المصرع السابع
من مصارع ابي عبدالله الحسين عليه السلام
طنّبوا أبنية الأحزان في فلوات القلوب ، وأقيموا أعمدة الأشجان بين الجوانح والجنوب ، وجافوا الأبدان عن نواعم مراقد الإطمئنان ، فقد دها الإسلام خطب خطير ، وحلّ ببيت سيد الأنام رزء لايوجد له نظير ، خطب ألبس أرباب الفضل والشرف ثياب الوجد والأسف ، وطوّق أجياد الفخار أطواق الذلّ والصغار ، وأقرّ سوامي الكمال والرتب حضيض الوبال والتعب ، وأردى كماة مضامير العرفان بسيوف البغي والعدوان ، وأسمى رؤوس رؤساء الملل سوامي ذبّل الأسل ، وقطّر زواكي أجسام المناصب والمذاهب على تلعات الوهاد والسباسب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولله در من قال من الأبدال :

وركب سروا والليل جمّ خطوبــه * وما اليوم بالمأمــون ان سائر سارا
حدثت بهم نحو العلى محض عزمـة * تفيـد الضيا نورا وتقري الحصا نارا
حجازية لا الثابت الأصـل ثابتــا * لديهـا ولا السيــار ان تعـد سيارا
يريد بهــا المجـد الموئـل أبلـج * قليـل عراه الجفــن أبيض مغوارا
معيد وغى تنشـى به البيـض والقنا * من الضــرب أنهارا وللطعن آبارا
له سبق العليـاء في كــل غــارة * وإن بعد الشاءُون في السبق مضمارا
كأني بــه والحرب تذكي ضرامها * وأبنـاؤهـا بالحتف طائرهم طــارا
تحفّ به الأعداء من كــلّ وجهـة * فمـا قلّ عن حزم وقد قل أنصــارا
يلاقي المنايـا كالحــات وجوههـا * طليــق المحيّـا باسم الثغر مسعارا
على مقبــل لم تلفه الحرب مدبـرا * فمـا انفكّ كـرارا وما فكّ كــرارا
كأنّ من الحرب العــوان لعـينــه * مخضّبـة الأطـراف هيفاء منظارا

روي في كتاب تذكرة الأئمة أنه لما بلغ عبيدالله بن زياد وصول الحسين عليه السلام


( 103 )

لكربلاء ، وحلوله بمركز الكرب والبلاء ، نفذ الجيوش لقتاله ، وسرح العساكر لنزاله ، وكان جملة العساكر التي جاءت لحربه ، وعرضت مهجها لشديد كرّه وضربه ، مئة وأربعة وعشرين ألفا ، وقيل أقلّ وقيل أكثر ، وأصح ما وجدناه منها ما ذكرناه ، وكانوا ثمانين ألف فارس وأربعة وأربعين ألف راجل ، فأول ذلك اثنان وعشرون ألفا من أهل الكوفة ، والمؤمّر عليهم الشمر بن ذي الجوشن الضبابي وقثم بن كلاب العمري وشبث بن ربعي ويزيد بن ركاب ومحمد بن الأشعث وأبوالأشرس والضحاك بن قيس وسعد بن عبدالله وراهب بن قيس وحبيب بن جماز صاحب راية الضلال وقيس بن فاكه ونوفل بن فهر وأسد بن مغيرة وسعد بن أرطأة ، ومعهم من أهل الحرف مثل خبّاز ونجّار وحدّاد وطبّاخ ورؤساء المحال ، وجملتهم ثمانية آلاف ، وهم شاكرية وكندة وخزيمة وأهل مسجد بني زهرة وسوق الليل وسوق الساعات وسوق البراثين ، وثلاثة وثلاثون ألفا من أهل البوادي وقبائل الكوفة مثل عبادة وربيعة وسكون وحمير وكندة ودارم ومطعون وجشعم ومدحج ويربوع وخزاعة وكلب ، ومن المدائن والبصرة سبعة آلاف نفر والعميد عليهم زيد بن اللحم وسعد بن جريح وقمير بن قيس وعلوان بن وردان ووردان بن ثابت وبشير بن سعدان وحماد بن عثمان وعثمان بن فهد ، ومن أهل الشام ثلاثون ألفا وعميدهم ربيعة بن سوادة وسواد بن نحرس وقيس بن زعّال وصخر بن طعيم ، ومن الخوارج اثنا عشر ألفا وعميدهم غسّان بن ثابت وحمل بن نافع وحكم بن عقبة الزهري وزياد بن حرقوس البجلي ، وألفان من الموصل وتكريت والأنبار ، وعشرة آلاف من الأكراد ، والأمير على كل العسكر عمر بن سعد ، وابنه حفص وزيره ، وأبو الحتوف ناظر العسكر ، وعميد عيون الجيش أبو الأشرس السلمي ، وجونة بن جونة كان جاسوسا ، والمؤمر على الحرّاثين أبو أيوب الغنوي ، ونقيب الجيش الشمر لعنه الله وتحت يديه أربعة آلاف نفر ، وتفصيل مراتب من ذكرناهم غير الشمر وعمر بن سعد وابنه كما سيأتي .


