المصرع الثاني عشر
وهو مصرع الباقر عليه السلام
اعلم يا طالب الإذعان والتصديق ، والراغب في الإرشاد إلى سواء الطريق ، أنه قد فوّق سهم التوفيق ، راميا للمرمى الدقيق عن قوس التحقيق ، واتسع المضيق ، وهدر الفتيق (1) ، وأنت راسب في غطمطم الضيق ، مرتطم في يمّ التعويق ، أما آن لك أن تفيق ، فما لي أراك كلما أراك دليل الإدراك بشراك ، وشراك من اشراك الأشراك ، تقهقرت إلى وراك ، فقد ومن سواك إرداك خبث الإدراك ، وما أدراك فلعلّك علّك نسيم الأزهار وغشاك ، أم غشاك عظيم الأنوار فأعشاك ، فوقعت من هناك في هاوية هواك ، فأين هذا من ذاك ، إنّ طريقك عكس قصدك ، وقدحُك ليس من زندك ، يا ويلك أتروم دخول الجنان بغير الإيمان ، وترجو الأمان من النيران بدون شفاعة صفوة آل عدنان ، أم تدّعي الموالاة بغير علامات ، أين بذل المهج في هواهم ، أين صرف الأعمار في عزاهم ، أم تقول ما بلغك مصابهم المهول ، ولا طرقك رزؤهم الثقيل ، بلى والله بلغك وتلاهيت ورأيته وتعاميت ، فما أحراك بما قيل : « من لم حرّكه الربيع وأزهاره ، والعود وأوتاره فقد فسد مزاجه وامتنع علاجه ، ولم ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع » ، ولله در من قال من الرجال الأبدال :

يا نفس لو أدركت حظا وافرا
لنهاك عن فعل القبيح نهاك

____________
(1) الفتيق : الفصيح الحادّ اللسان ، والصُبح المُشرق . ( المعجم الوسيط ) .
( 179 )

وعرفت من أنشـأك من عدم إلى
هذا الوجود وصانعــا سواك
وشكرت منته عليك وحسـن ما
أولاك مـن نعمـائــه مولاك
أولاك حب محمــد ووصيــه
خير الأنام فنعـم مــا أولاك
فهما لعمرك علّمــاك الدين في
الدنيا وفي الأخرى همـا علماك
وهما أمانك يوم بعثك فــي غد
وهما إذا انقطـع الرجاء رجاك
واذا الصحائف في القيامة نشرت
ستروا عيوبك عند كشف غطاك
وإذا وقفت على الصراط تبـادرا
وتقدّمـاك فلم تـزل قدمــاك

روى الشيخ في كتاب المصباح أن الباقر عليه السلام ولد في يوم الجمعة ثالث صفر سنة السابعة والخمسين (1) .
وهو أول علويّ تولد من الحسنين ، وذلك لأنه محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، وأمه فاطمة [ أمّ ] عبدالله بنت الحسن عليه السلام كما روي في المناقب إنه هاشمي تولد من هاشميين وعلويّ تولد من علويّين وفاطمي تولد من فاطميين (2) .
____________
(1) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 259 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 329 .
ورواه الكفعمي في الجدول من المصباح : ص 522 إلا أنّ فيه : ولد يوم الاثنين .
(2) ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 259 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 225 في معالي أموره عليه السلام .
وانظر إرشاد المفيد : 2 : 158 ، والدر النظيم لجمال الدين الشامي : ص 603 .

( 180 )

وروي في كتاب العلل عن جابر بن يزيد الجعفي أنه سأله عمرو بن يزيد بن شمر فقال له : ياجابر ، لمَ سمّي الباقر باقرا ؟ قال : لأنه بقر العلم بقرا ، أي شقّه شقا وأظهره إظهارا ، لقد حدّثني جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : « يا جابر ، إنك ستبقى وستلقى (1) ولدي محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف في التوراة بالباقر (2) ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام » .
[ قال جابر : ] فبينما أنا في بعض سكك المدينة إذ لقيت غلاما لم أر مثله قطّ ، فقلت له : مَن أنت يا غلام ؟
فقال : [ أنا ] محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » .
فقلت له : يا بُنيّ ، أقبل . فأقبل ، ثم قلت له : أدبر . فأدبر ، فرأيت شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وربّ الكعبة ، فقلت له : يا بُني ، إذا أنت الباقر .
قال : « نعم » .
قلت له : يا مولاي ، إن رسول الله يقرؤك السلام .
فقال : « وعلى رسول الله السلام [ ما دامت السماوات والأرض ، ] وعليك يا جابر بما حملت السلام السلام » (3) . (4)
فرجع محمد بن علي إلى أبيه علي بن الحسين مذعورا فأخبره الخبر ،
____________
(1) في المصدر : « ستبقي حتى تلقى » .
(2) في المصدر : « ستبقي حتى تلقى » .
(3) في المصدر : « بما بلّغت السلام » ، وليس فيه السلام الثاني .
(4) رواه الصدوق في علل الشرائع : 1 : 233 باب 168 العلة التي من أجلها سمي أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام الباقر ، وزاد بعده : فقال له جابر : يا باقر ، يا باقر أنت الباقر حقا ، أنت الذي تبقر العلم بقرا . ثم كان جابر يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه وربما غلط جابر فيما يحدّث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيرد عليه ويذكّره فيقبل ذلك منه ويرجع إلى قوله ، وكان يقول : يا باقر ، يا باقر ، يا باقر أشهد بالله أنك قد أوتيت الحكم صبيا .
ورواه أيضا في كمال الدين وتمام النعمة : ص 253 باب 23 ح 3 ، وعنه المجلسي في البحار : 46 : 225 ح 4 من باب مناقبه عليه السلام .

( 181 )

فقال عليه السلام : « يا بُني ، فعلها جابر » ؟ قال : « نعم » .
وكان جابر بعد ذلك يأتي إليه طرفي النهار ، فكان أهل المدينة يقولون : وا عجبا لجابر ، يأتي إلى هذا الغلام طرفي النهار وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ! فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين عليهما السلام فجعل محمد بن علي الباقر يأتي جابر كرامة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله .
فجلس عليه السلام يوما يحدّث الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال أهل المدينة : ما رأينا كهذا كذابا ! يحدّث الناس عن شيء لم يره ، فلما سمع ما يقولون حدثهم عن جابر ، فصدّقوه ، وكان والله يأتيه جابر فيتعلم منه (1) .
____________
(1) ورواه الراوندي في الخرائج : 1 : 279 ح 12 قال : إن أبا عبدالله عليه السلام قال : إن جابر بن عبدالله رضي الله عنه كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد الرسول معتجرا بعمامة ، وكان يقول : « يا باقر ، يا باقر » ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول : لا والله لا أهجر ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : « إنك ستدرك رجلا مني اسمه اسمي وشمائله شمائلي ، يبقر العلم بقرا » ، فذلك الذي دعاني إلى ما أقول .
قال : فبينما جابر ذات يوم يتردد في بعض طرق المدينة إذ مر بمحمد بن علي عليهما السلام فلما نظر إليه قال : يا غلام ، أقبل . فأقبل ، ثم قال : أدبر . فأدبر ، فقال : شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله [ والذي نفس جابر بيده ] ، ما اسمك يا غلام ؟
فقال : أنا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقبّل رأسه ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أبوك رسول الله يقرئك السلام . فقال : « وعلى رسول الله السلام » .
قال : ويقول لك ... ويقول لك ....
فرجع محمد إلى أبيه وهو ذعر ، فأخبر بالخبر ، فقال : يا بُنيّ ، قد فعلها جابر ؟ قال : نعم .
قال : يا بني ، الزم بيتك .
قال : فكان جابر يأتيه طرفي النهار ، فكان أهل المدينة يقولون : وا عجبا لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار ، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ! فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين ، فكان محمد بن علي عليهما السلام يأتيه على الكرامة لصحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله . =



( 182 )

فلا غرو أن لاح صبح علمه الصادق ، وأجرى بحر فهمه الدافق ، فهو حجة الملك الخالق على كافة الخلائق ، وأمينه على الحقائق ، فويل للمنكر والمنافق .

