المؤامرات في الكوفة

ان سياسة معاوية القاسية من جراء نقض عهده للإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تركت الشيعة ترزح تحت نير الإضطهاد ، فأوصال تقطع ، وأعين تسمل ، وبمشهد منهم أرجل مفصولة ، وعلى المشانق أنفس مزهقة ، وفي أعماق السجون أعناق مغلولة ، وبأرجاء الفلوات أناس مشردون ، وعلى أطراف الرماح أرؤس مشالة يوم كان ابن سمية عارفا بهم منذ العهد العلوي فتتبعهم تحت كل حجر ومدر ، وتحراهم في كل مغارة ، فنكل بهم ، ونال منهم ، وأوقع فيهم ، وهو القائل على منبر البصرة :
« إني أقسم بالله لآخذن المقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والصحيح منكم بالسقيم » (1)
وقد وصف هذا الحال أبو جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ فقال :
« إنا أهل البيت لم نزل نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون موضعا يتقربون به الى أوليائهم وقضاة السوء وعمالهم في كل بلدة بالأحاديث المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله ، ولم نفعله ليبغضونا الى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن ـ عليه السلام ـ فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الايدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكّر بحبنا والانقطاع إلينا يسجن ، وينهب ماله






____________
1) تاريخ الطبري ج6 ص125.
( 48 )

وتهدم داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمن عبيدالله بن زياد قاتل الحسين ـ عليه السلام ـ ثم جاء بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علي ـ عليه السلام ـ وحتى صار الرجل الذي يعمل بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ولم يخلق الله شيئا منها ولا كانت ولا وقع وهو يحسب انها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بكذب ولا قلة ورع » (2).






وفي هذا الحديث الشريف دلالة واضحة على ما نال الشيعة في تلك الأيام المظلمة من الإضطهاد والجور ، ومع أي إمام ينهضون مع الزكي المجتبى ـ عليه السلام ـ وقد قيّده الأمر الربوي بالتسليم لمجاري المحتوم كما قيّد أباه أمير المؤمنين خمساً وعشرين سنة.
على أن من أخلص له بالمفادات فئة قليلة لا تقاوم من حف بهم من أهل النفاق الذين أضمروا الغدر وضمنوا لمعاوية تسليم الحسن ـ عليه السلام ـ إن شمر للحرب ، أو مع الحسين ـ عليه السلام ـ وهو لا يرى من تكليفه إلا الخضوع لما سلم له إمام الوقت وحجة الزمن بالنص من جده وأبيه ـ صلوات الله عليهم ـ .
حتى أن حجر بن عدي دخل على الحسين ـ عليه السلام ـ مثيرا لنخوته ومحفزا له على القيام في وجه عدوهماللدود وفيما قال له : لقد اشتريتم العز بالذل ، وقبلتم القليل ، وتركتم الكثير أطعنا اليوم وعصينا الدهر ، دع الحسن وما رأى من الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وولّني وصاحبي عبيدة ابن عمر والمقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف.
فأفاض عليه « ريحانه الرسول » من معارفه القدسية ما فيه حياة القلوب واجتماع نظام الأمة ، وذلك أن البيعة والعهد اذا صدرا من « إمام الحق » الذي لا يعمل عملا إلا على حسب ما يراه من المصلحة الواقعية التي أدركها بفضل منصبه الإلهي ، فلا يجوز له نقض ما أبرمه من العهد لما فيه من الغدر والخيانة الممقوتة فقال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ :
____________
2) شرح النهج ج3 ص15.
( 49 )

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا » (3).


وهذه المسألة التي أشار اليها سيد الشهداء ، وإن لم تلزم المصافق بها واقعا لأن الذي أعطوه الميثاق غاشم لا تحل مصافقته ، وقد قال الرسول الأقدس ـ صلى الله عليه وآله ـ : « إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه » (4)



