(51)
المتوكل باجابة الامام عليه السلام بكتاب دعاه فيه الي حضور العسكر علي جميل الفعل والقول (1). ثم اورد نسخة الكتاب.
    وكان جواب المتوكل الذي استدعي بموجبه الامام عليه السلام الي سامراء هادئا لينا ، تظاهر فيه بتعظيم الامام عليه السلام واكرامه ، و وعده فيه باللطف والبر ، وذكر فيه براءته مما نسب اليه واتهم به من التحرك ضد الدولة ، وانه امر بعزل الوالي الذي سعي به ـ وهو عبدالله بن محمد ـ عن منصبه و ولي محله محمد بن الفضل ، وادعي في اخر الكتاب انه مشتاق الي الامام عليه السلام ، ثم افضي الي بيت القصيد وهو ان يشخص الامام عليه السلام الي سامراء مع من اختارمن اهل بيته ومواليه ، وان يرافقه يحيي بن هرثمة الذي ارسله لاداء هذه المهمة علي راس الجند.
    ولا يعدو كتاب المتوكل كونه مناورة حاول الالتفاف من خلالها علي الامام عليه السلام واحتواء نشاطه ، او قل هو صيغة دبلوماسية من قبيل ذر الرماد في العيون ، اذ لم يكن المتوكل صادقا فيما وعد ، فحينما دخل يحيي بن هرثمة المدينة فتش دارالامام عليه السلام حتي ضج اهل المدينة ، ولما وصل ركب الامام عليه السلام الي سامراء احتجب عنه المتوكل في اليوم الاول ، ونزل عليه السلام الامام في خان الصعاليك ، وامر بتفتيش داره في سامراء مرات عديدة ، ولم يمض مزيد من الوقت حتي عزل محمد بن الفضل وولي مكانه محمد بن الفرج الرخجي المعروف بعدائه السافر لال البيت عليهم السلام (2).

(1) الارشاد2 : 309 ، وراجع نسخة كتاب المتوكل ايضا في اصول الكافي1 : 501/7 ، والفصول المهمة2 : 1069.
(2) قال ابن كثير : كان المتوكل لايولي احدا الا بعد مشورة الامام احمد ، البداية



(52)
ويبدوا ان المتوكل قد صاغ كتابه بصيغة الرجاء ، وكانه ترك للامام عليه السلام الخيار في الشخوص او البقاء ، غيرانه الاكراه بعينه ، اذ انه بعث الكتاب مع الجند وقادتهم الذي ارسلهم لاداء مهمة اشخاص الامام ، ثم (ان الامام ان لم يذهب حيث امره يكون قد اثبت تلك التهمة علي نفسه ،واعلن العصيان علي الخلافة ، وكلاهما مما لاتقتضية سياسة الامام ) عليه السلام (1).
    ولعل اوضح دليل علي الزام الامام عليه السلام بهذا الامر هو تصريحه عليه السلام بذلك في حديث رواه المنصوري عن عم ابيه ابي موسي ، ثم قال : « قال لي يوم الامام علي بن محمد عليه السلام : يا ابا موسي ، اخرجت الي سر من راي كرها... » (2).

    الامام العسكري يرافق اباه عليهما السلام
    رافق الامام العسكري اباه الامام الهادي عليهما السلام في رحلته من المدينة الي سامراء مع اهل بيته وبعض مواليه ، وقد اختلف في عمره عليه السلام حينذاك نظرا للاختلاف في تاريخ رحلة الامام عليه السلام.

والنهاية10 : 316 ، فان كان ذلك حقا ، فلا ادري كيف يوافق الامام احمد علي تولية امثال : محمد بن الفرج الرخجي ، والد يزج الذي هدم قبر الحسين عليه السلام ، وابي السمط مروان بن ابي الجنوب الذي ولاه علي اليمامة والبحرين ، وابن اترجة الذي ولاه الحرب والصلاة في الحرمين وغيرهم من النواصب؟فان اراد المبالغة في مدح المتوكل الناصبي فقد عرض بالامام احمد واساء اليه ، وان كان قوله حقا فعلي امثال الامام احمد العفا.
(1) تاريخ الغيبة الصغري للسيد محمد الصدر : 107 ـ دارالتعارف ـ بيروت ـ1412هـ .
(2) المناقب لابن شهر اشوب4 : 449 ، بحارالانوار 50 : 129/8.



