المصرع الأول
وهو مصرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عباد الله الصالحين ، انظروا بعين المعتبرين ، وعوا بقلوب المتفكرين ، واصغوا بآذان الموعين ، وتيقّنوا بأفئدة المذعنين ، إن الله ربّ العالمين ؛ لما تمّت حكمته بإيجاد المخلوقين ، واقتضت مشيئته وجود المعدومين ، جعل لذلك عللا بالتعيين ، وأسبابا بالتبيين ، وصيّرها كالمادة له كما صرحت به البراهين ، إذ قد جاء في الحديث القدسي على لسان جبرائيل الأمين حيث قال ـ وهو أصدق القائلين ـ :
« لما أردت إيجاد خلقي وخلق عبادي ، خلقتها بتسعة أشياء : بالحب ، والإرادة ، والمشيئة ، والعلم ، والقدرة ، والقضاء ، والقدر ، والأجل ، والكتاب » . وقيل بعشرة وازداد الإذن فيها .
وجعل كلّ واحد من هذه الأسباب علة غائية في وجود الخلق ، وكل متقدم منها علة لوجود متأخّره ، فيكون الحبّ علة وجود العلل ، وبه وجد الوجود ، ووحّد المعبود ، وبه قامت السماء ، وسطحت الأرض على الماء ، الحبّ هو العقل الكلي وكلي العقل ، وهو الأغلوطة التي تاه في أودية معرفتها أولوالفضل ، الحبّ نبراس الهداية ، وقسطاس الدراية ، الحبّ لباس القلوب ، وجلاها من درن الشكوك والكروب ، به تداوى الأفئدة المكلومة ، وتفضّ الأسرار المختومة ، وهو الموصل إلى المحبوب ، والمجافى عن الذنوب ، بالحبّ صار جبرئيل أمينا ، وإسرافيل مكينا ، وعزرائيل قابضا ، وميكائيل فائضا ، وبه سكن آدم بحبوحة الجنان ، وبه خدّت خدّيه العينان ، بالحبّ سهلت خزون الطوفان على نوح ، واستعذب الأجاج ولن يبوح ، وبه سار في البحر العجاج على ألواح الساج ، بالحبّ صار


( 18 )

بطن نونة يونس معراجا ، واتخذ سبيله في البحر منهاجا ، بالحب نال إبراهيم خلّة الرحمان ، وبه برد عليه لهب النيران ، بالحب سعى موسى للجذوة ، ففاز بشرف النبوة ، وبه نودي من وادي طوى : « لا تخف إنني أنا الله الأعلى » ، بالحب كلّم بلا ترجمان ؛ ولا حجاب عن العيان ، وبه أضحى عيسى روحا ، ونفخ في الطين روحا ، وكفى الحبّ رفعة ما جاء في الذكر الحكيم والقرآن الكريم : ( ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) (1) .
وليس الحب ما ذهب إليه الأوهام من جهّال الأنام ؛ أنه التشبّب بالوجوه الحسان ، والأصغاء إلى أصوات رنّات العيدان ، أو أنّه شيء يحصل بالعزلة عن الناس ، أو [يـ]ـتيسّر بلبس رَثّ اللباس ، كلا وربّ الراقصات ومن برأ الذرّات .
إنما المراد بالعشق هو محمد بن عبدالله النبي الهاشمي ، والمعشوق هو الله جلّ وعلا ، والعاشق الحقيقي عليّ المرتضى ، فمحمّد الواسطة بين العاشق والمحبوب ، وهو العلّة في الوجود وطبيب القلوب ، فوجود محمد صلى الله عليه وآله سابق لوجود جميع المخلوقين ، وعلة لإيجاد المصوّرين ، حيث قد خوطب بـ : « لولاك لما خلقت الأفلاك » .
وكذلك ما روي عن أميرالمؤمنين وسيد المسلمين عليه السلام إذ قال : « أول ما خلق الله ربّ العالمين نور محمد سيد المرسلين ، وأشرف النبيين ، قبل خلق الماء والطين والعرش والكرسي والسماوات والأرضين والجنان والنيران واللوح والقلم وحوّى وآدم والحجب والبحار والنباتات والأشجار بثمانين ألف عام ، ثم قال له : يا عبدي أنت المراد وأنا المريد ، وأنت خيرتي من خلقي ، وعزّتي وجلالي لولاك ما خلقت الأفلاك ، فمن أحبّك أحببته ، ومن أبغضك أبغضته » (2) .
____________
(1) سورة فصّلت : 41 : 11 .
(2) بحار الأنوار : ج 57 ص 198 باب حدوث العالم وبدء خلقه من كتاب السماء والعالم : ح

