المصرع الخامس
وهو مصرع الحسين عليه السلام
عرّجوا يا ذوي الأذهان الوقّادة على مراقي الفكر ، وأدلجوا يا أولي البصائر النقادة في ليالي العبر ، وأوتروا سهام الأفكار النفادة من قسيّ النظر ، وتدرّعوا دروع الإدراكات الورّادة عند اعتكار عثير التصور ، وامتطوا قرى القرائح المدّادة في مضامير الخبر ، وهزوّا ذوابل العقل الميّادة ، واطعنوا بها صدور الورد والصدر ، وتصوّروا تكوين النوع الإنساني وإيجاده في عالم القضاء والقدر ، وتيقّنوا أن الله أوجده وإن شاء أعاده ، فلا عين ولا أثر ، وأن ليس في وجوده لله نفع ولا استفادة ، ولا يناله من عدمه نقص ولا ضرر ، ركبّ فيه القوى جسما رأى استعداده ، وأبانه في أحسن الصور ، كأنّه بما يعمّه نفعه ليرى انقياده ، بما له به أمر ، ذرأه فبرأه ، واختاره وأراده ، ثم كوّن وصوّر ، لقّنه قول « بلى » عند جواب استفهام « ألست بربّك » ؟ وكان ذلك ارفاده وبها نال الظفر .
روي أن الحكيم المطلق لما أخرج الوجود الإنساني من كتم العدم إلى فضاء الوجود وطرز قامة ذاته بخلع الإفضال والجود ، وأفاض عليه رواشح البقاء اللطيف ، وقيّد جوارحه بقيد التكاليف ، رتّب أفراده بحسب القابليّة ، كما اقتضته الحكمة الإلهية ، فأردف كل رتبة بتكليف يوازيها ، وقرن كل درجة ببليّة تساويها ، ليحصل بذلك التمييز بين الغثّ والسمين ، ويتبيّن فيما هنالك الصدق من المين ، حفّ كلّ مرتبة جليلة بمصيبة مهولة ، وحذا كل درجة نبيلة بفادحة ثقيلة ، كل ذلك امتحانا لمن أبرأ واختبارا لمن أنشأ ، ( أيحسب الإنسان أن يُترك سُدى ) (1) .
____________
(1) سورة القيامة : 75 : 36 .
( 79 )

فلما قام عمود الإمتحان ، واستوت صفوف نوع الإنسان ، وأفردت الدرجات على قدر القابليّات ، بين نبيّ رسول ، ومرسل مأمول ، وإمام عادل ، ومقتد كامل ، ومنحسر عن درجته ، وعاشق لرتبته ، أبصر الجميع مرتبة سامية ، ودرجة رفيعة عالية ، هي دون مقام الربوبيّة ، وفوق حدّ العبوديّة ، لم تنلها يد لامس ، ولا سمت إليها نفس هاجس ، قد طمحت نحوها أبصار الصدّيقين ، وانعطفت إليها قلوب المرسلين ، لقربها من الحضرة الأحديّة ، وسموّها على الرتب الإنسانية ، إلا إنّ بحيالها مصائب جمّة ، وبإزائها فوادح ملمّة ، لا طاقة لبشر على تحمّل بغضها ، ولا قوة لمخلوق على أداء فرضها ، فمن ذلك هجر المأوى وغلبة الأعداء ، وأسر العيال ، وإظماء الأطفال ، وقتل الأصحاب ، وذبح الأحباب ، وتحمّل أعباء المصائب ، والصبر على فواقر النوائب ، وسفك دماء الأولاد ، وحمل رؤوس الإخوان على الصعاد ، وهتك خدور الصون عن الحلائل ، وسماع استغاثة النساء العقائل ، وسبي محجّبات البنات ، وسلب مصونات الأخوات ، وتشهيرهنّ على عُجف البوازل وتطوافهنّ في المرابع والمنازل ، وتعريض جسد فرد واحد لمئة وعشرين ألف مجالد ، وكرع كؤوس الإصطلام ، وتحمل ألم ألف وتسع مئة وخمسين نوع من الكُلام ، ونصب النفس العزيزة غرض الحداد النصال ، وتصبير المهجة الزكية هدفا للبلايا في النزال ، وقطع الوريدين باثنى عشرة ضربة بماضي الحدّين ، وخلع قميص البقاء ، شائقا للقاء ، ملتذّا برحيق الجراح ، رائيا في ذلك غاية الأفراح .
فلما نظرت الأنبياء والصديقون ، والأولياء والمتقون ، إلى ما حفّت به تلك المنزلة الرفيعة من الأرزاء الفظيعة ، تأخّر كلّ متقدّم ، وتفسكل كلّ سابق القدم ، فإذا النداء من قبل الربّ الجليل ، والملك النبيل : « يا عبادي ، من الطالب لهذه المرتبة الجليلة ، والعاشق لهذه المنزلة النبيلة » ؟ فصمت كل ناطق ، وسلا كل عاشق ، فأتى النداء ثانية : « ألا نبيّ مرسل ؟ ألا وليّ مبجّل ، يتحمّل هذه البليّة ، ويفوز بسموّ هذه المرتبة العليّة ، فيشري نفسه ابتغاء مرضاتنا ، ويكون شفيع


