الباب الثالث
( في ذكر هود وصالح عليهما السلام )

81 ـ وبالاسناد المتقدم عن وهب بن منبّه أنّه قال : كان من أمر عاد أنّ كل رمل على ظهر الأرض وضعه الله لشيء من البلاد كان مساكن (1) في زمانها ، وقد كان الرّمل قبل ذلك في البلاد ، ولكن لم يكن كثيراً حتّى كان زمان عاد ، وأنّ ذلك الرّمل كان (2) قصوراً مشيّدة وحصوناً ومدائن ومصانع ومنازل وبساتين .
وكانت بلاد عاد أخصب [ من ] (3) بلاد العرب ، وأكثرها أنهاراً وجنانا ، فلمّا غضب الله عليهم وعتوا على الله ، وكانوا أصحاب الأوثان يعبدونها من دون الله ، فارسل الله عليهم الريّح العقيم وانّما سميت « العقيم » لأنّها تلقحت بالعذاب ، وعقمت عن الرّحمة (4) ، وطحنت تلك القصور والحصون والمدائن والمصانع حتّى عاد ذلك كلّه رملاً دقيقاً تسفيه الرّيح ، وكان تلك الرّيح (5) ترفع الرّجال والنّساء ، فتهب بهم صعدا ، ثم ترمي بهم من الجوّ (6) فيقعون على رؤوسهم منكّسين .
وكانت عاد ثلاثة عشر قبيلة وكان هود عليه السلام في حسب عاد وثروتها وكان أشبه
____________
(1) في ق 2 : وكان ساكن .
(2) في ق 3 وق 4 والبحار : كانت .
(3) الزيادة من ق 5 .
(4) في ق 2 وق 3 : من الرحمة .
(5) في ق 2 وق 4 : الرياح وكان تلك الرياح .
(6) في ق 2 : إلى الجو .

( 89 )

ولد آدم بآدم صلوات الله عليهما ، وكان رجلاً أدم (1) ، كثير الشّعر ، حسن الوجه ، ولم يكن أحد من النّاس أشبه بآدم منه إلاّ ما كان من يوسف بن يعقوب صلوات الله عليهما ، فلبث هود عليه السلام فيهم زماناً طويلاً يدعوهم إلى الله ، ويبهاهم عن الشّرك بالله تعالى وظلم النّاس ، ويخوّفهم بالعذاب فلجّوا ، وكانوا يسكنون أحقاف الزّمان ، وأنّه لم يكن اُمّة أكثر من عاد ولا أشد منهم بطشاً .
فلما رأوا الرّيح قد أقبلت عليهم قالوا لهود أتخوّفنا بالرّيح ، فجمعوا ذراريهم وأموالهم في شعب من تلك الشّعاب ، ثم قاموا على باب ذلك الشّعب يردّون الرّيح عن أموالهم وأهاليهم ، فدخلت الرّيح من تحت أرجلهم بينهم وبين الأرض حتّى قلعتهم ، فهبّت بهم صعدا ، ثم رمت بهم من الجوّ ثم رمت بهم الريح في البحر ، وسلّط الله عليهم الذّر فدخلت في مسامعهم ، وجاءهم من الذّر ما لا يطاق قبل أن يأخذهم الرّيح ، فسيّرهم ، من بلادهم ، وحال بينهم وبين مرادهم حتّى أتاهم الله (2) .
وقد كان سخّر لهم من قطع الجبال والصّخور والعمد والقوّة على ذلك والعمل به شيئاً (3) لم يسخّره لأحد كان قبلهم ولا بعدهم ، وإنّما سمّيت « ذات العماد » من أجل أنهم يسلخون العمد من الجبال ، فيجعلون طول العمد مثل طول الجبل الّذي يسلخونه منه من أسفله إلى أعلاه ، ثمّ ينقلون تلك العمد فينصبونها ، ثم يبنون فوقها القصور ، وقد كانوا ينصبون تلك العمد أعلاماً في الأرض على قوارع الطّريق ، وكان كثرتهم بالدّهنا ويبرين وعالج إلى اليمن إلى حضرموت (4) .
82 ـ وسئل وهب عن هود أكان أبا اليمن (5) ألّذي ولّدهم ؟ فقال لا ، ولكنّهم أخو اليمن الّذي في التّوراة تنسب إلى نوح عليه السلام ، فلمّا كانت العصبيّة بين العرب وفخرت مضر بأبيها اسماعيل ادّعت اليمن هوداً أباً ليكون لهم أباً ووالداً (6) من الانبياء ،
____________
(1) في ق 3 : أدماً .
(2) في ق 3 : حتى أبادهم الله ، وفي البحار : وحال بينهم وبين موادهم حتى أتاهم الله .
(3) في ق 3 : شيء .
(4) بحار الأنوار ( 11 | 357 ـ 358 ) ، برقم : ( 15 ) .
(5) في ق 1 وق 2 وق 4 وق 5 : أكان باليمن .
(6) في البحار : ليكون لهم أب وولد .