(53)
ذكرالمسعودي انه شخص الامام الحسن العسكري بشخوص والده عليهما السلام الي العراق في سنة236هـ وله اربع سنين وشهور (1).
    وذكر الطبري انه قدم يحيي بن هرثمة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسي ابن جعفر سنة233هـ (2) ، وعليه يكون عمر الامام العسكري عليه السلام نحو سنة واحدة ، وعلي ضوئه ذكر ابن كثير ان مدة اقامة الامام الهادي عليه السلام في سامراء اكثر من عشرين سنة. قال في احداث سنة 254هـ ، وهي السنة التي توفي فيها الامام الهادي عليه السلام : نقله المتوكل الي سامراء ، فاقام بها ازيد من عشرين سنة باشهر ، ومات في هذه السنة (3) ، وكذلك ذكر ابن طولون انه عليه السلام اقام في سامراء عشرين سنة وتسعة اشهر (4).
    اما الشيخ المفيد فقد ذكر نسخة كتاب الاستدعاء الذي كتبه المتوكل. وورد في ذيله ان كاتبه ابراهيم بن العباس كتبه في سنة243هـ (5). واكد هذا التاريخ باعتبار ان مقام الامام الهادي عليه السلام في سامراء الي ان قبض عشر سنين واشهرا (6). وعليه يكون عمر الامام العسكري عليه السلام عندما غادر المدينة احد عشرسنة وبضعة شهور.
    ويبدو ان الشيخ المفيد استفاد من رواية الكافي لنسخة كتاب المتوكل ،

(1) اثبات الوصية/المسعودي : 244.
(2) تاريخ الطبري9 : 163 ـ حوادث سنة233هـ .
(3) البداية والنهاية11 : 15 ـ حوادث سنة254هـ .
(4) الائمة الاثنا عشر عليهم السلام/لابن طولون : 109 و113 ـ بيروت ـ دارصادر.
(5) الارشاد2 : 310.
(6) الارشاد2 : 312.



(54)
والتي ورد فيها اسم كاتب المتوكل (ابراهيم بن العباس) في ذيل الكتاب الا انه يخلو من التاريخ ، لكن جاء في اول رواية الكافي ما يلي : عن محمد بن يحيي ، عن بعض اصحابنا ، قال : اخذت نسخة كتاب المتوكل الي ابي الحسن الثالث من يحيي بن هرثمة في سنة243هـ (1) ، و واضح ان هذا هو تاريخ اخذ نسخة الكتاب لا تاريخ كتابته ، ويؤيده ان ابن هرثمة هو الذي اخذ الكتاب الي المدينة لاستدعاء الامام عليه السلام الي سامراء ، فكيف تؤخذ نسخة الكتاب منه قبل انهاء مهمته؟!
    ورجح السيد محمد الصدر ان تاريخ الرحلة كان سنة 234هـ ، واذا صح ذلك فسيكون عمر الامام العسكري عليه السلام حينما غادر المدينة نحو سنتين ، وترجيحه مبنيا علي اعتبارين؛الاول : ماذكره ابن شهر اشوب من ان مدة مقام الامام الهادي عليه السلام في سامراء من حين دخوله الي وفاته عشرون سنة (2) ، فاذا كانت وفاته 254هـ ، تكون سفرته سنة234هـ ، الثاني : كون هذا التاريخ انسب بالاعتبار السياسي ، لانه بعد مجيء المتوكل الي الخلافة بعامين ، فيكون المتوكل قد طبق منهجه في الرقابة علي الامام عليه السلام في الاعوام الاولي من خلافته ، بخلاف رواية المفيد التي تبعد بالتاريخ عن استخلاف المتوكل احد عشر عاما (3).

(1) اصول الكافي1 : 501/7 ـ باب مولد ابي الحسن علي بن محمد عليهما السلام من كتاب الحجة.
(2) المناقب لابن شهر اشوب4 : 433.
(3) تاريخ الغيبة الصغري2 : 107 ـ 108.



