(130)
سال السلطان ان يدعو الامام عليه السلام الي بيته ليشارك في مناسبة خاصة يدعو فيها لولديه بالسلامة والبقاء ، فارسل السلطان خادما جليل القدر الي دار الامام كي يدعوه الي حضور دار كاتبه انوش ، فاخبر الخادم الامام عليه السلام ان انوش يقول : « نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة. فقال الامام عليه السلام : الحمدالله الذي جعل النصراني اعرف بحقنا من المسلمين. ثم قال : اسرجوا لنا. فركب حتي ورد دار انوش ، فخرج اليه مكشوف الراس ، حافي القدمين ، وحوله القسيسون والشمامسة (1)والرهبان ، وعلي صدره الانجيل ، فتلقاه علي باب داره وقال : يا سيدنا ، اتوسل اليك بهذا الكتاب الذي انت اعرف به منا الا غفرت لي ذنبي في عنائك. وحق المسيح عيسي بن مريم وما جاء به من الانجيل من عندالله ، ما سالت امير المؤمنين مسالتك[في] هذا الا لانا وجدناكم في هذ الانجيل مثل المسيح عيسي ين مريم عندالله. فقال عليه السلام : الحمدلله... » (2).
    ولعل ابرز واصدق مظاهر التبجيل والتعظيم التي تعبر عن مكانة الامام عليه السلام عند سائر الناس ، هو ازدحام الناس علي جنازته عليه السلام الي حد وصفه بعض الرواة بالقيامة ، فقد قال احمد بن عبيدالله ابن خاقان في حديثه الذي قدمناه : « لما ذاع خبر وفاته صارت سر من راي ضجه واحدة (مات ابن الرضا) . وعطلت الاسواق ، و ركب بنو هاشم والقواد والكتاب وسائر الناس

(1) الشسامة : جمع شماس ، وهو خادم الكنيسة بالسريانية.
(2) مدينة المعاجز/السيد هاشم البحراني7 : 670/2655 عن الهداية الكبري للخصيبي.



(131)
الي جنازته ، فكانت سر من راي يومئذ شبيها بالقيامة » (1).

    هيبته عليه السلام
    يحظي الامام العسكري عليه السلام بهيبة حقيقية فرضت نفسها علي الناس وسواهم من خلال اجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والاخلاص والخلق الرفيع فيه عليه السلام.
    وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه و اله انه قال : « المؤمن يخشع له كل شيء ويهابه كل شيء »وقال عليه السلام : « اذا كان مخلصا اخاف الله منه كل شيء حتي هوام الارض والسباع وطير الهواء » (2). فهذا حال المؤمن المخلص ودرجته ، فكيف اذا كان اماما معصوما وحجة علي الخلق؟
    قال القطب الراوندي في صفة الامام العسكري : « ...له بسالة تذل لها الملوك ، وله هيبة تسخر له الحيوانات كما سخرت لابائه عليه السلام بتسخير الله لهم اياها ، دلالة وعلامة علي حجج الله ، وله هيئة حسنة ، تعظمه الخاصة والعامة اضطرارا ، ويبجلونه ويقدرونه لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وصلاحه واصلاحه... » (3).
    من هنا فقد وصف احد خدم الامام عليه السلام في حديث له ، حضور الناس يوم ركوبه عليه السلام الي دار الخلافة في كل اثنين وخميس ، بان الشارع كان يغص

(1) اصول الكافي1 : 505/1 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة ، اكمال الدين : 43ـ المقدمة ، الارشاد2 : 324.
(2) الدعوات/الواوندي : 227.
(3) الخرائج والجرائح2 : 901.



(132)
بالدواب والبغال والحمير ، بحيث لا يكون لاحد موضع قدم ، ولا يستطيع احد ان يدخل بينهم ، فاذا جاء الامام عليه السلام هدات الاصوات وسكنت الضجة وتفرقت البهائم وتوسع له الطريق حين دخوله وخروجه (1).
    وقد امتدت اثار هيبته عليه السلام حتي الي ساجنيه ، فكانوا يرتعدون خوفا وفزعا بمجرد ان ينظر اليهم ، حيث قال بعض الاتراك الموكلون به في سجن صالح ابن وصيف : « ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله ، ولايتكلم ولايتشاغل بغير العبادة ، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا مالا نملكه من انفسنا » (2).