( 90 )

وليس بأبيهم ولكنه أخوهم (1) .
ولحق هود ومن آمن معه بمكّة ، فلم يزالوا بها حتّى ماتوا ، وكذلك فعل صالح عليه السلام بعده ، ولقد سلك فج الرّوحا سبعون ألف نبيّ حجاجاً عليهم ثياب الصّوف مخطمين أبلهم بحبال الصّوف ، يلبّون الله بتلبية شتّى ، منهم : هود وصالح وإبراهيم وموسى ، شعيب ويونس صلوات الله عليهم وكان هود رجلاً تاجراً (2) .

فصل ـ 1 ـ
83 ـ وبالاسناد الّذي قدّمنا عن ابن أبي الديلم ، عن أبي عبدالله سلام الله عليه قال : لمّا بعث الله هوداً أسلم له العقب من ولد سام ، وأمّا الآخرون فقالوا : من أشدّ منّا قوّة ، فأهلكوا بالرّيح العقيم ، ووصى (3) وبشرهم بصالح صلوات الله عليهما (4) .
84 ـ وعن ابن أورمة ، حدّثنا سعيد بن جناح ، عن أيّوب بت راشد ، عمّن ذكره ، عن أبي عبدالله صلوات الله عليه قال : كانت أعمار قوم هود صلوات الله عليه أربعمائة سنة وقد كانوا يعذّبون بالقحط ثلاث سنين ، فلم يرجعوا عمّا هم عليه ، فلمّا رأوا ذلك بعثوا وفداً لهم إلى جبال مكة ، وكانوا لا يعرفون موضع الكعبة ، فمضوا واستسقوا فرفعت لهم ثلاث سحبات ، فقالوا : هذه حفا يعني الّتي ليس فيها ماء وسمّوا الثّنية فاجياً و[ اختاروا ] (5) الثالثة التي فيها العذاب .
قال : والرّيح عصفت عليهم ، وكان رئيسهم يقال له : الخلجان فقالوا : يا هود ما ترى الرّيح إذ أقبلت أقبل معها خلق [ كثير ] (6) كأمثال الأباعر معها أعمدة هم الّذين يفعلون بنا الأفاعيل ، فقال : أولئك الملآئكة ، فقالوا : أترى ربّك إن نحن آمنّا به أن يديلنا منهم ،
____________
(1) في ق 3 والبحار : ولكنه أخو اليمن .
(2) بحار الأنوار ( 11 | 358 ـ 359 ) ، برقم : ( 15 ) .
(3) في البحار : وأوصاه هود .
(4) بحار الأنوار ( 11 | 359 ) ، برقم : ( 16 ) عن إكمال الدين .
(5) الزيادة من البحار .
(6) الزيادة من ق 4 وق 5 والبحار .

( 91 )

فقال لهم هود عليه السلام : إنّ الله تعالى لا يديل أهل المعاصي من أهل الطّاعة ، فقال له الخلجان : وكيف لي بالرّجال الّذين هلكوا ؟ فقال له هود : يبدلك الله بهم من هو خير لك منهم ، فقال : لا خير في الحياة بعدهم (1) ، فاختار اللّحاق بقومه ، فأهلكه الله تعالى (2) .
85 ـ وعن ابن بابويه ، حدّثنا أبي ، حدّثنا سعد بن عبدالله ، عن عبد الملك بن طريف ، عن الأصبغ بن نباته ، قال : خرجنا مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى نخيلة (3) فإذا أناس من اليهود معهم ميّت لهم ، فقال أمير المؤمنين للحسن صلوات الله عليهما : انظر ما يقول هؤلاء في هذا القبر ؟ فقال : يقولون : هو هود عليه السلام فقال : كذبوا أنا أعلم به منهم ، هذا قبر يهود بن يعقوب ، ثم قال : من ها هنا من مهرة ؟ فقال شيخ كبير : أنا منهم ، فقال له (4) : أين منزلك ؟ فقال : في مهرة على شاطىء البحر (5) ، فقال : أين هو من الجبل الّذي عليه الصّومعة . قال : قريب منه قال : ما يقول قومك فيه ؟ فقال : يقولون هو (6) قبر ساحر ، فقال : كذبوا أنا أعلم به منهم ، ذلك قبر (7) هود عليه السلام وهذا قبر يهودا (8) .
86 ـ وباسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن ذرعة بن محمد الحضرمي ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إذا هاجت الرّياح فجاءت بالسّافي الأبيض والأسود والأصفر ، فانّه رميم قوم عاد (9) .
87 ـ وعن ابن بابويه ، حدثنا محمد بن هارون ، حدثنا معاذ بن المثنى العنبري ،
____________
(1) في ق 4 : لا خير لي في الحياة بعدهم ، وفي ق 2 : لا خير لي في الحياة الدّنيا بعدهم ، وفي ق 5 : لا خير في الحياة الدّنيا .
(2) بحار الأنوار ( 11 | 359 ) ، برقم : ( 17 ) .
(3) في ق 2 : النخيلة .
(4) في البحار : فقال لهم .
(5) في ق 4 : الفرات ، وفي ق 3 : النهر .
(6) الزيادة من ق 2 وق 3 .
(7) في ق 2 : هو قبر .
(8) بحار الأنوار ( 11 | 359 ـ 360 ) ، برقم : ( 18 ) .
(9) بحار الأنوار ( 11 | 361 ) و( 69 | 11 ) ، برقم : ( 31 ) .