( 80 )

جميع العصاة من برياتنا » ؟ فإذا الحسين عليه السلام قد قام من بين البريّات ، وتقدم للجواب دون جميع الكائنات والموجودات .

وإذا بالحسين نجـل علــي * نور انسان مقلة الطهر طاها
قائلا ما لهـا سواي كفيــل * هذه ذمّـة عَلَـيّ وفاهــا

فلما قبل الحسين عليه السلام ذلك العهد الملزم ، وألزم نفسه ذلك القضاء المبرم ، توّج يافوخ آدم بتاج الإيجاد الثاني ، وزيّنت قامته بخلعة البقاء الروحاني ، فهنالك نادى الشيطان في أعوانه ، وصرخ في أتباعه وأقرانه ، وقال : « إن الحسين قد تقبّل عهدا إن وفا به كان حريّا أن يشفع في جميع نوع الإنسان ، ويدخل جميع العصاة الجنان » . وما زال منتظرا لليوم الموعود والأجل المحدود ، ولله در من قال :

محيط البلايا مستدير علـى المجـد * فلا مجد إلا للصبـور على الجهد
ولولا وقوع المجد في مركـز البلا * لداس ذراه أخمـص الحـرّ والعبد
وما امتازت الأشراف في طبقاتهـا * من الفضل إلا بالتفـاوت في الجدّ
اذا اشتدّت البلوى تضاعف أجـرها * ومـن ثمّ فاقت كربلاء على أحـد
وإن لفّ برد الفضل بدرا وكربـلا * جميعـا ثوت بـدر بحاشية البُـرد
لأصحاب بـدر من وراء ظهورهم * ظهيـر يغطّـي ساحة الجزر بالمدّ
ومزن مواعيــد الإلـه بنصـره * عليهـم هطـول ودقها مخمد الوقد
إذا أرعدت في الروع منهـم كتيبة * تألّق برق النصـر في ذلك الرعد
وليسوا كأنصار الحسيـن بكربـلا * فإنهـم فـي كــلّ ذلك بالضـدّ

روي في كتاب الخرائج والجرائح بإسناده عن المقداد بن الأسود الكندي قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : « إن للحسين معرفة مكتومة في باطن المؤمنين ، سل أمّه عنها » .
فأتيت بيت فاطمة عليها السلام ووقفت بالباب ، فأتت حمامة وقالت : يا أخا كندة .