فهل سيد قد شيّد الفخــر بيتــه
يذلّ ويضحى السيد يرهبه العبـد
إذا سام منا الدهـر يومـا مذلــة
فهيهات يأبــى ربنـا وله الحمد
وتأبى نفـوس طاهــرات وسادة
مواضيهــم هام الكماة لها غمد
ليوث وغــى ظلّ الرماح مقيلها
مغاوير طعم المـوت عندهم شهد
حماة عن الأشبــال يوم كريهـة
بدور دجى سادوا الكهول وهم مرد
إذا افتخروا في الناس عزّ نظيرهم
ملوك على أعتابهم يسجد الحمـد
أيادي عطاهم لا تطاول في النـدى
وأيدي علاهم لا يطاق لهــا ردّ

____________
=
قال : فجلس الباقر يحدثهم عن الله ، فقال أهل المدينة : ما رأينا أحدا قطّ أجرأ من ذا !
فلما رأى ما يقولون ، حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال أهل المدينة : ما رأينا قط أحدا أكذب من هذا ، يحدّث عمن لم يره !
فلما رأى ما يقولون ، حدثهم عن جابر بن عبدالله ، فصدّقوه ، وكان والله جابر يأتيه فيتعلم منه .
ورواه عنه المجلسي في البحار : 46 : 225 ح 5 من باب مناقبه عليه السلام .
ورواه الكليني في الكافي : 1 : 469 ح 2 باب مولده عليه السلام ، والمفيد في الإختصاص : ص 62 ، وابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 212 في علمه عليه السلام ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين : 1 : 206 .

( 183 )

مطاعيم للعافي مَطاعين في الوغى
مُطاعين إن قالوا لهم حجج لــدّ
مفاتيح للداعــي مصابيح للهدى
معاليم للساري بهـا يهتدي النجد
نزيلهــم حــرم منازلهم تقى
منازلهــم أمن بها يبلـغ القصد
فضائلهم جلّت فواضلهــم جلت
مذابحهم شهـد منائحهــم نـدّ

روي في تفسير علي بن إبراهيم عن إسماعيل بن أبان ، عن عمر بن عبدالله الثقفي قال : أخرج هشام بن عبدالملك لعنه الله أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام من المدينة معه إلى الشام ، وكان ينزل معه ، وكان يقعد مع الناس في مجالسهم ، فبينما هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك ، فقال : « ما لهؤلاء القوم ؟ ألهم عيد اليوم » ؟
قالوا : لا يا ابن رسول الله ، ولكنهم ياتون عالما لهم في هذا الجبل في كل سنة في [ مثل ] هذا اليوم ليخرجونه فيسألونه (1) عما يريدون وعن ما يكون في عامهم .
قال أبو جعفر عليه السلام : « أيكون له علم » ؟ (2)
قالوا : هو من أعلم الناس ، قد أدرك الحواريين من قوم عيسى .
فقال عليه السلام : « هلمّ نذهب إليه » (3) .
فقالوا : ذاك إليك يا ابن رسول الله .
قال : فقنّع أبو جعفر رأسه بثوبه ومضى هو أصحابه ، واختلطوا بالناس حتى أتوا الجبل ، فقعد أبو جعفر وسط النصارى هو وأصحابه ، فأخرج النصارى
____________
(1) في المصدر : « فيخرجونه ويسألونه » .
(2) في المصدر : « قال أبو جعفر عليه السلام : وله علم » ؟
(3) في المصدر : « فقال عليه السلام لهم : نذهب إليه » .

( 184 )

بساطا ثم وضعوا الوسائد ، ثم دخلوا فأخرجوه ، ثم ربطوا عينيه ، فقلّب عينيه كأنهما عينا أفعى ، ثم قصد أبا جعفر عليه السلام فقال : أمِنّا أنت ، أم من الأمة المرحومة ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : « بل (1) من الأمة المرحومة » .
قال : أفِمن علمائهم أم أنت من جهالهم ؟
قال : « لست من جهالهم » .
قال النصراني : أسألك أو تسألني ؟
قال أبو جعفر عليه السلام : « سلني » .
فقال الراهب : يا معاشر النصارى ، رجل من أمة محمد يقول : سلني . إن هذا لعالم بالمسائل .
ثم قال : يا عبدالله ، أخبرني عن ساعة ما هي من الليل ولا من النهار ، أي ساعة هي ؟
قال أبو جعفر : « ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس » .
قال النصراني : إذا لم تكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار ، فمن أيّ الساعات هي ؟
فقال أبو جعفر : « من ساعات الجنة ، وفيها تفيق مرضانا » .
فقال النصراني : أصبت ، فأسألك أو تسألني ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : « سلني » .
قال : يا معاشر النصارى ، إن هذا المليّ من السمائل . ثم قال : أخبرني عن أهل الجنة ، كيف صاروا يأكلون ولا يتغوّطون ، أعطني مثله في الدنيا .
قال أبو جعفر عليه السلام : « هو الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوّط » .
قال النصراني : أصبت .
قال : أما قلت : ما أنا من علمائهم ؟
قال أبو جعفر عليه السلام : « إنما قلت لك : ما أنا من جهّالهم » .
____________
(1) كلمة « بل » ليست في المصدر .
( 185 )

قال النصراني : فأسألك أو تسالني ؟
قال : « سلني » .
قال الراهب : يا معشر النصارى ، والله لأسألنّه مسألة يرتطم بها كما يرتطم الحمار في الوحل !
فقال له : « سل » .
فقال : أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت منه بابنين معا في ساعة واحدة [ ووضعتهما في ساعة واحدة ] وماتا في ساعة واحدة ودفنا في ساعة واحدة في قبر واحد ، عاش أحدهما مئة وخمسين سنة وعاش الآخر منهما خمسين سنة ، [ من هما ] ؟!
قال أبو جعفر عليه السلام : « ذلك عزير وعزرة ، وكان حمل (1) أمهما كما وصفت ووضعهما كما ذكرت (2) ، وعاش عزير وعزرة ثلاثين سنة ، ثم أمات الله عزيرا مئة سنة وبقي عزرة حيا (3) ، ثم بعث الله عزيرا فعاش مع عزرة عشرين سنة ، [ وماتا جميعا في ساعة واحدة ] » .
قال النصراني : يا معاشر النصارى ، ما رأيت قطّ أعلم من هذا الرجل ، يا ويلكم أتسألوني (4) عن حرف واحد وهذا بالشام ؟! ردّوني إلى كهفي . فردّوه إلى كهفه ورجع النصارى إلى أبي جعفر (5) .
____________
(1) في المصدر : « وكانت حملت » .
(2) في المصدر : « وكانت حملت » .
(3) في المصدر : « يحيى » .
(4) في المصدر : « لا تسألوني » .
(5) رواه القمي في تفسيره : 1 : 98 ذيل الآيات 15 ـ 18 من سورة آل عمران ، وما بين المعقوفات منه . ورواه عنه في البحار : 46 : 313 ح 2 من باب خروجه عليه السلام إلى الشام .
ورواه ـ مع إضافات كثيرة مفيدة ـ الطبري في دلائل الإمامة : ص 233 ح 162 | 26 قال : وروى الحسن بن معاذ الرضوي قال : حدثنا لوط بن يحيى الأزدي ، عن عمارة بن =



( 186 )


____________
=
زيد الواقدي قال : حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر عليهم السلام ، فقال جعفر في بعض كلامه :
« الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول : إنه يتولانا وهو يوالي أعداءنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به » .
قال أبو عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام : فأخبر مسيلمة [ بن عبدالملك ] أخاه بما سمع فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلّحين ، وقد نصل البرجاس حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون .
فلما دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر : لو رميت مع أشياخ قومك الغرض . وإنما أراد أن يهتك بأبي ، ظنا منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رماه ، فيستشفي منه بذلك ، فقال له : إني قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني .
فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه وآله لا أعفيك . ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك .
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس ، ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشقّ فوق سهمه إلى نصله ، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : عجبت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ! كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي . ثم أدركته ندامة على ما قال .
وكان هشام لا يكنّي أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمّ به وأطرق إطراقة يرتئي فيه رأيا ، وأبي واقف بحذائه مواجها له وأنا وراء أبي .
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبيّن للناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمد اصعد . فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني =



( 187 )


____________
=
وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل أبي بوجهه فقال له : يا محمد ، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيهم مثلك ، ولله درّك ، مَن علّمك هذا الرمي ؟ وقي كَم تعلمت ؟
فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثم تركته ، فلما أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه .
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قطّ مذ عقلت ، وما ظننت أنّ في العرب أحدا يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك ؟
فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام الذين أنزلهما الله على نبيه عليه السلام في قوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) [ المائدة : 5 : 3 ] ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا .
قال : فلما سمع ذلك من أبي ، انقلبت عينه اليمنى فاحولّت واحمرّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ، ثم رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف ؟ نسبنا ونسبكم واحد ؟
فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنّ الله جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يختصّ أحدا به غيرنا .
فقال : أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها ؟ من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ؟ وذلك قول الله تبارك وتعالى ( ولله ميراث السماوات والأرض ) [ آل عمران : 3 : 180 والحديد : 57 : 10 ] إلى آخر الآية ، فمِن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبيّ ، ولا أنتم أنبياء ؟!
فقال : مِن قوله تعالى لنبيّه عليه السلام : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) [ القيامة : 85 : 16 ] ، فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذك كان يناجي أخاه عليا من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآنا في قوله تعالى : ( وتعيها أذنٌ واعية ) [ الحاقة : 69 : 12 ] ، فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي . فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة : « علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب » . خصّه به رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون علمه ما خصّه الله به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا .
فقال له هشام : إن عليا كان يدّعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحدا ، فمن أين ادعى =



( 188 )


____________
=
ذلك ؟!
فقال أبي : إن الله جل ذكره أنزل على نبيه كتابا بيّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله : ( ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبُشرى للمسلمين ) ، [ النحل : 16 : 89 ] ، وفي قوله : ( كل شيء أحصيناه في إمام مبين ) [ يس : 36 : 12 ] ، وفي قوله : ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) [ الأنعام : 6 : 38 ] ، وفي قوله : ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) [ النمل : 27 : 75 ] .
وأوحى الله تعالى إلى نبيه عليه السلام أن لا يُبقى في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا ، فأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : « حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي عليّ ، فإنه منّي وأنا منه ، له ما لي وعليه ما عليّ ، فهو قاضي دَيني ومنجز موعدي » .
ثم قال لأصحابه : « علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله » .
ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند عليّ عليه السلام ، ولذلك قال رسول الله لأصحابه : « أقضاكم علي » أي هو قاضيكم .
وقال عمر بن الخطاب : « لولا عليّ لهلك عمر » . أفيشهد له عمر ويجحد غيره ؟
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك .
فقال : خلّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي .
فقال : قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك .
فاعتنقه أبي ودعا له وودّعه ، وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه ، وخرجنا إلى بابه وإذا ميدان ببابه ، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير ، قال أبي : مَن هؤلاء ؟ قال الحجّاب : هؤلاء القسّيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيُفتيهم .
فلفّ أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه ، وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد عندهم ، وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي . فأقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شدّ حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسّطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه ، فجاء إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثمّ قال لأبي : أمِنّا أم مِن هذه الأمة المرحومة ؟ =



( 189 )


____________
=
فقال ابي : بل من هذه الأمة المرحومة .
فقال : أمِنْ علمائها أم من جهّالها ؟
فقال له أبي : لستُ من جهّالها .
فاضطرب اضطرابا شديدا ، ثم قال له : أسألك ؟ فقال له أبي : سَل .
فقال : من اين ادّعيتم أنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ؟ وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يجهل ؛ الجنين في بطن أمه ، يطعم ولا يحدث .
قال : فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟!
فقال له أبي : ولا من جهالها . وأصحاب هشام يسمعون ذلك .
فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى . فقال له أبي : سل .
فقال : مِن أين ادّعيتم أنّ فاكهة الجنة أبداً غضّة طريّة موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة لا تنقطع ، وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندّعي أن ترابنا أبدا غضّ طريّ موجود غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع .
فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ، ثم قال : كلا زعمت أنك لست من علمائها ؟ فقال له أبي : ولا من جهّالها .
فقال : أسألك عن مسألة . فقال له : سل .
قال : أخبرني عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار
فقال له أبي : هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ، ويرقد فيها الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرين للعاملين لها ، ودليلا واضحا وحجابا بالغا على الجاحدين المنكرين التاركين لها .
قال : فصاح النصراني صيحة ثم قال : بقيت مسألة واحدة ، والله لأسألنّك عنها ، ولاتهتدي إلى الجواب عنها أبدا ! فأسألك .
فقال له أبي : سل ، فإنك حانث في يمينك .
فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد ، وماتا في يوم واحد ، عمر أحدهما خمسون ومئة سنة والآخر خمسون سنة في دار الدنيا ؟!
فقال له أبي : ذلك عُزير وعزرة ، ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين =



( 190 )


____________
=
عاما مرّ عزيز وهو راكب على حماره بقرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها ، فقال : أني يحيي هذه الله بعد موتها ؟ وقد كان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته مئة عام سخطا عليه بما قال .
ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وعزرة أخوه لا يعرفه ، فاستضافه فأضافه ، وبعث إلى ولد عزرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن ابن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عُزير يذكّر أخاه وولده وقد شاخوا ، وهم يذكرون ما يذكّرهم ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور ، ويقول له عزرة وهو شيخ ابن مئة وخمس وعشرين سنة : ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عُزير أيام شبابي منك ! فمِن أهل السماء أنت ، أم من أهل الأرض ؟
فقال عُزير لأخيه عزرة : أنا عُزير ، سخط الله عليّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مئة سنة ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا أنّ الله على كل شيء قدير ، وها هو حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله لي كما كان . فعندها أيقنوا ، فأعاشه الله بينهم خمسا وعشرين سنة ، ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد .
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما ، وقام النصارى على أرجلهم ، فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم منّي وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني ، وأعلم المسلمين أنّ لهم مَن أحاط بعلومنا ، وعنده ما ليس عندنا ، لا والله لا أكلّمكم من رأسي كلمة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام بن عبدالملك ، فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ، ولا نحتبس لأن الناس ماجوا وخاضوا في ما جرى بين أبي وبين عالم النصارى .
فركبنا دوابّنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين على طريقنا إلى المدينة : إنّ ابني أبي تراب الساحرَين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين ـ بل هو الكذاب لعنه الله ـ فيما يظهران من الإسلام وردا عليّ ، فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسّيسين والرُهبان من كفار النصارى وتقرّبا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكّل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلّم عليهما ، فإنهما قد ارتدّا عن الإسلام ، ورأى أميرالمؤمنين أن تقتلهما =



( 191 )