(55)

من المدينة الي سامراء
    ذكر المسعودي« ان يحيي بن هرثمة قدم المدينة ، فاوصل الكتاب الي بريحة ، وركبا جميعا الي ابي الحسن عليه السلام فاوصلا اليه كتاب المتوكل ، فاستاجلهما ثلاثا ، فلما كان بعد ثلاث عاد يحيي الي داره فوجد الدواب مسرجة والاثقال مشدودة قد فرغ منها ، وخرج صلوات الله عليه متوجها نحوالعراق ، واتبعه بريحة مشيعا ، فلماصار في بعض الطريق ، قال له بريحة : قد علمت وقوفك علي اني كنت السبب في حملك ، وعلي حلف بايمان مغلظة لئن شكوتني الي امير المؤمنين او الي احد من خاصته وابنائه ، لاجمرن نخلك ، ولاقتلن مواليك ولاعورن عيون ضيعتك ، ولافعلن واصنعن.
    فالتفت اليه ابو الحسن عليه السلام فقال له : ان اقرب عرضي اياك علي الله البارحة ، وما كنت لاعرضنك عليه ثم لاشكونك الي غيره من خلقه. فانكب عليه بريحة وضرع اليه واستعفاه. فقال له : قد عفوت عنك » (1). وهكذا تجد بريحة يهتز من كلام الامام عليه السلام فينكب عليه ويتضرع اليه ، رغم انه في موقع القوة ، وهذه هي هيبة اولياءالله في قلوب اعدائه ، وتلك هي اخلاقهم وسماحتهم لمن اساء اليهم.
    ونقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير : « ان المتوكل دعا يحيي بن هرثمة وقال : اذهب الي المدينة ، وانظر حاله واشخصه الينا ، قال يحيي : فذهبت الي المدينة ، فلما دخلتهاضج اهلها ضجيجا عظيما ماسمع الناس بمثله خوفا علي علي ، وقامت الدنيا علي ساق ، لانه كان محسنا اليهم ملازما للمسجد ، ولم يكن

(1) اثبات الوصية : 233.


(56)
عنده ميل الي الدنيا.
    قال يحيي : فجعلت اسكنهم واحلف لهم اني لم اؤمر فيه بمكروه ، وانه لاباس عليه ، ثم فتشت منزله ، فلم اجد فيه الا مصاحف وادعية وكتب العلم ، فعظم في عيني ، وتوليت خدمته بنفسي ، واحسنت عشرته ، فلما قدمت به بغداد بدات باسحاق بن ابراهيم الطاهري ، وكان والياعلي بغداد فقال لي : يا يحيي ، ان هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تعلم ، فان حرضته عليه قتله ، وكان رسول الله صلى الله عليه و اله خصمك يوم القيامة ، فقلت له : والله ما وقعت منه الا علي كل امر جميل ، ثم صرت به الي سر من راي ، فبدات بوصيف التركي فاخبرته بوصوله ، فقال : والله لئن سقط منه شعره لايطالب بها سواك ، قال : فعجبت كيف وافق قوله قول اسحاق » (1).
    هذا الخبر يدل علي الموقع الذي يشغله الامام الهادي عليه السلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم علي اختلاف توجهاتهم ، و ذلك من خلال احسانه اليهم ورعاية امورهم وتاثرهم بخصائص شخصيته الباهرة ، مما جعله في موقع محبة الناس كلهم ، فهرعوا في مظاهرة احتجاجية لم يسمع بمثلها خوفا علي حياة امامهم عليه السلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته ، لهذا حاول ابن هرثمة تهدئتهم بقسمه لهم انه لم يؤمر فيه بمكروه ، وتاثر ابن هرثمة بعظمة الامام عليه السلام ايضا فتولي خدمته بنفسه واحسن عشرته ، وهكذا امتدت محبة الامام عليه السلام وتعظيمه الي حاشية المتوكل في بغداد وسامراء.
    وتتجلي مظاهر الحب والتعظيم ايضا في تشوق الناس من اهالي بغداد الي

(1) تذكرة الخواص : 322 ، مروج الذهب4 : 422 نحوه.


(57)
الامام الهادي عليه السلام واجتماعهم لرؤيته ، مما اضطرهم الي دخول البلد ومغادرته في الليل ، فقد جاء في تاريخ اليعقوبي« انه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب اسحاق بن ابراهيم الطاهري لتلقيه ، فراي تشوق الناس اليه واجتماعهم لرؤيته ، فاقام الي الليل ، ودخل به في الليل ، فاقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ الي سر من راي » (1).