( 92 )

حدثنا عبدالله بن أسماء (1) ، حدّثنا جويرية ، عن سفيان بن منصور ، عن أبي وائل ، عن وهب قال : لمّا تمّ لهود عليه السلام أربعون سنة أوحى الله إليه أن ائت قومك ، فادعهم إلى عبادتي وتوحيدي ، فان أجابوك زدتهم قوّة وأموالاً ، فبيناهم مجتمعون إذ أتاهم هود ، فقال : يا قوم أعبدوا الله ما لكم من آله غيره ، فقالوا : يا هود لقد كنت عندنا ثقة أميناً قال : فانّي رسول الله إليكم دعوا عبادة الأصنام ، فلمّا سمعوا ذلك منه بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميّت ، فبقى يومه وليلته مغشيّاً عليه ، فلمّا أفاق قال : ربّ إنّي قد عملت وقد ترى ما أفعل بي قومي .
فجاء جبرئيل عليه السلام فقال : يا هود إنّ الله تعالى يأمرك أن لا تفتر عن دعائهم ، وقد وعدك أن يلقي في قلوبهم الرعب ، فقال يقدرون على ضربك بعدها ، فأتاهم هود ، فقال لهم : قد تجبّرتم في الأرض وأكثرتم الفساد ، فقالوا : يا هود اترك هذا القول ، فانّا إن بطشنا بك الثّانية نسيت الاولى ، فقال : دعوا هذا وارجعوا إلى الله وتوبوا إليه ، فلمّا رأى القوم ما لبسهم من الرعب علموا أنّهم لا يقدرون على ضربه الثّانية ، فاجتمعوا بقوّتهم ، فصاح بهم هود عليه السلام صيحة فسقطوا لوجوههم .
ثم قال : يا قوم قد تماديتم في الكفر ، كما تمادى قوم نوح عليه السلام وخليق أن أدعو عليكم كما دعا نوح على قومه ، فقالوا : يا هود إنّ آلهة قوم نوح كانوا ضعفاء وإنّ الهتنا أقوياء ، وقد رأيت شدّة أجسامنا (2) وكان طول الرّجل منهم مائة وعشرين ذراعاً وعرضه ستون ذراعاً ، وكان أحدهم يضرب الجبل الصغير فيقطعه ، فمكث على هذا يدعوهم سبعمائة وستّين سنة .
فلمّا أراد الله تعالى هلاكهم حقف الاحقاف حتى صارت أعظم من الجبال ، فقال لهم هود يا قوم ألا ترون إلى هذه الرّمال كيف تحقّفت (3) إنّي أخاف أن تكون مأمورة ، فاغتمّ هود عليه السلام لما رأى من تكذيبهم إيّاه ونادته الأحقاف قرّ يا هود عيناً ، فانّ لعاد منّا يوم سوء ، فلمّا سمع هود ذلك قال : يا قوم اتّقوا الله واعبدوه ، فان لم تؤمنوا به صارت هذه
____________
(1) في ق 2 : عبدالله بن أسماء بن سماعة .
(2) في ق 1 : أجسادهم .
(3) في ق 4 وق 5 : تخففت .

( 93 )

الاحقاف عليكم عذاباً ونقمة ، فلمّا سمعوا ذلك أقبلوا على نقل الأحقاف ، فلا تزداد (1) إلاّ كثرة ، فرجعوا صاغرين ، فقال هود : يا رب قد بلغت رسالاتك فلم يزدادوا إلا كفراً .
فأوحى الله إليه يا هود : إنّي أمسك عنهم المطر ، فقال هود عليه السلام : يا قوم قد وعدني ربّي أن يهلككم ومرّ صوته في الجبال وسمع الوحش (2) صوته والسّباع والطير ، فاجتمع كلّ جنس منها يبكي ويقول : يا هود أتهلكنا (3) مع الهالكين ، فدعا هود ربّه تعالى في أمرها ، فأوحى الله تعالى إليه : أنّي لا أهلك من لم يعصني (4) بذنب من عصاني تعالى الله علوّاً كبيراً (5) .