=


( 19 )

ولله درّ من قال بيان الحبّ :

خلعة العشق جمال العاشقيــن * حُلية التقوى لأربــاب اليقيــن
مظهر العشق صراط المستقيـم * غاية العشـق حُبــور ونعيــم
كلّ ذي عشق قريــن الافتخار * قد زكا أصلا وفرعـا ونجــار
أوجه العشّـاق مشكــاة الهدى * باطن العشّــاق كشّـاف الردى
قيل لي ما العشق يا حلف الهوى * أفصح المرمـوز من سرّ الجـوى
قلت إنّ العشق يا ربّ السـؤال * علة الأشيـا ومصداق الكمــال
قـال مما ذاتــه يا ذا الوداد * ما اسمه عنـد مياميـن العبــاد
قلت معنى العشق ذات الهاشمي * أحمد المختــار فخــر العالـم
قال ما المعشوق من ذا العاشـق * قــل فإنّــي مستهــام وامق
قلت إنّ العاشـق المومى إليـه * حيدر خير الثنا يُتلــى عليــه
وكذا المعشوق ربّي ذو الجلال * من تردّى بالمعالــى والكمــال
إن معنى العشـق ذا يا ذا الفتى * ما سوى ذا عندنــا لـن يُثبتـا
ليس معنى العشق يا ربّ الفطن * صوت شاذٍ مطرب أو خمــر دن
أو بكاء فـي أساريــر الظلام * أو نشيـدا من زخاريف الكــلام
لا ولا العشق اعتـزال العالمين * والتواني في طريــق المتقيــن
منهج العشاق يُنهـي للرشــاد * واعتزال النسك يُغري بالفســاد
يا نسيم الحبّ زائل عن حشـا * مهجة المشتاق أسجـاف الغشــا

روي في كتاب مشارق الأنوار أنه ورد في الحديث القدسي عن الربّ العلي أنه قال : « عبدي ، أطعني أجعلك مثلي ، أنا حي لا أموت أجعلك حيا لا تموت ، أنا غني لا أفتقر أجعلك غنيا لا تفتقر ، أنا مهما أشاء يكن أجعلك مهما تشاء يكن » .
____________
=
145 عن أبي الحسن البكرى استاذ الشهيد الثاني في كتاب الأنوار ، مع إضافات كثيرة واختلاف لفظي .

( 20 )

وفيه : « إن لله عبادا أطاعوه فيما أراد ؛ فأطاعهم فيما أرادوه ، يقولون للشيء كن فيكون » ، وذلك لأنّ الكلّ عباد الله ، فإذا اختار الله عبدا ألبسه خلعة التفضيل وأذن له (1) في الممالك بالتصرف والتبجيل ، وجعل له الولاية المطلقة ، فصار عبدا لحضرته ، وخالصا لولايته ، ومولى لعباده وبريّته ، وواليا في مملكته ، فهو المتصرف الوالي بإذن الرب المتعالي .
فيا أيّها الطائر في جوّ التقليد ، والمحلّق في سماء التبليد ، لا يأوي إلى غدران الحكماء ، ولا يرتع في رياض العلماء ، ولا يثبت في قلبه حبّ ، ولا ينيب لمحجّبات (2) الكتب ، إلى متى أنت ، أنت بعيد عن النور ، محجوب عن السرور ، غافل عن أسرار سواد السطور ، مكبّ على النظر في المسطور ، أما أسمعك منادي الرحمان : ( أفلا يتدبّرون القُرآن ) (3) ، وحتى متى أنت كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، ألم تر أنّ الله سبحانه خلق ألف ألف عالم مبدؤها نور الحضرة المحمدية ، وسرّها الولاية الإلهية ، وختامها الخلافة المهدويّة ونور العصمة الفاطميّة ، وذلك كلّه قاض عن الكلمة السبحانية ، وهي ألف غير معطوف كما قالوا ألف غيب معطوف ، لا وألف غير معطوف ، وألف عنده الوقوف ، وألف هو منتهى الألوف ، خلقها وهو غني عن خلقها ، وسلّمها إلى الوليّ الكامل ، والخليفة العادل ، لأنه وليه ومقامه الذي أقامه في خلقه مقامه ، والوليّ المطلق ، والمتصرّف العادل ، لا يسئل عمّا يفعل ، ولا يناقش فيما يعمل ، وكيف يسأل المؤيّد بالحكمة المخصوص بالعصمة ، الذي يريد الله ما يفعل ، لأنّ فعله الحق والعدل (4) .
ولله درّ من قال :

يا حبّذا مُتحاببين تواصلا * دهرا وما أعتلقا بفحش أذيلا

____________
(1) في المصدر : « ونادى له » .
(2) في المصدر : « ولا ينبت إلا في محجّبات » .
(3) سورة النساء : 4 : 82 .
(4) مشارق أنوار اليقين : ص 68 .