( 81 )

قلت : من أعلمك أني بالباب ؟
فقالت : أخبرتني سيدتي ومولاتي أن بالباب رجلا من كندة من أطيبها خيارا جاء يسألني عن موضع قرة عيني .
فكبر ذلك عندي ، فوليتها ظهري كما كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في بيت أم سلمة ، فقلت لها : ما منزلة الحسين ؟
قالت : « لما ولدت بالحسن عليه السلام أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا ألبس ثوبا أجد فيه اللذة حتى أفطمه ، فأتاني أبي زائرا فنظر إلى الحسن عليه السلام فرآه يمصّ النوى ، فقال : فطمتيه ؟ قلت : نعم . قال : إذا أحبّ على الاشتمال فلا تمنعيه ، فإني أرى في مقدم وجهك نورا وضوءا ، وذلك إنك ستلدين غلاما يكون حجة لهذا الخلق .
فلما تم شهر من حملي وجدت في بدني سخنة ، فقلت لأبي ذلك ، فدعا بكوز ماء فتفل فيه وتكلم عليه وقال : اشربي منه ، فشربت ، فطرد الله عني ما كنت أجد ، وصرت في الأربعين من الأيام ، فوجدت دبيبا في بطني كدبيب النمل فيما بين الجلدة والثوب ، فلم أزل على ذلك حتى تم الشهر الثاني ، فوجدت الاضطراب والحركة ، فو الله لقد تحرك وأنا بعيدة من المطعم والمشرب ، فعصمني الله حتى كأنّي شربت لبنا ، حتى تمت الثلاثة الأشهر وأنا أجد الزيادة والخير في منزلي .
فلما صرت في الأربعة آنس الله به وحشتي ، ولزمت المسجد لا أخرج منه إلا لحاجة تخرجني ، وكنت في الزيادة والخفّة في الظاهر والباطن حتى تمت الخمسة ، فلما صارت الخمسة (1) كنت لا أحتاج في الليلة الظلماء إلى المصباح ، وجعلت أسمع إذا خلوت في مصلاي التسبيح والتقديس في باطني .
فلما مضى فوق ذلك تسع ازددت قوة ، فذكرت ذلك لأم سلمة ، فشدّ الله بها عضدي ، فلما زالت العشرة غلبتني عيني فأتاني آت فمسح جناحه على ظهري ، فقمت وأسبغت الوضوء وصلّيت ركعتين ، ثم غلبتني عيني فأتاني آت في منامي وعليه ثياب بيض ، فجلس عند رأسي ونفخ في وجهي وفي قفاي ، فقمت وأنا

____________
(1) في المصدر : « فلما أن دخلت الستة » .
( 82 )

خائفة ، فأسبغت الوضوء وأدّيت أربعا ، ثم غلبتني عيني فأتاني آت في منامي فأقعدني ورقّاني وعوّدني ، فأصبحت ـ وكان يوم أم سلمة ـ فدخلت في ثوب حمامة ، فنظر النبي صلى الله عليه وآله في وجهي ورايت أثر السرور في وجهه ، فذهب عني ما كنت أجد وحكيت له ذلك ، فقال :
ابشري ، أما الأول فخليلي عزرائيل الموكل بأرحام النساء ، وأما الثاني فميكائيل الموكّل بأرحام أهل بيتي ، فنفخ فيك .
قلت : نعم . فبكى ثم ضمّني إلى صدره وقال : أما الثالث فذاك حبيبي جبرئيل يخدمه الله ولدك (1) .
فرجعت فنزلـ[ته] تمام الستة
» . ليلة الثلثاء لخمس مضين من شعبان ، وقيل : لسبع بقين من رمضان ، سنة أربع من الهجرة (2) .
وروي عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال : « لما حملت فاطمة بالحسين عليه السلام جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : إنّ فاطمة ستلد غلاما تقتله أمّتك من بعدك . فلذلك كرهته فاطمة حال حمله وحال وضعه » .
ثم قال أبو عبدالله عليه السلام : « هل رأيتم أمّا تلد غلاما فتكرهه ، ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل ، وفيه نزلت هذه الآية : ( ووصّينا الإنسان بوالديه حُسنا حَمَلته أُمّه كُرها ووضعته كُرها وحملُه وفصاله ثلاثون شهرا ) (3) . (4)
____________
(1) في المصدر : « يقيمه الله بولدك » .
(2) رواه الراوندي في الخرائج والجرائح : 2 : 842 ح 60 في نوادر المعجزات ، مع اختلاف في بعض الألفاظ وإضافات في أوله ، وليس فيه في آخر الحديث : « ليلة الثلاثاء » إلى آخره .
ورواه عنه المجلسي في البحار : 43 : 271 ح 39 ، والبحراني في العوالم : 17 : 10 ح 1 .
أقول : كون ولادته عليه السلام ليلة الثلاثاء لخمس مضين من شعبان موافق لعدة من الروايات ، لكنّ الأشهر أنّ ولادته يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة .
(3) سورة الأحقاف : 46 : 15 .
(4) ورواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره : 2 : 297 ذيل الآية الشريفة مع اختلاف في =



