(36)
ابن العلاء الهمداني (1) ، وابوعمرو عثمان بن سعيد العمري ابنه محمد ، اللذان قال فيهما الامام العسكري عليه السلام علي ما رواه احمد بن اسحاق عنه عليه السلام : « العمري وابنه ثقتان فما اديا فعني يؤديان ، وما قالا فعني يقولان ، فاسمع لهما واطعهما ، فانهما الثقتان المامونان » (2). ومنهم ايضا محمد بن احمد بن جعفر القمي (3) ، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني (4) ، وغيرهم.
    من هنا يتضح ان المراقبة والحصار والاقامة الجبرية وغيرها من الممارسات لم تقطع الامام عليه السلام بشكل كلي عن المناطق التي يتملك فيها اتباعا وجماهير تدين بامامته وتومن بمرجعيته ، بل استطاع ان يكسر بعض حاجز الحصار والاحتجاب القسري بالمكاتبة والوكلاء ، واتاح له هذا الاسلوب ان يمهد ذهنية شيعته كي تتقبل امر الغيبة دون مضاعفات وتداعيات قد تكون غير محمودة لولا هذا التمهيد.

    ثانيا : ايداعه عليه السلام السجن
    تعرض الامام العسكري عليه السلام خلال خلافة المعتز والمهتدي والمعتمد الي السجن اكثر من مرة ، وكانوا يوكلون به اشخاصا من ذوي الغلظة علي ال ابي طالب والعداء لاهل البيت عليه السلام من امثال : علي بن اوتامش (5) ، واقتامش (6) ،

(1) راجع : مصباح المجتهد للشيخ الطوسي : 826 ـ اعمال شعبان ـ بيروت ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ 1411هـ .
(2) الغيبة للشيخ الطوسي : 360/322.
(3) معجم رجال الحديث14 : 318/10080.
(4) معجم رجال الحديث16 : 184/10967.
(5) في بعض المصادر : بارمش اونارمش.
(6) راجع : اصول الكافي/للشيخ الكليني1 : 508/8باب مولد ابي محمد الحسن



(37)
ونحرير (1) ، وعلي بن جرين ، وكان المعتمد يسال علي بن جرين عن اخباره عليه السلام في كل مكان و وقت ، فيخبره انه يصوم النهار ويصلي الليل (2) ، كما كان العباسيون يدخلون علي بعض مسؤولي السجن ومنهم صالح بن وصيف ، فيوصونه بان يضيق عليه ويؤذيه (3).
    وكانوا لايفارقونه حتي في الاعتقال حيث كانت الرقابة السرية تطارده واصحابه بدس الجواسيس بين اصحابه في السجن ، وكان احدهم يدعي انه علوي وهو جمحي ، وقد هيا كتابا جعله في طيات ثيابه كتبه الي السلطان يخبره بما يقولون ويفعلون (4).
    ويصف ابو يعقوب اسحاق بن ابان طريقة حراسة السجن الذي يودع فيه الامام عليه السلام ومراقبته الصارمة بقوله : « ان الموكلين به لايفارقون باب الموضع الذي حبس فيه عليه السلام بالليل والنهار ، وكان يعزل الموكلون ويولي اخرون بعد ان

بن علي من كتاب الحجة ـ دارالاضواء ـ بيروت ـ 1405هـ ، الارشاد للشيخ المفيد2 : 329 ـ مؤسسة ال البيت عليهم السلام ـ قم ـ 1413هـ ، المناقب لابن شهر اشوب 4 : 462.
(1) راجع : اصول الكافي1 : 513/26 من الباب السابق ، الارشاد2 : 334.
(2) اثبات الوصية/المسعودي : 253 ـ انصاريان ـ قم ـ 1417هـ ، مهج الدعوات/السيد ابن طاووس : 343 ، بحارالانوار50 : 314.
(3) اصول الكافي1 : 512/23 من الباب السابق ، الارشاد2 : 334 ، المناقب لابن شهر اشوب4 : 462.
(4) المناقب لابن شهر اشوب4 : 470 ، اعلام الوري2 : 141 ، الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي2 : 682/1و2 ـ مدرسة الامام المهدي عليه السلام ـ قم ، بحار الانوار50 : 54/10و312/10.