( 21 )

لا شيء أجمل من عفاف زانـه * ورع ومن لبس العفــاف تجمّلا
طبعت سرائرنا على التقوى ومن * طبعت سريرتـه على التقوى علا
أهواه لا لخيانـة حاشــا ومن * أنهـى الكتـاب تلاوة أن يجهـلا
لي فيه مزدجــر بما أخلصته * في المصطفى وأخيه من عقد الولا
فهما لعمرك علة الأشيــاء في * أهل الحقيقـة إن عرفـت الأمثلا
الأولان الآخـران الباطنــان * الظاهران الشاكــران لذي العلا
الزاهدان العابـدان الراكعــان * الساجدان الشاهــدان على الملا
خُلقا وما خلق الوجود كلاهمــا * نوران من نور العلــيّ تفصّلا
في علمه المخزون مجتمعان لـن * يتفرّقـا أبــدا ولن يتحــوّلا
فاسأل عن النــور الذي تجدنّه * في النور مسطورا وسائل من تلا
واسأل عن الكلمات لمـا أن بها * حقــا تلـقّــى آدم فتقبــلا
ثم اجتبـاه فأودعــا في صلبه * شرفــا لـه وتكرّمــا وتبجّلا

فاحمدوا يا إخواني ربكم الأجلّ حيث ألبسكم خلعة الوجود ، واشكروا يا خلاني نبيكم الأفضل ؛ إذ هو الفيّاض عليكم زلال الجود ، به ختم الله المرسلين ، وكان هو علّة وجود النبيين ، صلى الله عليه وآله حملة الكتاب ، والأدلاء على الخير والصواب ، الذين كانوا في الأجساد أشباحا ، وفي الأشباح أرواحا ، وفي الأرواح أنوارا ، وفي الأنوار أسرارا ، فهم الصفوة والصفاة ، والأصفياء والكلمات ، وإليهم الإشارة بقولهم : « لولانا ما عرف الله ، ولولاه ما عرفنا » .
روى في الكتاب المذكور (1) عن زياد بن المنذر، عن ليث بن سعد قال : قلت
____________
(1) مشارق أنوار اليقين للبرسي : ص 71 مع اختلاف لفظي ، وزاد في آخره : ونجد في الكتب أنّ عترته خير البشر ، ولا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا . فقال معاوية : يا أبا إسحاق : ومن عترته ؟ فقال : من ولد فاطمة . فعبس معاوية وجهه وعضّ على شفته وقام من مجلسه .
( 22 )

