المصرع السابع عشر
وهو مصرع الإمام الهمام عليّ الهادي صلوات الله عليه
اجلوا طخياء ليالي الشكوك بنبراس التسليم ، واهتدوا في فلوات السلوك بلامع التفهيم ، وسيحوا في مهامة الفكرة فالنظر دقيق ، وتدرّعوا بدروع العزلة فالمحبوب رفيق ، وتتوّجوا بتيجان القناعة فالطامع ذليل ، وتمنطقوا بمناطق الطاعة فالوزر ثقيل ، وأحيوا ميت القلوب بتلاوة الأذكار ، وزينوا قامة الجنوب بعبادة الأسحار ، وأعدوا رواحل السير فقد لاح الطريق ، واملأوا حقائب الميرة فقد حصل دليل التوفيق ، وطهروا دنس العقائد بقراح الإنقياد ، واستعدّوا لهاتيك الشدائد المركب والزاد ، واعلموا أن الحاكم عدل لا يظلم في الأحكام ، والصراط دقيق لا تثبت عليه الأقدام ، والقسطاس مبين لا يعتريه التغيير ، والشاهد أمين لا يغادر صغيرا ولا كبيرا ، فأمسكوا أزمّة الولا ، واقتدوا بأشراف الملا ، فإنهم قد جانبوا لذات الحياة ، وطلقوا أبكار البهجة والمسرّات ، وصبروا على الأذى في محبوبهم ، وأمروا بالتحمل في مسنونهم ومندوبهم ، فالولاء بدون التسليم كذب وبهتان ، والوداد بغير المواساة زور وخسران .

إذا كنت تهوي القوم فاسلك طريقهم * فما وصلــوا إلا بقطـع العلائق

فانتبه أيها الراقد من سنة غفلتك ، وانهج أيها السالك طريق أئمتك ، فهم والله أنوار الهداية السافرة ، والقرى المباركة الظاهرة ، المأمور باتباعهم في صريح القرآن ، والمحثوث على موالاتهم في الذكر والبيان ، بهم يدرك المطلوب ، وقربهم قرب المحبوب .

خليليّ عوجا بي على الركب عوجة * عسـى يشتفي فيها السقيم المعذب
ولو لم يكن إلا بتعريـس ساعــة * لمامـا نؤدي بعض فرض ونندب


( 270 )

خليليّ لا والله لـو قــد علمتمــا * من النازخ الثــاوي به والمغيب
لما اخترتمـا يوما علـى ذاك منزلا * وإن لم يكن إلا مـن الدمع مشرب
فعوجـا بنفسـي أنتمــا وتبيّنــا * فخير صحاب المـرء من لا يؤنّب
تقولان قصد العيس جمع ويثــرب * صدقتـم وهذا الربـع جمع ويثرب
ولا تعجبا مما يحــاول مدنــف * فأمركمــا في اللوم أدهى وأعجب
دعاني وأشجانـي الفــؤاد فإننـي * جعلتكما في أوســع الحلّ فاذهبوا
صحبتكما كي تسعفاني على الجـوى * أماسبــة إذ لــم تفوا إن تؤنّبوا

روي في كتاب المعالم (1) مرفوعا إلى جابر بن يزيد الجعفي قال : قال أبوجعفر الباقر عليه السلام : « كان الله ولا شيء غيره ولا معلوم ولا مجهول ، فأول ما ابتدأ به من خلق أن خلق محمدا وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته ، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر ، فانفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس نسبح الله تعالى ونقدّسه ونحمده ونعبده حق عبادته .
ثم بدأ الله تعالى بخلق المكان فخلقه وكتب عليه « لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أميرالمؤمنين ووصي رسول الله » .
ثم كيّف الله العرش فكتب على سرادقاته مثل ذلك ، ثم خلق السماوات فكتب على أطرافها مثل ذلك ، ثم خلق الجنة والنار وكتب عليهما كذلك .
ثم خلق الملائكة وأسكنهم السماء ، ثم تراءا لهم وأخذ منهم الميثاق له بالربوبيّة ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولعلي وأولاده بالولاية ، فارتعدت فرائص الملائكة فسخط على الملائكة واحتجب عنهم فلاذوا بالعرش سبع سنين يستجيرون الله من سخطه ، ويقرّون بما أخذ عليهم ، ويسألونه الرضا عنهم ، فرضي بعد ما أقرّوا

____________
(1) لعل مراده من « المعالم » معالم العترة النبوية للجنابذي ، وما عثرت عليه ، انظر « أهل البيت في المكتبة العربية » للسيد عبدالعزيز الطباطبائي .
( 271 )