( 104 )

وذلك أن يزيد بن ركاب عميد ألفي راجل ، وشبث بن ربعي عميد أربعة آلاف ، وقثم رئيس ألفي راجل ، ووردان غلام ابن سعد أمير جميع الرجالة ، وإسحاق بن الأشعث ضابط الغنائم ، وعروة بن قيس الأحمسي أمير ألفي راجل ، وقرة بن قيس عميد ألفي راجل ، وابن أبي جويرية المزني أمير ألفي فارس ، وحكيم بن الطفيل عميد أربعة آلاف فارس ، وعامر بن الطفيل عميد ألفي راجل ، وحمدان بن مالك عميد ألفي فارس ، وسنان كتاب العسكر ، وأبوالحتوف مشرّف الحرب ، وزياد بن قادر وشبلي بن يزيد مؤذن العسكر ، وخُوّلي بن يزيد الأصبحي صاحب الراية العظمى ، وحرملة بن كاهل حامل راية الرجّالة ، ومنقذ بن مرة العبدي وزيد بن ورقاء سعاة العسكر ، وحجار بن الأحجار ؟ ورافع بن مالك ـ وقيل : الأعور السلمي ـ عميدان على العسكر الذي على الفرات ، وابن حوشب أمير النبّالة ، وعمر بن صبيح الصيداوي عميد الحجارة ، ومحمد بن الأشعث أميرالأمراء ، وأخوه قيس عميد ألفي فارس ، ألا لعنة الله على الظالمين (1) .
ولله در من قال :

وتبدت شوارع الخيـل والسّمر * وفرسانهــا يـرفّ لـواهــا
تتداعا ثــارات بدر ولمــا * يكفها كبــد حمـزة وكلاهــا
فدعا صحبه ، هلمّــوا فقـد * اسمـع داعي المنون نفسي رداها
كنت عرضتكم لمحبوب أمـر * أن تـروا فيــه غبطة وارتفاها
فإذا الأمر عكس ما قد رجونـا * محنة فاجئت [ ظ ] وأخرى ولاها
فأجاب الجميع عن صدق نفس * أجمعت أمرهــا وحازت هداها
لا ومعنـىً به تقدست ذاتــا * وجلال بـه تعاليــت جاهــا

____________
(1) تذكرة الأئمة لمحمد باقر اللاهيجي : ص 87 مع مغايرات كثيرة .
والكتاب باللغة الفارسية .

( 105 )

لانخلّيك أو نخلّي الأعـادي * تتخلى رؤوسهـا عن طلاها
أو تنال السيوف منا غذاهـا * وتروّي الرمـاح منا ظماها

وروي أن عمر بن سعد لعنه الله لما خيّم بتلك الجنود الكثيرة ، وحطّ على مرابع الطف بهاتيك الجموع الغفيرة ، وكان ذلك لست ليال خلون من المحرم ، فلما نزل بعث إلى الحسين عليه السلام رسولا يقال له كثير بن عبدالله الشعبي ، وكان فارسا لا يرد وجهه شيء ، فقال : إذهب إلى الحسين واسأله ما الذي جاء به ؟
فقال كثير : والله إن شئت لأفتكنّ به !
فقال عمر : ما أريد أن تفتك به ، ولكن سله عن ذلك .
فأقبل كثير إلى الحسين عليه السلام ، فلما رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين عليه السلام : قد جاءك يا ابا عبدالله شرّ أهل الأرض وأجرأهم على إهراق الدماء .
فقام إليه فقال له : ضع سيفك . قال : لا ولا كرامة ، إنما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلغتكم إياه ، وإن أبيتم انصرفت عنكم .
فقال له أبو ثمامة : إني آخذ بقائم سيفك ثم تكلم .
قال : لا والله ولا تمسّه .
قال : إذا أخبرني بما جئت به وأنا أبلّغه عنك ولا أدعك تدنو منه أبدا ، فإنك فاجر فاسق .
فانصرف إلى ابن سعد وأخبره بذلك ، فدعا عمر بن سعد قرّة بن قيس الحنظلي فقال له : ويحك ، الق حسينا وقل له : ما جاء بك ، وما يريد ؟
فأتاه قرة ، فلما رآه الحسين عليه السلام قال : « أتعرفون هذا المقبل » ؟
فقال له حبيب بن مظاهر : هذا رجل من بني حنظلة تميم ، وهو ابن اختنا ، وقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد !
فجاء فسلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين : « كتب إليّ أهل هذا المصر أن اقدم علينا ، فأما إذا كرهتموني فأنا منصرف عنكم » .
فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرّة ، أين تذهب إلى القوم الكافرين ، انصر


( 106 )