ومن المقطوع به أنه لايريد من المنبر تلك الأعواد المصنوعة من خشب وكان يجلس عليها للإرشاد والهداية وإنما يريد منبر الدعوة الآلهية ، فيكون غرض النبي الإيعاز إلى الملأ الديني الواعي لكلمته الثمينة بأن معاوية الداعي باسم الخلافة كافر بما أنزل من الوحي على الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وآله ـ بتعيين من أقامهم المولى سبحانه أمناء على شرعه القويم ، وكافر بقول النبي الذي لم يزل يجاهر مرة بعد أخرى بأسماء من يلي الخلافة من بعده وهم الإثنا عشر من ذريته المعصومين ، والراد لما أنزل على الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ قولا أو فعلا من الجاحدين.
ولم تخف هذه الأحوال على معاوية ولا ممن شاهد النبي وسمع حديثه أو كان قريب العهد بزمن تلك النصوص ولو صدقت الأوهام بأنه كاتب النبي اتسع الخرق عليه.
وحيث أن سيد الشهداء لم تسعه المصارحة بما وجب عليهم في الصحيفة الخاصة بالإمام الزكي ، وكان فيها أن يسالم خاضعا للقضاء المحتوم ، وقد أشار النبي إلى هذه المسألة بقوله : « إبناي هذان إمامان إن قاما وإن قعدا »



وأكثر العقول لا تتحمل هذه الأسرار الدقيقة كما قال الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ : « حديثنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو مؤمن امتحن الله قلبه بالايمان. »



تلطف أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ ببيان أقرب الى الأذهان وتتحمله العقول
____________
3) الدينوري في الأخبار الطوال ص222.
4) صفين لنصر بن مزاحم ص248 مصر ، وذكر السيد محمد بن عقيل في « النصائح الكافية » ص35 بمبئي أن ابن عدي أخرجه عن أبي سعيد والعقيلي عن الحسن ، وروي عن الصادق عن أبيه عن جابر.

( 50 )

فقال : « إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل إلى نقض بيعتنا. »
وهناك دقيقة أخرى كانت ملحوظة للإمام الشهيد أفرغها بهذه الكلمة الموجزة وهي أن الانسان اذا عاهد آخر لا يجوز له نقض عهده ولو كان مشركا ولذا وردت الأخبار وفقا للآية الكريمة : « وان أحد المشركين استجارك فأجره » فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم ولو كان عبدا أو إمرأة » وفسره الصادق ـ عليه السلام ـ بأن جيش المسلمين اذا حاصر المشركين فأشرف رجل منهم وقال اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.
وحينئذ يقول أبو عبدالله : ان هذه المسألة التي أعطيناها معاوية على ما فيها من ظلم وغشم بعد أن صدرت منا لا يصح نقضها ، إذا فكيف بالبيعة الصادرة لامام الحق المنصوب من قبل الله سبحانه فانها أولى وأجدر بالإلزام وعدم النقض ، وان لا تتباطأ الأمة عن القيام بها ، وهذا من سيد الشهداء درس راقي وفقه شامل لو كانت هناك آذان صاغية ، وقلوب واعية ونفوس زاكية.
ومن هذا الباب ما جرى للحسين مع علي بن بشير الهمداني وسفيان بن أبي ليلى الهمداني النهدي ، والمسيب بن نجبة ، وعبد الله بن الوراك وسراح بن مالك الخثعمي ، فإنهم دخلوا عليه ، وخبروه بما رد به عليهم أبو محمد ـ عليه السلام ـ واستنهضوا الحسين لمقارعة ابن هند.
فقال لهم الحسين : « صدق أبو محمد ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الإنسان حيا ». (5)



فأبو عبدالله أرجأ هذه النهضة لسد باب المنكر إلى الوقت المعلوم لديهم من جدهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قام بها سيد شباب أهل الجنة يوم جاء ذلك الوقت فدوّى العالم بصرخته الأحمدية ، وعرّفت الأجيال المتعاقبة مخازي ابن هند ، ويزيد ، ومن لاث بهم من جراثيم الفتن ، فتوقدت العزائم واحتدمت النفوس من أناس حتى أجهزت على حياتهم ، ودمرت ملكهم وعرفت الأمة مبلغ أولئك المتسنّمين منبر النبوة من الشقاء ، ومبلغ من ناوأهم من أهل البيت من الحق والسعادة.
وغير خاف أن هذا التذمر من رجالات الشيعة ، ومجابهتهم الإمام الزكي بتلك
____________
5) الأخبار الطوال ص222.
( 51 )

