المصرع التاسع عشر
وهو مصرع محمد بن الحسن عليهما السلام
إخواني ، لا وصول إلى مقامات العلا إلا بمقاسات البلاء وتجرّع كاسات العناء ، من طلب الدرّ شرب الأجاج المرّ ، ومن أمل المناصب ركب السباسب ، فاحمدوا ربكم إذ أكرمكم بسلامة الفطرة ، وخصكم بإصابة الفكرة ، وأعززكم بالنفس الناطقة ، وميزكم بالفراسة الصادقة ، وأنطقكم بالحكم البالغة ، وأيدكم بالبراهين الدامغة ، وصرفكم عن مذاهب الشهوات ، وأرشدكم في غياهب الشبهات ، وبنور وجهه هداكم ، وفي فنا قربه آواكم .
أبدعكم بالنون والكاف ، ورقّمكم في سجلّ الأشراف ، وجعلكم عباده الصالحين ، وأبان لكم طريقه المبين ، أيدكم بأكرم خلقه وأشرفهم ، وأعلمهم به وأعرفهم ، أزكاهم عرقا ، وأطهرهم خلقا ، محمد المحمود بالفعال ، والمعهود بالجود والإفضال ، صلى الله عليه وآله الطاهرين ، وعترته آل طه ويس ، صلى الله عليهم أجمعين .

رويدك إن أحببت نيــل المطالب * فلا تعــد عن ترتيل آي المناقب
مناقب آل المصطفى المهتدى بهـم * إلى منهج التقوى وأسنى الرغائب
مناقب آل المصطفـى قدوة الورى * بهم يبتغي مطلوبــه كل طالب
مناقب تجلى سافـرات وجوههــا * ويجلــو سناهـا مدلهم الغياهب
عليك بها سرا وجهــرا فإنهــا * تحلّـك عند الله أعلــى المراتب

روي في كتاب إرشاد المفيد عن حكيمة بنت محمد بن علي الرضا عليهم السلام قالت :


( 295 )

بعث إليّ أبو محمد سنة ست وخمسين (1) ومئتين في النصف من شعبان فقال لي : « يا عمة ، اجعلي إفطارك عندي ، فإن الله عزوجل سيبشّرك بوليه وحجته على خلقه ؛ خليفتي من بعدي » .
قالت حكيمة : فتداخلني من ذلك سرور شديد ، وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد عليه السلام وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله ، فقلت : جعلت فداك يا سيدي ، الخلف بمن هو ؟
فقال عليه السلام : « من سوسن » .
فأدرت طرفي فلم أر جارية عليها أثر غير سوسن .
قالت حكيمة : فلما أن صلّيت المغرب والعشاء جاءت المائدة فأفطرت أنا وسوسن وبتّ معها في بيت واحد ، فغفوت غفوة ثم استيقظت ، فلم أزل متفكرة فيما وعدني أبو محمد عليه السلام في أمر وليّ الله ، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم فيه كل ليلة لصلاة الليل وبلغت إلى الوتر ، فوثبت سوسن فزعة وخرجت وأسبغت الوضوء ثم عادت فصلت صلاة الليل حتى انتهت إلى الوتر ، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب ، فقمت لأنظر فإذا أنا بالفجر الأول قد طلع ، فتداخل قلبي الشكّ من وعد أبي محمد عليه السلام ، فناداني : « لا تشكّي ، فإنك بالأمر الساعة ترينه إن شاء الله تعالى » .
قالت حكيمة : فاستحيت من ابي محمد ومما دخل بقلبي ، فرجعت إلى البيت وأنا خجلة .
قالت حكيمة : فوثبت إلى نرجس ـ وهي سوسن ـ وقابلتها ظهرا وبطنا ، فلم أرب بها من أثر الحبل شيئا ، فأخبرته بما فعلت ، فتبسم ثم قال لي : « إذا جاء وقت الفجر ظهر لك بها الحبل ، لأنّ مثلها مثل أمّ موسى ، لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلا وقت ولادتها ، لأن فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى ، وهذا نظير موسى » .
____________
(1) في سائر المصادر : « سنة خمس وخمسين » .
( 296 )