    مكارم اخلاقه
    ناتي هنا الي ذكر مقومات تلك المنزلة والهيبة التي تتمثل بالملكات القدسية والخصال الروحانية التي اجتمعت في شخصه عليه السلام من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من معالي الفضيلة وعناصر العظمة التي تحلي بها اهل هذا البيت عليهم السلام .
    وقد وصفه ابوه علي الهادي عليه السلام بقوله : « ابو محمد ابني انصح ال محمد غريزة ، واوثقهم حجة...وهو الخلف ، واليه تنتهي عري الامامة واحكامها » (3).

(1) راجع الحديث في غيبة الشيخ الطوسي : 215/179.
(2) اصول الكافي1 : 512/23 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة ، الارشاد2 : 334.
(3) اصول الكافي1 : 327/11 ـ باب الاشارة والنص علي ابي محمد عليه السلام من كتاب الحجة.



(133)
وشهد له عليه السلام بخلال الفضل ومعالي الاخلاق بعض المعاصرين له وغيرهم ، ومنهم وزير المعتمد عبيدالله بن يحييي بن خاقان (ت 263هـ) الذي وصفه فيما تقدم بالفضل والعفاف والهدي والزهد والعبادة وجميل الاخلاق والصلاح والنبل.
    وذكر ابن ابي الحديد عن ابي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ) في تعداد صفاته وصفات ابائه المعصومين عليهم السلام قوله : « من الذي يعد من قريش او من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق؛كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك؟فمنهم خلفاء ، ومنهم مرشحون : ابن ابن ابن ابن ، هكذا الي عشرة ، وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام ، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم » (1).
    وذلك لانهم غرس النبي صلى الله عليه و اله وفرعه النامي ، ومنه استوحوا رساليته وروحانيته واخلاقيته ، وتجسدت فيهم شخصيته ، فكانوا اختصارا لجميع عناصر الاخلاقية والروحية والانسانية ، وصاروا رمزا للفضيلة والمروءة وقدوة صالحة للانسانية.
    قال قطب الدين الراوندي : « اما الحسن بن علي العسكري عليه السلام ، فقد كانت خلائقه كاخلاق رسول الله صلى الله عليه و اله...وكان جليلا نبيلا فاضلا كريما ، يحتمل الاثقال ولا يتضعضع للنوائب...اخلاقة علي طريقة واحدة ، خارقة

(1) شرح نهج البلاغة15 : 278.


(134)
للعادة » (1).
    وفيما يلي نذكر ما يسمح به المقام من مناقبة الفذة وخصاله الفريدة :

    1ـ العلم
    كان الامام العسكري عليه السلام اعلم اهل زمانه ، وقد بدت عليه مظاهر العلم والمعرفة منذ حداثة سنه ، فقد روي المؤرخون« انه راه بهلول (2)وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون ، فظن انه يتحسر علي ما في ايديهم ، فقال : اشتري لك ما تلعب به؟ فقال : ما للعب خلقنا. فقال له : فلماذا خلقنا؟ قال : للعلم والعبادة. فقال له : من اين لك هذا؟ قال : من قوله تعالي : ((افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون)) (3) ثم وعظه بابيات من الشعر حتي خر مغشيا عليه » (4).
    وشهد للامام عليه السلام برجاحة العلم طبيب البلاط بختيشوع ، وكان المع شخصية في علم الطب في عصره ، فقد احتاج الامام عليه السلام الي طبيب فارسل اليه

(1) الخرائج والجرائح2 : 901.
(2) لعل المراد به بهلول بن اسحاق بن بهلول (204 ـ 298هـ) او اخوه المعروف بابن بهلول ، وهو احمد بن اسحاق بن بهلول (231 ـ 318هـ) وكلاهما من العلماء المعاصرين له . عليه السلام راجع : سير اعلام النبلاء13 : 535/268و14 : 497/281 ، اعلام الزركلي1 : 95.
(3) سورة المؤمنون : 23/115.
(4) راجع : احقاق الحق12 : 473و19 : 620و29 : 65 عن عدة مصادر منها : الصواعق المحرقة لابن حجر ، ونور الابصار للشبلنجي ، ووسيلة المال للحضرمي ، وروض الرياحين لعفيف الدين اليافعي وغيرها.