    في سامراء :
    حينما وصل ركب الامام الهادي عليه السلام الي سامراء تقدم المتوكل بان يحجب عنه في يومه ، وانزل في خان يعرف بخان الصعاليك (2) ، فاقام فيه يومه ، ثم تقدم المتوكل بافراد دار له ، فانتقل اليها ، فاقام ابوالحسن مدة مقامه بسر من راي مكرماً معظماً مبجلا في ظاهر حاله ، والمتوكل يبغي له الغوائل في باطن الامر ، ويجتهد في ايقاع حيلة به ، ويعمل علي الوضع من قدره في عيون الناس ، فلا يتمكن من ذلك ولم يقدره الله عليه (3).
    والظاهران المتوكل امر اولابجحز الامام عليه السلام وفرض الاقامة الجبرية عليه في مكان غير لائق ، ثم انه لما سمع الاطراء من قادة الجند الموكلين به ، صار مضطرا الي اكرامه ، نقل سبط ابن الجوزي عن علماء السير عن يحيي بن هرثمة انه قال : « لما دخلت علي المتوكل سالني عنه فاخبرته بحسن سيرته وسلامة

(1) تاريخ اليعقوبي2 : 484.
(2) راجع : اصول الكافي1 : 498/2 باب ابي الحسن علي بن محمد عليه السلام من ـ كتاب الحجة ، بصائر الدرجات/للصفار : 426/7و427/11 ـ مؤسسة الاعلمي ـ طهران ، الخرائج والجرائح/للقطب الراوندي2 : 680/10.
(3) الارشاد2 : 311 ، الفصول المهمة2 : 1070 ، اعلام الوري2 : 126.



(58)
طريقته و ورعه وزهادته ، واني فتشت داره فلم اجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وان اهل المدينة خافوا عليه ، فاكرمه المتوكل واحسن جائزته و اجزل بره ، وانزله معه سر من راي » (1) ، لتمرير مخططه القاضي بعزل الامام عليه السلام ومراقبته.

    مداهمة دارالامام عليه السلام :
    تقوم اجهزة السلطة بذرائع مختلفة بالتفتيش المفاجئ لدار الامام الهادي عليه السلام في سامراء ، وعلي راسها الوشايات التي ترتفع الي المتوكل من النواصب المحيطين به ، فتثير في نفسه كوامن الخوف والشك والحقد التي اشتملت علي كيانه واحاطت جوانبه ، فيامر بكبس داره ، وفي كل حوادث الدهم التي تعرضت لها دار الامام يرجع المامورون و بالتالي الوشاة بالخيبة والفشل الذريعين ، لانهم لم يجدوا شيئا مريبا ولا اي نشاط غريب ، وليس ثمة الا الامام عليه السلام وهو يتلوا القران او يقيم الصلاة.
    عن ابراهيم بن محمد الطاهري ـ في حديث طويل ـ قال : « سعي البطحاني (2) بابي الحسن عليه السلام الي المتوكل ، وقال : عنده سلاح واموال ، فتقدم المتوكل الي سعيد الحاجب ان يحجم ليلا عليه ، وياخذ ما يجده عنده من الاموال والسلاح ويحمله اليه. قال ابراهيم : فقال لي سعيد الحاجب : صرت الي

(1) تذكرة الخواص : 322 ، ونحوه في مروج الذهب4 : 422.
(2) في الكافي : البطحائي العلوي ، وهو يشير الي ان الدولة تستعمل الضد النوعي للتجسس علي الامام ، الامر الذي تمارسه حكومات الطغيان والاستبداد في هذا الزمان.



(59)
دار ابي الحسن بالليل ، ومعي سلم ، فصعدت منه الي السطح ، ونزلت من الدرجة الي بعضها في الظلمة ، فلم ادر كيف اصل الي الدار ، فناد اني ابوالحسن من الدار : يا سعيد ، مكانك حتي ياتوك بشمعة ، فلم البث ان اتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبه صوف وقلنسوة منها ، وسجادته علي حصير بين يديه ، وهو مقبل علي القبلة. فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتشتها فلم اجد فيها شيئا... » (1).
    ومرة اخري وشي بالامام عليه السلام الي متوكل ، فارسل الاتراك علي حين غرة الي دارالامام ، وقد امرهم هذه المرة بحمله عليه السلام اليه حتي وان لم يجدوا ما يثير الريبة والاستغراب ، ذلك لانه كان عازماعلي الاستخفاف بالامام عليه السلام بطرق اخري امام ندمائه حينما لم يجد متسعا لتنفيذ رغباته عن طريق سعاية الوشاة ، وما كان يتوقع ان الامام عليه السلام سوف يصفعه بعظات نزلت كالصاعقة علي اسماعه واسماع ندمائه ، لانها تصور ما سيؤول اليه امره وامر امثاله من الطغاة عبيد الاهواء والشهوات.
    روي المسعودي بالاسناد عن محمد بن يزيد المبرد ، قال : « قد كان سعي بابي الحسن علي بن محمد الي المتوكل ، وقيل له : ان في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته ، فوجه اليه ليلا من الاتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله علي غفلة ممن في داره ، فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، و عليه مدرعة من شعر ، ولا بساط في البيت الا الرمل والحصي ، وعلي راسه ملحفة من الصوف