____________
=
ودوابّهما وغلمانهما ومَن معهما شرّ قتلة .
قال : فورد البريد إلى مدين ، فلما شارفنا مدينة مدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا له منزلا ويشتروا لدوابّنا علفا ولنا طعاما .
فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا ، وذكروا أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وقالوا : لا نزول لكم عندنا ، ولا شراء ولا بيع يا كفار ، يا مشركين ، يا مرتدّين ، يا كذابين ، يا شر الخلائق أجمعين .
فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم ، فكلمهم أبي وليّن لهم القول وقال لهم : اتقوا الله ولا تغلطوا ، فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون ، فاسمعونا . فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبي : فهبنا كما تقولون ، افتحوا لنا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس .
فقالوا : أنتم أشرّ من اليهود والنصارى والمجوس ، لأن هؤلاء يؤدّون الجزية وأنتم لا تؤدّون .
فقال لهم أبي : افتحوا لنا الباب وانزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم .
فقالوا : لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا نياعا ، وتموت دوابكم تحتكم . فوعظهم أبي فازدادوا عتوّا ونشوزا .
قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك يا جعفر ، لا تبرح . ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين ، وأهل مدين ينظرون إلى ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وحده ثم وضع إصبعيه في أذُنيه ، ثم نادى بأعلى صوته : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ـ إلى قوله عزوجل ـ : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) [ هود : 11 : 84 ـ 86 ] ، نحن والله بقية الله في أرضه .
فأمر الله تعالى ريحا سوداء مظلمة ، فهبّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء والصبيان ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح وأبي مشرف عليهم .
وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا الله يا أهل مدين ، فإنه وقف الموقف الذي وقف فيه شُعيب عليه السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من الله العذاب وأتى عليكم ، وقد أعذر من أنذر . ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا . =



( 192 )

وروي في كتاب المجالس عن أبي بصير قال : دخل على الباقر [ عليه السلام ] مؤمن من أهل الرملة وقال له : فداك أبي وأمي ، قد مات أبي وهو يتوالى آل أمية وأنا أتولاكم ، فخبى عني ماله لإيماني بكم .
فكتب له أبو جعفر عليه السلام كتابا وختمه بخاتمه وقال : « امض الليلة إلى البقيع وناد : يا درجان ، يأتيك رجل ، فادفع إليه الكتاب » .
فمضى الرجل فنادى ، فأتاه فأعطاه الكتاب ، فما لبث أن جاء بأبيه أسودا كالقار ، فقال له الفتى : ما غيّرك يا أبت ؟ قال : لهب الجحيم ، كنت أتولّى آل أمية وأفضّلهم على أهل بيت النبي ، وكنت أبغضك لموالاتك لهم فزويت عنك مالي وهو الخبئية تحت الزيتونة ، وهو مئة وخمسون ألف دينارا ، فادفع يا بني إلى الباقر منها خمسين ألفا ولك الباقي .
فرجع الرجل ودفع الخمسين ألف دينارا إلى الإمام (1) .
____________
=
فكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيُطمره ، فأخذوه فطمروه رحمة الله عليه .
وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سمّ أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيّأ له في أبي شيء من ذلك .
ورواه عنه السيد ابن طاوس في كتاب الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ص 66 ، وعنهما في البحار : 46 : 306 .
ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح : 1 : 291 ح 25 من معجزات الإمام الباقر عليه السلام .
(1) ورواه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 209 في آياته عليه السلام ، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين : ص 205 ، وابن حمزة في الثاقب في المناقب : ص 370 ح 3 / 306 .
ورواه الراوندي في الخرائج : 2 : 597 ح 9 من باب أعلام الإمام الباقر عليه السالم قال : ومنها ما روى أبو عيينة قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام فدخل رجل فقال : أنا من أهل الشام أتولاكم وأبرأ من عدوكم ، وأبي كان يتولى بني أمية وكان له مال كثير ، ولم يكن له ولد غيري ، وكان مسكنه بالرملة ، وكانت له جُنَينة يتخلى فيها بنفسه ، فلما مات طلبت المال فلم أظفر به ، ولا أشكّ أنه دفنه وأخفاه مني .
قال أبو جعفر : أفتحبّ أن تراه وتسأله أين موضع ماله ؟ قال : إي والله ، إني فقير محتاج . =



( 193 )

فإذا كان يا ذوي البصائر ، هذا شأن الباقر ، فكيف يجوز أن يستامه هشام الفاجر ، ويشخصه إليه وهو صاغر ، ويضيّق عليه الموارد والمصادر ، ويخلى من نور غرّته المحاريب والمنابر ، فيحقّ لمصابه الفاقر ، أن تشقّ الأكباد والمرائر .

لئن مسّني ضرّ ريب الزمان
فلي أسوة ببنــي أحمــد
تسلط بغيــا أكفّ النفـاق
منهـم على سيّـد سيــّد

____________
=
فكتب أبو جعفر كتابا وختمه بخاتمه ثم قال : انطلق بهذا الكتاب الليلة إلى البقيع حتى تتوسّطه ، ثم تنادي : « يا درجان ، يا درجان » ، فإنه يأتيك رجل معتمّ ، فادفع إليه كتابي وقل : أنا رسول محمد بن علي بن الحسين فإنه يأتيك به ، فاسأله عما بدا لك . فأخذ الرجل الكتاب وانطلق .
قال أبو عيينة : فلما كان من الغد أتيت أبا جعفر عليه السلام لأنظر ما حال الرجل ، فإذا هو على الباب ينتظر أن يؤذن له ، فأذن [ له ] فدخلنا جميعا ، فقال الرجل : الله يعلم عند من يضع العلم ، قد انطلقت البارحة وفعلت ما أمرت ، فأتاني الرجل فقال : لا تبرح من موضعك حتى آتيك به ، فأتاني برجل أسود فقال : هذا أبوك . قلت : ماهو أبي ! قال : [ بل ] غيّره اللّهب ودخان الجحيم والعذاب الأليم ! فقلت له : أنت أبي ؟ قال : نعم . قال : فما غيّرك عن صورتك وهيئتك ؟ قال : يا بُنَيّ كنت أتولى بني أمية وأفضّلهم على أهل بيت النبي بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فعذّبني الله بذلك ، وكنت أنت تتولاهم فكنت أبغضك على ذلك ، وحرمتك مالي فزويته عنك ، وأنا اليوم على ذلك من النادمين ، فانطلق يا بُنيّ إلى جُنينتي فاحتفر تحت الزيتونة خذ المال وهو مئة ألف وخمسون ألفا ، فادفع إلى محمد بن عليّ خمسين ألف والباقون لك .
ثم قال : فأنا منطلق حتى آخذ المال وآتيك بمالك .
قال أبو عيينة : فلما كان من قابل دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقلت : ما فعل الرجل صاحب المال ؟ قال : [ قد ] أتاني بخمسين ألف درهم ، فقضيت منها دينا كان عليّ ، وابتعت منها أرضا بناحية خيبر ، ووصلت منها أهل الحاجة من أهل بيتي .
ورواه عنه المجلسي في البحار : ج 46 ص 245 ح 33 من باب معجزاته ومعالي أموره عليه السلام .

( 194 )

فمـن قاعــد منهم خائفــا
ومن ثائـر قــام لــم يعد
وما صرفوا عن مقـام الصلاة
ولا عنّفوا في بنــى المسجد
أبوهم وأمهــم من علمـت
فانقص مفاخرهــم أو زدي
يعــزّ على هاشــم والنبي
تلاعب تيـم بهــا من عدي
فـــإرث عـلــيّ لأولاده
إذا آيـة الإرث لــم تفسـد
أرى الدين من بعد يوم الحسين
عليلا له الموت بالمرصــد
سيعلم من فاطــم خصمــه
بأيّ نكــال غــدا يرتدي
وما آل حرب جنــوا إنمـا
أعيد الضـلال علـى ما بدي
فداؤك نفسـي ومن لـي بذاك
لو أنّ مولىً بعبـــد فـدي

فوا لهف نفسي على معدن العلم والعمل ، وينبوع الكرم والفضل ، ومظهر المبهم والمشكل ، ومزيل قواعد الملل ، وقامع شوكة ذوي الخطأ والزلل ، وناشر راية الإيقان وما حي آية الخطل ، من أوعز إليه الربّ الأجل أحكام الشرع في الأزل .
ففي كتاب المجالس عن ابن عباس ، عن أبي عمر ، عن صدقة بن أبي موسى (1) .
____________
(1) في العيون : عن العباس بن أبي عمرو ، عن صدقة بن أبي موسى .
( 195 )