بذلك ، فاسكنهم في السماء واختصهم لنفسه واختارهم لعبادته .
ثم أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبحنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا ، ولولا تسبيحنا مادروا كيف يسبّحون الله ويقدسونه .
ثم إن الله تعالى خلق الهواء فكتب عليه ما كتب على العرش .
ثم خلق الجن وأسكنهم فيه ، وأخذ الميثاق له منهم بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولعلي وأولاده بالولاية ، فأقر منهم بذلك من أقرّ وجحد منهم من جحد ، فأول من جحد إبليس وختم له بالشقاوة .
ثم أمر الله أنوارنا بالتسبيح ، فسبحنا فسبحت الجن لتسبيحنا ، ولو لم نسبح لم يدروا كيف التسبيح .
ثم خلق الله الأرض وكتب على أطرافها ما كتب على الهواء ، فبذلك يا جابر قامت السماوات بلا عمد وثبتت الأرض بلا وتد .
ثم خلق الله آدم من أديم الأرض ونفخ فيه من روحه ، وأخرج ذريته من صلبه فأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية ولمحمد بالنبوة ولنا بالولاية ، فأقرّ منهم من أقرّ وجحد منهم من جحد .
ثم إن الله تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وآله : وعزتي وجلالي وعلوّ شأني ، لولاك ولولا عليّ وعترتكما الهادين المهديين الراشدين ما خلقت الجنة ولا النار ولا المكان ولا الأرض ولا السماء ولا الملائكة ولا الهواء ولا خلقا يعبدني .
يا محمد ، أنت خليلي وحبيبي وصفيي وخيرتي من خلقي وأحبّ الخلق إليّ وأول من ابتدأته من خلقي .
ثم من بعدك الصديق الأكبر عليّ أميرالمؤمنين ووصيك به أيدتك ونصرتك ، جعلته العروة الوثقى ، ونور أوليائي ومنار الهدى ، ثم هؤلاء الهداة المهديون .
من أجلكم ابتدأت ما خلقت ، فأنتم خيار خلقي وأحبائي ، وكلماتي الحسنى وآياتي الكبرى ، وحجتي فيما بيني وبين الورى ، خلقتكم من نور عظمتي ، واحتجبت بكم عن خلقي ، وجعلت بكم استقبالي ، وبكم سؤالي ، فكل شيء هالك



( 272 )

إلا وجهي ، فأنتم وجهي لا تبيدون ولا تهلكون ، ولا يهلك ولا يبيد من تولاكم ، من استقبلني بغيركم فقد ضلّ وهوى ، فأنتم صفوتي ، وحملة سرّي ، وخزنة علمي ، وسادة أهل السموات والأرض .
ثم إن الله تعالى هبط إلى الأرض في ظلل من الغمام والملائكة ، وأهبط أنوارنا معه ، فأوقفنا صفوفا بين يديه نسبحه ونقدسه في أرضه كما سبّحناه في سمائه .
فلما اراد الله إخراج ذرية آدم عليه السلام لأخذ الميثاق سلك نورنا فيه ، ثم أخرج ذريته من صلبه فسبّحنا فسبّحوا ، ولولانا ما دروا كيف التسبيح .
ثم تراءا لهم فقال : « ألست بربكم » ؟ فقلنا : بلى .
ثم أخذ الميثاق منهم بالنبوة لمحمد صلى الله عليه وآله ولعليّ بالولاية ، فأقرّ من أقرّ وجحد من جحد » .
ثم قال أبو جعفر عليه السلام : « نحن أول خلق الله ، وأول خلق عبدالله ، ونحن سبب خلق الخلق ، وسبب تسبيحهم وعبادتهم ، وبنا عرف الله ، وبنا وحّد ، وبنا عبد ، وبنا أكرم من أكرم من جميع خلقه ، وبنا أثاب من أثاب وعاقب من عاقب » .
ثم تلى قوله تعالى : ( وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون ) (1) ، ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) (2) ، فرسول الله أول من عبدالله ، وأول من أنكر إن يكون له ولد أو شريك ، ثم نحن بعد رسول الله ، ثم أودعنا بعد ذلك صُلب آدم ، فما زال ذلك النور يتنقل من الأصلاب والأرحام من صلب إلى صلب ولا استقرّ في صلب إلا صار شرفا لما منه انتقل وشرفا للذي فيه استقر حتى صار في عبدالمطلب وافترق جزئين جزء في عبدالله وجزء في أبي طالب ، فذلك قوله تعالى : ( وتقلّبك في الساجدين ) (3) يعني في أصلاب النبيين ، فعلى هذا أجرانا الله في الأصلاب والأرحام حتى أخرجنا في أوان عصرنا وزماننا
» .
____________
(1) سورة الصافات : 37 : 165 ـ 166 .
(2) سورة الصافات : 27 : 165 ـ 166 .
(3) سورة الشعراء : 26 : 219 .