قالت حكيمة : فلم أزل أرقبها إلى طلوع الفجر وهي نائمة لا تنقلب جنبا عن جنب حتى إذا كان في آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبت فزعة ، فضمّيتها إلى صدري وسمّيت عليها ، فصاح بي أبو محمد : « يا عمة ، اقرئي ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) » .
فأقبلت اقرأ عليها كما أمرني ، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ ، وسلم عليّ .
قالت حكيمة : ففزعت لما سمعت منه ذلك ، فصاح بي أبو محمد : « لا تعجبي من أمر الله عزوجل ، إن الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغارا ويجعلنا حجة في خلقه كبارا » .
وكان صلوات الله وسلامه عليه يقرأ القرآن وهو حمل في البطن ويتكلم ويعبد الله ربه عزوجل .
قالت حكيمة : فقرأت عليها ( الم ) السجدة و ( يس ) ، فبينما أنا كذلك وإذا هي قد وثبت فزعة ، فوثبت إليها ودنوت منها وقلت : اسم الله عليك ، هل تحسّين شيئا ؟
قالت : نعم .
قلت : أجمعي نفسك وقلبك . وصرت أرقبها وأنا فرحة مسرورة بها ، وعليها من النور ما يحير فيه العقل ، فنعست والتفتّ فإذا قد غيّبت عني فلم أرها ، وضرب بيني وبينها حجاب ، ففزعت لذلك وأشفقت عليها وصرت حائرة ، فعند ذلك مضيت إلى أبي محمد عليه السلام وأنا صارخة ، فلما رآني ناداني وقال لي : « لا عليك يا عمة ، ارجعي إليها فإنك ستجدنيها في مكانها » .
قالت حكيمة : فرجعت إليها فلم ألبث إلا قليلا حتى رفع الحجاب الذي بيني وبينها وإذا عليها من النور ما يغشى الأبصار ، فأخذتني فترة ، فلما فتحت بصري وانتبهت وإذا بالحجة صلوات الله عليه وقد ولد ، والنور يشرق من غرته وهو كالبدر في تمه وكماله ، رافعا سبّابته نحوالسماء يشير بها وهو يتلقّى الأرض


( 297 )

بمساجده ساجدا على الأرض لربه تعالى .
قالت حكيمة : فدنوت منه فوجدته طاهرا مطهرا مختونا مسرورا منضفا جاثيا على الأرض قائلا : « أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله » . وعلى عضده مكتوب : ( وتمّت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم ) (1) ، ورائحة نجوه كالمزك تستره الأرض بابتلاعه ، وكان ذاكرا لربه مستقبلا للقبلة بوجهه حامدا لله ، وعطس ثلاثا قائلا : « الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله عبدا ذاكرا لله غير مستنكف ولا مستكبر » .
ثم قال : « زعمت الظلمة أن حجة الله داحضة ، ولو أذن لي في الكلام لزال الشكّ » (2) .
____________
(1) سورة الأنعام : 6 : 115 .
(2) لم أجده في الإرشاد ، والحديث رواه مفصلا ـ مع مغايرات ـ الشيخ الصدوق في كمال الدين : ج 2 ص 424 باب 42 ح 1 قال : حدثنا محمد بن الحسن بن الوليد رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يحيى العطار قال : حدثنا أبو عبدالله الحسين بن رزق الله قال : حدثني موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قالت : بعث إليّ أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام فقال : يا عمة ، اجعلي إفطاركِ [ هذه ] الليلة عندنا ، فإنها ليلة النصف من شعبان ، فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة وهو حجته في أرضه .
قالت : فقلت له : ومَن أمه ؟ قال لي : نرجس .
قلت له : جعلني الله فداك ؛ ما بها من أثر !
فقال : هو ما أقول لك .
قالت : فجئت فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خُفّي وقالت لي : يا سيدتي [ وسيدة أهلي ] ، كيف أمسيت ؟ فقلت : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي .
قالت : فأنكرت قولي وقالت : ما هذا يا عمة ؟ .
قالت : فقلت لها : يا بُنيّة ، إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة . قالت : فخجلت واستحيت . =



( 298 )