(38)
تجدد عليهم الوصية بحفظه والتوفر علي ملازمة بابه » (1).
    اما موقف الامام عليه السلام من السجن والسجانين ، فهو اقامة الحجة الواضحة عليهم عن طريق افعاله وزهده وعبادته وصلاحه ، وقد استطاع من خلال هذا الاسلوب ان يفرض هيبته علي غالبيتهم ، حتي ان بعضهم يرتعد خوفا وفزعا بمجرد ان ينظر اليه ، قال بعض الاتراك الموكلون به حينما كان في سجن صالح بن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولايتكلم ولايتشاغل بغير العبادة ، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لانملكه من انفسنا » (2).
    وحينما حل في سجن علي بن اوتامش ، وكان شديد العداوة لال البيت عليه السلام غليظا علي ال ابي طالب ، فضلا عن انه اوصي من قبل السلطة بان يفعل به ويفعل علي ماجاء في الرواية ، لكنه تاثر بهدي الامام عليه السلام ومكارم اخلاقه ، فوضع خده علي الارض تواضعا له ، وكان لايرفع بصره اليه اجلالا واعظاما ، وخرج من عنده وهو احسن الناس بصيرة واحسنهم فيه قولا (3).
    وحينما اوصي العباسيون صالح بن وصيف عندما حبس ابومحمد الحسن العسكري عليه السلام عنده بان يضيق عليه ، قال لهم صالح وهو يلعن اعتذاره وعجزه عن هذا الامر : « ما اصنع به وقد وكلت به رجلين من شر من قدرت عليه ، فقد

(1) بحارالانوار50 : 304/80عن عيون المعجزات.
(2) الكافي1 : 512/23من الباب السابق ، الارشاد2 : 334.
(3) الكافي1 : 508/8 من الباب المتقدم ، الارشاد2 : 329.



(39)
صاروا من العبادة والصلاة والصيام الي امر عظيم ». (1)

    ثالثا : ملاحقة شيعته ومواليه
    طاردت السلطة شيعة الامام باعتبارهم قاعدته ، ولاحقت اصحابه ورواد مدرسته باعتبارهم عمقة القادر علي التاثير والاستقطاب ، وتعرضوا للسجن والتشريد والقتل ، وكانوا يعرضون علي السيف لمجرد اعتقادهم بامامته بشهادة ابرز وزراء البلاط انذاك ، وهو عبيدالله بن يحيي بن خاقان ، فقد روي عنه ابنه وهو احمد بن عبيدالله الذي كان يتولي الضياع والخراج في قم انه قال : « لمادفن (الامام العسكري عليه السلام) جاء جعفر بن علي اخوه الي ابي (عبيدالله بن خاقان) فقال : اجعل لي مرتبة اخي وانا اوصل اليك في كل سنة عشرين الف دينار ، فزبره ابي وقال له : يااحمق ، ان السلطان جرد سيفه في الذين زعموا ان اباك واخاك ائمة ليردهم عن ذلك فلم يتهيا له ذلك » (2).
    وفي ربيع الاول سنة 254هـ قتلوا الكثير من اصحاب الائمة وشيعتهم في قم التي تشكل قاعدة مهمة من قواعد الامام عليه السلام ، فقد نقل المؤرخون ان مفلحا وباجور اوقعا باهل قم في هذه السنة فقتلا منهم مقتلة عظيمة (3).
    وكان بعض الاصحاب يكتبون الي الامام عليه السلام مستغيثين من ضيق الحبس

(1) الكافي1 : 512/23 من الباب المتقدم ، الارشاد2 : 334.
(2) اصول الكافي1 : 505/1من الباب المتقدم ، الرشاد2 : 324.
(3) تاريخ الطبري9 : 381 ، الكامل في التاريخ6 : 196. حوادث سنة 254هـ .