( 83 )

وعنه أنه قال : « إنّ جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله والحسين يلعب بين يديه ، فأخبره أنّ أمّته ستقتله » . قال : « فجزع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال جبرئيل : يا محمد ، ألا أريك التربة التي يقتل فيها » ؟
قال : « فخسف ما بين مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وبين المكان الذي قتل فيه الحسين عليه السلام حتى التقت القطعتان وأخذ منها قبضة وقال : بورك فيك من تربة ، وطوبى لمن يقتل حولك » (1) .
وعن الصادق عليه السلام قال : « كان الحسين مع أمه تحمله ، فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وقال : لعن الله قاتلك ، لعن الله سالبك ، وأهلك الله المتآزرين عليك ، وحكم الله بيني
____________
=
بعض الألفاظ ، وعنه المجلسي في البحار : 43 : 246 ح 21 .
ورواه الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ص 179 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 57 في معجزاته عليه السلام ، وعنه البحراني في العوالم : 17 : 21 ح 14 .
(1) رواه ابن قولويه في كامل الزيارات : ص 128 باب 17 ح 1 ، وفي ص 130 ح 5 .
ورواه الشيخ الطوسي في المجلس 11 من أماليه : ح 85 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
وانظر ترتيب الأمالي للمحمودي : ج 5 ص 162 ح 2385 .
وفي الباب حديث عائشة ، ورواه أحمد في مسنده : 6 : 294 ، والطبراني في المعجم الكبير : 3 : 107 برقم 2815 ، الطوسي في المجلس 11 من أماليه : ح 89 ، والمرشد بالله الشجري في الأمالي الخميسية : 1 : 177 ح 8 ، والخوارزمي في المقتل : 1 : 159 في الفصل 8 ، والقاضي النعمان في شرح الأخبار : 3 : 135 رقم 1074 ، وابن سعد في الطبقات : ص 45 من القسم غير المطبوع برقم 270 في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق : ص 260 ـ 262 برقم 229 .
وحديث أنس بن مالك ، رواه الشيخ الطوسي في أماليه : المجلس 11 الحديث 86 و 105 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 62 .
وانظر ترتيب الأمالي : 5 : 164 وبهامشه مصادر كثيرة .
وحديث زينب بنت جحش ، رواه الطبراني في المعجم الكبير : 24 : 54 ح 141 وفي ص 57 ح 147 وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد : 9 : 188 وابن حجر في المطالب العالية : 1 : 9 كتاب الطهارة : ح 13 ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق : ص 263 ح 231 .