عن أبي نضرة قال : لما احتضر أبو جعفر عليه السلام عند الوفاة فدعا بابنه الصادق ليعهد إليه عهده ، فقال له أخوه زيد بن علي : لو امتثلت فيّ بمثل (1) الحسن والحسين لرجوت أن لا تكون أتيت منكرا .
فقال له : « يا أبا الحسن ، إن الإمامة (2) ليست بالتمثال ولا العهود بالرسوم ، وإنما هي أمور سابقة عن حجج الله تعالى » .
ثم دعا بجابر بن عبدالله وقال له : « يا جابر ، حدثنا بما عاينت من الصحيفة » .
فقال له جابر : نعم يا أبا جعفر ، دخلت على مولاتي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لأهنّئها بمولدها (3) الحسين عليه السلام فإذا بيديها صحيفة بيضاء من درّ ، فقلت لها : يا سيدة النسوان ، ما هذه الصحيفة التي أراها معك ؟
قالت : « فيها أسماء الأئمة من ولدي » .
فقلت لها : ناوليني لأنظر فيها .
قالت : « يا جابر ، لولا النهي لكنت أفعل ، ولكنه نهي أن يمسّها إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو أهل بيت نبي ، ولكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها » .
قال جابر : فقرأت فإذا فيها : « أبوالقاسم محمد بن عبدالله المصطفى أمه آمنة ، أبوالحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد [ بن هاشم بن عبدمناف ] ، أبو محمد الحسن بن علي البرّ ، وأبو عبدالله الحسين بن علي التقيّ وأمهما فاطمة بنت محمد ، أبو محمد علي بن الحسين العدل أمّه شهربانو بنت يزدجرد ، أبو جعفر محمد بن علي الباقر أمه أم عبدالله بنت الحسن بن علي [ بن أبي طالب عليه السلام ] ، أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أبو إبراهيم موسى بن جعفر أمه جارية اسمها حميدة المصفات ، أبو الحسن علي بن موسى الرضا أمه جارية اسمها نجمة ، أبو جعفر محمد بن علي
____________
(1) في العيون : « تمثال » .
(2) في العيون : « إن الأمانات » .
(3) في العيون : « بمولودها » .

( 196 )

الزكي أمه جارية اسمها خيزران ، أبو الحسن علي بن محمد الأمين أمه جارية اسمها سوسن ، أبو محمد الحسن بن علي الرفيع (1) أمه جارية اسمها سمانة وتكنّى أم الحسن ، أبو القاسم محمد بن الحسن الحجة القائم (2) أمه جارية اسمها نرجس [ صلوات الله عليهم أجمعين ] » (3) .
وروي في كتاب المناقب عن الصادق قال : « لما أشخص هشام أبي إلى دمشق سمع الناس يقولون : هذا ابن أبي تراب » .
قال : « فأسند ظهره إلى جدار القبلة ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي [ عليه السلام ] ثم قال : اجتنبوا أهل الشقاق وذرية النفاق وحشو النار وحصب جهنم عن البدر الزاهر والبحر الزاخر والشهاب الثاقب (4) ونور المؤمنين (5) والصراط المستقيم ( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ) (6) » .
ثم قال بعد كلام : « ابصنو رسول الله صلى الله عليه وآله تستهزءون ؟ أم بيعسوب الدين تلمزون ؟ (7) وأي سبيل بعده تسلكون ؟ وأيّ حزب بعده تتبعون ؟ (8) هيهات
____________
(1) في العيون : « الرفيق » .
(2) في العيون : « هو حجة الله القائم » .
(3) ورواه الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 : 47 ح 1 من الباب 6 وبين المعقوفات منه .
ورواه أيضا في كمال الدين وتمام النعمة : 1 : 305 ح 1 من الباب 27 ، وعنهما البحار : 36 : 193 ح 2 من الباب 40 .
وأورده باختصار الإربلي في كشف الغمة : 2 : 336 في فضائل الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام .
(4) « أهل الشقاق » أي يا أهل الشقاق . « عن البدر الزاهر » أي عن سوء القول فيه . وزخر البحر : أي مدّ وكثر ماؤه وارتفعت أمواجه . والثاقب : المضيء . ( البحار ) .
(5) في المصدر : « وشهاب المؤمنين » .
(6) سورة النساء : 4 : 47 .
(7) الصنو ـ بالكسر ـ : المثل ، وأصله أن تطلع نخلتان من عِرق واحد . واللمز : العيب والوقوع في الناس . ( البحار ) .
(8) في المصدر : « تدفعون » .

( 197 )

هيهات برز لله بالسبق (1) وفاز بالفضل (2) ، واستوى على الغاية ، وأحرز الخطار ، فانحسرت عنه الأبصار ، [ وخضعت دونه الرقاب ، ] وفرع ذروة العليا فكذّب من رام من نفسه السعي وأعياه الطلب ، فأنى لهم التناوش من مكان بعيد (3) » .
وقال :

اقلّـوا اقلّــوا لا أبــا لأبيكــم
من اللوم بل سدّوا مكان الذي سدّوا (4)
اولئك قوم إن بنوا أحسنــوا البناء
وإن عاهدوا أوفوا ، وإن عقدوا شدّوا

فأنّي يسد ثلمة أخي رسول الله إذ شفعوا (5) ، وشقيقه (6) إذ نسبوا ، ونديده إذ

____________
(1) في المصدر : « برز والله بالسبق » ، أي ظهر وخرج من بينهم بأن سبقهم في جميع الفضائل .
(2) في المصدر : « بالخصل » ، أي بالغلبة على من راهنه في إحراز سبق الكمال ، قال الفيروزآبادي : الخصل : إصابة القرطاس ، وتخاصلوا : تراهنوا على النضال ، وأعرض خصله وأصاب خصله : غلب ، وخصلهم خصلا وخصالا ـ بالكسر ـ : فضلهم . ( البحار ) .
(3) اقتباس من الآية 52 من سورة سبأ : 34 .
الغاية : العلامة التي تنصب آخر الميدان فمن انتهى إليه قبل غيره فقد سبقه . والخِطار ـ بالكسر ـ جمع خطر بالتحريك ، وهو السبق الذي يتراهن عليه . فانحسرت : أي كلّت عن إدراكه الأبصار لبعده في السبق عنهم . وفرع : أي صعد وارتفع أعلى الدرجة العليا من الكمال . وكذّب ـ بالتشديد ـ : أي صار ظهور كماله سببا لظهور كذب من طلب السعي لتحصيل الفضل وأعياه الطلب ، ومع ذلك ادّعى مرتبته ، ويحتمل التخفيف أيضا ، ويمكن عطف قوله : « وأعياه » على قوله : « كذّب » وعلى قوله : « رام » . والتناوش : التناول ، أي كيف يتيسّر تناول درجته وفضله وهم في مكان بعيد منها . ( البحار ) .
(4) في المصدر : « أو سدوا مكان الذي سادوا » . لعل المراد : سدّوا الفرج والثلم التي سدّها أهل البيت عليهم السلام من البدع والأهواء في الدين ، أو كونوا مثل الذي سدوا ثلم الباطل ، كما يقال : « سدّ مسدّه » ، مؤيده قوله : « فأنى يسدّ » ، ويحتمل أن يكون من قولهم سدّ يسُدّ أي صار سديدا .
(5) « فأنى يسد » أي كيف يمكن سدّ ثلمة حصلت بفقده عليه السلام بغيره ، والحال أنه كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله إذ صار كل منهم شفعا لنظيره كسلمان وأبي ذر وأبي بكر مع عمر . ( البحار ) .