فصل ـ 2 ـ
( في حديث إرم ذات العماد )
88 ـ عن ابن بابويه ، حدّثنا ابو الحسين محمد بن هارون الزّنجاني ، حدّثنا معاذ بن المثنى العنبري ، حدّثنا عبدالله بن أسماء ، حدّثنا جويرية ، عن سفيان عن منصور ، عن أبي وائل ، قال : إنّ رجلاً يقال له : عبدالله بن فلانة (6) خرج في طلب إبل له قد شردت (7) ، فبينا هو في بعض الصّحاري في عدن في تكل الفلوات إذا هو قد وقع على مدينة عظيمة عليها حصن ، وحول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال ، فلما دنا منها ظن أنّ فيها من يسأله عن إبله ، فلم ير داخلاً ولا خارجاً ، فنزل عن ناقته (8) وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن ، فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدّنيا أعظم منهما ولا أطول ، وإذا
____________
(1) في ق 2 : فلا تزد .
(2) في ق 2 : الوحوش .
(3) في ق 3 : أهلكتنا .
(4) في ق 3 : لم يعص .
(5) بحار الأنوار ( 11 | 361 ـ 362 ) ، برقم : ( 21 ) .
(6) في ق 3 والبحار : عبدالله بن قلابة ، وعن لسان الميزان ( 3 | 327 ) قال : عبدالله بن قلابة صاحب حديث إرم ذات العماد .
(7) في ق 1 : تشردت .
(8) في ق 1 : عن قتبة .

( 94 )

خشبهما من أطيب خشب عود ، وعليهما نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ، ضوئهما قد ملأ المكان ، فلمّا رآى ذلك أعجبه ، ففتح أحد البابين فدخل ، فإذا بمدينة لم ير الراؤون مثلها ، وإذا هو بقصور كل قصر معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت ، وفوق كلّ قصر منها غرف ، وفوق الغرف غرف مبنيّة بالذهب والفضّة والياقوت واللّؤلؤ والزّبرجد ، وعلى كلّ باب من أبواب تلك القصور مصراع مثل مصراع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت (1) وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران .
فلمّا رآى ذلك ولم ير هناك أحداً أفزعه ذلك ، ثمّ نظر إلى الأزقة ، فإذا في كلّ زقاق منها أشجار قد أثمرت تحتها أنهار تجري ، فقال : هذه الجنّة الّتي وضعت لعباد الله في الدنيا فالحمد لله الّذي أدخلني الجنّة ، فحمل من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران ، فانّها كانت منثورة (2) بمنزلة الرّمل ، ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ولا من ياقوتها ، لانّه كان مثبتاً في أبوابها وجدرانها ، فأخذ ما أراد وخرج إلى اليمن ، فأظهر ما كان منه ، وأعلم النّاس أمره ، وفشا خبره وبلغ معاوية ، فأرسل رسولاً إلى صاحب صنعاء ، وكتب بإشخاصه فشخص حتى قدم على معاوية وخلا به وسأله عمّا عاين ، فقصّ عليه أمر المدينة وما رآى فيها ، وعرض عليه ما حمله منها .
فبعث معاوية إلى كعب الاحبار ودعاه ، وقال : يا ابا إسحاق هل بلغك أنّ في الدّنيا مدينة مبنيّة بالذّهب والفضة ؟ فقال كعب الأحبار : أما هذه المدينة ، فصاحبها شداد بن عاد الّذي بناها ، فهي إرم ذات العماد وهي الّتي وصفها الله تعالى في كتابه المنزل على نبيّه محمد صلى الله عليه وآله ، قال معاوية : حدثنا بحديثها .
فقال : إن عاد الاولى ـ وليس بعاد قوم هود ـ كان له إبنان يسمّى أحدهما « شديد » والآخر « شداد » فهلك عاد وبقيا وملكا وتجبّرا ، وأطاعهما النّاس في الشّرق والغرب ، فمات شديد وبقي شدّاد ، فملك وحده ولم ينازعه أحد ، وكان مولعاً بقراءة الكتب ، وكان كلّما يذكر الجنّة رغب أن يفعل مثلها في الدّنيا عتوّاً على الله تعالى ، فجعل على صنعتها مائة
____________
(1) في ق 2 : الياقوت .
(2) في ق 1 وق 2 : منشورة .

( 95 )