( 84 )

وبين من أعان عليك .
قالت فاطمة الزهراء : يا أبت ، أيّ شيء تقول ؟
قال : يا بنتاه ، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي ، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل (1) ، وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم .
قالت : يا أبت ، وأين هذا الموضع الذي تصف ؟
قال : في موضع يقال له « كربلا » وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة ، يخرج عليهم شرار أمتي لو أنّ أحدهم شفّع له من في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه وهم المخلّدون في النار .
قالت : يا أبت ، فيقتل ؟
قال : نعم يا بنتاه ، وما قتل قتلته أحد كان قبله ، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة والنباتات والبحار والجبال ، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفّس ، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم ، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم ، أولئك المصابيح في ظلمات الجور وهم الشفعاء ، وهم واردون حوضي غدا ، أعرفهم إذا وردوا عليّ بسيماهم ، وكلّ أهل دين يطلبون أئمتهم وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا ، وهم قوّام الأرض ، وبهم تنزل الغيث .
فبكت فاطمة وقالت : يا أبت ، إنا لله وإنا إليه راجعون
» (2) .
____________
(1) « يتهادون إلى القتل » إما من الهدية كأنه يهدي بعضهم بعضا إلى القتل ، أو من قولهم : هداه أي تقدمه أي يتسابقون ، وعلى التقديرين كناية عن فرحهم وسرورهم بذلك .
(2) ورواه فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره : ص 171 برقم 219 ذيل الآية 111 من سورة التوبة ، وفي آخره : « فقال لها : يا بنتاه ، إن أهل الجنان ، هم الشهداء في الدنيا ، بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا ، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها ، [ وما فيها ] قتلة أهون من ميتته ، من كتب عليه القتل =



( 85 )

فوا لهفتاه على أقمار الهداية ، كيف كسفت بأرض الطفوف ، وواحزناه لأنوار شموس الدراية كيف حجبتها غيوم السيوف ، ووا كرباه لنفس الرسول كيف أسالتها أولاد النغول على حدود النصول ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .

لك الخير لا تذهب بحلمك دمنـة * محاها البلى واستوطنتهـا الأوابد
فمــا هي إن خاطبتهـا بمجيبة * وإن جاوبت لم تشف ما أنت واجد
ولكن هلمّ الخطب في رزء سيـد * قضى ظمأ والمـاء جـار وراكد
كأني به فـي ثلّـة مـن رجالـه * كمـا حفّ بالليث الأسـود اللوابد
يخوض بهم بحر الوغـى وكأنـه * لواردهـم عـذب المجاجـة بارد
إذا اعتقلوا سُمر الرمـاح وجرّدوا * سيوفا أعارتها البطـون الأساود
فليس لها إلا الصــدور مراكـز * وليس لهــا إلا الرؤوس مغامد

____________
=
خرج إلى مضجعه ، ومن لم يقتل فسوف يموت .
يا فاطمة بنت محمد ، أما تحبين أن تأمرين غدا [ بأمر ] فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب ؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش ؟ أما ترضين [ أن يكون ] أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه ؟ أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار ، يأمر النار فتطيعه ، يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء ؟ أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به وينظرون إلى بعلك [ و ] قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك إذا أفلحت حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه ؟ أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كل شيء ؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت [ الله الحرام ] واعتمر ولم يخلو من الرحمة طرفة عين ، وإذا مات مات شهيدا ، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعوا له ما بقي ، ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟
قالت : يا أبه ، سلمت ورضيت وتوكلت على الله . فمسح على قلبها ومسح [ على ] عينيها ، فقال : إني وبعلك وأنت وابناك في مكان تقر عيناك ويفرح قلبك .
ورواه عنه المجلسي في البحار : 44 : 264 ح 22 .
ورواه ابن قولويه في كامل الزيارات : ص 144 باب 22 ح 2 .