____________
=
فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت ، فلما أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ثم جلست معقّبة ، ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة ، ثم قامت وصلت ونامت .
قالت حكيمة : وخرجت أتفقّد الفجر فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان وهي نائمة ، فدخلني الشكوك ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام من المجلس فقال : لا تعجلي يا عمة ، فهاك الأمر قد قرب .
قالت : فجلست وقرأت ألم السجدة ويس ، فبينما أنا كذلك إذ انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت : اسم الله عليك ، ثم قلت لها : أتحسّين شيئا ؟ قالت : نعم يا عمة .
فقلت لها : اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك .
قالت : فأخذتني فترة وأخذتها فترة ، فانتبهت بحسّ سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به عليه السلام ساجدا يتلقّى الأرض مساجده ، فضممته إليّ فإذا أنا به نظيف متنظّف ، فصاح بي أبو محمد عليه السلام : هلمّي إليّ ابني يا عمة . فجئت به إليه ، فوضع يديه تحت إليتيه وظهره ووضع قدميه على صدره ، ثم أدلى لسانه في فيه وأمّر يده على عينيه وسمعه ومفاصله ، ثم قال : تكلم يا بُني . فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم صلى على أمير المؤمنين وعلى الأئمة عليهم السلام إلى أن وقف على أبيه ، ثم أحجم .
ثم قال أبو محمد عليه السلام : يا عمة ، اذهبي به إلى أمه ليسلّم عليها وائتني به . فذهبت به فسلّم عليها ورددته فوضعته في المجلس . ثم قال : يا عمة ، إذا كان يوم السابع فائتينا .
قالت حكيمة : فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد عليه السلام فكشفت الستر لأتفقّد سيدي عليه السلام ، فلم أره ، فقلت : جعلت فداك ، ما فُعل سيدي ؟ فقال : يا عمة ، استودعناه الذي استودعته أم موسى موسى عليه السلام .
قالت حكيمة : فلما كان في اليوم السابع جئت فسلمت وجلست ، فقال : هلمّي إليّ ابني . فجئت بسيدي عليه السلام وهو في الخرقة ، ففعل به كفعلته الأولى ، ثم أدلى لسانه في فيه فكأنه يغذّيه لبنا أو عسلا ، ثم قال : تكلم يا بُنيّ . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وثنّى بالصلاة على محمد وعلى أميرالمؤمنين وعلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجميعن حتى وقف على أبيه عليه السلام ، ثم تلا هذه الآية : بسم الله الرحمن الرحيم ( ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان =



( 299 )

وكان مولده عليه السلام ليلة الجمعة نصف شهر شعبان سنة ست وخمسين ومئتين ، وتاريخ مولده نور ، صلوات الله عليه .
فلا عجب منه ومما ظهر من برهانه ، وزهر من ساطع بيانه ، فهو خليفة الله على البشر ، وحجته المنتظر ، سيف الله ورايته ، عين الله وعنايته ، ولله در من قال من الرجال ، ولقد أجاد فيما قال :

أقول والنفس مُرخــاة أزمّتهــا * يقودهــا الوجد من سهل إلى حزن
مهلا فقد قربت أوقــات منتظـر * من عهد آدم منصــور على الزمن
صباح مشرقها مصبــاح مغربها * مزيــل محنتهــا عن كل ممتحن
أبو الفتوح الذي تسمو بـه هـمـم * يدوس بالنعـل منها هامـة الحصن
وتنظرين حكيما من بنـي مضـر * لـولاه حيــن شفـاء الدين لم يحن
يسطو بسيفين من بأس ومـن كرم * يستأصـلان عـروق البُخل والجبن

بحر زاخر ، وسحاب هامر ، ونور زاهر ، وحسام باتر ، علامات كماله ظاهرة ، وسمات جلاله باهرة ، ومحاسن علائه سافرة ، وهو حجة الله الظاهرة ، والوسيلة إليه في الدنيا والآخرة .
وأما مناقبه صلوات الله وسلامه عليه ومزاياه ، وصفات شرفه وسجاياه ، وما اجتمع فيه من الفضائل ، وخصّ به من المآثر التي فاق بها الأواخر والأوائل ، فهي لا يقوم بإثباتها البنان ، ولا ينهض بذكرها اللسان ، لأنه أرفع مكانة ومحلا ، وأوفى شرفا ونبلا ، فكيف تدرك العقول كنه جلاله ؟ أو تدري العلماء الفحول غاية حاله ؟
____________
=
وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [ سورة القصص : 5 ] .
قال موسى : فسألت عقبة الخادم عن هذه ؟ فقالت : صدقت حكيمة .
ورواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : ص 234 ح 204 ، وعنه في البحار : 51 : 17 .
ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 394 ، والإربلي ملخصا في كشف الغمة : 3 : 288 .
وانظر هداية الكبرى للخصيبي : ص 355 ح 226 ، وعيون المعجزات للشيخ حسين عبدالوهاب : ص 142 وفيهما إضافات .