( 198 )

قتلوا (1) ، وذي قرنَي كنزها إذ فتحوا (2) ، ومصلى القبلتين إذ انحرفوا (3) ، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا ، والمبيد لعهد المشركين (4) إذ نكلوا ، والخليفة على المهاد ليلة الحصار (5) إذ عجزوا ، ومستودع (6) الأسرار ساعة الوداع » .فصمت كلّ ناطق(7) .
____________
(6) الشقيق : الأخ ، كأنه شقّ نسبه من نسبه ، وكل ما إن شقّ نصفين كل منهما شقيق ، أي عدّه الرسول صلى الله عليه وآله شقيق نفسه عند ما لحق كل ذي نسب بنسبه . ( البحار ) .
(1) ونديده : أي مثله في الثبات والقوة إذ قتلوا وصرفوا وجوههم عن الحرب . ( البحار ) .
وكان في النسخة : « إذ قبلوا » .
(2) قوله : « ذي قرني كنزها » إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه واله له عليه السلام : « لك كنز في الجنة وأنت ذو قرنيها » ، ويحتمل إرجاع الضمير إلى الجنة ، وإلى الأمة .
وقوله : « إذ فتحوا » أي قال ذلك حين أصابهم فتح ، أو أنه عليه السلام ملكه وفوّض إليه عند كل الفتوح اختيار طرفي كنزها وغنائمها، لكونها على يده ، وعلى تقدير إرجاع الضمير إلى الجنة يحتمل أن يكون المراد فتح بابها ، ويحتمل أن يكون « إذ قبحوا » على المجهول من التقبيح أي مدحه حين ذمّهم . ( البحار ) .
(3) في المصدر : « إذ فشلوا » . من الفشل : الضعف والجُبن . ( البحار ) .
(4) في المصدر : « والمدعي بعد عهد المشركين » . قال المجلسي : والإدعاة لنبذ عهد المشركين يمكن حمله على زمان النبي صلى الله عليه وآله وبعده ، وعلى الأول المراد أنه لما أراد النبي صلى الله عليه وآله طرح عهد المشركين والمحاربة معهم كان هو المدّعي والمقدّم عليه وقد نكل غيره عن ذلك ، فيكون إشارة إلى تبليغ سورة براءة وقراءتها في الموسم ونقض عهود المشركين وإيذائهم بالحرب وغير ذلك مما شاكله ، وعلى الثاني إشارة إلى العهود التي كان عهدها النبي صلى الله عليه وآله على المشركين فنبذ خلفاء الجور تلك العهود وراءهم ، فادّعى عليه السلام إثباتها وإبقاءها ، والأول أظهر . ( البحار ) .
(5) في المصدر : « والمدّعي بعد عهد المشركين » . قال المجلسي : والإدعاء لنبذ عهد المشركين يمكن حمله على زمان النبي صلى الله عليه وآله وبعده ، وعلى الأول المراد أنه لما أراد النبي صلى الله عليه وآله طرح عهد المشركين والمحاربة معهم كان هو المدّعي والمقدّم عليه وقد نكل غيره عن ذلك ، فيكون إشارة إلى تبليغ سورة براءة وقراءتها في الموسم ونقض عهود المشركين وإيذائهم بالحرب وغير ذلك مما شاكله ، وعلى الثاني إشارة إلى العهود التي كان عهدها النبي صلى الله عليه وآله على المشركين فنبذ خلفاء الجور تلك العهود وراءهم ، فادّعى عليه السلام إثباتها وإبقاءها ، والأول أظهر . ( البحار ) .
(6) في المصدر : « إذا جزعوا ، والمستودع » .

( 199 )

وروي أنه عليه السلام دخل على الوليد يوما في صورة أعرابي وقعد بمجلس عام واستحضر الناس لسبّ علي بن أبي طالب عليه السلام وأثغر في ثلبه (8) ، فبينما هو كذلك إذ خرج إليه إعرابي على ناقة ذفراها يسيلان لإغذاذ السير (9) دماً ، وقبيحا ، فلما رآه الوليد من منظرته قال : اذهبوا إلى هذا الأعرابي وأدخلوه عليّ ، فإني أراه قاصدا لنا .
فجاء الأعرابي وعقل ناقته بطرف زمامها ، ثم دخل فأورد قصيدة لم يسمع مثلها جودة وعذوبة ، فلما انتهى به الحال إلى قوله :

ولما أن رأيت الدهـر ألّي (10)
عليّ ولَحّ في إضعــاف حالي
وفدت إليك أبغي حسـن عقبى
أميل (11) بها خصاصات العيال
وقائلة إلـيّ وقــد رأتنــي
أ[ؤ]مّ فمن ترجّـى للمعالي (12)
فقلت إلى الوليــد أ[ؤ]مّ قصدا
وقـاه الله من غيــر الليالـي

____________
(7) المناقب لابن شهر آشوب : 4 : 219 في علمه عليه السلام ، وعنه في البحار : 46 : 317 .
(8) في العدد القوية والبحار : « وقد اسحنفر في سبّ علي ، واثعنجر في ثلبه » .
اسحنفر الرجل : مضى مسرعا . يقال : ثعجرت الدم وغيره فاثعنجر : أي صببته فانصب . ( البحار ) .
(9) ذفرى البعير : أصل أذُنيها . وأغذّ السير : أسرع . ( البحار ) .
(10) إليّ يؤلّي تألية : إذا قصر وأبطأ . ( البحار ) .
(11) في العدد القوية والبحار : « أسدّ » .
(12) في العدد القوية والبحار :

وقائلة إلى من قد رآه * يؤمّ ومن يُرجّى للمعالي

( 200 )

هو الليث الهصور (1) شديد بأس
هو السيف المجــرد للقتــال
خليفة ربّنـا الداعي إلينــا (2)
وذو المجد التليــد أخو المعالي

قال : فقبل مدحته وأجزل عطيته وقال : يا أخا العرب ، قد قبلنا مدحتك وأجزلنا صلتك ، فاهج لنا أبا تراب .
فوثب الأعرابي يتهافت قطعا ويزور (3)حنقا ويشهد (4) شفقا ، وقال : والله إن الذي عنيته بالهجاء هو أولى منك بالمدح وأنت أحق منه بالهجاء .
فقال له جلساؤه : اسكت نزحك الله (5) .
فقال : علام تتّروحني ، ولِمَ لا تبشّروني ؟ فوالله ما أبديت سقطا ، ولا قلت شططا ، ولا ذهبت غلطا ، فقد فضّلت على الوليد من هو أفضل منه ، فذاك علي بن أبي طالب الذي تجلبب بالوقار ، ونبذ الشنار ، وعاف (6) العار ، وقصد الإنصاف ، وأبد (7) الأوصاف ، وحصّن الأطراف ، وألفّ الأشراف ، وأزال الشكوك في الله بشرح ما استودعه الرسول من مكنون العلم ، الإمام الذي شرفه فوق كلّ شرف ،
____________
(1) الهصور : الأسد الشديد الذي يفترس ويكسر . ( البحار ) .
(2) في العدد القوية والبحار : « علينا » .
(3) في العدد القوية والبحار : « يزأر » .
التهافت : التساقط . وقطعا : جمع قطعة ، وهي الطائفة من الشيء ، والمراد بها هنا شطر من الكلام . ويزأر حنقا : الزأر صوت الأسد من صدره . ( البحار ) .
(4) في العدد القوية والبحار : « ويشمذر » . والشميذر ـ كسفرجل ـ : البعير السريع ، والغلام النشيط الخفيف كالشمذارة ، والسير الناجي كالشمذار والشمذر . ( القاموس ) .
(5) نزحك الله : أي أنفذ الله ما عندك من خيره . ( البحار ) .
(6) الشنار ـ بالفتح ـ : أقبح العيب والعار . وعاف الشيء : كرهه .
(7) أبد الأوصاف : أي جعل الأوصاف الحسنة جارية بين الناس ، أو بتخفيف الباء المكسورة من قولهم أبد كفرح : إذا غضب وتوحّش ، فالمراد الأوصاف الرديئة . ( البحار ) . وفي النسخة : « وبدأ » .