(40)
وثقل الحديد (1) ، وقسوة العمال وظلمهم (2) ، والفقر وقلة ذات اليد (3) ، فيهرع عليه السلام الي سلاح الانبياء ليعينهم بالدعاء علي نوائب الدهر.
    وبلغت قسوة العمال اشدها معهم ، فكان موسي بن بغا يعاقب بالف سوط او القتل (4) ، وللامام عليه السلام دعاء طويل قنت فيه عليه لما شكاه اهل قم لظلمه وجوره ، وطلب منهم ان يقنتوا عليه كذلك (5).
    وتعرض كثير منهم للمطاردة والسجن ، وقد اشارابن الطباغ المالكي الي ذلك في معرض حديثه عن الخلف الحجة حيث قال : « خلف ابومحمد الحسن من الولد ابنه الحجة عليه السلام القائم المنتظرلدولة الحق ، وكان قد اخفي مولده وستر امره لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان وتطلبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم » (6).
    وسجن بعضهم مع الامام العسكري عليه السلام، وكان منهم ابو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، والقاسم بن محمد العباسي ، ومحمد بن عبيدالله ، ومحمد بن

(1) راجع : اصول الكافي1 : 508/10 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي ـ من كتاب الحجة.
(2) المناقب لابن شهر اشوب4 : 466.
(3) المناقب لابن شهر اشوب4 : 468 ، كشف الغمة/الاربلي3 : 314 ـ دارالاضواء ـ بيروت ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي2 : 1083 ـ دارالحديث ـ قم ـ 1422هـ ، بحارالانوار50 : 292/66.
(4) المناقب لابن شهر اشوب4 : 460 ، بحارالانوار50 : 282/59.
(5) مهج الدعوات : 67 ، بحارالانوار85 : 230.
(6) الفصول المهمة2 : 1091.



(41)
ابراهيم العمري ، والحسين بن محمد العقيقي (1) وغيرهم.
    ولم تنته هذه المحاولات حتي بعد شهادة الامام العسكري عليه السلام مسموما سنة 260هـ ، اذ تحدثت المصادر عن القاء حلائله واصحابه في السجن ، وانه جري عليهم كل عظيم من اعتقال وتهديد وتصغير واستخفاف وذل (2).
    اما موقفه عليه السلام مما يجري علي اصحابه ، فيمكن تلخيصه في ثلاثة اتجاهات :

    الاتجاه الاول : الدعاء علي اعدائهم
    وقد ذكرنا انفا انه عليه السلام كان يرفدهم بالدعاء في احرج الظروف واحوجها ، ومن ذلك الدعاء الذي وراه عبدالله بن جعفر الحميري ، قال : كنت عند مولاي ابي محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليه ، اذ وردت اليه رقعة من الحبس من بعض مواليه ، يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان ، فكتب اليه : « ياابا عبدالله ، ان الله عليه السلام يمتحن عباده ليختبر صبرهم ، فيثيبهم علي ذلك ثواب الصالحين ، فعليك بالصبر ، واكتب الي الله عزوجل رقعة وانفذها الي مشهد الحسين بن علي صلوات الله عليه ، وارفعها عنده الي الله عزوجل ، وادفعها حيث لايراك احد ، واكتب في الرقعة »ثم اورد دعاء طويلاكان منه قوله : « اللهم اني قصدت بابك ، ونزلت بفنائك ، وعتصمت بحبلك ، واستغثت بك ، واستجرت بك ، ياغياث المستغيثين اغثني ، يا جارالمستجيرين اجرني ، يااله العاملين خذ بيدي ، انه قد علا الجبارة في

(1) راجع : الغيبة للشيخ الطوسي : 227/194 ، الفصول المهمة2 : 1084 ، بحار الانوار50 : 306/2و312/10.
(2) راجع : الارشاد2 : 336.