رجل تحت كلّ واحد منهم ألف من الأعوان ، فقال : انطلقوا إلى أطيب فلاة من الأرض وأوسعها فاعملوا لي مدينة من ذهب وفضّة وياقوت وزبرجد واصنعوا تحت المدينة أعمدة من ياقوت وزبرجد ، وعلى المدينة قصوراً ، وعلى القصور غرفاً ، وفوق الغرف غرفاً ، واغرسوا تحت القصور في أرضها أصناف الثّمار كلّها ، وأجروا فيها الأنهار حتّى تكون تحت أشجارها فقالوا : كيف نقدر على ما وصفت لنا من الجواهر والذّهب والفضّة حتّى يمكننا أن نبني مدينة (1) كما وصفت ؟ قال شداد : أما تعلمون أن ملك الدّنيا بيدي ؟ قالوا : بلى ، قال : فانطلقوا إلى كلّ معدن من معادن الجواهر والذهب والفضّة ، فوكّلوا عليها جماعة حتّى يجمعوا ما تحتاجون إليه ، وخذوا جميع ما في أيدي الناس من الذّهب والفضّة ، فكتبوا إلى كلّ ملك في المشرق والمغرب ، فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين ، فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاثمائة (2) سنة .
فلمّا أتوه وأخبروه بفراغهم منها ، قالوا : انطلقوا فاجعلوا عليها حصناً ، واجعلوا حول الحصن ألف قصر ، لكلّ قصر ألف علم ، يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرآئي ، فرجعوا وأعملوا ذلك كلّه .
ثم أتوه فأخبروه بالفراغ مما أمرهم به ، فأمر الناس بالتّجهيز إلى إرم ذات العماد ، فأقاموا إلى جهازهم إليها عشر سنين ، ثمّ سار الملك شداد يريد إرم ذات العماد ، فلمّا كان من المدينة على مسيرة يوم وليلة ، بعث الله جلّ جلاله عليه وعلى من معه صيحة من السّماء فاهلكتهم جميعاً ، وما دخل هو إرم ولا أحد ممن كان معه ، وإنّي لأجد في الكتب أنّ واحداً يدخلها فيرى ما فيها ، ثم يخرج فيحدّث بما يرى ولا يصدّق ، فسيدخلها أهل الدّين (3) في آخر الزمان (4) .

فصل ـ 3 ـ
( في نبوة صالح صلوات الله عليه )
وهو صالح بن حاثر بن ثمود بن حاثر بن سام بن نوح صلوات الله عليه (5) .
____________
(1) في ق 2 : المدينة .
(2) في ق 2 : ثمانمائة .
(3) في ق 2 : أهل الدنيا .
(4) بحار الأنوار ( 11 | 367 ـ 369 ) ، برقم : ( 2 ) .
(5) بحار الأنوار ( 11 | 377 ) ، برقم : ( 2 ) ، وفيه : هو صالح بن ثمود بن عاثر بن ارم بن سام بن نوح .

( 96 )

وأمّا هود ، فهو ابن عبدالله بن رياح ابن حيلوث ـ حلوث ، جلوث ـ بن عاد بن عوض بن آدم بن سام بن نوح (1)
89 ـ أخبرنا أبو نصر الغازي ، عن أبي منصور العكبري ، عن المرتضى والرّضي ، عن الشّيخ المفيد ، عن الشيّخ أبي جعفر بن بابويه ، عن علي بن العباس الدّينوري ، عن جعفر بن محمد البلخي ، عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن إبراهيم بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر صلوات الله عليهما وسأله رجل عن أحاب الرّس (2) الذين ذكرهم الله في كتابه من هم ؟ وممن هم ؟ وأيّ قوم كانوا ؟
فقال : كانا رسّين (3) أما أحدهما ـ فليس الّذي ذكره الله في كتابه ـ كان أهله أهل بدو وأصحاب شاة وغنم ، فبعث الله تعالى إليهم صالح النّبي رسولاً ، فقتلوه وبعث إليهم رسولاً آخر فقتلوه ، ثم بعث إليهم رسولاً آخر وعضده بوليّ ، فقتل الرّسول وجاهد الوليّ حتّى أفحمهم ، وكانوا يقولون إلهنا في البحر ، وكانوا على شفيره وكان لهم عيد في السّنة يخرج حوت عظيم من البحر في ذلك اليوم فيسجدون له .
فقال وليّ صالح لهم لا أريد أن تجعلوني ربا ، ولكن هل تجيبوني إلى ما دعوتكم ؟ إن أطاعني ذلك الحوت ، فقالوا : نعم وأعطوه عهوداً ومواثيق ، فخرج حوت راكب على أربعة أحوات ، فلما نظروا إليه خرّوا له سجداً ، فخرج ولي صالح النّبي إليه وقال له : ائتني طوعاً أو كرها بـ : بسم الله الكريم فنزل على أحواته ، فقال الوليّ ائتني عليهن لئلا يكون من القوم في أمري شك فأتى الحوت إلى البرّ يجرّها إلى عند وليّ صالح ، فكذّبوه بعد ذلك فأرسل الله إليهم ريحاً ، فقذفهم (4) في اليم أي البحر ومواشيهم ، فأتى الوحي إلى ولي صالح بموضع ذلك البئر وفيها الذّهب والفضّة ، فانطلق فأخذه ففضّه على أصحابه بالسّوية على الصّغير والكبير (5) .
وأما الّذين ذكرهم الله في كتابه ، فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرّس ، وكان فيها أمياه
____________
(1) بحار الأنوار ( 11 | 350 ) ، برقم : ( 1 ) .
(2) في البحار : عن يعقوب بن ابراهيم قال : سأل رجل ابا الحسن موسى عليه السلام عن أصحاب الرّس .
(3) في ق 3 : كانا رئيسين ، وفي ق 4 وق 5 : كانا رسيين .
(4) في ق 1 وق 2 : فنبذهم .
(5) بحار الأنوار ( 11 | 387 ـ 388 ) ، برقم : ( 13 ) .