( 273 )

بدور طوالع ، وجبال فوارع ، وعيون هوامع ، وسيول دوافع ، وسيوف قواطع وبهاليل لو عاين فيض أكفهم الطامع والقانع ، لأيقنّا أن رزق الله في الأرض واسع ، بهم اتّضحت سبل الهدى وبهم سلم من سلم من الردى ، وبحبّهم ترجى النجاة والفوز غدا ، وهم أهل المعروف وأولوا الندى ، كلّ المدائح دون استحقاقهم ، وكل مكارم الأخلاق مأخوذة من مكارم أخلاقهم ، وكل صفات الخير مخلوقة في عنصرهم الشريف وأعراقهم ، فالجنة في وصالهم والنار في فراقهم ، وهذه الصفات تصدق على الجمع والواحد ، وتثبت للغائب منهم والشاهد ، وتنزل على الولد منهم والوالد ، حبهم فريضة لازمة ، ودولتهم باقية دائمة (1) .

فأنــوارهم فتــح لرشد موفـق * وآثــارهم حتف لفيء مظلل
إذا سوبقوا يوم الفخار انتهت بهـم * سوابق للمجد القديــم المؤثّل
تراهم ركوعـا سجـدا وأكفهــم * نوافلـهــا مخلوطـة بالتنفّل
وعين العلى والعلم فيهم فهل ترى * سؤالا ولم للطالــب المتوعّل
مناجيــد أزوال أماجيـد سـادة * صناديـد أبطـال ضراغم حفّل

فمن يجاريهم في الفخر ، ويسابقهم في علوّ القدر ، فما تركوا غاية إلا انتهو إليها سابقين ، ولا مرتبة إلا ارتقوها آمنين ، فالناس كلهم عيال عليهم ، منتسبون انتساب العبودية إليهم ، عنهم أخذت المأثر ، ومنهم تعلمت المفاخر ، وبشرفهم شرّف الأوائل والأواخر .
____________
(1) ورواه البحراني في حلية الأبرار : 1 : 14 ح 2 ، وفي مدينة المعاجز : 2 : 371 ح 611 مع اختلاف في الألفاظ .
ورواه المجلسي في البحار : 15 : 23 ح 41 من باب بدء الخلق وما يتعلق بذلك ، باختصار ، وفي ج 25 ص 17 ح 31 من باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم ، مفصلا ، وفي ج 57 ص 169 ح 112 من باب حدوث العالم وبدء خلقه ، كثيرا من فقراته ، في جميع الموارد عن كتاب رياض الجنان لفضل الله بن محمود الفارسي بإسناده إلى جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام .

( 274 )

روي في كتاب كشف الغمة أن مولد الإمام الهادي عليه السلام كان في اليوم الثاني من شهر رجب سنة أربع عشر ومئتين (1) .
وروي في الكتاب المذكور عن علي بن إبراهيم الطائفي قال : مرض المتوكل من خُراج (2) خرج به فأشرف منه على الموت [ فلم يجسر أحد أن يمسه بحديد ] فنذرت أمه أنه متى عافاه الله أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالا جزيلا من مالها .
ثم إن الفتح بن خاقان قال للمتوكل : لو بعثت إلى هذا الرجل ، يعني أبا الحسن عليه السلام ، فسألته عن دائك ، فربما يكون عنده شيء يفرج الله به عنك .
فقال المتوكل : ابعثوا إليه . فمضى الرسول ورجع فقال : « خذوا بعر الغنم فديفوه بماء الورد وضعوه على الجراح ، فإنه نافع بإذن الله » .
فجعل من حضر المتوكل يهزأ من قوله ، فقال لهم الفتح : وما يضرّ من تجربته ، فوالله إني لأرجو الصلاح به .
فأحضر الكسب وديف بماء الورد ووضع على الجراح ، فانفتح وخرج ما كان
____________
(1) كشف الغمة : ج 3 ص 164 عن ابن طلحة في مطالب السؤول : ص 307 في أول الباب العاشر .
ورواه أيضا في ص 174 عن ابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص 197 ) ، ولم يشر في الموردين إلى اليوم الثاني بل اكتفى بأنه عليه السلام ولد في شهر رجب .
ورواه أيضا في ص 186 عن الطبرسي في إعلام الورى : ص 339 في أول الباب التاسع ، وفيه : ولد عليه السلام بصريا من المدينة في النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشر ومأتين ، وفي رواية ابن عياش يوم الثلثاء الخامس من رجب .
وقال الطبرسي في تاج المواليد : ( مجموعة نفيسة : ص 131 ) : ولد عليه السلام بصريا من مدينة الرسول صلوات الله عليه وآله يوم الثلثاء في رجب ، ويقول في النصف من ذي الحجة ، ويقال : ولد لليلة بقين منه سنة 212 .
ومثله في كشف الغمة : ج 3 ص 165 عن الجنابذي ، وفي ص 166 عن المفيد في الإرشاد : 2 : 297 .
(2) الخراج : ما يخرج من البدن من القروح . ( الصحاح : 1 : 309 « خرج » ) .