( 300 )

روي في كتاب كشف الغمة عن حكيمة بنت محمد قالت : لما مضى من مولد مولانا صاحب الزمان عليه السلام أربعون يوما دخلت على أبي محمد عليه السلام أزوره ، وإذا بمولانا الصاحب يمشي في الدار ، فلم أر وجها أحسن من وجهه ، ولا لغة أفصح من لغته ، فقال لي أبو محمد عليه السلام : « هذا المولود الكريم على الله تعالى » .
فقلت له : يا سيدي ، بلغ من عمر مولانا أربعون يوما ولم أدر من أمره شيئا .
فقال لي : « يا عمة ، نحن معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في الجمعة ، وننشأ في الجمعة كما ينشأ غيرنا في السنة » .
فقمت وقبّلت رأسه وانصرفت ، وعُدتُ وتفقّدته فلم أره ، فقلت لمولانا أبي محمد عليه السلام : ما فعل مولانا ؟
فقال : « يا عمة ، استودعناه الذي استودعته أم موسى » (1) .
وكان أبو محمد عليه السلام لا يظهره إلا للخواصّ من شيعته وثقاته من أهل الإيمان ويحرّضهم على كتمان خبره خوفا من الحاسدين والمشركين والمنافقين الذين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون (2) .
وروي في كتاب المجالس عن يعقوب بن منقوش قال : دخلت على أبي محمد
____________
(1) رواه الإربلي في كشف الغمة : 3 : 290 عن حكيمة قالت : دخلت على أبي محمد بعد أربعين يوما من ولادة نرجس ؛ فإذا مولانا الصاحب يمشي في الدار ، فلم أر لغة أفصح من لغته ، فتبسم أبو محمد وقال : إنا معاشر الأئمة ننشأ في كلّ يوم كما ينشأ غيرنا في الشهر ، وننشأ في الشهر كما ينشأ غيرنا في السنة .
قالت : ثم كنت بعد ذلك أسأل أبا محمد عنه ، فقال : استودعناه الذي استودعت أم موسى ولدها .
ورواه المسعودي في إثبات الوصية : ص 250 مع إضافات كثيرة في أوله ، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : ص 239 ح 207 ، وعنه في البحار : ج 51 ص 20 ح 27 .
(2) اقتباس من الآية 32 من سورة التوبة : 9 ، والآية : ( يريدون أن يطفئوا ... ولو كره الكافرون ) .

( 301 )

وهو جالس على دكّة (1) في داره وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل ، فقلت له : يا سيدي ، مَن صاحب هذا الأمر بعدك ؟
فقال : « ارفع الستر » . فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان [ أو نحو ذلك ] (2) ، واضح الجبين ، أبيض الوجه ، درّي اللون ، أحور المُقلتين (3) ، في خده الأيمن خال كأنّه فتاة مسك (4) ، على رأسه ذؤابة (5) ، فجلس على فخذ أبي محمد عليه السلام فقال لي أبو محمد عليه السلام : « هذا صاحبكم » .
ثم وثب وقال له : « قم يا بُنيّ ادخل إلى الوقت المعلوم » . فدخل البيت وأنا أنظر إليه .
ثم قال أبو محمد : « يا يعقوب ، انظر في البيت » . فذهبت فما رأيت أحدا (6) .
وكان الخليفة قد جعل عليه رصدا ، فغاب في السرداب ، وكان ذلك سنة ست وسبعين ومئتين .
قد وقع من النبوة في أكناف عناصرها ، ورضّع من الرسالة أخلاف أواصرها ، ونزع من القرابة سبحال معاصرها ، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه عقود خناصرها ، اقتنى من الانساب شرف نصابها ، واعتلا عند الانتساب على أشرف أحسابها ، واحتذى الهداية من معادنها وأسبابها ، فهو قطب رحا الإسلام ، وغوث الأنام ، عليه وآبائه الصلاة والسلام .