( 97 )

كثيرة ، فسأله رجل وأين الرّس ؟ فقال : هو نهر بمنقطع آذربيجان ، وهو بين حدّ (1) أرمنيّة وآذربايجان ، وكانوا يعبدون الصلبان ، فبعث الله إليهم ثلاثين نبيّاً في مشهد واحد فقتلوهم جميعاً ، فبعث الله إليهم نبيّاً وبعث معه وليّاً فجاهدهم ، وبعث الله ميكائيل في أوان وقوع الحبّ والزّرع ، فانضب ماءهم ، فلم يدع عيناً ولا نهراً ولا ماءاً إلاّ أيبسه ، وأمر ملك الموت فامات مواشيهم وأمر الله الارض فابتلعت ما كان لهم من تبر أو فضة أو آنية « فهو لقائمنا عليه السلام إذا قام » فماتوا كلّهم جوعاً وعطشاً وبكاءاً ، فلم يبق منهم باقية وبقي منهم قوم مخلصون ، فدعوا الله أن ينجيهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلاً لئلا يطغوا ، فأجابهم الله إلى ذلك ، لما علم من صدق نيّاتهم .
ثم عاد القوم إلى منازلهم ، فوجدوها قد صارت أعلاها أسفلها ، واطلق الله لهم نهرهم وزادهم فيه على ما سألوا ، فقاموا على الظّاهر والباطن في طاعة الله ، حتى مضى أولئك القوم ، وحدث نسل بعد ذلك أطاعوا الله في الظاهر ونافقوه في الباطن وعصوا بأشياء شتّى ، فبعث الله من أسرع فيهم القتل ، فبقيت شرذمة منهم ، فسلّط الله عليهم الطاعون ، فلم يبق منهم أحد وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد ، ثم أتى الله تعالى بقوم بعد ذلك فنزلوها وكانوا صالحين ، ثم أحدث قوم منهم فاحشة واشتغل الرّجال بالرجال والنّساء بالنّساع ، فسلّط الله عليهم صاعقة ، فلم يبق منهم باقية (2) .
90 ـ وباسناده عن ابن أورمة ، عن علي بن محمد الخيّاط ، عن علي بن أبي حمزة (3) عن أبي بصير عن أبي عبدالله صلوات الله عليه في قوله تعالى : « كذّبت ثمود بالنّذر » (4) فقال : هذا لما كذبوا صالحاً صلوات الله عليه ، وما أهلك الله تعالى قوماً قطّ حتّى يبعث إليهم الرّسل قبل ذلك فيحتجّوا عليهم ، فإذا لم يجيبوهم أهلكوا ، وقد كان بعث الله صالحاً عليه السلام فدعاهم إلى الله فلم يجيبوه وعتوا عليه ، وقالوا : لن نؤمن لك حتّى تخرج لنا من الصخّرة ناقة عُشرآء (5) ، وكانت صحرة يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كلّ سنة
____________
(1) في ق 3 : هو من حدّ .
(2) بحار الأنوار ( 14 | 153 ـ 154 ) ، برقم : ( 4 )
(3) وفي النسخ : علي بن حمزة والظاهر أنّه : علي بن أبي حمزة البطائني قائد أبي بصير .
(4) سورة القمر : 23 .
(5) ناقة عشراء : هي التي مضى من خمسة عشرة أو ثمانية أشهر ، أو هي كالنفساء من السماء .

( 98 )

ويجتمعون عندها ، فقالو له : إن كنت كما تزعم نبيّاً رسولاً ، فادع الله يخرج لنا ناقة منها فأخرجها لهم كما طلبوا منه .
فأوحى الله تعالى إلى صالح أن قل لهم : إنّ الله تعالى جعل لهذه النّاقة شرب يوم ولكم شرب يوم ، فكانت النّاقة إذا شربت يومها شربت الماء كلّه ، فيكون شرابهم ذلك اليوم من لبنها ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومه ذلك ، فإذا كان اللّيل واصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوهم ذلك اليوم ولا تشرب النّاقة ، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى عتوا ودبّروا في قتلها ، فبعثوا رجلاً أحمر أشقر أزرق لا يعرف له أب ولد الزّنا ، يقال له : قذار ليقتلها ، فلمّا توجّهت الناقة إلى الماء ضربها ضربة ، ثم ضربها اُخرى فقتلها ، وفرّ فصيلها حتى صعد إلى جبل ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا أكل منها ، فقال لهم صالح عليه السّلام : أعصيتم ربّكم إنّ الله تعالى يقول : إن تبتم قبلت توبتكم ، وإن لم ترجعوا بعثت إليكم العذاب في اليوم الثالث ، فقالوا يا صالح ائيتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ، قال : إنّكم تصبحون غداً وجوهكم مصفرة ، واليوم الثّاني محمرّة ، واليوم الثّالث مسودّة ، فاصفرت وجوههم فقال بعضهم : يا قوم قد جاءكم ما قال صالح ، فقال العتاة : لا نسمع ما يقول صالح ولو هلكنا (1) ، وكذلك في اليوم الثّاني والثالث ، فلمّا كان نصف اللّيل أتاهم جبرئيل ، فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم وقلقلت قلوبهم (2) ، فماتوا أجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم ، ثم أرسل الله عليهم ناراً من السّماء فأحرقتهم (3) .