لكعب الأحبار وهو عند معاوية : كيف تجدون صفة مولد النبي محمد صلى الله عليه وآله ؟ وهل وجدتم لعترته فضلا ؟ فالتفت كعب إلى معاوية لينظر كيف هو ، فأنطقه الله فقال : هات يا أبا إسحاق . فقال كعب : إنّي قرأت في سبعة وسبعين (1) كتابا نزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال ، ووجدت في الكل مولده ومولد عترته ، وأنّ اسمه لمعروف ولم يولد ، نُبِّئ فنزلت عليه الملائكة قطّ ما عدا عيسى وأحمد ، وما ضرب على آدميّة حجاب الجنة غير مريم وآمنة ، وكان من علامة حمله أن نادى مناد من السماء في ليلة حمله : ابشروا يا أهل السماء ، فقد حملت آمنة بأحمد ، وفي الأرض كذلك [ حتى في البحور ، وما بقي يومئذ في الأرض دابة تدبّ ولا طائر يطير إلا وعلم بمولده صلى الله عليه وآله وسلم ] ، ولقد بني في تلك الليلة في الجنة سبعون ألف قصر من ياقوتة حمراء وسبعون ألف قصر من لؤلؤة رطبة ، وسمّيت قصور الولادة ، وقيل للجنّة اهتزّي وتزيّني فإن في هذه الليلة ولد نبي أوليائك ، فضحكت يومئذ فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ، وبلغنا أنّ حوتا من حيتان البحر يقال له طمسوسا وهو سيد الحيتان له سبعمئة ألف ذنب يمشي على ظهور سبعمئة ألف ثور ، الواحد أكبر من الدنيا ، لكل ثور سبعمئة الف قرن من زمرّد أخضر ، وقد اضطربت ليلة مولده فرحا ، ولولا أنّ الله ثبّتها لجعلت الأرض عاليها سافلها ، ولا بقي جبل إلا لقى صاحبه بالبشارة وهم يقولون : « لا إله إلا الله » ، ولقد خضعت الجبال لأبي قبيس كرامة لمحمد صلى الله عليه وآله ، ولقد ماست الأشجار أربعين يوما بأفنانها وأطيارها وأنهارها (2) ، ولقد نصب بين السماء والأرض سبعون عمودا من نور ، ولقد بشّر آدم بمولده فزاد في حسنه أضعافا (3) ، ولقد اضطرب الكوثر
____________
(1) في المصدر : « في اثنين وسبعين » .
(2) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأغناصها وأنهارها وثمارها فرحا بمولده .
(3) في المصدر بدل « ولقد ماست ... وأنهارها » : ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأغناصها وأنهارها وثمارها فرحا بمولده .

( 23 )

حتى أسقط سبعين قصرا من الزمرد نثارا لمقدمه ، ولقد زمّ إبليس وكبّل وألقي في الحصر أربعين يوما ، ولقد سقطت الأصنام ، وسمعت قريش أصواتا من داخل الكعبة وقائلا يقول : « يا قريش ، قد جاءكم البشير النذير معه عمود الأبد والربح الأكبر ، وهو خاتم الأنبياء » .
وكذلك ما ورد في الكتاب المذكور (1) أنّ الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطلب رضي الله عنه : إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أنّه يولد بتهامة غلام بين كتفيه علامة تكون له الإمامة ولولده إلى يوم القيامة ، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه .
وكان مولده صلى الله عليه وآله وسلم ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل ، وتوفّي أبوه وهو ابن شهرين ، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين ، ومات عبدالمطلب وهو ابن ثمان سنين ، وكفّله عمّه أبوطالب رضي الله عنه .
فيا مدّعي الشرف قصّر خطاك وثقل حملك على مطاك ، ويا أيها الطالب لسموّ المكانة ، والخاطب لمحجّبات الصيانة ، والراقد على فرش الإفتخار ، والراغب في عناق أبكار الأقدار ، امدد بصرك ، وأحدّ نظرك ، فقد طلعت شمس الأسرار من مطالع العناية ، ولمع نور الأنوار من مشارق الهداية ، وأنّ الحي القيوم قد فضّل الحضرة المحمدية ، بأن جعل نورها هو الفيض الأول ، وجعل سائر الأنوار تشرق منها وتشعشع عنها ، وجعل لها السبق الأول ، ولها السبق على الكلّ والرفعة على الكلّ والإحاطة بالكلّ ، فما أحرى ذلك بقول الناصح والحبيب الصالح حيث قال :

نقّل فؤادك ما استطعت من الهوى * ما الحبّ إلا للحبيب الأول
____________
(1) مشارق أنوار اليقين : لص 74 مع اختلاف في بعض الألفاظ فقط .
ورواه الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة : ج 1 ص 176 ح 32 باب 13 في خبر سيف بن ذي يزن ، مع إضافات كثيرة .

( 24 )

صلى الله عليه صلاة تعمّ صلاة المصّلين ، وتفوق دعوات الداعين ، ما حنّت القلوب المفتونة به إليه ، وعطفت أعناق شوقها عليه .
لا تجل في صفات أحمد طرفا * فهو الغايــة التي لـن تراها
قلّب الخافقين ظهـرا لبطـن * فرأى ذات أحمـد فأجتباهــا
ليت شعري هـل ارتقى قمـم * الأملاك أم طأطأت له فرقاها
بل لسرّ من عالم الغيب فيــه * دون إدراك لحظـه أنهاهــا
ذاك ظل الاله لـو ان حوتـه * أهل وادي جهنـم لحماهــا
وهو الآية المحيطـة بالكـون * ففي عين كل شيء تراهــا
بشرت امّه به الرسـل طـرا * طربا بأسمه فيـا بشراهــا
تلتـقى كـل ذروة بـرسـول * ايّ فخر للرسل في ملتقاهـا