( 275 )

فيه ، وبشّرت أم المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن عليه السلام عشرة آلاف دينار .
فعوفي المتوكل من علته ، فلما كان بعد أيام سعى البطحائي بأبي الحسن عليه السلام إلى المتوكل وقال : عنده أموال وسلاح . فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب أن يهجم عليه ليلا ويأخذ ما يجده عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه .
قال إبراهيم بن محمد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن بالليل ومعي سُلم ، فصعدت منه إلى السطح فنزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني أبوالحسن عليه السلام من الدار : « يا سعيد مكانك حتى يأتونك بشمعة » .
فلم ألبث أن آتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة ، فقال لي : « دونك البيوت » . فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئا ، ووجدت البدرة مختمومة بخاتم [ أمّ ] المتوكل وكيسا مختوما معها ، فقال لي أبو الحسن عليه السلام : « دونك المصلى » . فرفعته فوجدت سيفا في جفن ملبوس ، فأخذت ذلك وصرت إليه ، فلما رأى خاتم أمه على البدرة بعث إليها ، فخرجت فسألها عن البدرة ، فأخبرني بعض خدم الخاصة (1) أنها قالت : كنت نذرت في مرضك عليك إن عوفيت أن أحمل من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمك على الكيس ما حرّكها . وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربع مئة دينار ، فأمر أن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد السيف والكيس عليه بما فيه . فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، فقلت : يا سيدي ، عزّ عليّ دخولي دارك بغير إذنك ، ولكني مأمور !
فقال لي : ( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ) (2) . (3)
____________
(1) في كشف الغمة : « بعض الخادم الخاصة » .
(2) سورة الشعراء : 26 : 227 .
(3) كشف الغمة : 3 : 168 مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وما بين المعقوفات منه .

( 276 )

ألا لعنة الله على القوم الظالمين ، ولله در من قال من الرجال :

الله أكبــر إنـهــــا * لمن الغرائـب والعجائب
يستأصلـون معاشـــرا * بلغوا بهم أقصى المطالب
ويظاهـرون بقتــل من * نالــوا بسيفهم المراتب
أبني المراثي والممــادح * والمعالــي والمناقـب
ما إن ذكرت مصـابكــم * إلا وهيـج بي المصائب
فكأنّ من ولعـي بـكــم * ما بين أضلاعي عقارب
صلى الإلــه عليـكــم * ما حـج ببيت الله راكب

وروي في الكتاب المذكور أن المتوكل عرض عسكره وأمر كل فارس منهم أن يملأ مخلاة فرسه طينا ويطرحوه في موضع واحد ، فصار كالجبل ، فسماه « تل المخالي » ، وصعد هو وأبو الحسن عليه السلام على ذلك التلّ ثم قال لأبي الحسن عليه السلام : إنما طلبتك لتشاهد خيولي . وكانوا لابسين التحايف (1) حاملين السلاح ، فعرضوا بأحسن هيئة وأتمّ عدّة وأعظم زينة ، وكان غرضه كسر قلب من يخرج عليه ، وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحدا من أهل بيته بالخروج عليه .
فقال له أبوالحسن عليه السلام : « هل اعرض عليك عسكري » ؟
قال : نعم .
فدعا الله سبحانه وتعالى ، فإذا بين السماء والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدجّجون ، فغشي على الخليفة ، فلما افاق قاله له أبو الحسن : « نحن لا ننازعكم (2) في الدنيا ، فإنا مشغولون بالآخرة ، فلا شيء عليك مما تظن » (3) .
____________
=
ورواه المفيد في الإرشاد : 2 : 302 .
(1) في المصدر : « التجافيف » ، وفي هامشه : قال الفيومي : التِجفاف ـ بالكسر ـ : شيء تلبسه الفرس عند الحرب كأنه درع ، وقيل : سمي بذلك لما فيه من الصلابة واليبوسة ، وقال الجواليني : معرب ومعناه ثوب البدن .
(2) في المصدر : « لاننافسكم » .