(42)
ارضك ، وظهروا في بلادك ، واتخذوا اهل دينك خولا ، واستاثروا بفيء المسلمين ، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم ، وصرفوها في الملاهي والمعازف ، واستصغروا الاءك ، وكذبوا اولياءك ، وتسلطوا بجبريتهم ليعزوا من اذللت ، ويذلوا من اعززت ، واحتجبوا عمن يسالهم حاجة ، اومن ينتجع منهم فائدة... » (1).
    وفي هذا الدعاء يشير الامام العسكري عليه السلام الي مظاهر الفوضي والفساد والظلم التي طبعت الحياة السياسية انذاك ، فذكر استئثار رجالات السلطة بفيء المسلمين ، ومنعهم ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلها الله لهم ، وتبديدها في اسباب اللهو علي حساب فقر الفقراء والمصالح التي تفوت بذلك.
    ومن دعاء طويل له عليه السلام علي موسي بن بغا الذي شكاه اهل قم لجوره وظلمه ، قال عليه السلام : « اللهم وقد شملنا زيغ الفتن ، واستولت علينا غشوة الحيرة ، وقارعنا الذل والصغار ، و حكم علينا غير المامونين في دينك ، وابتز امورنا معادن الابن (2) ممن عطل حكمك ، وسعي في اتلاف عبادك ، وافساد بلادك.
    اللهم وقد عاد فيئنا دولة بعد القسمة ، وامارتنا غلبة بعد المشورة ، وعدنا ميراثا بعد الاختيار للامة ، فاشتريت الملاهي والمعازف بسمهم اليتيم

(1) بحارالانوار/المجلسي102 : 238/5 عن الكتاب العتيق للغروي ـ المكتبة الاسلامية.
(2) الابن : جمع ابنة ، الحقد والعداوة والعيب.



(43)
والارملة ، وحكم في ابشار المومنين اهل الذمة (1) ، وولي القيام بامورهم فاسق كل قبيلة ، فلا ذائد يذودهم عن هلكة ، ولاراع ينظر اليهم بعين الرحمة ، ولاذو شفقة يشبع الكبد الحري من مسغبة ، فهم اولو ضرع بدار مضيعة ، واسراء مسكنة وحلفاء كابة وذلة.
    اللهم وقد استحصد زرع الباطل ، وبلغ نهايته ، واستحكم عموده ، واستجمع طريده ، وخذرف وليده ، وبسق فرعه ، وضرب بجرانه ، اللهم فاتح له من الحق يدا حاصدة تصرع قائمه ، وتهشم سوقه ، وتجب سنامه ، وتجدع مراغمه ، ليستخفي الباطل بقبح صورته ، ويظهر الحق بحسن حليته. .. » (2).

    الاتجاه الثاني : احسانه عليه السلام اليهم
    وقد كان يامر قوامه ووكلاءه باالتخفيف من وطاة الفقر عن كواهلهم ، ويعطي المعوزين منهم ما يرفع عنهم اسباب العوز والحاجة ، وممن شملهم بره واحسانه ابوهاشم الجعفري ، وعلي بن ابراهيم بن موسي بن جعفر ، وابو يوسف

(1) قد يقال : ان الخلفاء في هذا العصر خصوصا المتوكل قد فرضوا قيودا صارمة علي اهل الذمة ، لكن المتصفح لكتب التاريخ يري انهم يشكلون جزءا مهما من جيوش الخلافة ، وبعضهم كانوا ذوي مناصب عالية في الجيش ، منهم ابو العباس الوارثي النصراني ، الذي وجهه بغا الي ارمينية. راجع : الكامل في التاريخ6 : 116 ، ومنهم صاعد بن مخلد النصراني كاتب الموفق و وزير المعتمد. راجع : سير اعلام النبلاء13 : 326/149.
(2) مهج الدعوات لابن طاووس : 67 ـ طهران ـ 1323هـ ، بحارالانوار85 : 229/1.



(44)
الشاعر (1) ، وغيرهم.