فصل ـ 4 ـ
91 ـ وباسناده عن الصّفار ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن علي بن أسباط ، عن سيف بن عميرة ، عن زيد الشحام (4) ، عن أبي عبدالله صلوات الله عليه قال : إن صالحاً عليه السلام غاب عن قومه زماناً ، وكان يوم غاب كهلاً حسن الجسم (5) ،
____________
(1) في ق 2 : وان هلكنا .
(2) في ق 3 : فلقت قلوبهم .
(3) بحار الأنوار ( 11 | 385 ـ 386 ) ، برقم : ( 11 ) .
(4) في البحار : عن إبن أسباط عن إبن أبي عمير عن الشّحام .
(5) في ق 2 : حسن الوجه .

( 99 )

وافر اللّحية ، ربعة من الرّجال ، فلمّا رجع إلى قومه لم يعرفوه ، وكانوا على ثلاث طبقات : طبقة جاحدة (1) ولا ترجع أبداً ، وأخرى شاكة ، وأخرى على يقين ، فبدأ حين رجع بالطّبقة الشّاكة ، فقال لهم : أنا صالح فكذّبوه وشتموه وزجروه ، وقالوا : إنّ صالحاً كان على غير صورتك وشكلك ، ثم أتى (2) إلى الجاحدة فلم يسمعوا منه ونفروا منه أشد النّفور .
ثم انطلق إلى الطبقة الثالثة وهم أهل اليقين ، فقال لهم : أنا صالح ، فقالوا أخبرنا خبراً لا نشكّ فيه أنّك صالح انا تعلم أنّ الله تعالى الخالق (3) يحوّل في أيّ صورة شاء ، وقد أخبرنا وتدارسنا بعلامات صالح عليه السلام إذا جاء ، فقال : أنا الّذي أتيتكم بالنّاقة ، فقالوا : صدقت وهي الّتي تتدارس (4) فما علامتها ؟ قال : لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم (5) ، فقالوا : آمنّا بالله وبما جئتنا به « قال » عند ذلك ( الّين استكبروا ) وهم الشّكاك والجحاد : ( وإنّا بالّذي آمنتم به كافرون ) (6) .
قال زيد الشحّام : قلت : يا بن رسول الله (ص) هل كان ذلك اليوم عالم ؟ قال : الله أعلم من أن يترك الأرض بلا عالم ، فلمّا ظهر صالح عليه السلام اجتمعوا عليه ، وإنّما مثل عليّ والقائم صلوات الله عليهما في هذة الأمّة مثل صالح عليه السلام (7) .
92 ـ أخبرنا الشيخ أبو جعفر محمد بن علي النيشابوري ، عن عليّ بن عبد الصّمد التّميمي ، عن السيّد أبي البركات علي بن الحسين ، عن ابن بابويه ، حدثنا محمد بن موسى بن المتوكّل ، حدّثنا عبدالله بن جعفر ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن سدير قال : سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا حاضر عن قوله تعالى : ( وقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا ) (8) فقال : هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ، ينظر بعضهم
____________
(1) في البحار : جاحدة لا ترجع .
(2) في ق 3 : ثم رجع .
(3) في ق 4 والبحار : لخالق .
(4) في ق 2 : نتدارسها .
(5) اقتباس من سورة الشعراء : 155 .
(6) سورة الأعراف : ( 76 ) .
(7) بحار الأنوار ( 11 | 386 ـ 387 ) ، برقم : ( 12 ) .
(8) سورة سبأ : ( 19 ) .

( 100 )

إلى بعض ، ولهم أنهار جارية وفواكه وأعناب ، وكانت قراهم فيما بين المدينة على ساحل البحر إلى الشام ، فكفروا فغيّر الله ما بهم من نعمة (1) ، فأرسل عليهم سيل العرم ، فغرق قراهم (2) .
93 ـ وباسناده عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر عليه السلام إنّ قوماً من أهل إيله (3) من قوم ثمود كانت الحيتان تستبق إليهم كل يوم ، وكانوا نهوا عن صيدها ، فأكلها الجهّال ، ولا ينهاهم عن ذلك العلماء ، ثمّ انحازت طائفة منهم ذات اليمين ، فقالت : إنّ الله تعالى ينهاكم عنها واعتزلت طائفة منهم ذات اليسار ، فسكتت ولم تعظهم ، وقالت الأولى : ( لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم قالوا معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون فلمّا نسوا ما ذكروا به ) (4) أي : تركوا ما وعّظوا به ، خرجت الطّائفة الواعظة من المدينة مخافة أن يصيبهم العذاب وكانوا أقلّ الطائفتين ، فلمّا أصبح أولياء الله أتوا باب المدينة ، فإذا هم بالقوم قردة لهم أذناب .
ثمّ قال أبو جعفر قال علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام : لهذه الأمّة نبّيها سنّة أولئك لا ينكرون ولا يغيّرون عن معصية الله ، وقد قال الله تعالى : « أنجينا الّذين ينهون عن السّوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون » (5) .