(135)
بختيشوع بعض تلامذته واوصاه قائلا : « طلب مني ابن الرضا من يفصده ، فصر اليه ، وهو اعلم في يومنا هذا بمن هوتحت السماء ، فاحذر ان لاتعترض عليه فيما يامرك به » (1).
    واستطاع الامام عليه السلام بعلمه الذي لايجاري وفكره الثاقب ونظره الصائب ان يكشف الحقائق ويظهر الدقائق ، ومن ذلك ان السلطة اخرجته من السجن بعد ان شك الناس في دينهم وصبوا الي دين النصرانية ، لان احد الرهبان كان يستسقي فيهطل المطر ، بينما يستسقي المسلمون فلم يسقوا ، فكشف الامام عليه السلام عن حيلة الراهب الذي كان يخفي عظما لاحد الانبياء عليهم السلام بين اصابعه ، فازال الشك عن قلوب الناس وهدات الفتنة (2).
    قال الحر العاملي في ارجوزته :
وفي حديث الراهب النصراني اذ كان في الحبس فصار جدب فخـرجوا يدعــون للاستسقا فخـرج الراهـب والنصاري فجـاءهم غيث غزيـر هاطل فافتتن النـاس وراموا الـردة فطلـبوا الامام حـتي خرجا وعندمـا اراد يدعـو الراهب معجـزة من اوضح البرهان وكان سؤال المسلمين الخصب ثلاثة والارض لــيس تسقي يستمطرون الصيب المـدرارا وكلمـا دعوا اجــاب الوابل لـما راوا مـن فرج وشـدة ثم دعـا الله فنـال الفــرجا وقرب الغيث وفاز الطــالب


(1) الخرائج والجرائح1 : 422/3 ، بحارالانوار50 : 260/21.
(2) راجع تخريجات الحادثة في اخر الفصل الثاني.



(136)
امـر عبده الامـام فاخذ انقشع الغيم وزال المطر قال الامام انه عظم نبي اذكلما اظـهر للسمـاء من يده عظما فعندهما نبذ وزال عن دين الاله الخطر فلـيس مـارايتم بعجـب امطرت الغيث بلا دعاء (1)
و للامام عليه السلام رصيد علمي وعطاء معرفي علي صعيد ترسيخ اصول الاعتقاد والاحكام والشرائع ، والتصدي لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة ، سناتي الي ذكره في الفصل السادس باذن الله.

    2ـ العبادة
    كان داب الامام العسكري عليه السلام التوجه الي الله تعالي والانقطاع اليه في احلك الظروف واشدها ، فقد كان يحيي الايام التي امضاها في السجن بالصيام والصلاة وتلاوة القران علي رغم التضييق عليه.
    قال الموكلون به في سجن صالح بن وصيف : « انه يصوم النهار ويقوم الليل كله لايتكلم ولايتشاغل بغير العبادة » (2).
    و حينما اودع في سجن علي بن جرين ، كان المعتمد يساله عن اخباره في كل وقت ، فيخبره يصوم النهار ويصلي الليل (3).
    وكان عليه السلام معروفا بطول السجود ، فقد روي عن احد خدمه المعروف

(1) احقاق الحق12 : 462 ـ 463.
(2) اصول الكافي1 : 512/23 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة ، الارشاد2 : 334.
(3) اثبات الوصية : 252 ، مهج الدعوات : 343 ، بحارالانوار50 : 314.



(137)
بمحمد الشاكري انه قال : « كان استاذي اصلح من رايت من العلويين والهاشميين...كان يجلس في المحراب ويسجد ، فانام وانتبه وانام وهو ساجد » (1).

    3 ـ الزهد
    كان الامام العسكري عليه السلام مثالا للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها ، والرغبة فيما اعده الله له في دارالخلود من النعيم والكرامة.
    قال كامل بن ابراهيم المدني ، وهو احد اصحابه عليه السلام : « لما دخلت علي سيدي ابي محمد عليه السلام نظرت الي ثياب بياض ناعمة عليه ، فقلت في نفسي : ولي الله وحجته يلبس الناعم من الثياب ، ويامرنا نحم بمواساة الاخوان وينهانا عن لبس مثله؟ فقال : متبسما : يا كامل ـ وحسر عن ذراعية ، فاذا مسح اسود خشن علي جلده ـ هذا الله وهذا لكم... » (2).
    وجاء في حديث خادمه محمد الشاكري« انه عليه السلام كان قليل الاكل ، وكان يحضره التين والعنب والخوخ وما شاكله ، فياكل منه الواحدة والثنتين ، ويقول : شل هذا يا محمد الي صبيانك ، فاقول : هذا كله؟فيقول : خذه » (3).