( 86 )

يلاقـون شدّاة الكمــاة بأنفس * إذا غضبت هانت عليها الشدائد

إخواني ، ما عذر أولى الايمان عن أسالة المدامع ، وما حجة ذووا الأذهان في التغافل والتهاجع ، بعد ما قرعت الآذان هذه الداهية الدهياء ، والمصيبة الدهماء ، التي جرت على آل بيت الرسالة ، وضعضعت أركان العلم والدلالة ، وأخلت مرابع أهل الفخر والجلالة من سكانها أرباب البسالة ، ونكّست أعلام العرفان والمقالة ، ووطئت صماخ العلم والنبالة بأخمص الظلم والجهالة ، وتركت رؤوس سادات الرسالة على عوالي الخرصان مُشالة ، ونفوس أصحاب الصدارة والأيالة على صفحات البواتر مسالة ، فهم بين ذبيح لا ينعى ، وجريح لا يداوى ، وأسير لا يفدى ، وثاكل لا يعزّى ، ومصونة مهتوكة الحجاب ، وعقيلة مسلوبة الثياب ، ومفجوعة بفقد الواحد ، وملطومة بكفّ الجاحد ، واسير في قيد الأذلال ، وعزيز مرغم في الأغلال ، وطفل فطمته ماضيات السهام ، وشابّ ألبسته بُرد النجيع أيدي الكُلام ، لا خاخر يخفرها ، ولا وال يسرّها ، قد أزعجت بطيّ المراحل في الفلوات ، وزجر الزواجر وسوق الحداة ، غير محجوبة النواظر عن الرامق والناظر ، قد اتّخذت النياح فنّا وشغلا ، وتبدّلت بالأعداء خدناً وأهلا ، فليت لفاطمة عينا ناظرة لها في سباها ، وليت لها أذنا تسمع محرقات نعاها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
روي في كتاب الأرشاد أنه كتب يزيد إلى الوليد بن عُتبة ـ وكان على المدينة واليا من قِبَل يزيد ـ : أن خذ الحسين بالبيعة لنا ، ولا ترخّص له في التأخر في ذلك .
فأنفذ الوليد إلى الحسين عليه السلام في الليل واستدعاه ، فعرف الحسين عليه السلام الذي أراد ، فدعا جماعة من موالي بني هاشم وأمرهم أن يتجلّلوا بالسلاح وقال لهم : « إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ، ولست آمنه أنه يكلفني أمرا فيه لا أجيبه


( 87 )

إليه (1) ، وهو غير مأمون ، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فكونوا أنتم بالباب ، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا لتمنعوه مني » .
فصار الحسين عليه السلام إلى الوليد ، فوجد عنده مروان بن الحكم ، فنعا إليه الوليد معاوية ، فاسترجع الحسين عليه السلام ، ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة عليه له .
فقال له الحسين عليه السلام : « إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرا حتى أبايعه جهرا فيعرف ذلك الناس » ؟
فقال له الوليد : أجل .
فقال الحسين عليه السلام : « فتصبح وترى رأيك في ذلك » .
فقال له الوليد : انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس .
فقال له مروان ـ لعنه الله ـ : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع ، فلا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتل بينكم وبينه ، فاحبسه فلا يخرج من عندك حتى يبايع ، فإن أبى فاضرب عنقه .
فوثب عند ذلك الحسين عليه السلام وقال : « ءأنت يا ابن الزرقاء تضرب عنقي ، أو هو ؟ لعنت وأثمت » . وخرج يتمشى مع مواليه حتى أتى منزله .
فقال مروان للوليد : عصيتني ، لا والله لا يمكنك بمثلها من نفسه .
فقال الوليد : ويحك يا مروان ، اخترت لي التي فيها هلاكي دينا ودنيا ، والله ما أحبّ أن تكون لي حمر النعم وأنّي قتلت حسينا ! سبحان الله أقتل حسينا بأن قال : لا أبايع يزيد ! والله إني لا أعلم رجلا يحاسب بدم الحسين إلا وهو خفيف الميزان عند الله يوم القيامة .
فقال له مروان : رأيك أصوب (2) .
____________
(1) في المصدر : « ولست آمن ، أيكلفني فيه أمرا لا أجيبه إليه » .
(2) إلى هنا رواه المفيد في الإرشاد : 2 : 32 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه المجلسي في =



( 88 )

