المصرع الثامن
من مصارع أبي عبدالله عليه السلام
تسنّموا صهوات صواهل الأحزان في مواقف المواساة ، وقوّموا واردات عواسل الأشجان في مراكز الموالاة ، وجرّدوا صوارم الدموع من أغمادها ، واتقوا بجنن الخشوع وهيج النار وضرام اتّقادها ، وعضّوا بأسنان الندم على نواجذ الحسرة ، وصبوا من الأماق العندم على فوات النصرة ، ومثّلوا أمامكم الحسين عليه السلام وقد أحاط به الكفرة اللئام مع قليل من أحبابه ، ونزر من شيعته واصحابه ، بعد أن ذادوه عن المناهل والموارد ، وضيّقوا عليه فسيح المصادر والموارد ، وأبادوا أنصاره ورجاله ، وقتلوا شبّانه وأطفاله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) (1) ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (2) .

سل كربلا كم حوت منهم هلا دجى * كأنهــا فلـك للأنجــم الزهــر
لم أنس حاميـة الإسلام منفــردا * صفـر الأنامــل من حام ومنتصر
يرى قنا الدين من بعـد استقامتهـا * مغمــوزة وعليـهـا صدع منكسر
فقام يجمع شملا غيــر مجتمـع * منها ويجبــر كســرا غير منجبر
لم أنسه وهو خوّاض عجاجتهــا * يشـق بالسيف منهــا سورة السور
كم طعنة تتلظّــى من أناملــه * كالبـرق يقدح من عود الحيا النظر
وضربة تتجلــى من بوارقــه * كالشمس طــالعـة من جانبي نهر

____________
(1) سورة إبراهيم : 14 : 42 .
(2) سورة البقرة : 2 : 156 .

( 110 )

إذا انتضى بردة التشكيل عنه تجد * لاهوت قدس تـردّى هيكل البشر

روي أنه لما كان اليوم العاشر من المحرم ـ وما أدراك ما اليوم العاشر ، يوم لا سؤدد إلا وانقضى ، وحسام للعلى إلا وفُلا ـ أمر الحسين عليه السلام بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك ، كثير وجعل عندها نورة ، وجعل يطلي وبرير بن خضير الهمداني وعبدالرحمان الأنصاري واقفان بباب الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل برير يضاحك عبدالرحمان ، فقال له عبدالرحمان : يا برير ، ما هذه بساعة ضحك ولا باطل !
فقال له برير : « لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، وإنما أفعل ذلك استبشارا لما نصير إليه ، والله ما هو إلا أن تميل القوم علينا بأسيافهم فنعانق الحور العين » . قال : فسرّه كلامه (1) .
ثم إن عمر بن سعد لعنه الله رتّب عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين ، فجعل ابنه حفصا على ميمنته ، وعمرو بن الحجاج على ميسرته ، وحميد بن مسلم على [الـ]جناح الأيمن ، والشمر على [الـ]جناح الأيسر ، ووقف هو في القلب ومعه صناديد الكوفة (2) .
ثم أمر النبالة أن تتقدم أمام القوم وأمرهم أن يرشقوا عسكر الحسين بالسهام ، فتقدم اثنا عشر ألف نبّال وأوتروا ، فأقبلت السهام كأنها قطر السماء فقال الحسين عليه السلام لأصحابه : « قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه ، فهذه السهام رسل القوم إليكم » (3) .
ثم إنه رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم أنت ثقتي في كل شدة ، ورجائي في كل
____________
(1) ورواه السيد بن طاووس في الملهوف : ص 154 مع اختلاف لفظي قليل ، وعنه في البحار 45 : 1 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 423 .
(2) انظر إرشاد المفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 .
(3) ورواه السيد ابن طاوس في الملهوف : ص 158 .

( 111 )