( 201 )

وسلفه في الجاهلية أكرم من كل سلف ، لا تعرف الماديات إلا بهم ، ولا الفضل إلا فيهم ، صفوة اصطفاها الله واختارها ، فلا يغترّ الجاهل بأنه قعد عن الخلافة بمثائرة من ثار عليها وجالد بها السلال المارقة والأعوان الظالمة ، ولئن قلتم ذلك كذلك إنما استحقّها بالسبق ، تالله ألكم حجة في ذلك ؟ هذا سبق صاحبكم إلى المواضع الصعبة ، والمنازل الشعبة ، والمعارك المرّة ، كما سبق إليها على الذي لم يكن بالقبعة ولا الهبعة (1) ، ولا مُضغنا إلى الله ولا منافق (2) .
رسول الله صلى الله عليه وآله كان يدرء عن الإسلام كل أصبوحة ، ويذبّ عن كلّ أمسية ، ويلج بنفسه في الليل الديجور الحلكوك (3) مرصدا للعدو ، هو ذل (4) تارة وتضكضك (5) أخرى ، ويأرب لزبة آبيه قسيّة وأوان آن أرونان (6) قذف نفسه في لهوات وشيجة وعليه زعفة ابن عمّه الفضفاضة ، وبيده خطية عليها سنان لهذم (7) ،
____________
(1) قبع القنفذ يقبع قبوعا : أدخل رأسه في جلده ، وكذلك الرجال إذا أدخل رأسه في قميصه ، وامرأة قبعة طلعة : تقبع مرة وتطلع أخرى . والقبعة أيضا طُوَير ابقع مثل العصفور يكون عنده حجرة الجرذان ، فإذا فزع ورمي بحجر انقبع فيها .
وهبع هبوعا : مشى ومدّ عنقه ، وكأنّ الأول كناية عن الجبن ، والثاني عن الزهو والتبختر . ( البحار ) . وفي النسخة : « بالقعبة ولا الهيعة » .
(2) في البحار : « ولا مضطغنا آل الله ولا منافقا » .
(3) الحلكوك ـ بالضم والفتح ـ : الأسود الشديد السواد . ( البحار ) .
(4) هو ذل في مشيه : أسرع . ( البحار ) .
(5) الضكضكة : مشية في سرعة ، وتضكضك : انبسط وابتهج ، والأخير أنسب .. ( البحار ) .
(6) في العدد والبحار : « لزبة آتية » ، واللزبة : الشدة . قوله : آتية : أي تأتي على الناس وتهكهم ، وفي بعض النسخ : « آبية » أي يأبى عنها الناس . والقسيّة : أي شديدة من قولهم : عام قسيّ أي شديد من حرّ أو برد . وآن : أي حار ، كناية عن الشدة . يوم أرونان : صعب . ( البحار ) .
(7) وشجية : ما اشتبك من الحروب والأسلحة . والزعفة : الدرع اللينة . والفضفاض : الواسعة . والرماح الخطية : منسوبة إلى خط موضع باليمامة . واللهذم من الأسنة : القاطع . ( البحار ) .

( 202 )

فبرز عمرو بن عبد ودّ القرم الأود (1) والخصم الألدّ ، والفارس الأشدّ ، على فرس عنجوج ، كأنه يجرّ نحره بالخيلوج ، فضرب قونسه ضربة قنّع (2) بها عنقه .
أو نسيتم عمرو بن معدي كرب الزبيدي إذ أقبل يسحب دلدال (3) درعه ، مدلا بنفسه ، قد زحزح الناس عن أماكنهم ، ونهّضهم عن مواضعهم ، ينادي : أين المبارزون ، يمينا وشمالا ، فانقضّ عليه كأسود ونيق أو كصيحورة (4) منجنيق فوقصه وقص القطام بحجر (5) الحمام وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله كالبعير الشارد يقاد كرها وعينه تدمع وأنفه يرمع (6) وقلبه يجزع .
وكم له من يوم عصيب برز فيه إلى المشركين بنيّة صادقة وقد كشف أميل أجمّ (7) أعزل .
____________
(1) القرم : البعير يتّخذ للفحل ، والسيد . والأود : الاعوجاج ، والمراد به المعوج ، أو هو « الأرد » بالراء والدال المشددة لردة الخصام عنه . ( البحار ) .
(2) في البحار : « باليلنجوج » . العنجوج : الفرس الجيّد . واليلنجوج : العود الذي يتبخّر به .
والقونس : أعلى البيضة من الحديد . وقنعت المرأة : ألبستها القناع ، وقنعت رأسه بالسود ضربا . ( البحار ) .
(3) في البحار : « ذلاذل » . ذلاذل الدرع : ما يلي الأرض من أسافله . ( البحار ) .
(4) في البحار : « كسود نيق أو كصيخودة » . والسود كأنه جمع الأسود بمعنى الحية العظيمة وإن كان نادرا . والنيق ـ بالكسر ـ : أعلى موضع من الجبل . ( البحار ) .
وفي هامش العدد القوية : الصحيح « السوذنيق » والكلمة واحدة وزان زنجبيل ، ويضمّ أوّله ، بمعنى الصقر والشاهين ، وهو المناسب لقوله : « فأنقذ » .
والصيخودة : كأنها بمعنى الصخرة وإن لم نرها في كتب اللغة . ( البحار ) .
(5) في البحار : « بحجره » .
وقص عنقه : كسرها . والقطام ـ كسحاب ـ : الصقر . ( البحار ) .
(6) رمع أنفه من الغضب : تحرّك . ( البحار ) .
(7) في العدد القوية والبحار : « وهو أكشف أميل أجم » .
الأكشف : من ينهزم في الحرب . والأميل : الجبان . والأجمّ : الرجل بلا رُمح . والأعزل : الرجل المنفرد المنقطع ومن لا سلاح معه . ( البحار ) .

( 203 )

ألا وإني أخبركم بخبر علي إنه مني بأوباش كالمراطة بين لغموط (1) وحجابه ومقدم ومهدم حملت (2) به شوهاء شهواء في أقصى مهيلها فأتت به محصنا ، وكلها (3) أهون على عليّ من سعدانة بقل (4) .
أفبهذا يستحقّ الهجاء ؟ أم بعزمه (5) الحاذق وقوله الصادق وسيفه الفالق ؟ إنما يستحق الهجاء من سامه إليه وأخذ الخلافة وأزالها عن الوراثة (6) وصاحبها ينظر إلى فيئه ، وكأنّ الشبا مرع تلبسه (7) حتى إذا لعب بها فريق ، بعد فريق ، وخريق (8) بعد خريق ، اقتصروا على ضراعة الوهز وكثرة البز (9) ، ولو ردّوه إلى سمت الطريق والمرت (10) البسيط والتامور العزيز (11) لألفوه (12)قائما واضع الأشياء (13)
____________
(1) الأوباش : الأخلاط والسفلة . والمراطة : ما سقط في التسريح أو النتف . واللغموط لم أجده في اللغة ، وفي القاموس : اللعمط كزبرج : المرأة البذيّة ، ولا يبعد كون الميم زائدة ، واللغط : الأصوات المختلفة والجلبة . ( البحار ) .
(2) في العدد القوية والبحار : « وحجابه وفقامه ومغذمر ومهزمر حملت » . فقم فلان : بطر وأشر ، والأمر لم يجر على استواء . وغذمره : باعه جزافا ، والغذمرة : الغضب والسخط ، واختلاط الكلام والصياح ، والمغذمر : من يركب الأمور فيأخذ من هذا ويعطي هذا ويدع لهذا من حقه . والهزمرة : الحركة الشديدة ، وهزمره : عنف به . ( البحار ) .
(3) في البحار : « فأتت به محضا بحتا ، وكلهم » .
(4) في العدد القوية والبحار : « سعدانة بغل » .
(5) في البحار : « الهجاء وعزمه » .
(6) في البحار : « الوراثة » .
(7) في العدد القوية والبحار : « وكأنّ الشبادع تلسبه » . والشبادع : جمع شبدع بالدال المهملة كزبرج ، وهو العقرب . يقال : لسبته الحية وغيرها كمنعه وضربه لدغته . ( البحار ) .
(8) المراد بالخريق من يخرق الدين ويضيعه ، وكان يحتمل النون فيهما فالفرنق كقنفذ : الرديء ، والخرنق كزبرج : الرديء من الأرانب . ( البحار ) .
(9) في العدد القوية والبحار : « وكثرة الأبز » .
الوهز : الوطي ، والدفع ، والحث . والأبز : الوثب والبغي . ( البحار ) .
(10) المرت : المفازة . ( البحار ) .
(11) التامور : الوعاء ، والنفس وحياتها ، والقلب وحياته ، ووزير الملك ، والماء ، ولكل وجه