قال : وخرج الحسين عليه السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلى قبر جده صلى الله عليه وآله فقال : « السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلّفتني في أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتى ألقاك » .
قال : ثم قام إلى نصف الليل راكعا وساجدا (1) .
قال : وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه السلام لينظر هل خرج من المدينة أم لا ، فلم يصبه في منزله ، فقال : الحمد لله الذي أخرجه ولم يبتليني بدمه .
قال : ورجع الحسين عليه السلام إلى منزله عند الصباح .
فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر ايضا وصلى ركعات ، فلما فرغ من صلاته جعل يقول : « اللهم هذا قبر نبيك وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهم إني أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومَن فيه إلا اخترت لي [ من أمري ] (2) ما هو لك رضا ولرسولك رضا » .
قال : ثم جعلى يبكى عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر ، فغفا (3) ، فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وآله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه [ ومن خلفه ] (4) حتى ضمّ الحسين عليه السلام إلى صدره وقبّل ما
____________
=
البحار : 44 : 324 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 338 ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 220 في الفصل الرابع .
ورواه ملخصا السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 96 .
وانظر مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ص 181 الفصل التاسع .
(1) في البحار والمقتل للخوارزمي : « ثم قام فصفّ قدميه ، فلم يزل راكعا ساجدا » .
(2) من مقتل الحسين عليه السلام .
(3) في البحار والمقتل : « فأغفى » .
(4) من المقتل .

( 89 )

بين عينيه وقال : « حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مرملا بدماك ، مذبوحا بأرض كربلاء من عصابة [ من أمتي وهم مع ذلك ] (1) يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، [ وما لهم عند الله من خلاق ] (2) ، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى .
حبيبي يا حسين ، إن أباك وأمك وأخاك قد قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإن لك في الجنان لدرجات لا تنالها إلا بالشهادة
» .
قال : فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلى جده ويقول : « يا جداه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك » .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : « لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثواب والسعادة ، فإنك وأباك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلون الجنة » .
قال : فانتبه الحسين عليه السلام من نومه فزعا مرعوبا ، وقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غمّا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولا أكثر باك ولا باكية منهم .
قال : وتهيأ الحسين عليه السلام إلى الخروج من المدينة ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودّعها ، ومضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام ففعل كذلك ، ثم رجع إلى منزله وقت الصبح (3) .
ولله در من قال :

أقـول لخلّي في البكا أمُساعد * بإهراق دمع العين ضربة لازم

____________
(1) من البحار والمقتل .
(2) من المقتل .
(3) ورواه المجلسي في البحار : 44 : 327 نقلا عن كتاب محمد بن أبي طالب الموسوي .
وروه الخوارزمي في المقتل : ص 186 و 187 في الفصل التاسع مع اختلاف .

( 90 )

أعنّي على فرط الصبابة والجوى * فقد هاجنــي ناع نعى آل هاشم
وذكرني يوم الطفوف وما جـرى * لهـم فيه من أم الدواهـي العظائم
عشية ألقى سبــط أحمد رحلـه * بساحــة أشقى عُربها والأعاجم
وقد طالبوه بالنــزول إليهــم * على حُكم رجس قد غدا شر حاكم
أبى الله والمجد الأثيــل لسـادة * تطيع لغــاو في الأنـام وغاشم
ولكنهـا غـر تمطت إلـى الردى * سلاهب غـرّ من عتـاق صلادم
وقــادوا لها تردى لكـلّ مدجّج * سوابح أمثـال الضّبا في الشكائم
إذا وجفت في قلب جيش عرمرم * تزف إليــه طـار مثل النعائم
عليها كمــاة كالليوث بسالــة * قصــارى ملاقيها بعيد الهزائم