يا قطب دائرة الوجود * وخير ماش في البلاد

____________
(1) وفي المصادر : « دكان » .
(2) من المصادر .
(3) في المصادر : « دريّ المقلتين ، شثن الكفّين ، معطوف الركبتين » .
(4) الفتاة من الشيء : ما تكسّر منه وتساقط . ( المعجم الوسيط )
(5) في المصادر : « في خدّه الأيمن خال ، وفي رأسه ذؤابة » .
(6) ورواه الصدوق في كمال الدين : 2 : 407 ح 2 وص 437 ح 5 ، وعنه الطبرسي في إعلام الورى : ص 413 فصل 3 والمجلسي في البحار : 52 : 25 ح 17 .
ورواه الراوندي في الخرائج والجرائح : 2 : 958 .

( 302 )

أنت المشفّـع فـي الورى * يا خيـر مهدي وهـادي
لولاك ما حـجّ الحجيـج * ولا حـدى بالعيس حادي
أنت الـذي لولاك مــا * أحيى الكُلى صوب العهاد
أنت الذي عليـاك نـاف * عُلـى علـى السبع الشداد
يا آية الرحمان والســا * قي المشفــع فـي المعاد
صلـى عليــك الله ما * غيث جـرى فوق الوهـاد

وأسند جماعة من أصحابنا رضوان الله عليهم ، منهم الشيخ الفاضل علي بن محمد بن يونس رحمه الله تعالى في كتابه إلى كمال الدين الأنباري قال : أمسينا عند عون الدين الوزير فرأيناه يقرب شخصا لا نعرفه ، فتجارينا في المذاهب ، فقال الوزير : ما أقلّ طائفة الشيعة . فقال له ذلك الرجل الذي معه : أعلم أنّي خرجت مع أبي في سفر البحر من مدينتنا ، فأوغل بنا المركب ، فجئنا جزيرة واسعة ، فسألنا أهلها عن اسمها واسم سلطانها ؟ فقالوا : اسمها المباركة واسم سلطانها الطاهر . قلنا : فأين سرير ملكه ؟ قالوا : بالمدينة الزاهرة .
فسرنا إليها ودخلنا عليه فإذا هو رجل عليه عباءة ، فأخذ منا الجزية ، وكان معنا مسلمون ، فناظرهم في دينهم وقال لهم : أنتم خوارج ولستم مسلمين وتحلّ أموالكم ، فسألوه الحمل إلى سلطانه ، فأجابهم فأخذوا دليلا عارفا .
قال : فخرجنا جميعا في البحر ثلاثة عشر يوما بلياليها وأقبلنا على جزيرة ومدينة مليحة كثيرة الماء طيّبة الهواء ترعى النعاج والسباع في مرتع واحد ، وأهلها في أحسن قاعدة في دينهم ودنياهم وأمانتهم ، ليس فيهم لغو ولا سباب ولا غيبة .
فدخلنا على سلطانهم فإذا هو في قبّة من قصب ، فلما أذّن المؤذّن اجتمع الناس إليه في أسرع وقت ، فصلى بهم وانصرف ، فما رأت عيني أخضع لله منه ولا ألين جانبا للرعيّة ، ثم التفت إلينا وخاطبنا ـ وكان معنا رجل يعرف بالمقرئ الشافعي ـ فقال له : أنت تقول بالقياس ؟


( 303 )

قال : نعم .
قال : هل تلوت آية المباهلة ؟
قال : نعم .
[ قال : ] وآية التطهير ؟
قال : نعم .
قال : وهل بلغك أنّ غير عليّ وزوجته وولديه عليهم السلام خرج إلى المباهلة ، ونزلت آية التطهير فيه ، ولفّ النبي صلى الله عليه وآله عليه كساءه ، أفمن طهّره الله يقدر أحد أن ينجّسه ؟
ثم بسط لسانا أمضى من السهام وأقطع من الحسام ، فقام الشافعي قائلا : العفو العفو ، إنسب لي نفسك .
فقال : أنا الطاهر بن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام الذي أنزل الله فيه : ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) (1) ، ونزل في حقنا : ( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) (2) . فبكى الشافعي وآمن به ، وحمد الله على انتقاله من التقليد إلى اليقين .
وكان أيضا معنا رجل مالكي فآمن به ، وأقمنا في تلك الجزيرة سنة كاملة ، وتحققنا أنّ ملك تلك الجزيرة مسيرة شهرين برا وبحرا ، وأن بعدها جزيرة اسمها الرائقة وسلطانها القاسم بن صاحب الأمر مسيرة ملكها شهران ، وبعدها مدينة اسمها الصافية وسلطانها إبراهيم بن صاحب الأمر ، وبعدها مدينة اسمها طلوم وسلطانها عبدالرحمن بن صاحب الأمر ، أيضا رستاقها وضياعها شهران ، وبعدها مدنية اسمها طاعر وسلطانها هاشم بن صاحب الأمر ، وهي أعظم المدن مسيرة ملكها أربعة أشهر ، فهذه المدن على كبرها لم يوجد فيها غير الشيعة ، فأقمنا
____________
(1) سورة يس : 36 : 12 .
(2) سورة يس : 36 : 12 .