( 277 )

وروي في الكتاب المذكور عن أبي سعيد سهل بن زياد قال : حدثنا أبوالعباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن في داره بسرّ من رأى فجرى ذكر أبي الحسن عليه السلام فقال : يا أبا سعيد ، أحدّثك بشيء حدثني به أبي قال : كنّا مع المنتصر ـ وأبي كاتبه ـ فدخلنا والمتوكل على سريره فسلم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحبّ به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلا ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ، ورأيت وجهه يتغيرساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيّ ما يقول ويردّ عليّ القول ، والفتح يسكّنه ويقول : هو مكذوب عليه . والمتوكل يتلظى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق ، فهو الذي يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .
ثم طلب أربعة من الخزر أجلافا ودفع إليهم أسيافا وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنّه بعد قتله . وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبوالحسن عليه السلام وشفتاه تتحركان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلما رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير غليه وانكبّ عليه يقبّل ما بين عينيه ويديه ( ورجليه ) (4) ، واحتمل سيفه بيده (5) وهو يقول : « يا سيدي يا ابن رسول الله ، يا خير خلق الله ، يا ابن عمي ، يا مولاي ، يا أبا الحسن » . وأبو الحسن عليه السلام يقول : « أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا » ؟
فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟
قال : جاءني رسولك .
قال : كذب ابن الفاعلة ، ارجع يا سيدي ، يا فتح ، يا عبدالله (6) ، يا منتصر ، شيّعوا سيدكم وسيّدي .
____________
(3) كشف الغمّة : 3 : 185 .
(4) ما بين القوسين ليس في المصدر .
(5) في المصدر : « واحتمل وشقّه بيده » .
(6) في المصدر : « يا عبيدالله » .

( 278 )

فلما بصر به الخزر سجدوا ، فدعاهم المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟
قالوا : سجدتنا هيبته (1) ، ورأينا حوله أكثر من مئة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك رعبا .
فقال : يا فتح ، هذا صاحبك ، وضحك في وجهه وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار حجته (2) .
فيا لها من مناقب أكسبت الأكوان لامع ضيائها ، وبرقعت الأزمان بناصع سنائمها ، ومكارم تفرد بخصائصها بطبعه الكريم ، وحفظ تائه قلائصها بفضله العميم ، قد كانت نفسه مهذّبة بأهداب اللاهوت ، وأخلاقه مستعذبة بسلسبيل الملكوت ، وسيرته عادلة في جميع الأنام ، وخلاله فاضلة بين الخاص والعام ، إذا قال ذلّل الفصحاء وحيّر البلغاء وأسكت العلماء ، وإن جاد خجّل الغيث ، وإن صال جبن الليث ، وإن فخر أذعن كل ساحل وسلم إليه كل مناضل وأقرّ لشرفه كل شريف وطأطأ لجاهه كل ذي مجد منيف ، وإن طاول فالأفلاك تحت أقدامه ، وإن فاخر فالأملاك من خدامه ، وإن ذكرت العلوم فهو موضح إشكالها وفارس جلادلها وجدالها ، وابن نجدتها (3) وصاحب أقوالها ، وطلاع ثناياها ، وناصب أعلام أعقالها ، فهذه بعض صفات ذاته ، وعلامات معجزاته .