(1) اصول الكافي1 : 499/4 باب مولد ابي الحسن علي بن محمد عليه السلام من كتاب الحجة ، الارشاد2 : 303 ، الخرائج والجرائح1 : 676/8.


(60)
متوجها الي ربه ، يترنم بايات من القران في الوعد والوعيد ، فاخذ علي ما هو عليه ، وحمل الي المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كاس ، فلما راه اعظمه و أجلسه الي جنبه ، ولم يكن في منزله شيء مما قيل فيه ولا حالة يتعلل عليه بها ، فناوله المتوكل الكاس الذي في يده ، فقال : يا اميرالمؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قط فاعفني منه ، فعفاه وقال : انشدني شعرا استحسنه ، فقال : اني قليل الرواية للاشعار. فقال : لابد ان تنشدني. فانشده :
باتوا علي قلل الاجـبال تحرسهم واستنزلوا بعد عـز مـن معاقلهم ناداهم صارخ من بعد مـا قبروا اين الوجوه التي كانـت منـعمة فافصح القبر عنهم حـين ساءلهم قد طالما اكلوا دهرا ومـا شربوا غلب الرجـال فمـا اغتنهم القلل واسكنوا حفرا يا بئس مـا نزلوا اين الاسرة والتيجــان والحـلل من دونها تضرب الاستار والكلل تلك الوجوه عليها الـدود يـقتتل فاصبحوا بعد طول الاكل قد اكلوا



(61)
وطالمـا عمروا دورا لتـحصنهم وطالما كنزوا الامـوال وادخروا اضحـت منازلـهم قفرا معطلـة ففارقوا الـدور والاهلين وانتقلوا فخلفوها علي الاعداء وارتحـلوا وساكنوها الي الاجداث قد نزلـوا

    قال : فاشفق كل من حضر علي علي ، وظن ان بادرة تبدر منه اليه ، قال : والله لقد بكي المتوكل بكاء طويلا حتي بلت دموعه لحيته ، وبكي من حضره ، ثم امر برفع الشراب ، ثم قال له : يا ابا الحسن ، اعليك دين؟ قال : نعم ، اربعة الاف دينار ، فامر بدفعها اليه ورده الي منزله من ساعته مكرما » (1).

    2ـ هدم قبر الامام الحسين عليه السلام :
    والاجراء التعسفي الاخر الذي اقدم عليه المتوكل ، فسود به وجه التاريخ الانساني ، هو انه امر في سنة 236هـ بهدم قبر الامام السبط الشهيد الحسين عليه السلام ، وقد بعث رجلا من اصحابه يقال له الديزج ، وكان يهوديا فاسلم ، الي قبر الحسين عليه السلام ، وامره بكرب القبر ومحوه واخراب كل ما حوله ، فمضي لذلك وخرب ما حوله ، وهدم البناء ، وكرب ماحوله نحو مائتي جريب ،

(1) مروج الذهب4 : 367 ـ 368 ، و راجع ايضا : تذكرة الخواص/سبط ابن الجوزي322 ـ مؤسسة اهل البيت ـ بيروت ـ 1401هـ ، البداية والنهاية11 : 15 ، وفيات الاعيان/لابن خلكان3 : 272 ـ منشورات الرضي ـ قم ، الائمة الاثنا عشر عليهم السلام لابن طولون : 107 ـ منشورات الرضي ـ قم.