( 304 )

سنة نتوقع ورود صاحب الأمر فلم يوفّق لنا ذلك .
فلما سمع الوزير ذلك أخذ علينا العهد بكتمان ذلك (1) .

وأنّى لمشتاق إلـى نــور بهجــة * سنـا فجرهـا يجلو ظلام فجورها
ظهور أخي عدل له الشمـس آيــة * من الغرب تبدو معجزا من ظهورها
متــى يجمع الله الشتـات وتجبـر * القلـوب التــي لا جابر لكسيرها
متى يظهر المهدي مـن آل هاشــم * على سيــرة لم يبـق غير يسيرها
متى تقدم الرايات من أرض مكّــة * ويضحكنـي بشــرا قدوم بشيرها
وتنظر عينــي بهجــة علويّـة * ويسعد يومــا ناظــري بنظيرها
وتهبــط أملاك السمــاء كتائبـا * لنصرته عن قــدرة من قديــرها
وفتيــان صدق من لؤيّ بن غالب * تسيــر المنايـا هيبــة لمسيرها
تنحّى لهم فوق الظهــور أهلّــة * ظهرن من الأفلاك أعلــى ظهورها
هنالك تعلــو همّة طـال همّهـا * لإدراك ثــار سالــف من مثيرها

عجّل الله بأيام ظهوره ، وأشرق في هذه البقاع ساطع نوره ، وأظلّنا تحت راياته المنصورة ، ونظّمنا في سلك جنوده المحبورة .
وحيث وصل الكلام إلى هذا المقام ، وانتهى جريان القلم بما خطّه بهذه الأقسام الوشام ، فلنختمه بالحمد لله رب العالمين ، فإنها كلمة جعلها آخر دعوى أهل جنانه ، وخصّ بها من اجتباه وكساه ملابس رضوانه ، وهذا آخر ما زبره القلم من مناقبهم السنية ، وسطره من صفاتهم الزكية ، وأنا أسأل الله وأرجو من كرم أخلاقهم أن تشملني بركتهم ، وتضمّني زمرتهم ، وأن يجعل ما رقمته بيدي الداثرة ، وأخرجته من خزانة فكرتي الفاترة ، مسطورا في صحيفة حسناتي ، ويمحو به ما أثبتاه الملكان في ديوان سيئاتي ، وأن يرزقني النظر إلى وجوه أحبّائي ، يوم اتفرّد بعملي عن إخواني وآبائي ، وأن يرسل هاطل العفو على مرابع
____________
(1) أقول : قضية الجزيرة الخضراء أورده المجلسي في البحار : 52 : 160 بنحو آخر مفصلا . وقد كتب غير واحد من أعلامنا في ردّ هذه القصة .
( 305 )

تقصيري ، ويسبل ستر التجاوز على أبواب السؤال عن قطميري ونقيري ، إنه جواد منّان ، وشأنه الغفرات .
تمت هذه النسخة على يد مؤلفها كثير الذنب والقصور ، وراجي عفو ربّه الغفور في عرصات النشور ، سلمان بن عبدالله بن حسين بن محمد بن أحمد بن ابراهيم بن أحمد آل عصفور في رجب سنة 1251 ، وقد تمّ هذا الكتاب بعون الملك الوهّاب ، والحمد لله ربّ العالمين .
وقد فرغ من تسويده على يد أقلّ الخليقة ، بل لا شيء في الحقيقة ، نعمت الله بن جواد بن محمد بن علي بن جعفر الحسني الكاظمي أصلا ومسكنا ، والحمد لله .

فيا ليت الذي يقـرأ كتابـي * دعا لـي بالخلاص من العذاب
سيبقى الخطّ منّي في الكتاب * ويبلـى الكفّ مني في التراب

وكان الفراغ في يوم السابع من شهر شوال المكرم سنة الألف ومئتين وأربعة وستين من الهجرة النبوية على مهاجرها أفضل الصلاة وآلاف التحية ، وصلى الله على محمد وآله .