الكلمات المقذعة لايحط من مقدار اعتقادهم بإمامته ، وإنما صدر منهم ذلك لأن علائقهم الدينية ، والودية كانت مقصورة على جمال الحق القائم بمجالي الكتاب ، والسنة الوضيئة ، ومحيا حجة الزمن الأبهج ، وحيت أحسوا بما يرام بالدين من الصدع ، وبإمام الوقت من الإضطهاد ، وبالمؤمنين من استئصال الشأفة ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وأظلمت الدنيا في أعينهم ، ولم يكن يحوون من سعة العلم بالحقائق والعواقب ما يخفف تلك الوطأة ، ويخمد فورة أنفسهم الملتهبة من تحكم الضلال بالأمة ، واسترداد الجاهلية الأولى ، فهنالك انتأت المشاعر عن النفوس ، فواجهوا الامام بما عرفت ولهجوا بما لهجوا به وهم غير خارجين عن طاعة ،ولا متضعضعين في عقيدة.
ولا ريب أن مقادير الرجال متباينة وقابليتهم لتحمل الأسرار متفوتة ولم تكن أسرار الأئمة يتحملها كل أحد ، ولذا كان سيد الشهداء يفيض من علمه المخزون على كل من طلب منه التريّث عن السفر الى العراق بما يسعه ظرفه وتتحمله قابليته ، ولم تسعه المصارحة بما عنده من العلم بمصير أمره.
وهذا الذي ذكرناه هو الأساس في اجتماع رجالات الشيعة ، وعقد أندية المؤامرة لحل أغلال الإستعباد عن أعناقهم باستدعاء أبي الضيم ـ عليه السلام ـ لعاصمة الخلافة العلوية لقمع أشواك الظلم المتكدسة في طريق الشريعة ، وقمع جراثيم الفساد الوبيئة ليتم الفتح المبين ، ويستضيء العالم بألق المبادئ الصحيحة والأنظمة الربوبية التي لاقى المشرع الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ المتاعب في نشرها.
وان الوقت الذي أرجأ أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ النهضة فيه حيث كان يقول لأولئك الخلّص من الشيعة : « ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته مادام هذا الانسان حيا » يعني معاوية ، هو يوم نهضته بمشهد الطف.
فكان اجتماع الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي لأنه وجه وجوههم جليل في قومه لا يفتات رأيه ومساعيه في أيام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ الثلاثة مشكورة ، فذكروا هلاك معاوية وما لاقته الشيعة في أيامه وأشد منها عهده « ليزيد » الذي وصفه زياد بن أبيه لعبيد بن كعب النمري : بأنه صاحب رسله وتهاون بالدين ، وقد أولع بالصيد ، وأن أمر الإسلام وضمانه عظيم ، فلا يصلح يزيد للخلافة ثم قال له : ألق معاوية وأد هذا عني وخبره بفعلات يزيد وتهاونه بالدين (6).
____________
6) تاريخ الطبري ج6 ص169 وكان ذلك على اثر كتاب معاوية لزياد يطلب منه أخذ البيعة لولده

=


( 52 )

وقد اعترف بذلك ابن مرجانة حين كتب إليه يزيد أن يسير لحرب ابن الزبير فقال لمن حضر عنده : لا والله لا أجمعها للفساق الفاجر أقتل ابن بنت رسول الله وأهدم الكعبة (7).
ووصف السبط الشهيد حال زيد في كتابه لمعاوية وفيما قال له : « لقد دل يزيد من نفسه علىموقع رايه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب ، والحمام السبق ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده ناصرا ، ودع ما تحاول فما أغناك أن تلقى الله تعالى بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص (8) ».






وبهذا البيان تلطف سيد الشهداء بالنصح الشافي لدحض الضلال لكنه لم يجد أذنا صاغية ، ولا قلبا واعيا، فأخذت بوارق الإرهاب وبواعث الطمع من معاوية يسدّان طريق الحق.
فلما هلك معاوية استنشق الكوفيون روح الأمن وأبصروا بصيصا من نور الإمامة فعزموا على أن يكتبوا الى الحسين ـ عليه السلام ـ بالمصير الى عاصمة أبيه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ليفتح لهم باب السجن المظلم.
فقام سليمان بن صُرد الخُزاعي خطيبا حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أن معاوية قد هلك ، وإن حسينا قد تقبض علىالقوم ببيعته وقد خرج الىمكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الوهن والفشل فلا تغروا الرجل في نفسه ».