فصل ـ 5 ـ
94 ـ وعن ابن بابويه ، حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني علي بن إبراهيم ابن هاشم ، عن ابيه ، حدّثنا أبو الصّلت الهروي ، حدثني علي بن موسى الرّضا ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبائهم عليهم الصلاة والسلام قال : جاء علي بن أبي طالب عليه السلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من اشرافهم ، يقال له : عمرو ، فسأله عن أصحاب الرّس فقال :
____________
(1) في ق 2 : فغير الله عليهم من نعمة .
(2) بحار الأنوار ( 14 | 144 ـ 145 ) ، برقم : ( 3 ) نحوه عن الكافي .
(3) في البحار : أهل ابلة .
(4) سورة الأعراف : ( 164 ) والّتي بعدها أيضاً فيها : ( 165 ) .
(5) بحار الأنوار ( 14 | 54 و52 ) .

( 101 )

إنّهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر ، يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح عليه السلام غرسها على شفيرعين (1) يقال لها : روشاب ، وإنّما سمّوا أصحاب الرّس ، لأنّهم رسّوا نبيّهم في الأرض ، وكانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطىء نهر يقال له : الرّس من بلاد المشرق ، ولم يكن يومئذ نهر أغزر منه ولا قرى أكبر منها ، وقد جعلوا في كلّ شهر من السّنة في كلّ قرية عيداً يجتمع إليه أهلها ، فيضربوا (2) على الشجرة الّتي غرسوا من حبّ تلك الصّنوبرة كلّة من حرير ، ثمّ يأتون بشاة وبقر فيذبحونهما قربانا للشّجرة هذا عيد شهر كذا ، فاذا كان عيد قريتهم العظيمة الّتي فيها الصّنوبرة ضربوا سرداق ديباج عليه ، ويجتمع عليه صغيرهم وكبيرهم ويسجدون له (3) ويقرّبون الذّبائح أضعاف ما قربوا للشّجرة الّتي في قراهم .
فلمّا طال كفرهم بعث الله نبيّاً يدعوهم إلى عبادة الله فلا يتّبعونه (4) ، فلمّا رآى شدّة تماديهم ، قال : يا ربّ إن عبادك أبوا إلاّ تكذيبي فأيبس شجرهم ، فأصبح القوم وقد يبس أشجارهم كلّها فما لهم ذلك ، فقالت فرقة : سحر آلهتكم هذا الرجل الّذي يزعم أنّه رسول رب السّماء والأرض ، وقالت فرقة : لا بل غضبت آلهتكم ، فحجبت حسنها لتنتصروا منه ، فاجتمع رأيهم على قتله ، فاتخذوا أنابيب طولاً من نحاس واسعة الافواه ، ثم أرسلوها في قرار البئر واحدة فوق الاخرى مثل البرابخ (5) ونزحوا ما فيها من الماء ، ثمّ حفروا في قعرها بئراً ضيقة المدخل عميقة .
فأرسلوا فيها نبيّهم صلوات الله عليه والقموا فاها صخرة (6) عظيمة ، ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء ، فبقي عامة قومه (7) يسمعون أنين نبيّهم عليه السلام ، وهو يقول : سيّدي قد ترى ضيق مكاني وشدة كربي ، فأرحم ضعف ركني وقلّة حيلتي ، وعجّل بقبض روحي ،
____________
(1) في ق 2 : على شفرعين .
(2) في ق 1 : فيضربون .
(3) في ق 2 : لها .
(4) في ق 2 : فلم يتبعوه .
(5) البرايخ : ما يعمل من الخزف للبئر ومجاري الماء .
(6) في ق 3 : وألقوا فيها صخرة .
(7) في ق 1 : فبقي عامة قومهم ، وفي ق 3 : فبقي عاماً قومه .

( 102 )

فمات صلوات الله عليه ، فقال الله عز وجل : يا جبرئيل لأجعلنهم عبرة للعالمين ، فلم يرعهم وهم في عيدهم ذلك إلا ريح عاصفة شديدة الحمرة ، فتحيروا وتضام بعضهم إلى بعض ، ثم صارت الأرض من فوقهم كبريتا يتوقد ، سحابة سوداء ، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص (1) .
____________
(1) بحار الأنوار ( 14 | 148 ـ 149 ) ، عن العلل والعيون ، وفي آخره : كما يذوب الرصاص في النار .