    4 ـ الكرم والسماحة
    كان الامام العسكري عليه السلام معروفا بالسماحة والبذل ، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة ابائه المعصومين عليهم السلام. قال خادمه محمد الشاكري : « ما رايت قط

(1) الغيبة/الشيخ الطوسي : 217/179 ، بحارالانوار50 : 253.
(2) الغيبة/الشيخ الطوسي : 247/216.
(3) الغيبة/الشيخ الطوسي : 217/179.



(138)
اسدي منه ». وقال الشيخ الطوسي : « كان عليه السلام مع امامته من اكرم الناس واجودهم » (1).
    وكان عليه السلام يحث اصحابه علي المعروف ، فقد روي ابوهاشم الجعفري عنه عليه السلام انه قال : « ان في الجنة بابا يقال له المعروف ، لا يدخله الا اهل المعروف ، قال : فحمدت الله تعالي في نفسي وفرحت بما اتكلف به من حوائج الناس ، فنظرالي ابو محمد عليه السلام فقال : نعم فدم علي ما انت عليه ، فان اهل المعروف في الدنياهم اهل المعروف في الاخرة ، جعلك الله منهم يا اباهاشم ورحمك » (2).
    وسجل الامام العسكري عليه السلام دورا بارزا في الانفاق والبذل في سبيل الله واعانة المعوزين والضعفاء من ابناء المجتمع الاسلامي انذاك ، رغم حالة الحصار والتضييق الذي مارسته السلطة ضده ، وكان مصدر تلك العطاءات والمساعدات الاموال والحقوق الشرعية التي تجلب اليه او الي وكلائه من مختلف بقاع الاسلام التى تحتوي علي قواعد شعبية تدين بامامته ، وكان يسد بها حاجة ذوي الفاقة علي قدر ما يزيل عنهم حالة العوز دون اسراف في العطاء والبذل ، فهو عليه السلام يقول : « ان للسخاء مقدارا ، فان زاد عليه فهو سرف » (3).
    ومن جملة عطاءاته التي سجلتها كتب الحديث ، انه اعطي على بن ابراهيم ابن موسي بن جعفر مائتي درهم للكسوة ، و مائتي درهم للدين ، ومائة درهم

(1) الغيبة/الشيخ الطوسي : 217.
(2) المناقب/لابن شهر اشوب4 : 464 ، الفصول المهمة2 : 1082.
(3) بحارالانوار78 : 377/3.



(139)
للنفقة ، واعطي لابنه محمد بن علي بن ابراهيم مائة درهم في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة (1).
    وشكا اليه ابو هاشم الجعفري الحاجة فاعطاه مرة خسمائة دينار ، وارسل اليه مرة اخري مائة دينار حينما اخلي سبيلة من السجن (2).
    وشكا اليه اسماعيل بن محمد بن علي بن اسماعيل بن علي بن عبدالله بن عباس الفاقة والحاجة ، فاعطاه مائة دينار (3).
    واعطي برذونه الكميت الي علي بن زيد بن علي بن الحسين بعد موت فرسه (4) ، واكرمه مائة دينار في ثمن جارية بعد ان ماتت جاريته (5).
    ووهب حمزة بن محمد بن احمد بن علي بن الحسين ثلاثمائة دينار ، وكان مصابا بالشلل ، علي رغم عدم قوله بامامته عليه السلام (6).
    وبعث الي عمرو بن ابي مسلم خمسين دينارا علي يد محمد بن سنان الصواف في ثمن جارية (7) ، وغير ذلك كثير.

(1) اصول الكافي1 : 506/3 ـ باب مولد ابي محمد الحسن بن علي عليه السلام من كتاب الحجة.
(2) اصول الكافي1 : 507/5 و508/10 من الباب المتقدم.
(3) اصول الكافي1 : 509/14 من الباب المتقدم.
(4) اصول الكافي1 : 510/15 من الباب المتقدم.
(5) بحار الانوار50 : 264/23.
(6) الثاقب في المناقب : 573/520.
(7) بحارالانوار50 : 282/58 ، عن فرج المهموم لابن طاوس.



