.
(4) الكامل في التاريخ6 : 90 ، البداية والنهاية10 : 308.



(26)
عصيانهم (1) ، كما تعرض عامل حمص لقتال الحمصيين ، وصارت حمص مسرحا للقتل والصلب والتحريق (2) ، كما شغب الاتراك والجند في زمان المستعين وقتل خلق كثير ، وانتهبت اماكن كثيرة في عاصمة الدولة سامراء (3)كما تعرضت بغداد الي شغب كثير في هذا العصر (4) ، ولم تنج الموصل من ذلك ايضا (5).

    رابعا : الثورات الشعبية والحركات المتطرفة
    تعددت الثورات الشعبية التي قادها الطالبيون ضد الدولة العباسية من جهة ، وتنامت الحركات المتطرفة التي عصفت بالامة من جهة اخري ، ممانجم عنه ازهاق نفوس كثيرة ، وتبديد ثروات طائلة ، مع هدر الطاقات وفقدان الامن ، وشيوع حالة الفوضي والاضطراب.
    اماعن الثورات والانتفاضات الشعبية التي انطلقت في هذا العصر لتقف بصلابه في وجه الحكم العباسي ، فقد تزعمها الطالبيون ، وكانت من افرازات تردي الاحوال العامة والقهر والاستبداد والطغيان والجورالتي عمت اثارها علي الامة بشكل عام وعلي الطالبين بشكل خاص؛لانهم يعانون من شدة الوضع العام ، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع

(1) الكامل في التاريخ6 : 111 ، البداية والنهاية10 : 315.
(2) الكامل في التاريخ6 : 120و122و151و161 ، البداية والنهاية10 : 319و323و11 : 2و6 ، تاريخ اليعقوبي2 : 490و495.
(3) الكامل في التاريخ6 : 150و154 ، البداية والنهاية11 : 2.
(4) الكامل في التاريخ6 : 153و201و203 ، البداية والنهاية11 : 3و17و18.
(5) الكامل في التاريخ6 : 191و247.



(27)
شتي وسائل الضغط عليهم ، فكانت واعزا يحفز الثوار منهم علي الخروج المسلح بين اونة واخري.
    وقد تعرضوا في زمان المتوكل لمحنة عظيمة ، اذ فرض عليهم حصارا جائرا ، واستعمل لهذا الغرض عمر بن الفرج الرخجي ، فمنعهم من التعرض لمسالة الناس ومنع الناس من البر بهم ، فكان لايبلغه أن احداً ابر احدا منهم بشئ إ ِلّا أنهكه عقوبة وأثقله غرماً ، حتي كان القميص يدور بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد اخري (1).
    وتعرض الكثير من ال ابي طالب في هذه الفترة لشتي انواع الاضطهاد والتنكيل ، وانزلت فيهم اقصي العقوبات ، فتفرق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الانظار او يلعنوا الثورة المسلحة ضدالدولة ، وشرد بعضهم من المدينة الي سامراء ، واودع بعضهم السجون حتي ماتوا فيها او سموا ، هذا فضلا عمن قتلوا علي ايدي قادة العباسين ورجال دولتهم كموسي بن بغا علي بن اوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم ، مما سنشير اليه في الفصل الثاني.
    وقد تضمنت كتب التاريخ اسماء ثمانية عشر ثائرا من الطالبيين في اُقلّ من ثلاثين سنة (232ـ260هـ) وهو عدديشير الي حجم معاناة الطالبيين ومدي الحيف والظلم الذي لحقهم علي ايدي السلطات ، والا لما تطلب جميع هذه

(1) مقاتل الطابيين : 386.


(28)
التضيحات الجسام (1).
    واما عن الحركات المتطرفة التي ظهرت في هذا العصر ، فتتمثل بحركة الزنج (255 ـ270هـ) التي كانت من اشد الحركات المتطرفة التي عصفت بالحكم العباسي ، فضلا عن عدم مراعاة تلك الحركة لمثل الاسلام وقيمه العليا ، نظرا لما قامت به تلك الحركة من انتها كانت خطيرة بحيث حرقت فيها حتي دورالعبادة كالمساجد والجوامع فضلا عن القتل الذريع وسبي النساء وفعل كل قبيح.
    وكان صاحب الزنج من الادعياء الذين زعموا الانتساب الي الذرية الطاهرة في حين اجمع العلماء علي كذبه ودجله وانه دعي لاغير (2).
    ويؤيد ذلك ما كتبه الامام العسكري عليه السلام الي محمد بن صالح الخثعمي في خصوص فرية صاحب الزنج ، حيث بين عليه السلام في كتابه كذب هذا المفتري ، اذ