كرب ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، [ إلهي ] كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت به العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عن من سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت وليّ كلّ نعمة ، وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة » .
واقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام فيرون النار تتقد في الخندق في ظهر البيوت ، فنادى الشمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين ، ويا أصحاب حسين ، استعجلت بالنار قبل يوم القيامة .
فقال الحسين عليه السلام : « من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن » . ثم قال الحسين له : « يا ابن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليّا » .
ورام مسلم بن عوسجة يرميه بسهمهم فمنعه الحسين عليه السلام من ذلك ، فقال له : « دعني أرميه ، فإنه الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين وقد أمكن الله منه » .
فقال الحسين عليه السلام : « إني أكره أن أبدأهم بقتال » (1) .
ثم إنه عليه السلام صف أصحابه ورتبهم ميمنة وميسرة في مراتبهم ، فجعل ابنه علي بن الحسين في ميمنته ، وحبيب بن مظاهر في ميسرته ، وزهير في جناحه الأيمن ، ومسلم بن عوسجة في جناحه الأيسر ، ووقف هو في القلب ، وأعطى رايته أخاه العباس (2) .
ثم إنه تقدم قبالة القوم ونظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، فقال : « الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها
____________
(1) انظر الإرشاد : 2 : 96 ، وتاريخ الطبري : 5 : 423 .
(2) في الإرشاد للمفيد : 2 : 95 ، وتاريخ الطبري : 5 : 422 ، والمقتل للخوارزمي : 2 : 4 : « فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه ، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه ... » .

( 112 )

وتخيّب [ طمع ] (1) من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وأحرمكم (2) رحمته ، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعدا للقوم الظالمين » .
فقال عمر بن سعد : كلموه فإنه ابن أبيه ، فوالله إن وقف فيكم موقفا بعد موقف لما انقطع ولما حصر . فكلموه (3) .
ولله در من قال :

يقول والسيف لـولا الله يمسكـه * أبـى بأن لا يرى راس على بدن
ياجيرة الغدر إن أنكرتمـوا شرفي * فـإن واعيــة الهيجـاء تعرفني
لا تفخروا بجنــود لا عداد لهـا * إن الفخــار بغير السيف لم يكن
ومذ رقى منبر الهيجـا أسمعهــا * مواعظا من فروض الطعن والسنن
لله موعظــة الخطّـي كم وقعت * من آل سفيــان في قلب وفي أذن
كأنّ أسيافــه إذ تستهــلّ دمـا * صفائــح البرق حلت عقدة المزن
لله حملته لــو صادفـت فلكــا * لخـرّ هيكلــه الأعلى على الذقن
يفري الجسوم بعضب غير ذي ثقة * على النفــوس ورمح غير مؤتمن

فعزيز على جده النبي الأواب ، وأبيه أبي تراب داحي الباب ، وأمه زكية الجناب ، بل عزيز على السنة والكتاب ، أن تثب عرج الضباع على الأسد المنّاع ، وتتحكّم الأجلاف الأجشاع في السيد المطاع ، وتنشب أظفارها طلس الذئاب في منحر ليث الغاب ، وتظفر جرب الكلاب بالهزبر المهاب ، وتهدى رؤوس
____________
(1) من البحار .
(2) في البحار : « وجنّبكم » .
(3) ورواه المجلسي في البحار : 45 : 5 نقلا عن كتاب محمد بن أبي طالب .

( 113 )

أولاد أبي تراب على موائد الحراب لابن مرجانة وابن آكلة الذباب ، وتهتك عن مصونات الأنجاب أسجاف الصون والحجاب ، أمر ( تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا ) (1) .
روي أن الحسين عليه السلام يوم الطف نادى : « يا شبث بن ربعي ، يا حجار بن أبجر ، يا قيس بن الأشعث ، يا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ أنه قد اينعت الثمار واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة » .
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن أنزل على حكم بني عمك ، فإنهم ما يرونك إلا ما تحبّ .
فقال عليه السلام : « لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد » (2) .

ثنا عطفه عن حذر جان وقد خبا * إلى الموت دامـي الصفحتين كليم
أخو الحرب أما جلده فممــزّق * كليــم وأما عرضــه فسليــم

ثم إنه عليه السلام دعا بفرسه فركبه وتقدم إليهم فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا له حتى قال لهم : « ويلكم ، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا منّي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من الراشدين ، ومن عصاني كان من الهالكين ، وكلّكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، قد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ، ألا تسمعون » ؟
فتلاوم أصحاب ابن سعد بينهم وقال بعضهم : انصتوا له ، فأنصتوا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلى على الملائكة والأنبياء (3)وأبلغ في المقال ، ثم قال : « تبا لكم أيتها الجماعة وترحا وبؤسا ، حين استصرختمونا والهين ،
____________
(1) سورة مريم : الآية 90 .
(2) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 98 ، وعنه في البحار : 45 : 7 .
ورواه الطبري في تاريخه 5 : 425 .
(3) في الملهوف : « والرسل » .