(140)



(141)

الفصل السادس

عطاؤه العلمي

    علي رغم اقصاء الامام العسكري عليه السلام عن موقعه الريادي والقيادي ، فقد استطاع ان ينهض بمهمته الرسالية ، فكان له رصيد علمي وعطاء معرفي واسع ، حيث واصل نشاط مدرسة ابائه المعصومين عليهم السلام من حيث المنهج والمصدر والمادة ، ومهد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من اصحابه التي سارت علي خطاها ، فكان له دور بارز في رفد تلك المدرسة بالمادة العلمية اللازمة علي مختلف الاصعدة ، سيما في مجال ترسيخ اصول الاعتقاد ، وايصال سنن جده المصطفي صلى الله عليه و اله الي الامة في احلك الظروف اقساها ، وقد نسبت اليه بعض الاثار في هذا الاتجاه ، كما اعد جيلا من الاصحاب الثقات الذين رفدوا الواقع الشيعي بمصادر يستقي منها العلم ومناهل تؤخذ منها المعرفة ، وكان بعضها يعرض عليه لينال تصحيحه وتوثيقه ، وتصدي الامام عليه السلام لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة التي تشكل موطن خطر علي الرسالة وبين زيفها وبطلانها ، فاسهم في انقاذ الامة من حالة التعثر في مهاوي الضلال والانحراف ، وفيما يلي نقف عند بعض تلك العطاءات في المباحث التالية :


(142)
المبحث الاول : دوره عليه السلام في ترسيخ العقائد الاسلامية
    نحاول هنا اثارة بعض الكلمات التي وردت عن الامام العسكري عليه السلام في شؤون العقيدة والكلام ، وما يتصل بذلك من التمهيد لغيبة ولده الحجة المهدي عليه السلام ، وملاحظة بعض الافكار المنحرفة لردها وتفنيدها ، وكما يلي :

    اولا : كلماته في التوحيد
    ففي باب التوحيد لم يدع الامام عليه السلام مناسبة دون ان يوجه اصحابه الي التوحيد الخالص والتحذير من رواسب الشرك مهما دقت وصغرت ، ومن ذلك ما رواه ابوهاشم الجعفري قال : « سمعت ابا محمد عليه السلام يقول : من الذنوب التى لا تغفر قول الرجل : ليتني لا اؤاخذ الا بهذا ، فقلت فى نفسى : ان هذا لهو الدقيق ، ينبغي للرجل ان يتفقد من امره ومن نفسه كل شيء ».
    فكان الامام عليه السلام عرف ما في نفسه ، وهناك احاديث كثيرة عنه وعن ابائه عليهم السلام تذكر ان بعض الناس كان يسمع الجواب من الامام وهو يفكر ، اي لم يطرح السؤال بعد ، حيث ان الملكة القدسبة تجعله عليه السلام يعرف ما يضمرون من قبل ان يتحدثوا به. فقال عليه السلام« يا اباهاشم ، صدقت فالزم ما حدثت به نفسك ، فان الاشراك في الناس اخفي من دبيب الذرعلي الصفا في الليلة المظلمة ، ومن دبيب الذرعلي المسح الاسود » (1).
    وكان الجدل يدور في صفات الله تعالي منذ عهد الامام الباقر عليه السلام حتي عهد الامام العسكري عليه السلام ، ولعل ابرز المسائل التي كانت مدار البحث والجدل هي

(1) الغيبة/الشيخ الطوسي : 207/176 ، الثاقب في المناقب : 567/509 ، اثبات الوصية : 249 ، الخرائج والجرائح2 : 688/11.


(143)
مسالة الرؤية والتجسيم والتصوير ، وكان منهج الائمة عليه السلام هو انهم يتحدثون بلغة القران وباسلوبه وبمفرادته في العقيدة ، ليوجهوا الناس الي الاخذ بالعناوين الكبري في العقيده من القران الكريم لامن غيره.
    فعن يعقوب بن اسحاق ، قال : « كتبت الي ابي محمد عليه السلام اساله : كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟فوقع عليه السلام: يا ابا يوسف ، جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلي ابائي ان يري ».
    قال : وسالته : « هل راي رسول الله صلى الله عليه و اله ربه؟فوقع عليه السلام: ان الله تبارك وتعالي اري رسوله بقلبه من نور عظمته ما احب » (1).
    وعن سهل بن زياد ، قال : « كتب الي ابي محمد عليه السلام سنة خمس وخمسين وومائتين : قد اختلف يا سيدي اصحابنا في التوحيد »وهذا يدل علي ان الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتي في اوساط اتباع اهل البيت عليهم السلام« فمنهم من يقول هو جسم ، ومنهم من يقول : هو صورة ، فان رايت يا سيدي ان تعلمني من ذلك ما اقف عليه ولااجوزه ، فعلت متطولا علي عبدك؟ »والعبودية هنا من باب التواضع.
    « فوقع بخطه عليه السلام: سالت عن التوحيد ، وهكذا منكم معزول ، الله واحد احد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ، خالق وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالي ما يشاء من الاجسام وغير ذلك وليس بجسم ، ويصور ما يشاء وليس بصورة جل ثناؤه وتقدست اسماؤه ان يكون له شبه ، هو