روى في كتاب الأحتجاج مرفوعا الى معمل بن راشد قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : « أتى يهودي الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام بين يديه يحدّ النظر فيه(1) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا يهودي ما حاجتك ؟ فقال اليهودي : جئت أسألك : أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلمه الله عزّ وجلّ ، وأنزل عليه التوراة والعصا ، وفلق له البحر ، وأضلّه بالغمام ؟
فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه ، ولكنّي أقول : إن آدم عليه السلام لمّا أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال : اللهمّ إنّي أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي ، فغفرها الله له ، وإنّ نوحا عليه السلام لمّا ركب يفي السفينة وخاف الغرق قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمد وآل محمد لما نجّيتني(2) من الغرق ، فجّاه الله عزّ وجلّ ، وإنّ إبراهيم عليه السلام لمّا ألقي في النّار قال : اللهمّ إنّي أسألك بحقّ محمد وآل محمد لما أنجيتني منها . فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وإنّ موسى عليه السلام لمّا ألقى
____________
(1) في المصدر : « إليه » .
(2) في المصدر : « أنجيتني » .

( 25 )

عصاه فأوجس في نفسه خيفة قال : اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما آمنتني . قال الله جل جلاله : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) (1) .
يا يهودي ، لو أن موسى عليه السلام أدركني (2)ثم لم يؤمن بنبوّتي ، لم ينفعه إيمانه شيئا ، ولا نفعته النبوة .
يا يهودي ، ومن ذريتي المهدي ، إذا خرج نزل المسيح لنصرته ، فيقدّمه ويصلي خلفه » .
فصمت اليهودي كأنما ألقم حجرا .
وروي عن الصادق عليه السلام ، عن أبيه ، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام أنه دخل عليه رجلان من قريش ، فقال : « ألا أحدّثكما عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ » . قالا : بلى ، حدثنا عن أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله .
قال : سمعت أبي يقول : « لما كان قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاثة أيام نزل [ عليه ] جبرئيل عليه السلام فقال : يا أحمد ، إنّ الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا [ لك ] وخاصة ، يسألك عما هو أعلم به منك ، يقول : كيف تجدك يا محمد ؟
فقال النبي
صلى الله عليه وآله : تجدني يا جبرئيل مغموما ، تجدني يا جبرئيل مكروبا .
فلما كان اليوم الثالث هبط جبرئيل ومعه ملك الموت
عليهما السلام ، ومعهما ملك يقاله له : « إسماعيل » في الهواء في سبعين ألف ملك ، فسبقهم جبرئيل عليه السلام فقال : يا
____________
(1) سورة طه : 20 : 68 .
(2) في المصدر : « إن موسى لو أدركني » .
() رواه الطبرسي في الباب 28 ـ ذكر استشفاع أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين في دعوى الأنبياء عليهم السلام من الاحتجاج : ج 1 ص 106 .
ورواه الصدوق في أماليه : المجلس 39 الحديث 4 ، والعلامة المجلسي في البحار : 26 : 319 ـ 320 .
واورده الفتّال في عنوان « مناقب آل محمد صلوات الله عليهم » من روضة الواعظين : ص 272 ، والسبزواري في الفصل 4 من جامع الأخبار : ص 44 ـ 45 ح 48 | 9 .
() في المصدر : « هبط ».

( 26 )

محمد ، إن الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا ، يسألك عما هو أعلم به منك ويقول : كيف يجدك يا محمد ؟
فقال صلى الله عليه وآله : تجدُني يا جبرئيل مغموما ، تجدُني يا جبرئيل مكروبا .
فاستأذن ملك الموت عليه ، فقال جبرئيل : يا محمد ، هذا ملك الموت يستأذن عليك ، ولم يستأذن [ على أحد قبلك ، لا يستأذن ] (1) على أحد بعدك ، فهل تأذن له ؟
فقال صلى الله عليه وآله : نعم .
فأذن جبرئيل إليه ، فأقبل حتى وقف بين يديه وقال : يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك ، وأمرني أن أطيعك فيما تأمرني ، فإن أمرتني بقبض نفسك قبضتُها ، وإن كرهت تركتها .
فقال النبي صلى الله عليه وآله : أو تفعل ذلك يا ملك الموت ؟
قال : نعم ، بذلك أمِرتُ .
فقال جبرئيل عليه السلام : يا أحمد ، إنّ الله تبارك وتعالى قد اشتاق الى لقائك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا ملك الموت ، امضِ لما اُمرتَ به .
فقال جبرئيل عليه السلام : هذا آخر هبوطي الأرض ، وإنما كنت أنت حاجتي من الدنيا (2) .
فلما أراد ملك الموت أن يقبض روحه قال له : « خفّف » . قال : خفّفت يا رسول الله ، ولكنّ النزع شديد .
قال : أو يكون لكل واحد من أمّتي مثل هذه الشدائد ؟
قال : وأضعاف هذا .
قال صلى الله عليه وآله : ضع على روحي الشدة حتى يكون عليهم أهون .