فقالوا بأجمعهم : إنا نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه.
____________
=
يزيد من الكوفيين.
7) تاريخ الطبري ج7 ص6.
8) الإمامة والسياسة ج1 ص154.

( 53 )

كتبهم للحسين عليه السلام :

ثم كتبوا إلى الحسين ـ عليه السلام ـ :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن علي ـ عليه السلام ـ من سليمان بن صُرَد ، والمسيب بن نَجَبة ورَفاعة بن شداد البجلي ، وحبيب بن مظاهر ، وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة : سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فالحمد لله الذي قصم ظهر عدوك الجبار العنيد الذي انتز على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها ، وتأمر عليها بغير رضي منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعدا له كما بعدت ثمود إنا ليس لنا إمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق.
والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولانخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنشاء الله.
ثم سرحوا الكتاب مع عبدالله بن مِسمَع الهمداني وعبدالله بن وأل وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان .
وبعد يومين كتبوا له مائة وخمسين كتابا من الرجل والإثنين والثلاثة والأربعة وسرحوا ذلك مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبد الله بن شداد الأزدي وعمارة بن عبدالله السلولي.
وبعد يومين آخرين كتبوا اليه مع هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله


( 54 )

الحنفي ، ونصه :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فحيّهلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل ثم العجل العجل ، والسلام.
ثم كتب شَبَث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن رُوَيم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي : أما بعد فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار فاذا شئت فاقدم على جند لك مجندة ، والسلام (1).
وأخذت الرسل من أهل الكوفة تتوارد عليه بكتبهم حتى اجتمع عنده في يوم واحد ستمائة كتاب واجتمع من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب (2) والحسين ـ عليه السلام ـ متريّث عن الجواب حتى اذا تابع هتافهم بكتبهم التي ملأت خرجين (3) لم يسعه السكوت فكتب إليهم أجمع صورة واحدة :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي الى الملأ من المؤمنين والمسلمين : أما بعد فإن هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم وكانا آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ، وكانت مقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى.
وأنا باعث اليكم بأخي ، وابن عمي ، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ إنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم عليكم وشيكا إنشاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله تعالى ، والسلام (4).
لم يخف على الإمام الشهيد نيات القوم ، ولا ما يقع منهم من التخاذل والتباعد
____________
1) هذه الكتب ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد.
2) اللهوف للسيد ابن طاووس ص19 صيدا.
3) الأخبار الطوال ص231.
4) نص على هذا الكتاب الشيخ المفيد في الإرشاد ، والفتال في روضة الواعظين ص149 ، والطبري في التاريخ ج6 ص197 ، وابن الأثير في الكامل ج4 ص8.

( 55 )

عن نصرة الحق حينما تستعر الحرب ، ويتجمع الدهر للوثوب على فئة المجد ، وعصبة الخطر من الهاشميين ، والصفوة من أصحابهم ، وكيف يخفى عليه غدرهم وعدم وفائهم بالوعد وهو يشاهد كل ذلك بواسع علم الإمامة ، والتجارب الصحيحة مما جرى منهم مع الوصي ، وأخيه المجتبى ـ صلوات الله عليهم ـ والأخبار النبوية والعلوية بما يقع من الملحمة الكبرى التي أتت على النفوس الطاهرة وأعقبت الفتح المبين بنهضة رجالات الدين في وجه المنكر والضلال حتى دمّرت مُلك الأمويين واستأصلت شأفتهم من جديد الأرض فأصبحوا عبرة لمن يتجبّر في هذه الدنيا الزائلة.
فكان أبي الضيم ـ عليه السلام ـ على علم ويقين ممايجري منهم معه لكنه أراد إتمام الحجة على أولئك الغدرة فأجاب سؤلهم ولبّى طلبتهم بعد التوكيد عليهم بكثرة الكتب والرسل منهم كي لا تكون الحجة لضعفاء العباد على إمام منصوب من قبل الله سبحانه لارشاد الخلق وايقاظهم من رقدة الجهل المردي.