(1) اصول الكافي1 : 95/1 ـ باب ابطال الرؤية من كتاب التوحيد ، التوحيد/الشيخ الصدوق : 108/2 ـ باب ما جاء في الرؤية.


(144)
لاغيره ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » (1).
    فلقد اراد عليه السلام ان يقول للسائل بان لا يستغرق في الجدل الكلامي عندما يتحدث عن الله سبحانه وتعالي ، ولكن طلب اليه ان يقرا كتاب الله فيما انزله من اياته ، فهو اعرف بنفسه من مخلوقاته كلها؛لان المخلوق لا يستطيع ان يعرف من ربه الا ما عرفه ربه ، والا فلا يمكن للعقل ان يدرك صفاته جل جلاله ذاتيا ، فهو ليس بجسم لانه خالق الاجسام ، وهو ليس بصورة لانه خالق الصورة ومبدعها.
    وعن ابي هاشم الجعفري ، قال : « سال محمد بن صالح الارمني ابا محمد عليه السلام عن قول الله تعالي : ((يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب)) (2) فقال : هل يمحو الا ما كان ، وهل يثبت الا ما لم يكن. فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقول هشام : انه لايعلم الشيء حتي يكون. فنظر الي ابو محمد عليه السلام فقال : تعالي الجبار العالم بالاشياء قبل كونها ، الخالق اذ لامخلوق ، والرب اذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه ، فقلت : اشهد انك ولي الله وحجته والقائم بقسطه ، وانك علي منهاج امير المؤمنين » (3) ، فلقد اُكّد ان المخلوقين يحتاجون الي معرفة الاشياء في صورتها الوجودية ، اما الله سبحانه فهو الذي

(1) اصول الكافي1 : 103/10 ـ باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالي من كتاب التوحيد ، التوحيد/الشيخ الصدوق : 101/14 ـ باب انه عزوجل ليس بجسم ولاصورة.
(2) سورة الرعد : 13/39.
(3) اثبات الوصية : 249 ، الغيبة/الشيخ الطوسي : 430/421 ، الثاقب في المناقب : 566/507 ، الخرائج والجرائح2 : 687/10.



(145)
يخلق الوجود ، فهو يعرف ما يريد ان يخلقه قبل ان يخلقه.
   
ثانيا : كلماته في الامامة
    اكد الامام العسكري عليه السلام في الكثير من كلماته علي فرض الولاية لاهل البيت عليهم السلام وضرورة معرفتهم والتصديق بهم والتمسك بهديهم واداء حقوقهم التي جعلها الله لهم ، ولولا ذلك لايستكمل المرء خصال الايمان.
    ومن ذلك ما جاء في كتاب له عليه السلام الي اسحاق بن اسماعيل النيسابوري : « ...ان الله بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض ، لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه اليكم ، بل برحمة منه ـ لااله الا هو ـ عليكم ، ليميز الخبيث من الطبيب ، وليبتلي ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، لتسابقوا الي رحمة الله ، ولتتفاضل منازلكم في جنته.
    ففرض عليكم الحج والعمرة واقام الصلاة وايتاء الزكاة والصوم والولاية ، وجعل لكم بابا تستفتحون به ابواب الفرائض ، ومفتاحا الي سبيله ، لولا محمد صلى الله عليه و اله والاوصياء من ولده لكنتم حياري كالبهائم ، لاتعرفون فرضا من الفرائض ، وهل تدخل مدينة الا من بابها ، فلما من عليكم باقامة الاولياء بعد نبيكم ، قال الله في كتابه : ((اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)) (1) وفرض عليكم لاوليائه حقوقا امركم بادائها ليحلَّ لكم ماوراء ظهوركم من ازواجكم واموالكم وماكلكم مشاربكم ، قال الله تعالي : ((قل لااسالكم

(1) سورة المائدة : 5/3.