(62)
ثم امر ان يبذر ويزرع ، و وكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، فلا يزوره زائر الا اخذوه ووجهوا به اليه ، فقتل عدد كبير من زواره او انهكوا عقوبة ، ونودي باالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة ايام حبسناه في المطبق (1).
    وجاء في بعض الاخبار : « انه لما صار الماء فوق مكان القبر وقف وافترق فرقتين ، يمينا وشمالا ، ودار حتي التقي تحت المكان ، وبقي الوسط خاليا من الماء ، والماء مستدير حوله ، فسمي من ذلك اليوم بالحائر » (2).
    وتالم المسلمون من ذلك وكتب اهل بغداد شتم المتوكل علي الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، ومنهم دعبل بن علي الخزاعي (ت246) والبسامي (3)الذي يقول :
تالله ان كان امية قـد اتت فلقد اتـي بنو ابيه بمثلـه قتل ابن بنت نبيها مظلوما هذا لعمري قبرة مـهدوما


(1) راجع : مقاتل الطالبيين : 395 ، الكامل في التاريخ6 : 108 ، تاريخ ابن الوردي1 : 216 ـ المطبعة الحيدرية ـ النجف ، البداية والنهاية10 : 315 ، تاريخ الخلفاء/السيوطي : 268.
(2) بحار الانوار45 : 403 ، التتمة في التواريخ الائمة عليهم السلام/للسيد تاج الدين العاملي : 137.
(3) هو ابوالحسن ، علي بن محمد بن نصر بن منصور ابن بسام ، المعروف باالبسامي ، او ابن بسام ، الشاعر المشهور في زمن المقتدر العباسي ، وقد هجا الخلفاء والوزراء ، توفي سنة302هـ . سير اعلام النبلاء14 : 112/56.



(63)
اسفوا علي ان لايكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميمـا (1)

    ولم يكتف المتوكل باالاعتداء علي المكان المقدس الذي شهد ملحمة البطولة بين معسكر الحق بقيادة سيد الشهداء عليه السلام ومعسكر الباطل بقيادة يزيد ابن معاوية ، بل اعتدي علي الزمان الذي بقي رمزا يختزن الشجاعة والتحدي للظلم والطغيان علي مر الدهور ، فجعل المتوكل العاشر من المحرم الحرام سنة 256هـ يوما لافتتاح مدينته التي بناها بالماحوزة ، ونزوله في قصر الخلافة فيها الذي سماه اللؤلؤة ، وكان يوما مشهودا يعج باصحاب الملاهي والمطربين ، فاعطي فيه واطلق ، وقيل : انه وهب فيه اكثر من الفي الف درهم (2).

    3ـ حصار ال ابي طالب وملاحقتهم :
    ذكرنا في الفصل الاول ان المتوكل فرض حصارا ظالما علي ال ابي طالب حتي ان الوالي الذي استعمله علي مكة والمدينة ـ وهو عمر بن الفرج الرخجي ـ قد منعهم من الاتصال والارتباط بالناس ومنع الناس من البر بهم ، وبلغ في هذا الاتجاه مبلغا لم يبلغه احد ممن سبقه (3).
    قال ابو الفرج الاصفهاني : كان المتوكل شديد الوطاة علي ال ابي طالب ، غليظا علي جماعتهم ، مهتما بامورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له ان عبيدالله بن يحيي بن خاقان وزيره كان يسيء الراي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم مالم يبلغه احد من خلفاء بني

(1) سير اعلام النبلاء12 : 35 ، تاريخ الخلفاء/للسيوطي : 269.
(2) راجع : البداية والنهاية10 : 347 ، الكامل في التاريخ6 : 130.
(3) راجع : مقاتل الطابيين : 369.



(64)
العباس القبله (1).
    وتعرض ال ابي طالب بشكل عام والعلويون بشكل خاص لصنوف الاذي والقسوة في زمان المتوكل ، فتفرق رجالهم في النواحي ، واختفي بعض كبارهم ، وتعرض بعضهم للمطاردة والابعاد او الاعتقال ، او التصفية الجسدية بدس السم وهم سجناء ، و اجبر اخرون علي ارتداء السواد الذي يمثل شعار الدولة العباسية.
    وممن قتل في زمان المتوكل القاسم بن عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ، وكان رجلا فاضلا ، وقد حمله عمر بن الفرج الرخجي الي سر من راي ، فامروه بلبس السواد فامتنع ، فلم يزالوا به حتي لبس شيئا يشبه السواد فرضي منه بذلك.
    وروي ابو الفرج الاصفهاني عن احمد بن سعيد ، عن يحيي بن الحسن عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين قالت : « اعتل مولاي القاسم بن عبدالله ، فوجه اليه بطبيب يساله عن خبره ، وجهه اليه السلطان ، فجس يده ، فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غيرعلة ، وجعل وجعها يزيد عليه حتي قتله ، قالت : سمعت اهله يقولون : انه دس اليه السم مع الطبيب » (2).
    وتواري احمد بن عيسي بن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام مدة طويلة حتي توفي سنة247هـ ، وكان فاضلا عالما مقدما في اهله ، معروفا فضله ، وقد كتب الحديث وعمر ، وكتب عنه ، و روي عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة ،