    الاتجاه الثالث : تحذيرهم من الفتن
    حيث كان عليه السلام يمارس دوره كقائد لمواليه واصحابه وراع لمصالحهم ومدافع عن قضاياهم في حدود فسحة ضيقة محكومة بالرقابة والضغط ، وعلي هذا الصعيد كان عليه السلام يحذرهم الاخطار والفتن المدحقة بهم ، ومن الوقوع في احابيل السلطة ، ويساعدهم في اخفاء نشاطهم بحسب الامكان ، ويهيء الجماعة الصالحة لغيبة ولده الحجة عليه السلام الذي يملا الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.
    وفي هذا الاتجاه اوصي اصحابه ان يكونوا علي اهبة من فتنة تظلهم عند موت المعتز (2).
    وحذرهم من الاذاعة وطلب الرئاسة مشددا علي التقوي واداء الامانة ، فقد جاء في الرسالة له عليه السلام الي بعض بني اسباط : « اياك والاذاعة وطلب الرئاسة ، فانهما يدعوان الي الهلكة...واقرا من تثق به من موالي السلام ، ومرهم بتقوي الله العظيم واداء الامانة واعلمهم ان المذيع علينا حرب لنا » (3).
    واكد علي الكتمان والحيطة حتي انه عليه السلام قال لاحد اصحابه : « اذا سمعت

(1) راجع : اصول الكافي1 : 506/3و507/10 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام ـ من كتاب الحجة ، بحارالانوار50 : 294/69.
(2) كشف الغمة3 : 295 ، بحارالانوار50 : 298/72.
(3) كشف الغمة3 : 293 ، بحار النوار 50 : 296 ـ 297.



(45)
لنا شاتما فامض لسبيلك التي امرت بها ، واياك ان تجاوب من يشتمنا ، او تعرفه من انت ، فاننا ببلد سوء ومصر سوء » (1).
    وقال لاحد اصحابه حينما اراد ان يصرح بامامته عليه السلام : « انما هو الكتمان او القتل ، فاتق الله علي نفسك » ، وفي رواية : « فابقوا علي انفسكم » (2).
    وبلغت درجة الحيطة لديه عليه السلام انه اوصي بعض اصحابه ان لايسلم عليه او يدنو منه ، فقد ترصده اصحابه يوما عند ركوبه الي دار الخلافة ليسلموا عليه ، فخرج التوقيع منه عليه السلام اليهم : « الا لايسلمن علي احد ، ولايشير الي بيده ، ولا يومئ ، فانكم لاتامنون علي انفسكم » (3).
    ونادي عليه السلام يوما حمزة بن محمد بن احمد بن علي بن الحسين بن علي ، وقد اراد الاقتراب منه حينما خرج مع السلطان واحس منه خلوة : « لا تدن مني ، فان علي عيونا ، وانت ايضا خائف » (4).

    مواقف العباسيين :
    لغرض استجلاء موقف السلطة من الامام لابد من استعراض موقف الحاكمين من بني العباس علي انفراد حسب التسلسل التاريخي ، وقد ذكرنا ان الامام العسكري عليه السلام عاصر في سني امامته (254 ـ 260هـ) شطرا من خلافة المعتز والمهتدي وبعض سني خلافة المعتمد ، لكنا سوف نذكر بعضا من مواقف

(1) المناقب لابن شهر اشوب4 : 461.
(2) اثبات الوصية : 251 ، كشف الغمة3 : 302 ، بحارالنوار50 : 290/63.
(3) الخرائج والجرائح1 : 439/20 ، بحارالانوار50 : 269/24.
(4) الثاقب في المناقب/لابي جعفر محمد بن علي الطوسي : 573/520 ـ دارالزهراء ـ 1411.



(46)
المتقدمين الذين عاصروا الامام العسكري عليه السلام منذ ولادته الي ان تسنم الامامة (232 ـ 254هـ) ومع كون هذه المدة تقع ضمن فترة امامة ابيه لكن الامام العسكري عليه السلام واكب احداثها وعاني ومن اثارها وعاش شتي الصعوبات والظروف القاسية التي واجهت اباه من قبل؛منذ استدعائه من المدينة الي سامراء حتي وفاته مرورا بالحصار والاقامة والاعتقال محاولات الاغتيال.
    علي انه لم ينقل لنا التاريخ تفاصيل العلاقة بين الامام عليه السلام وبين كل واحد من خلفاء عصره ، عدا اخبار اعتقاله وتنبؤاته بموت بعضهم او قتله ، وموقف الخلفاء من الشيعة بشكل عام والطالبيين بشكل خاص الذين طالهم السجن والتشريد والقتل صبرا علي يد اجهزة السلطة.