لم تزل عنـده مفاتيــح كشف * قد أماطت عن الغيوب غطاها
قائم في زكاة كــل المعالــي * دائـم دأبــه على ائتياهــا
كـم أدارت يـداه أفلاك مجـد * مستمــر علـى الزمان بقاها
ذاك من جنـة المعالي كطوبـى * كـل شــيء تظلــه أفياها
ذاك ذو الطلعـة التـي تتجلـى * حضرات الجمال دون اجتلاها
لذ إلى جـوده تجـده زعيمـا * حلل المكرمـات من صنعاهـا

____________
(1) في المصدر : « قال : شدة هيبته » .
(2) كشف الغمة : 3 : 185 مع اختلاف لفظية .
(3) نجد الشيء نجودا : ارتفع ، والأمر : وضح واستبان . ( المعجم الوسيط )

( 279 )

كم له شمـس حكمة تتمنّــى * غرة الشمس أن تكون سماها
كم له من روائـح وغــواد * مدد الفيض كـان من مبتداها

وروى في الكتاب المذكور عن ابن أرومة قال : خرجت إلى سر من رأى أيام المتوكل فدخلت إلى سعيد الحاجب وقد دفع المتوكل إليه أبا الحسن عليه السلام ليقتله ، فقال لي سعيد : أتحبّ أن ترى الهك ؟
فقلت : سبحان الله ، إن إلهي لا تدركه الأبصار !
فقال : إنما عنيت الذي تسمونه إمامكم .
قلت : ما أكره ذلك .
فقال لي : إنه قد أمرني المتوكل بقتله ، وأنا فاعل ، فادخل على البريد .
قال : فقمت ودخلت على سيدي وإذا هو جالس (1) هناك وإلى جنبه قبر محفور ، فسلّمت عليه وبكيت بكاءا عاليا ، فقال عليه السلام لي : « ما يبكيك » ؟
قلت : ما أرى .
قال : « لا تبك ، إنه لا يتمّ لهم ما أرادوا ، ولا يلبث (2) أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه » .
فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل (3) .
وروي فيه ايضا عن أبي هاشم الجعفري قال : ظهر برجل من أهل سرّ من رأى برص ، فتنغّص عيشه ، فأشار عليه أبو علي الفهري بالتعرض لأبي الحسن وأن يسأله الدعاء ، فجلس له يوما على طريقه ، فلما رآه قام إليه ، قال عليه السلام له : « تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله ، تنحّ عافاك الله » ، وأشار بيده إليه ثلاث مرات ، فانخزل ولم يجسر أن يدنو منه ، فانصرف ولقي أبا علي الفهري فأعلمه بذلك ، قال
____________
(1) في المصدر : « فإذا خرج صاحب البريد فأدخل عليه فخرج ودخلت وهو جالس » .
(2) في المصدر : « لاتبك ، إنه لا يتمّ له ذلك وإنه لا يلبث » .
(3) كشف الغمّة : 3 : 184 مع اختلاف في بعض الألفاظ .

( 280 )

له : إنه قد دعا لك قبل أن تسأله ، فاذهب فإنك معافى . فذهب فما أصبح إلا وقد برئ من ذلك البرص (1) .
وروي أنه عليه السلام مضى إلى سبيل ربه شهيدا مسموما ، سمه المعتزّ بن المتوكل باليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة مئتين وأربع وخمسين من الهجرة . صلى الله عليه ، ولعنة الله على قاتله وظالمه (2) .
فيا عاذلي كفّ عن ملامي ، ويا لائمي أجّجت عليّ ضرامي ، أأسلوا [ عن ] آل الرسول ، أم أنس أولاد عليّ والبتول ؟ وقد أضحوا عباديد في الفلوات ، متشتّتين في الجهات ، بين قتيل بالحسام ، وهالك بالأوام ، وسميم قد فرت كبده السموم ، وكليم يشوي شواه السموم ، ومقيد لا يفدى ، وعليل لا يعالج ولا يداوى ، فعزيز على محمد المصطفى وعليّ المرتضى والزهراء ، ما حلّ بأولادهم الأصفياء ، من القتل والأذى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
أولا تكونون يا ذوي الإخلاص الصادق ، وأرباب الوداد الفائق ، كمن هدّ هذا المصاب ركونه ، وحبّب إليه منونه ، فضرب قباب الكآبة في أودية اصطباره ، وطنّب فساطيط الصبابة في مرابع قراره ، فجعل النوح شعاره ، والبكاء دثاره ، فنظم المراثي ، ولله دره من راث .
____________
(1) كشف الغمّة : 3 : 183 .
(2) انظر كشف الغمة : 3 : 165 عن مطالب السؤول ، وفي ص 166 عن الخشّاب والمفيد ، وفي ص 174 عن ابن الخشّاب ، وفي ص 186 عن إعلام الورى .
رواه المفيد في الإرشاد : 2 : 311 ، وابن طلحة في مطالب السؤول : ص 308 في الباب 10 ، وابن الخشاب في مواليد الأئمة ووفياتهم : ( مجموعة نفيسة : ص 197 ) ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 339 في أول الباب التاسع .