(1) مقاتل الطالبيين : 406
(2) مقاتل الطالبيين : 407



(65)
وروي عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.
    و تواري ايضا عبدالله بن موسي بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه السلام منذ ايام المامون ومات في ايام المتوكل (1).
    و روي ابو الفرج الاصفهاني بالاسناد عن محمد بن سليمان الزينبي قال : « و نعي عبدالله بن موسي الي المتوكل صبح اربع عشرة ليلة من يوم مات ، و نعي له احمد ابن عيسي فاغتبط بوفاتهما وسر ، وكان يخافهما خوفا شديدا ، ويحذر حركتهما لما يعلم من فضلهما واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتهما لهما لو ارادوا الخروج عليه ، فلما ماتا امن و اطمان ، فما لبث بعدهما الا اسبوعا حتي قتل » (2).

    4 ـ ملاحقة الشيعة وقتلهم :
    امنعت اجهزة المتوكل بمراقبة شيعة الامام و مواليه ، فسامهم قتلا واعتقالا وافقارا ، فامروا ببعضهم ان يلقي من جبل عال بتهمة موالاة الامام عليه السلام (3) ، وقطع المتوكل ارزاق بعضهم لملازمة الامام ابي احسن الهادي عليه السلام (4) ، وحبس علي بن جعفر ـ وكيل الامام الهادي عليه السلام وهو من اهل همينيا ـ لمدة طويلة وتحت ظروف قاسية (5).
    وفي كل ذلك يتوجه الاصحاب الي امامهم عليه السلام فيعينهم بالدعاء. عن

(1) مقاتل الطالبيين : 408
(2) مقاتل الطالبيين : 417.
(3) الثاقب في المناقب : 543 ، المناقب لابن شهر اشوب4 : 448.
(4) المناقب لابن شهر اشوب4 : 442 ، بحار الانوار50 : 127/5.
(5) رجال الكشي : 2 : 866/1129 ، بحار الانوار50 : 183/58.



(66)
عبدالله بن سليمان الخلال ، قال : « كتبت اليه عليه السلام اساله الدعاء ان يفرج الله عنا في اسباب من قبل السلطان...الي ان قال : فرجع الجواب بالدعاء... » (1).

    قتل امام العربية يعقوب بن السكيت
    روي المورخون انه في سنة244هـ قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الامام في العربية ، فانه ندبه الي تعليم اولاده ، فنظر المتوكل يوما الي ولديه المعتز والمؤيد ، فقال لابن السكيت : من احب اليك : هما او الحسن والحسين؟ فقال : قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك ، فامر الاتراك فداسوا بطنه حتي مات رحمة الله وقيل : امر بسل لسانه من قفاه فمات ، وارسل الي ابنه بديته (2).
   
دعاء المظلوم علي الظالم
    بقي المتوكل يتوجس خيفة من نشاط الامام عليه السلام الذي لم تتضح له كامل ابعاده ، ففرض عليه ملازمة داره ومنعه من الركوب الي اي مكان (3) ، ومن ثم امر باعتقاله ، فبقي رهن الاعتقال عند علي بن كركر (4) ، وقبل مقتل المتوكل بايام امره ان يترجل ويمشي بين يديه يوم الفطر ، وكان يوما قائظا شديد الحر ، فمشي عليه السلام مع بني هاشم حتي تفصد عرقا ، وكان عليه السلام لايستطيع السير الا متكا لمرض الم به ، فما كان من الامام عليه السلام الا ان يتوجه الي الله سبحانه بدعاء طويل

(1) الكامل في المناقب : 548/490.
(2) الكامل في التاريخ6 : 133 ، تاريخ الخلفاء : 269 ، تاريخ ابن الوردي1 : 313.
(3) راجع : الخرائج والجرائح1 : 396/3 ، بحار الانوار50 : 144/28.
(4) راجع : المناقب لابن شهر اشوب4 : 439 ، الثاقب في المناقب : 536 ، اعلام الوري2 : 123.