هذا الرجل الذي أيدك الله بآبائه .
فقال له قرّة : أرجع إلى صاحبي جواب رسالته وأرى رأيي .
فانصرف إلى ابن سعد وأخبره ، فقال عمر بن سعد لعنه الله : أسأل الله أن يعافيني من حربه .
قال : وكتب إلى عبيدالله بن زياد : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي فسألته عن ما أقدمه وما ذا يريد ، فقال : « كتب إليّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم يسألوني القدوم ففعلت ، فأما إذا كرهتموني وبدا لهم غير الذي أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم » .
فلما ورد الكتاب إلى عبيدالله بن زياد قال :

الآن قد علقت به مخالبنــا * يرجو النجاة ولات حين مناص

وكتب إلى عمر بن سعد : أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا فيه ، والسلام (1) .
وروي أن الحسين عليه السلام لما رأى حرص القوم على تعجيل قتاله ، وقلة انتفاعهم بمواعظ مقاله ، قال لأخيه العباس : « إن استطعت أن تصرف عنا القوم هذا اليوم فافعل ، لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة ، فإنه يعلم أني أحب الصلاة له والتلاوة لكتابه » .
قال : فسألهم العباس ذلك ، فتوقّف عمر بن سعد لعنه الله ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمد ! فأجابوهم إلى ذلك .
قال : وجلس الحسين عليه السلام في خباه ، فرقد ثم استيقظ وقال لزينب : « يا أختاه ، إني رأيت الساعة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي عليا وأمي فاطمة وأخي
____________
(1) رواه الطبري في تاريخه : ج 5 ص 410 .
( 107 )

الحسن عليهم السلام وهم يقولون : يا حسين ، إنك رائح إلينا عن قريب » .
فلطمت زينب على رأسها وصاحت ، فقال لها الحسين عليه السلام : « مهلا ، لا يشمت القوم بنا فيقولون جبن أبو عبدالله عن القتال » .
فلما جاء الليل جمع أصحابه ـ وكانوا نيفا وسبعين رجلا ـ فحمد الله وأثنى عليه وقال : « إني لا أعلم أصحابا أصلح منكم ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوفى من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا ، فهذا الليل قد غشيكم ، فاتخذوه سترا جميلا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم فإنهم لا يريدون غيري » .
فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبدالله بن جعفر : « لم نفعل ذلك لنبقي بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا » ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي وتبعته الجماعة .
قال : ثم نظر الحسين إلى بني عقيل وقال : « حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم » .
قال : فأجابوه وقالوا : « يا ابن رسول الله ، ما يقول الناس لنا وما نقول لهم إذا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبينا لم نرم معه بسهم ولم نطعن معه برمح ولم نضرب معه بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لا نفارقك أبدا ، ولكنا نقيك بأنفسنا حتى تقتل بين يديك ونرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك » .
ثم قام مسلم بن عوسجة فقال : « نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك الأعداء ؟! لا والله لا يرانا هكذا أبدا حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح لقاتلـ[تـ]ـهم بالحجارة ولا أفارقك أو أموت معك » .
ثم قام سعيد بن عبدالله الحنفي وقال : « لا والله يا ابن رسول الله ، لا نخليك أبدا حتى يعلم الله أنا قد حفظنا وصية رسول الله فيك ، والله لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى ثم أحرق حيا ثم أذرى في الهواء يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقيى حمامي دونك » .


( 108 )

ثم قام زهير وقال : « والله يا ابن رسول الله ، وددت أن أقتل ثم أنشر حتى يفعل بي ذلك ألف مرة وأنّ الله يدفع بي عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوانك وولدك وأهل بيتك » .
وتكلم جماعة من أصحابه بمثل هذا الكلام ونحوه ، فجزاهم الحسين خيرا وقال لهم : « ارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم » . فرفعوا رؤوسهم وجعل يقول لهم : « هذا منزلك يا فلان ، وهذا منزلك يا فلان » ، فجعل الرجل منهم يستقبل الرماح والسيوف بنحره وصدره ليصل إلى مكانه من الجنة (1) .
ولله در من قال من الرجال الأبدال :

عشقوا الفنا للدفع لا عشقـوا * العنا للنفع لكن أمضي المقدور
وتمثّلت لهم القصور وما بهم * لولا تمثلت القصـور قصور
ما ساقهم للموت إلا دعوة الر * حمن لا ولدانهــا والحـور

فطوبى لها من نفوس سلت [ عن ] هذه الدار فسالت على واردات اليعاسب ، وطلقت القرار فعانقت حداد القواضب ، وعشقت داني الجوار فهان عليها قدّ السباسب ، ومالت إلى الفخار فامتطت ظهور السلاهب ، قادها طيب النجار بأزمّة التجارب إلى مركز البوار لتفوز بالمطالب ، أو لا تكونون يا ذوي الأبصار والشيعة الأطايب كمن تذكّر أولئك الأقمار فغدى عن البشر عازب ، وتصور ماحل بالأكرمين الأبرار من الأرزاء والنوائب ، فرثاهم ببعض الأشعار وأقام عليهم النوادب ، وصلى الله على محمد وآله الأطايب .
____________
(1) ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 417 ـ 420 مع اختلاف في بعض الألفاظ وتقديم وتأخير في الكلمات .