( 114 )

فأصرخناكم موجفين (1) ، شحذتم علينا سيفا كان في أيدينا ، وحششتم (2) علينا نارا أضرمناها على عدوكم وعدونا ، فأصبحتم ألبا (3) على أوليائكم ويدا لأعدائكم ، من غير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، ولا ذنب كان منا إليكم ، فمهلا لكم الويلات إذ كرهتمونا والسيف مشيم والجأش (4) طامن والرأي لما يستصف ، ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا وتهافتمّ إليها كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها سفها وضلة ، فبعدا وسحقا لطواغيت هذه الأمة ، وبقية الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ومطفئ السنن ، ومخالفي الملل ، ومؤاخي المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، وعصاة الايمان ، وملحقي العهرة بالنسب ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ، فهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون .
أجل والله الخذل فيكم معروف ، نبتت عليه أصولكم ، وتآزرت عليه عروقكم ، فكنتم أخبث شجرة للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الظالمين الناكثين ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا .
ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلّة والذلة ، وهيهات له منا الذلة ، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحجور طهرت ، وبطون طابت ، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .
ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وكثرة العدوّ وخذلة الناصر
» .
وتمثّل صلوات الله عليه بهذه الأبيات :

فإن نهزم فهزّامون قدما * وإن نغلب فغيــر مغلّبينا
فما إن طبنا جبن ولكـن * منايانــا ودولـة آخرينا

____________
(1) المثبت من المصدر ، وفي النسخة : « مرجفين » .
(2) في الملهوف : « سللتم علينا سيفا لنا في ايمانكم وحششتم » .
(3) الألب : القوم يجتمعون على عداوة إنسان . ( المعجم الوسيط ) .
(4) الجأش : النفس أو القلب ، ويقال هو رابط الجأش ثابت عند الشدائد . ( المعجم الوسيط ) .

( 115 )

إذا ما الموت رفّع عن أنـاس * كلاكلــه أنــاخ بآخرينـا
فأفنى ذلكـم سروات قومــي * كمــا أفنـى القرون الأولينا
فلو خلد الملـوك إذا خلدنــا * ولــو بقي الكـرام إذا بقينا
فقل للشامتيـن بنــا أفيقـوا * سيلقــى الشامتون كما لقينا

ثم قال عليه السلام لهم : « وأيم الله إنكم لا تلبثون بعدها إلا ريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دوران الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إليّ جدّي ، ( فأجمعوا أمركم وشركائكم ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) (1) ، ( إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم ) (2) .
اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبّرة (3) ما منهم إلا قتله » .
ثم ضرب بيده الشريفة على لحيته وجعل يقول : « اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا ، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة ، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم .
أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي مغصوب عليّ حقّي
» (4) .
ولله در من قال :

يوم سرى فيه ابن فاطم موقظا * عزما يحك به مناط الأنجــم

____________
(1) سورة يونس : 10 : 71 .
(2) سورة يونس : 10 : 71 .
(3) الصبر : عصارة شجرّ مرّ ، واحدته صَبرة ، ج صبور . ( المعجم الوسيط ) .
(4) ورواه السيد في الملهوف : ص 155 ـ 158 مع اختلافات لفظية كثيرة .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 8 نقلا عن المناقب لابن شهر آشوب .

( 116 )

يرمى الطغاة بفيلــق من نفسـه * جـمّ العديـد طويــل باع المغنم
وكتائب ترمــي الجبـال بمثلها * بأســا وتزهـق من دويّ عرمرم
من كلّ شين اللبدتيــن كأنمــا * عرفــت يداه السيف قبل المعصم
ومضيّــق عند الحفاض ! لثامه * متطــلّــع عنه تطلــع أرقم
يغشى الوغــا متهلّــلا فكأنـه * تحت العجاجــة غــرّة في أدهم
وشمردل عبـل المرافق لو سرى * أنسـى السراة ربيعــة بن مكـدّم
حيّ من الأقران لـم يتسامــروا * إلا بذكــر مثقــف ومطـهّــم
وإذا تنادوا آل غالب فـي الوغى * نسفـوا متالــع يَذبــل فيلملـم
يقتادهم ضخم الدسيعــة أصيـد * ثبت الجنــان بعيـد مهوى المخذم
بطل يرى الهندي أصدق صاحب * ومخيّم الهيجـاء خيــر مخيّــم

فبخ بخ لهم فازوا بالوصال إذ بذلوا ما أراد المحبوب ، وتنعّموا ببديع الجمال حيث مالت منهم القلوب ، فكان متن السيوف الصقال صقال الخدود ، وكأنّ حطيم القنا العسّال في أكفّهم غداير الجعود ، كرعوا قرقف الحقيقة فثملوا بصهباء العرفان ، وسلكوا ملحوب الطريقة وقطعوا السهول والأحزان .
روي أن الحسين عليه السلام لما لقى العسكر نادى : « أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ، أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله » .
فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى عمر بن سعد لعنه الله فقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فقال : إي والله ، قتالا ايسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
قال : فمضى الحر ووقف موقفا من أصحابه وأخذه مثل الأفكل ، فقال له مهاجر بن أوس : والله إن أمرك لمريب ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟!
فقال : والله إنّي أخيّر نفسي بين الجنة والنار ، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ، ولو قطّعت وأحرقت .