( 56 )



( 57 )

ولاية مسلم عليه السلام

غير خاف أن تمثيل نفسية الإنسان الكامل بأوضح مجاليها إنما هو ببث أفكاره الناضجة والإشادة بنواياه الحسنة ، وهي الغاية الفذة من ارسال الرسول سواء في ذلك أن يكون القصد به نشر أخلاق مرضية تتهذب بها النفوس ، أو تعليم علوم ناجعة تتكهرب بها العقول ، أو إقامة عدل ترتاح به الأمم أو الدعوة إلى دين تعتنقه الأقوام ، أو توطيد سياسة تهش غليها الأمة فلا ندحة للمرسل إلا أن يبعث لأي من هذه الغايات الكريمة من هو المثل الأعلى فيها من بين لفيفه وحاشيته فيكون نبوع الرسول مجلبة لرغبات الأمة الموصلة الى مرضات ذلك المصلح ووقوفه على غايته من الإرسال.
ويجب حينئذ أن يكون ذلك الرسول حكيما في عمله بليغا في منطقه ليضع الأشياء في مواضعها ، ويكون قوله على وفق رأيه السديد ولا تفوته مقتضيات الأحوال فيكون أدعى لنشور الدعوة وأنم عن عبقرية المرسل.

إذا كنت في حاجة مرسلا * فأرسل حكيما ولا توصه

وإنا لنكتفي عن استعراض الشروط الواجبة في السفير والكلمات التي تنم عما يراد منه بذكر ما اتفق عليه أرباب الحديث والتفسير فيمن أرسل مبلغا لأوائل « برائة » فإن التأمل في هذه الحادثة توقف النبيل على ما يراد من السفير وتلم بالشرائط كلها.
والقصة في ذلك أن جبرئيل هبط على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أول ذي الحجة سنة تسع من الهجرة (1) بالآيات من أول برائة ليقرأها على قريش في الموسم فأرسل
____________
1) مصباح الكفعمي ص272 بمبئي ، والإقبال لابن طاووس ص533 إيران.
( 58 )

رسول الله أبابكر بها ليقرأها في منى على قريش ، فلما كان على مراحل من المدينة هبط جبرئيل يأمر النبي أن لا يؤديها إلا هو أو رجل منه (2) ولما رجع أبوبكر يبكي قال له ـ صلى الله عليه وآله ـ : « لا عليك وكيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار » (3)».
ما أبلغ هذا التركيب وما أبدع هذا الحوار ، وأن لهذه الكناية قيمة راقية في سوق البلاغة فلقد أشار رسول الله بكلمته الذهبية الى معرفته بضعفه يوم كان معه في الغار ، وأنه لا طاقة له على ملاقاة المشركين من طواغيت قريش فكيف يكون حينئذ مبلغا عنه ومحذرا أولئك الطعاة وقد يجره الخوف والضعف الى الوهن في قدس الرسول الأمين.
واعتذار الخطيب الشربيني في « السراج المنير » في تفسير الآية بحمل فعل النبي على مقتضى قواعد العرب من أن الرئيس اذا أراد أن يحكم عهدا بينه وبين أحد فأما أن يحضر بنفسه ، وأما أن يبعث أحد أقاربه ، متفكك البرهان باطل القياس فإن تلك القاعدة التي تخيلها لو كانت معروفة لما تخطاها النبي الأعظم في أول الأمر ، ولما خاف أبو بكر من نزول شيء في حقه حتى بكى لذلك بل كان يعتقد أن الأمر جرى على أساس معروف بين العرب وأجدر بنبي العظمة أن لا يعدوه.
ولكن المتأمل في الحديث الحامل لهذه الحادثة يعرف منه بجبلاء منزلة كبرى لعلي أمير المؤمنين وامتيازه على غيره من المهاجرين والأنصار حتى أقرباء النبي وخاصته الذين هم بحضرته وليست تلكالمنزلة إلا النيابة العامة والمرجعية لما تحتاج إليه الأمة ، وقد أشار إلى هذا التنزيل بقول جبرئيل للنبي « أو رجل منك » فإن تلك الذات المكونة من جوهر القداسة والممتزجة بالعلم الإلهي أليق في تمثيل مقام النبوة فيما يرد عليها من المسائل التي لا يعرفها إلا من استمد من اللوح المحفوظ ، وأما غيره فحيث لم ينتهل قطرة من ذلك البحر المتموج بالحكم والأسرار فالخطأ والزلة اليه أقرب من حبل
____________
2) حديث عزل أبي بكر وإرسال أمير المؤمنين مكانه في تفسير الطبري ، والدر المنثور للسيوطي ج3 ص209 ، والكشاف ج2 ص138 ، ومسند أحمد ج1 ص3 وص151 وج3 ص283 ، ومستدرك الحاكم ج2 ص331 ولم يتعقبه الذهبي في التلخيص ، وكنز العمال ج1 ص247 ، وخصائص النسائي ص20 ، والرياض النظرة ج2 ص173 ، وتاريخ الطبري ج3 ص154 ، وكامل ابن الأثير ج2 ص111 ، وتاريخ الخميس ج2 ص156 ، والروض الآنف ج2 ص328.
3) الإقبال لابن طاووس ص534 وص536.