    اولا ـ المتوكل (232 ـ 247هـ)
    وهو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، بويع بعده وفاة اخيه الواثق في ذي الحجة سنة232هـ ، وكان عمر الامام العسكري عليه السلام نحو ثمانية اشهر ونصف ، اذ ولد عليه السلام في الثامن من ربيع الاخر سنة232.
    ان السمة الغالبة علي المتوكل هي النصب والتجاهر لال البيت عليهم السلام والحقد السافر عليهم وعلي من يمت لهم بصلة نسب او ولاء ، وقد اجمع علي هذا الامر غالبية المؤرخين حتي : اولئك اعتبروه ناصرا للسنة وشبهوه بالصديق وعمر بن عبد العزيز.
    قال السيوطي : « كان المتوكل معروفا بالتعصب » (1).

(1) تاريخ الخلفاء : 268. والظاهر ان اصل عبارة السيوطي (بالنصب).


(47)
وقال الذهبي : « كان المتوكل فيه نصب وانحراف » (1).
    وقال ابن الاثير : « كان المتوكل شديد البغض لعلي بن ابي طالب ولاهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه انه يتولي عليا واهله باخذ المال والدم ، وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث ، وكان يشد علي بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف راسه وهو اصلع ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنون ، قد اقبل الاصلع البطين خليفة المسلمين ، يحكي بذلك عليا عليه السلام والمتوكل يشرب ويضحك...
    وانما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم : علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمرو بن الفرج الرخجي ، وابو السمط من ولد مروان بن ابي حفصة من موالي بني اميه ، وعبدالله بن داود الهاشمي المعروف بابن اترجه ، وكانوا يخوفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بابعادهم والاعراض عنهم والاساءة اليهم ، ثم حسنوا له الوقيعة في اسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتي ظهر منه ما كان... » (2).
    ولايمكن ان يجرا احد من هؤلاء الذين ذكرهم ابن الاثير علي النيل من امير المؤمنين عليه السلام وعموم اهل البيت امام احد سلاطين بني العباس ، لولا علمهم المسبق بعداء ذلك (الخليفة) السافر لاهل البيت عليهم السلام وحقده المقيت عليهم ، وحرصه علي تشجيع ثقافة النصب و البغض و افشائها في اوساط الناس عن طريق بعض المرتزقة من الشعراء وغيرهم.

(1) سير اعلام النبلاء12 : 35.
(2) الكامل في التاريخ6 : 108 ـ 109.



(48)
روي ان ابا السمط مروان بن ابي الجنوب ، قال : « انشدت المتوكل شعرا ذكرت فيه الرافضة ، فعقد لي علي البحرين واليمامة ، وخلع علي اربع خلع ، وخلع علي المنتصر ، وامر لي المتوكل بثلاثة الاف دينار ، فنثرت علي ، وامرابنه امنتصر وسعد الايتاخي ان يلتقطاها لي ففعلا ، والشعر الذي قلته :
يرجوا التراث بنو البنا والصهر ليس بـوارث مــا للذين تنحــلوا ليـس التراث لغيركـم ت وما لهم فيها قلامه والبنت لاترث الامامه ميراثكـم الا النـدامه لا والالـه ولا كرامه

    قال : ثم علي بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعني عشرة الاف درهم » (1).
    ومن هنا كان زمان المتوكل ايذانا ببدء عهد الظلم والتعسف علي اهل البيت عليهم السلام وشيعتهم؛لان المتوكل امعن في التنكيل بهم واسرف في القتل والحبس والحصار والتشريد وصنوف الاذي والعنت ، وفيما يلي نذكر بعض اجراءاته في هذا الاتجاه :

    1ـ استدعاء الامام الهادي الي سامراء وايذاؤه
    كان المتوكل حريصا علي محاصرة الامام الهادي عليه السلام ووضعه تحت الرقابة وعزله عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظمه وعن شيعته ومواليه في المدينة ، لهذا كتب باشخاصه مع اهل بيته ومواليه ، من مدينة جده صلى الله عليه و اله يثرب الي عاصمة الملك العباسي انذاك سامراء.