( 117 )

ثم ضرب فرسه واجتاز إلى عسكر الحسين عليه السلام ، واضعا يده على رأسه وهو يقول : اللهم إليك أتيت تائبا فتُب عليّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد أنبيائك .
فقال للحسين : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتك في هذا المكان ، وما كنت أظنّ أنّ القوم يبلغون منك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله ، فهل ترى لي من توبة يا أبا عبدالله ؟
فقال له الحسين عليه السلام : « نعم يتوب الله عليك » . ثم قال له : « انزل » .
فقال الحر : أنا لك فارسا خير مني لك راجلا ، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري .
ثم قال : إذ كنت أول خارج خرج عليك ، فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، لعليّ أكون أول من يصافح جدك صلى الله عليه وآله وأباك عليا في عرصات القيامة .
فأذن له الحسين عليه السلام ، فتقدم الحر إلى عساكر الكوفة ، ثم نادى : يا أهل الكوفة ، لأمكم الهبل ، دعوتم هذا الرجل المؤمن حتى إذا أتاكم خرجتم لقتاله ومنعتموه الماء الذي تشربه الكلاب والخنازير ، لا سقاكم الله يوم الظمأ .
ثم إنه همز جواده ، وقوّم سنانه بين أذن حصانه وقاتل قتالا يسرّ الأحرار ، ويرضي الجبار ، وهو ينشد ويقول :

إني أنـا الحــرّ ومأوى الضيف * أضرب فـي أعناقكـم بالسيــف
أضربكــم ولا أرى من حيــف * عن خير من حلّ بأرض الخيف (1)

وروي أن الحر لما لحق بالحسين قال رجل من تميم يقال له يزيد بن سفيان : أما
____________
(1) ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 99 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وعنه البحار : 45 : 10 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 428 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 64 ، والسيد ابن طاوس في الملهوف : 159 مع اختلافات لفظية .

( 118 )

والله لو لحقت بالحر لأتبعته السنان . فبينما هو يقاتل وإن فرسه لمضروب على أذنه وحاجبيه والدماء تسيل منه ، فالتفت الحصين إلى يزيد وقال له : هذا الحر الذي كنت تتمناه .
قال : فخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتل يزيد وقتل معه أربعين فارسا وثلاثين راجلا ، فعرقب فرسه فبقي راجلا ويقول :

إني أنا الحر ونجل الحر * اشجع من ذي لبد هزبر
ولست بالجبان عند الكر * لكننـي الوثّاب عند الفر

فلم يزل يجال الشجعان ، ويقطر الأقران ، ويبلي الأعذار ، في نصرة قرة عين المختار ، حتى قتل وانتقل إلى جوار الملك الغفار ، في دار القرار ، فلما قتل مشى إليه الحسين وجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : « أنت حر كما سمّتك أمّك » .
ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام بهذا الأبيات ، وقيل : عليّ بن الحسين عليه السلام :

فنعم الحر حر بنـي ريـاح * صبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحر إذ واسـا حسينـا * فجـاد بنفسه عند الصباح
فأقرره إلهــي دار خلــد * وزوّجه من الحور الملاح

واشترك في قتله أبو أيوب الغنوي ورجل من فرسان أهل الكوفة (1) .
فهنيئا للحر حيث فاز بفضيلة الإنتصار ، وجاد بنفسه بين بتّار وخطّار ، وعرض مهجته للتلف والبوار ، وخرج من رقّ الذلّ والصغار ، وتوّج هامته بتاج العزّ والفخار ، أوَ لا تكونون يا أرباب العقول والأبصار ، كمن تصور مصائب ساداته الأطهار ، وتذكّر نوائب أئمّته ذوي المراتب والأقدار ، فرثاهم بنفائس المراثي والأشعار ، وهو من الخلص الأبرار .
____________
(1) ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 434 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 14 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
وروى القسم الأول منه مختصرا ابن الأثير في الكامل : 4 : 67 .