( 59 )

الوريد حينما تعرض عليه الأسئلة وتلقى أمامه الشبهات فعندها يعود الفشل على ذلك النبي المعصوم من كل عيب ونقصان لكون الرسول دليل عقل المرسل.
نعم للخطيب أن يقول : إن كان الحال على ما وصف فلماذا لم يبعث النبي عليا من أول الأمر ؟ فيقال له : إن النبي لاحظ في ذلك نكتة مهمة وهي تعريف الناس بأن الباعث له على إرسال أمير المؤمنين الوحي الإلهي الذي لابد من إنفاذه ولو تقدم إلى علي ـ عليه السلام ـ في أول الأمر وأمره بالمسير بالآيات لكثرت القالة ممن خالطهم الريب والشك بأن القرب والرحم حرّكاه على تقديمه وتمييزه على غيره والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أجل من أن يعمل عملا يكون لضعفاء قومه الحجة عليه.
إذا وضح هذا فهلم معي إلى من كان مرسلا الى حاضرة كبرى « الكوفة » ليهتف بالغايات جمعاء المطلوبة من الإمام المعصومين ، وكان مبعوثا من إمام عدل وهدى وموئل حكمة وحجى ، معصوم من الخطأ مفطوم من الزلل « كمسلم بن عقيل » الذي حظي بالنيابة الخاصة من إمام وقته سبط نبي الهدى لينشر في الملأ العراقي مبادئ الدين القويم ويوقفهم على أمره الحكيم ، ويقيم الحلال والحرام ويزيح الشبه والأوهام ، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظمة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن ، كل ذلك بعد أن يدير فيهم الشؤون الإدارية والعسكرية لتوطيد السلام وكلاءة الأمن العام.
واذا كان اللازم على الإمام أن يلحظ هذهالمهمات كان الواجب أن ينتخب لها كفؤا يرتصيه من وجهة العلم والدين ومن وجهة التقوى والورع ومن وجهة الفكرة والنظر ومن وجهة السياسة والكياسة.
واذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يرفق من يرسله الى جهة من الجهات بكتاب يلم بتفاصيل الأحكام الدينية والمدنية فيقول في كتابه لعمرو بن حزم الأنصاري لما ولاه اليمن :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا بيان من الله ورسوله « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » عقد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يأمره بتقوى الله في أمره كله « ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وآمره أن يأخذ بالحق كما أمر به الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ويفقّههم في الدين ، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم وبالذي عليهم ، ويلين للناس


( 60 )