(1) راجع اسماء الثائرين (الثمانية عشر) علي بني العباس في تلك الفترة في تاريخ الطبري6 : 158و204و227و238و246و336 ، وتاريخ اليعقوبي2 : 497و506 ، ومروج الذهب4 : 406 ـ 410 ـ 424 ـ 428 ـ 429 ، ومقاتل الطالبيين : 397و406و 419 ـ424و 429 ـ 432 و435 ، والفخري في الاداب السلطانية : 240 ، والكامل في التاريخ6 : 107و156 ـ 158 و161و179 ـ181 و192و213و226 ـ 227و242 ، والبداية والنهاية10 : 314و11 : 5 ـ 6و9و12و15 ـ 16و24و30.
(2) راجع اخبار ثورة الزنج في : مروج الذهب/المسعودي4 : 438 ، تاريخ الخلفاء/السيوطي : 282 ، تاريخ اليعقوبي2 : 507 ، الفخري في الاداب السلطانية : 250 ، البداية والنهاية11 : 18وما بعدها ، واحداث سنة255 ـ270في تاريخ الطبري والكامل وسائرالتواريخ.



(29)
جاء في الكتاب : ((صاحب الزنج ليس من اهل البيت)) (1). وفي هذا دليل قاطع علي كذب وافتراء صاحب الزنج لعنه الله في انتسابه الي الذرية الطاهرة.
    ومن تلك الحركات المتطرفه التي عبثت كثيرا ، هي حركة الخوارج الشراة الذين زعموا انهم شروا الاخرة باالدنيا!فشنوا حربا شعواء علي كل من خالفهم الراي لايفرقون في هذا بين العباسيين وغيرهم ، وكانوا صورة لاسلافهم الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
    وقد ظهروا في هذا العصر في الموصل سنة 248هـ وقويت شوكتهم حتي وصلوا قرب العاصمة سامراء واشتبكوا مع العباسيين في معارك طاحنة ، واستولوا علي مناطق كثيرة من السواد ، مما ترك هذااثره البالغ في تدهور الامن وضياع الهدوء والاستقرار (2).

(1) المناقب/ ابن شهر اشوب4 : 462 ـ دارالاضواء ـ بيروت ـ ط 1 ـ1421هـ .
(2) راجع حركة الخوارج تلك في : تاريخ اليعقوبي2 : 497و502 ، والكامل في التاريخ6 : 186و190و195و205و212و219و234و272و345و346 والبداية والنهاية11 : 22 و30.



(30)



(31)
الفصل الثاني

الامام والسلطة

    علي الرغم من الضعف الذي انتاب هيكل الخلافة في هذا العصر ، والانحلال الذي بدا يستشري في اوصال الدولة العباسية ، فقد بقي العباسيون علي نفس المنوال الذي سارعليه اسلافهم ابان عصر القوة والزدهار في التصدي لمدرسة الائمة عليه السلام وشيعتهم والنكاية بهم؛ذلك لان علاقة الحاكم بالامام تقوم علي اساس ثابت ، وهو الخوف من نشاط الامام ودوره الايجابي في الحياة الاسلامية ، والشعور بخطورة هذا الدور حتي وصل لدي الزعامات العباسية في هذا الفترة الي درجة الرعب ، فطوقوا الامام بحصار شديد ورقابة صارمة عليه ، وتربصوا به وباصحابه ، واخيرا تامروا علي حياته فسقط شهيدا في محراب الجهاد ولما يبلغ الثلاثين.
    كان العباسيون يعيشون اوضاعا سلبية علي مستوي الالتزام الديني ، وقدم غالبيتهم نموذجا سيئا في هذا الاتجاه ، فكانوا يضيقون ذرعا باي امام من معاصريهم ، لمايتمتع به من سمو المكارم ومن شخصية علمية وروحية فذة تجتذب مختلف اوساط الامة ، التي تري في الامام الممثل الحقيقي لسيرة السلف الصالح والمصداق الاصيل لرسالة السماء ، وعندما تري تلك الاوساط تذمر