____________
(1) من سائر المصادر .
(2) إلى هنا رواه الشيخ الصدوق في أماليه : المجلس 46 الحديث 11 مع اختلاف في بعض الألفاظ .

( 27 )

فلما بلغت الروح نحره وصبّ الماء على صدره ، فقال : هون عليّ سكرات الموت ، فلما حبس لسانه وغمّضت عيناه حرّك شفتيه ، ثم نظر إلى عليّ عليه السلام وهو جالس يبكي ورأس النبي صلى الله عليه وآله في حجره ، فهبط رأسه وجعل يوصيه بأشياء لا يفهمها بينهما إلا جبرئيل ، ثم وضع أذُنه على فمه وهو يقول : « أمّتي أمتي » .
وتوفي صلى الله عليه وآله في اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر سنة [ أحد ] عشرة من الهجرة كما وردت به الروايات عن الأئمة الثقات (1) ، ولله درّ من قال :

الا طرق الناعي بليل فراعنــي * وارقني لمـا استقــلّ مناديــا
فقلت له لمــا رأيت الذي أتــا : * ألا انع رسول الله إن كنت ناعيـا
فحققت مـا أشفقت منه ولم أنــل * وكــان خليلي عزّنــا وجماليا
فو الله ما أنســاك أحمد ما مشت * بي العيس في أرض تجاوزن واديا
وكنت متى أهبط من الأرض تلعة * أرى أثــرا منه جديدا وعافيــا
جرى رحيب الصـدر نهد مصـدر * هو الموت مدعوّ عليه وداعيــا

فوا لهف نفسي على علّة الوجود ، وينبوع المكارم والجود ، ويا طول تأسّفي على شمس الهداية والسعود ، كيف حجبتها غيوم اللحود ، وعلى ودود الملك الودود ، كيف صعّر الحمام منه الخدود ، على الحبل الممدود ، بين العبيد والمعبود ، كيف ابتلته مواضى القضاء المنفود ، وعلى مقيم السنن والحدود ، وكريم الآباء
____________
(1) رواه الشيخ في التهذيب : 6 : 2 في أول كتاب المزار ، وعنه المجلسي في البحار : 22 : 514 ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 143 وعنه في البحار : 22 : 530 .
والمشهور أنه صلى الله عليه وآله توفّي سنة إحدى عشرة من الهجرة كما قال الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد : ص 890 ، والمجلسي في البحار : 22 : 514 ح 16 عن قصص الأنبياء ( مخطوط ) ، والمفيد في الإرشاد : ج 1 ص 189 .
قال المجلسي في البحار : 22 : 530 : بيان : لعلّ قوله سنة عشرة مبني على اعتبار سنة الهجرة من أول ربيع الأول حيث وقعت الهجرة فيه ، والذين قالوا سنة إحدى عشرة ينوه على المحرم ، وهو أشهر .

( 28 )

والجدود ، كيف نهل من منهل الحين المورود ، فوا عجبا للجبال الشواهق لم تسنح بالهمود ، وللعيون كيف تنال سنة الهجود ، أما كان في هذا الحادث النكود ، والجائح الموقود سبب لاختلال نظام الوجود ، واصطلام نفس الوالد والمولود ، وعلى مثله فلتمزّق الكبود ، فضلا عن البرود ، وتجزأ نيط القلب الكمود عوضا من النواصي والجعود ، أو لا تكونون كمن طوق جيد صبره لهذه الرزية بعقود ، وطال له فيها القيام والقعود ، فرثاه بما سمحت به قريحته من الأبيات المزرية بلآلي العقود ، وهو من شيعته الباذلين فيه أقصى المجحود .