بالحق ويشتد عليهم في الظلم ، فإن الله عز وجل كره الظلم ونهى عنه وقال : « ألا لعنة الله على الظالمين » ويبشر الناس بالجنة وبعملها وينذر بالنار وبعملها ، ويستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته وما أمر الله به في الحج الأكبر والحج الأصغر وهو العمرة ، وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب صغير إلا أن يكون ثوبا واحدا يثني طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يجتبي أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه الى السماء ، وينهى أن لا يقص أحد شعر رأسه اذا عفا في قفاه ، وينهى اذا كان بين الناس هيج عن الدعاء الى القبائل والعشائر وليكن دعاؤهم الى الله وحده لا شريك له ومن لم يدع الى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم الى الله وحده لا شريك له.
ويأمر الناس باسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم الى المرافق ، ويمسحون برؤوسهم كما أمر الله عز وجل وأرجلهم إلى الكعبين ، وآمره بالصلاة لوقتها واتمام الركوع والخشوع ، ويغلس بالفجر ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يُقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل (4).
ويأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح اليها ، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وما سقت السماء وعلى ماسقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين من الإبل أربع شياة ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعه جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله التي افترض الله عز وجل على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له.
ومن أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خاصا من نفسه ودان بدين الإسلام
____________
4) التفرقة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء محمولة على الفضيلة بعد ورود الأحاديث عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته بصحة الجمع بينهما في غير سفر ولا ضرورة ، رواه البيهقي في السنن ج3 ص166 من طرق أربعة ، وفي مسند أحمد ج1 ص354. قيل لابن عباس : لم جمع رسو الله بين الصلاتين ؟ قال : كي لا يحرج على أمته ، وفي المبسوط لشمس الدين السرخسي ج1 ص149 نقل عن أحمد بن حنبل جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في الحضر من غير عذر ، وروى عن ابن عباس أن رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر وأجمع علماء الامامية على جواز الجمع بينهما ولو لغير عذر.
( 61 )

فإنه من المؤمنين له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن عنها ، وعلى كل حالم ذكرا وانثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته (5).
هكذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع عماله وولاته ولكنه لما أرسل أمير المؤمنين الى اليمن بعد صلح أهل نجران لم يرفقه بمثل هذا الكتاب لعلمه بوقوفه على الأحكام وخبرته بالشؤون التي تدير الأمة وهو باب مدينة علم الرسول ، وأقضى الأمة وأفقهها.
كما أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عند ما يرسل واليا من قبله يشرح له الامور الواجبة على الوالي القيام بها كما فعل مع الأشتر ومحمد بن أبي بكر وغيرهما.
إذا فحسب مسلم بن عقيل من العظم أن يكون في نظر الإمام الشهيد كعمه الوصي عند النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ واقفا على الدروس الإلهية والمعارف القدسية بصيرا بوجوه المحاججة والنظر ، خبيرا بمداراة الخاصة والعامة ، رابط الجأش عند مستن النزال ، لم ترعه الهزاهز ولم توقفه المشكلات عن كشفها ، بحبلي البرهان ولم يثنه اشح عن بذل النائل في محله اللائق ، ولم تأخذه في الله لومة لائم في إحقاق الحق وفصل الخصومات والإنتصاف للمظلومين .
فأبو عبدالله لم يرسل مسلما إلى العراق واليا من قبله إلا وهو يعلم أنه من فقهاء بيته الهاشمي وعلماء أسرته وأتقياء فئته وساسة ذويه ومن ذوي الحنكة واللياقة من قومه ، وإنه لحري بإقامة الأمت والعوج وتثقيف الأود وتهذيب الأمة وإصلاح الفاسد ودحض الأباطيل فلا يحتاج إلى شرح ما يجب عليه من الأعمال لعقله الوافر وعلمه الغرير وسياسته الحكيمة وتحرية المصالح العامة.
ومن هنا اقتصر الإمام الشهيد في صك الولاية على تعريف أهل الكوفة بأن مسلما أخوه وثقته والمفضل عنده من أهل بيته (6).
ولا يرتاب الواقف على هذا الصك في أن الحسين ـ عليه السلام ـ لا يريد من
____________
5) تاريخ الطبري ج3 ص157 وصبح الأعشى ج10 ص9 وفتوح البلاذري ص77 وسيرة ابن هشام ج2 ص384.
6) المنتخب للشيخ الجليل الطريحي.

( 62 )

الوثاقة التي حازها « مسلم » إلا تلكم الغايات الكريمة التي ألمعنا اليها وقيامه بشؤون الولاية العامة واحتوائه على مجامع الفضيلة ، ثم تلك الأخوة التي شرفه بها سيد الشهداء لا تعدو أن تكون أخوة شرف ووداد ، أخوة علم ودين أخوة سؤدد وخطر ، وأي ابن انثى يرتضيه « إمام الحق » أخاله من بين المسلمين إلا أن يكون ذلك الإنسان الكامل الذي لا يدرك شأو مجده ولا يبلغ أحد مدى عظمته ـ صلى الله عليه وعلى آبائه ـ.