وروي أن الحسين عليه السلام توجه إلى مكة ، فلما دخل مكة كان دخوله إياها يوم الجمعة لثلاث بقين (1) من شعبان ، ودخلها وهو يقرأ : ( ولما توجه تِلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) (2) ، فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة ، وأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة وهو قائم يصلي بها (3) ويطوف .
فسمع أهل الكوفة بوصول الحسين إلى مكة وامتناعه من البيعة ليزيد لعنه الله ، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فلما تكاملوا قام فيهم خطيبا وقال في آخر خطبته : يا معاشر الشيعة ، قد علمتم أن معاوية قد هلك وقد صار إلى ربه وقدم على عمله ، وقد قعد في موضعه ابنه يزيد لعنه الله ، وهذا الحسين بن علي عليهما السلام قد خالفه وصار إلى مكة هاربا من طواغيت آل أبي سفيان ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله ، وقد احتاج إلى نصرتكم ، فإن كنتم ناصريه
____________
(1) في الإرشاد : « ليلة الجمعة لثلاث مضين » ، وفي الملهوف أيضا : « لثلاث مضين » .
(2) في الإرشاد : « ليلة الجمعة لثلاث مضين » ، وفي الملهوف أيضا : « لثلاث مضين » .
(3) في الإرشاد : « يصلي عندها » .

( 91 )

ومجاهدي عدوّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه .
قال : فكتبوا إليه خمسين صحيفة عن جملة من أشراف القبائل مثل سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وعبدالله بن وال ونحوهم ، ثم سرّحوا بها ومكثوا يومين وأنفذوا إليه مع جملة من أشرافهم نحو من مئة وخمسين كتاب من الرجل والإثنين حتى ورد عليه في يوم واحد ست مئة كتاب (1) .
وروي أنه اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب ، وهو عليه السلام لا يردّ عليهم جوابا ، لعلمه بغدرهم وقلة وفائهم (2) .
ثم قدم عليه من بعد ذلك هانئ بن هانئ السبعي وسعيد بن عبدالله الجهني (3) عطارد التميمي .
قال : فعندها كتب الحسين عليه السلام إليهم الجواب ، وذكر حديثا طويلا يشتمل على مكاتبة الحسين وإرسال مسلم وما فعلت به أهل الكوفة (4) .
فليت شعري أي ذنب فعله المصطفى ، وأية جر[يـ]مة اجترمها المرتضى حتى تفعل بنسلهما أمتهما هذا الفعل الشنيع ، وتضيّع وصيّتهما في أولادهما هذا التضييع ؟
____________
(1) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 35 مع اختلافات لفظية ، وعنه في البحار : 44 : 332 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 351 ـ 353 مع اختلافات لفظية وتقديم وتأخير في بعض الجملات ، والخوارزمي في المقتل : 193 و 194 في الفصل العاشر ، وابن طاووس في الملهوف : ص 101 ـ 103 ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 221 .
(2) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف: ص 105 ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 334 ، والبحراني في العوالم : 17 : 183 .
(3) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « وعمر بن محمد بن عطارد » .
(4) رواه المفيد في الإرشاد : ج 2 ص 38 مع اختلافات لفظية ، وعنه المجلسي في البحار : ج 44 ص 334 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 ص 353 مع اختلافات لفظية ، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام : ص 195 في الفصل العاشر ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 221 .

( 92 )

هذا عوض الإرشاد والهداية ، ومكافئة إحسانهم من البداية إلى النهاية ؟!
فيا ويحهم بما يجيبون به سؤال الرسول ، وبما يعتذرون لفاطمة البتول ، يوم تشهد موقف الحساب وتنادي : « يا ربّ الأرباب ، احكم بيني وبين من قتل أولادي الأطياب » . فأنّى لمخالفيها والجواب ؟ فعلى مثل غريب الوطن ، والمكروب الممتحن ، فلتسكب سحائب الأجفان شؤونها ، وتسيل فيه عيونها ، أو لا تكونون أيها الموالون ، والشيعة المقرّبون ، كمن لبس ثياب الضنى ، وتدرّع بدروع التعب والعنا ، وأهاج قرير قراره ، وحرّك ساكن اصطباره ، فأنشد وقال ، وهو من الأبدال .