(1) تاريخ الطبري9 : 230 ، الكامل في التاريخ6 : 140.


(49)

اسباب الاستدعاء
    انما ينطلق المتوكل في كل مواقفه مع الامام الهادي عليه السلام عليه السلام وشيعته من البغض الذي يكنه لاهل بيت النبوة ، وفضلا عن ذلك فقد ذكر المؤرخون سببين مرتبطين دفعاالمتوكل الي اشخاص الامام عليه السلام سامراء وهما :
    السبب الاول : هاجس الخوف الذي يراود المتوكل من انصراف الناس الي الامام عليه السلام لما عمله من التفاف الناس حوله في المدينة ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير قولهم : « انما اشخصه المتوكل الي بغداد ، لان المتوكل كان يبغض عليا عليه السلام وذريته ، فبلغه مقام علي عليه السلام بالمدينة ، وميل الناس اليه فخاف منه » (1).
    وعبرعن هذا المعني ايضا يزداد النصراني تلميذ بختيشوع طبيب البلاط ، قال : « بلغني ان الخليفة استقدمه من الحجاز فرقا منه ، لئلا تنصرف اليه وجوه الناس ، فيخرج هذا الامر عنهم ، يعني بني العباس » (2).
    والامام عليه السلام لم يكن في موقع الدعوة الي الثورة ضد الخلافة العباسية ، لان الظروف الموجودة انذاك لم تكن تسمح بمثل هذا العمل ، وقد عرف الامام عليه السلام بعد استدعائه هواجس نفس المتوكل ، فبين له انه ليس همه استلام السلطة ولاتنزع نفسه الكريمة الي شيء من هذا الحطام ، وذلك حينما استعرض المتوكل جيشه بحضور الامام عليه السلام وقد بلغ تسعين الفا من الترك ، فقال عليه السلام : « نحن

(1) تذكرة الخواص : 322.
(2) دلائل الامامة/الطبري : 419/382 ـ مؤسسة البعثة ـ قم ـ1413هـ ، نوادر المعجزات/الطبري : 188/7 ـ مؤسسة الامام المهدي عليه السلام ـ قم 1410هـ .



(50)
لاننافسكم في الدنيا ، نحن مشتغلون بامرالاخرة ، ولاعليك مما تظن » (1).
    السبب الثاني : الدور الذي مارسه بعض الحاقدين من عمال بني العباس في الوشاية بالامام الي المتوكل ، ومنهم عبدالله بن محمد بن داود الهاشمي ، المعروف بابن اترجة اوبريحة (2) ، وكان يتولي ادارة الحرب والصلاة في الحرمين.
    قال المسعودي : كتب بريحة...الي المتوكل : ان كان لك في الحرمين حاجة فاخرج علي بن محمد منها ، فانه قد دعا الناس الي نفسه واتبعه خلق كثير؛وتابع كتبه الي المتوكل بهذا المعني (3).
    وقال الشيخ المفيد : سعي بابي الحسن عليه السلام الي المتوكل ، وكان يقصده بالاذي (4).
    وقال اليعقوبي : كتب الي المتوكل يذكر ان قومايقولون انه الامام (5).
    ومهما يكن فان افعال الوشاة توقظ شكوك المتوكل واحقاده وتثير توجسه الكامن في نفسه تجاه الامام عليه السلام .

    كتاب الاستدعاء
    ذكر الشيخ المفيد انه لما اباالحسن عليه السلام سعاية عبدالله بن محمد به ، كتب الي المتوكل يذكر تحامل عبدالله بن محمد عليه ويكذبه في ماوشي به اليه ، فتقدم

(1) الخرائج والجرائح1 : 414/19 ، الثاقب في المناقب : 557 ، كشف الغمة3 : 185 ، بحارالانوار50 : 155/44.
(2) او بريهة ، راجع : الكامل في التاريخ6 : 245.
(3) اثبات الوصية : 233.
(4) الارشاد2 : 309.
(5) تاريخ اليعقوبي2 : 484.