( 204 )

في مواضعها ، لكنّهم انتهزوا الفرصة واقتحموا الغصة وآبوا (14) بالحسرة .
فتربّد وجه الوليد ، وغصّ بريقه ، وشرق بعبرته ، كأنما فقئ (15) في عينه حبّ المض الحازق ، فأشار عليه بعض جلسائه بالإنصراف ، وهو لا يشكّ أنه مقتول ، فانصرف فوجد بعض الأعراب داخلا على الوليد فقال له : هل لك أن تأخذ خلعتي الصفراء وتدفع إليّ خلعتك السوداء وأجعل لك بعض الجائزة ؟ فقبل الأعرابي الداخل وأخذ وأعطى ، ثم استوى على راحلته وغاص في بيدائه وتوغّل في صحرائه (16) واعتقل الأعرابي الداخل فضربت عنقه وجيء برأسه إلى الوليد ، فقال : ليس هذا بصاحبنا ، وأنفذ الخيل السراع في طلبه فلحقوه بعد وناء (17) ، فلما أحسّ بهم أدخل يده في كنانته وجعل يخرج سهما بعد سهم يقتل به فارسا فارسا إلى أن قتل منهم أربعين فارسا وانهزم الباقون ، فجاءوا إلى الوليد فأخبروه بذلك ، فأغمي عليه يوما وليلة ، فلما أفاق قال : يا قوم ، إني أجد على قلبي غمّة كالجبل من فوت الأعرابي . الحديث (18) .
____________
=
مناسبة . ( البحار ) .
(12) في العدد القوية والبحار : « ألغوه » .
(13) في العدد القوية والبحار : « واضعا الأشياء » .
(14) في العدد القوية والبحار : « وباؤا » .
(15) كأنما فقئ : أي كأنما كسر حاذق لايخطئ حبا يمض العين ويوجعها في عينه ، فدخل ماؤه فيها كحب الرمان أو الحصرم ، عبّر بذلك عن شدة احمرار عينه . ( البحار ) .
(16) في العدد القوية والبحار : « وغاص في صحرائه وتوغّل في بيدائه » .
(17) في العدد القوية والبحار : « لأى » . واللاى : الإبطاء والاحتباس والشدة .
(18) ورواه علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص 253 قال : روى أبوالحسن اليشكري قال : حدثني عمرو بن العلاء قال : حدثني يونس النحوي اللغوي قال : حضرت مجلس الخليل بن أحمد العروضي قال : حضرت مجلس الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان ، قال : وقد اسحنفر في سبّ علي واثعنجر في ثلبه ، إذ خرج عليه أعرابي على ناقة له وذفراها يسيلان لاغذاذ السير دما ...
ورواه عنه المجلسي في البحار : ج 46 ص 321 .

( 205 )

ولله درّ من قال من الرجال الأبدال :

أعلام ديـن راســخ لهــم
في نشر كـل فضيلــة نشر
وهم الريــاض المونقات لهم
في طيّ كلّ رياضة صــدر
فكاهم فخـرا إذا افتخــروا
ما دام حيــا فيهم الفخــر
وصلوا نهـارهـم بليلهــم
نظرا وما لوصالهــم فجـر
وطووا على مضض سرائرهم
صبرا وليس لطيّهـم نشــر
يا غائبيــن متى بقربكــم
من بعد وهن يجبر الكســر
الفـيء منقســم لغيركــم
وأكفّكم من فيئكــم صفــر
والمال حل للعصـاة ويحرمه
الكــرام الســادة الغــرّ
فنصيبهم منـه الأعمّ علــى
عصيانهــم ونصيبكـم نزر
والناس في أمن وليس لهــم
من طارق يغشـاهم حــذر
ويكاد من خوف ومن فــزع
بكم يضيق البـرّ والبحــر


( 206 )

لكنه لابدّ من فــرج
والأمر يحدث بعده الأمر

فوا حسرة الدين على قمر الفضائل ، كيف خسف بأيدي الجفاة الأراذل ، حمّلهم الحسد الخاذل والبغضاء والغوائل ، على إطفاء نور الله الكامل ، فعمدوا إلى وليّه الفاضل ، وحكمه الفاصل ، فأذاقوه السمّ القاتل ، وغيّبوا هيكله الشريف تحت رجام الجنادل .
روى أبو بصير قال : بعث الوليد بن عبدالملك إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام بسرج مسموم وأمره بالركوب عليه ، فلما ركبه تورّمت قدماه وفخذاه وأعتل العلة التي مات فيها ، فلما عزم على المصير إلى روح الله وريحانه ، وحلول منازل جنانه ، واشتاق إلى لقاء محبوبه ، ليفوز منه بنيل مطلوبه ، ودعاه هواء الاباء والأجداد ، وأشعلت نار شوقه نفحات الوداد ، أوصى إلى ابنه أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام حسب ما أمره القادر الخالق ونصّ عليه ، وسلم مواريث آبائه إليه ، كما روي عنه صلى الله عليه وآله ، قال :
« كنت عند أبي في اليوم الذي قبض فيه ، فأوصاني بأشياء في تغسيله وتكفينه وقبره » .
قال الصادق عليه السلام : « فقلت له : جعلت فداك يا أبتاه ، والله ما رأيتك منذ شكوت أحسن منك هيئة اليوم ولست أرى عليك للموت أثرا . فقال لي : يا بُني ، إني سمعت جدك عليّ بن الحسين ينادي من وراء الجدار : يا محمد تعال وعجّل .
ثم قال لي : يا بُنيّ قم فأدخل عليّ أناسا من قريش حتى أشهدهم
» .
قال الصادق عليه السلام : « فقمت وأتيته بأناس ، فقال لي : يا بني ، إذا أنا متّ فغسّلني وكفّني وارفع قبري أربع أصابع ، ورشّه بالماء .
فلما خرجوا قلت : يا أبت ، لو أمرتني بهذا صنعته ، فلأيّ شيء أمرتني بإدخال هؤلاء النفر ؟!
فقال لي : يا بُنيّ ، أردت أن لا تنازع في الإمامة ، ولا تختلف عليك الشيعة ،



( 207 )

لأن كل من أوصى إليه السابق من الأئمة فهو الخليفة بعده .
وما زال عليه السلام يناجي ربّه ويدعوه حتى قضى نحبه صلوات الله وسلامه عليه
» (1) .
وكانت وفاته في يوم الاثنين رابع ذي الحجة سنة أربع عشر ومئة من الهجرة (2) .
فقامت الواعية من داره ، وعلا النحيب من نسائه وجواره ، وخرجت نساء بني هاشم مشقّقات الجيوب ، ناشرات الشعور ، خامشات الوجوه ، لاطمات الخدود ، فيا له من يوم ما أشدّه على آل الرسول ، وما أمضّه على عليّ والبتول ، فقد انطمس فيه المعقول والمنقول ، وغادر شمس الإمامة الأفول .
أو لا تكونون يا ذوي العقول ، كمن ألبسه يومه المهول ، أثواب الضنى والنحول ، وكدّر عليه هنيء المشروب والمأكول ، فرثاه وندبه بما صوّرته القرائح ، من المراثي والمدائح ، وأجرى عليه الدموع السوافح ، ولله درّه من راث ونائح .



____________
(1) وقريبا منه رواه الكليني في الكافي : 1 : 307 باب الإشارة والنص على أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليهما : ح 8 ، وعنه في البحار : 46 : 214 .
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 181 وعنه في البحار : 47 : 13 ح 9 من الباب 9 .
ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 268 ، والإربلي في كشف الغمة : 2 : 379 .
وروى قسما منه الصفار في بصائر الدرجات : ص 482 ح 6 من الباب 9 من الجزء 10 مع اختلاف في الألفاظ ، وعنه في البحار : 46 : 213 ح 4 من الباب 1 .
(2) لاحظ الإرشاد للمفيد : 2 : 158 ، والمناقب لابن شهر آشوب : 4 : 227 في أحواله وتاريخه عليه السلام ، وترجمة الإمام الباقر عليه السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر : ص 163 .