(32)
الامام في موافقه تجاه السلطة وعدم رضاه عنها تزداد تمسكاً به ، ومن هنا يبرز تخوف السلطةمن الانقلاب علي نظامها لمصلحة خط الامامة ، الامر الذي تحرص معه علي ربط الامام بالجهاز الحاكم وتقريبه بشتي الوسائل ، كالسجن كما فعل الرشيد مع الامام الكاظم عليه السلام ، او ولاية العهد كما فعل المامون مع الامام الرضا عليه السلام ، اوالحجز والحصار كما فعل العباسيون من المعتصم الي المعتمد مع الامام الجواد والهادي والعسكري عليه السلام وذلك لدوام مراقبة الامام وتحديد حركته وفصله عن اتباعه ومواليه ومحبيه المؤمنين بمرجعيته الفكرية والروحية.
    لقد رافق الامام العسكري عليه السلام اباه في رحلته المضيقة من المدينة المنورة الي سامراء ولما يزل صبيا ، وذلك حينما استدعي الامام الهادي عليه السلام من قبل المتوكل الي عاصمة البلاط العباسي انذاك ، ليكون محجوزا ومراقبا ومعزولا عن قاعدته العريضة ، وبعد ان وافاه الاجل في سنة (254هـ) استمر العباسيون بسياستهم تلك تجاه الامام العسكري عليه السلام وكما يلي :

    اولا : مراقبة الامام عليه السلام وفرض الاقامةالجبرية عليه
    فرض العباسيون المعاصرون للامام العسكري عليه السلام الاقامة الجبرية عليه كما فرضوا علي ابيه عليه السلام ، وعملواعلي الحد من حرية حركته ، سوي انهم اوجبوا عليه ان يركب الي دارالخلافة في كل اثنين وخميس (1) ، لكفكفة نشاطاته وليكون تحت مراي ومسمع الخليفة وجهازه الحاكم.
    ولم يكن الركوب الي دارالسلطان برضا الامام عليه السلام كما لم يكن طريقة اليه مامونا ، فقد جاء في الرواية عن ابي الحسن الموسوي الخبيري قال : « حد ثني

(1) المناقب لابن شهر اشوب4 : 446 ، الغيبة/الشيخ الطوسي : 215/179.


(33)
ابي ، انه كان يغشي ابا محمد عليه السلام بسر من راي كثيرا ، و انه اتاه يوما فوجده وقد قدمت اليه دابته ليركب الي دارالسلطان ، وهو متغير اللون من الغضب ، وكان يجيئه رجل من العامة ، فاذا ركب دعا له وجاء باشياء يشنع بها عليه ، فكان عليه السلام يكره ذلك... » (1).
    اما موقف الامام العسكري عليه السلام ازاء الملاحقة والمحاصرة والمراقبة التي فرضتها السلطة لتقييد تحركاته وشل عمله العلمي والحيلولة دون اداء دوره القيادي تجاه قواعده المؤمنة به ، هو احاطة اعماله بالسرية والكتمان والحيطة الا بالمقدار الذي تسمح به الظروف ، كما سار علي نهج ابيه الامام ابي الحسن الهادي عليه السلام الذي عاني من الحصار والرقابة ايضا في اتخاذ الوكلاء والقوام الثقات الذين يمثلون خط الامامة الاصيل في اطراف البلاد الشاسعة ، ليكون الامام عليه السلام قادرا علي ممارسة دوره في نشرالوعي الديني والعقائدي ، والحفاظ علي مفاهيم الرسالة والقيم الاسلامية المقدسة ، والاتصال مع قواعده الشعبية في ظل تلك الظروف العصبية.
    ومن هنا كانت له عليه السلام امتدادت واسعة في المواقع الاسلامية ، ويدل علي ذلك عملية تنظيم الوكلاء والقوام ، اذ كان له وكيل في كل منطقة له فيها اتباع وشيعتة ياتمرون بامره وينضوون تحت ولايته ، وكانوا يتصلون به عليه السلام عن طريق المراسلة او المكاتبة ، ويجيبهم عن طريق التواقيع الصادرة عنه ، ومن خلالها يمارس ايضا عملية عزل شخص او تعيين اخر مكانه ، ويعطي سائر ارشاداته

(1) الغيبة للشيخ الطوسي : 206/174ـ مؤسسة المعارف الاسلامية ـ قم ـ 1417هـ ، بحارالانوار50 : 276/50.


(34)
لهذا وذلك من اصحابه.
    وكان عليه السلام يتبع اقصي اجراءات الحذر والاحتراز في ايصال تلك التواقيع الى اصحابه و من بين تلك الاجراءات انه كان يضع بعض كتبه في خشبة مدورة طويلة ملء الكف كانها (رجل باب) ليرسلها الي العمري (1).
    وكان اصحابه ايضا يدققون في خطه وياخذون منه نسخة لكي لايقعوا في محذور التزوير ، قال احمد بن اسحاق : « دخلت الي ابي محمد عليه السلام فسالته ان يكتب لانظر الي خطه فاعرفه اذا ورد ، فقال : نعم. ثم قال : يااحمد ، ان الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق فلا تشكن ، ثم دعا بالدواة » (2).
    وكان الوكلاء والقيمون يحتاطون كثيرا في ايصال المال الامام عليه السلام وفي حمل مكاتباته وتواقيعه ، فتجد اوثق وكلائه واعظمهم شاناعثمان بن سعيد العمري السمان ، يتجربالسمن تغطية علي هذا الامرـ يعني علي نشاطه في مصلحة الائمة عليه السلام ـ وكان الشيعة اذا حملوا الي ابي محمد عليه السلام مايجب عليهم حمله من الاموال انفذوا الي ابي عمروا ، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ، ويحمله الي ابي محمد عليه السلام تقية وخوفا (3).
    ان المتبع لدراسة حياة الامامين العسكريين عليهما السلام يري ان المكاتيب

(1) راجع الرواية في مناقب ابن شهر اشوب4 : 460.
(2) المناقب لابن شهراشوب4 : 466 ، بحارالانوار50 : 286.
(3) الغيبة الطوسي : 354/314.



(35)
والتواقيع قد اتخذت حيزاً واسعاً من مساحة تراثهما (1) ، كمايتبين له دورها في تعميق الوعي الاسلامي الاصيل ، وتعزيز مبادي مدرسة اهل البيت عليهم السلام ، والتمهيد لغيبة ولده الحجة عليه السلام من بعده ، فضلا عن المزيد من المكاتبات المتعلقة بالابواب الفقهية والمسائل الشرعية المبثوثة في كتب الفقه والمجاميع الحديثية ، وكان للوكلاء دور رئيسي في ايصالها من والي الامام عليه السلام.
    ومن بين وكلاء الامام العسكري عليه السلام : ابراهيم بن عبدة النيسابوري (2) ، وايوب بن نوح بن دراج النخعي (3) ، وجعفر بن سهيل الصيقل (4) ، وحفص بن عمرو العمري المعروف بالجمال (5) ، وعلي بن جعفر الهماني البركمي (6) ، والقاسم

(1) راجع مجلد الثاني من كتاب (معادن الحكمة في مكاتيب الائمة عليهم السلام) للمولي محمد علم الهدي ابن الفيض الكاشاني ، المتوفي سنة1115هـ ، مكتبة الصدوق ـ طهران ـ وبالنظر لكثرة التواقيع والمكاتبات فقد اتخذت مادة للتاليف ، فالف عبدالله بن جعفر الحميري كتاب (مسائل الرجال ومكاتباتهم ابا الحسن الثالث عليه السلام) وكتاب (مسائل لابي الحسن علي يد محمدبن عثمان العمري) و (مسائل ابي محمد وتوقيعات). والف علي بن جعفر الهماني مسائل لابي الحسن عليه السلام. راجع : رجال النجاشي : 220/573 ترجمة محمد بن جعفر الحميري ، نشر جماعة المدرسين ـ قم ـ 1416هـ ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي11 : 293/7968 ـ ترجمة علي بن جعفر الهماني ـ دارالزهراء ـ بيروت ـ1403هـ .
(2) معجم رجال الحديث1 : 250/205.
(3) رجال النجاشي : 102/254.
(4) معجم رجال الحديث4 : 73/2169.
(5) معجم رجال الحديث6 : 144/3800.
(6) معجم رجال الحديث11 : 293/7968.