ولاية ابن زياد

لما حل مسلم بن عقيل في الكوفة وبايعه الناس ساء ذلك من كان له هوى في بني أمية فكتب عبدالله بن مسلم الحضرمي وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص الى يزيد :
أما بعد فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضيف أو يتضعّف.
ولما اجتمعت عند يزيد كتبهم استشار « سرجون » مولى أبيه فيمن يوليه فاشار عليه بعبيد الله بن زياد ، فكتب اليه يزيد : « أما بعد فإن شيعتي بالكوفة كتبوا إليّ بأن مسلم بن عقيل يجمّع الجموع لشقّ عصا المسلمين فَسِر حين تقرأ كتابي الى الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام. »
فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالكتاب الى عبيدالله بالبصرة ، ولما قرأه تجهّز للمسير الى الكوفة من الغد.
ثم خطب أهل البصرة قائلا :
ان أميرالمؤمنين يزيد ولاني الكوفة وأنا غاد اليها الغداة فوالله إني ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنئان وإني لنكل لمن عاداني وسم لمن حاربني انصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة قد استخلف عليكم عثمان ابن زياد بن أبي سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لاقتلته وعريفه ووليّه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا


( 94 )

مشاق ، أنا ابن زياد اشبهته من بين وطأ الحصى ولم يتنزعني شبه خال ولا ابن عم.
وسافر من البصرة الى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي ، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته (1) والمنذر بن الجارود العبدي وعبدالله بن الحارث بن نوفل في خمسمائة انتخبهم من أهل البصرة فجدّ في السير وكان لا يلوي على أحد يسقط في الطريق مخافة أن يسبقه الحسين الى الكوفة حتى أن شريك بن الأعور سقط وسقط عبدالله بن الحارث ومعه أناس رجاء أن يلوي عليهم ابن زياد فلم يلتفت اليهم.
ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران فقال له زياد : ان أمسكت على هذا الحال فتنظر القصر فلك مائة ألف . قال : لا والله لا استطيع ، فنزل عبيدالله وأخرج ثيابا من مقطعات اليمن ولبس عمامة سوداء وتلثم موهما أنه الحسين وانحدر وحده ودخل الكوفة مما يلي النجف (2).
وكلما مر بالمحارس ورأوا تلك البزة ظنوا أنه ابن رسول الله فيهتفون بصوت عال : مرحبا بابن رسول الله وهو لا يكلمهم ، وخرج إليه أناس من بيوتهم متباشرين ظنا أنه الحسين فرأى من تباشرهم بالحسين ماساءه ، وانتهى الى باب القصر وقد أغلقه النعمان بن بشير فأشرف من أعلا القصر يقول : ما أنا بمؤد اليك أمانتي يا ابن رسول الله ، ومالي في قتالك من أرب . فغضب ابن زياد منه وقال له : افتح لاتحت فقد طال ليلك ، وسمعه من كان خلفه فرجع الى الناس يقول : أنه ابن مرجانة ورب الكعبة (3) فتقهقر الناس الى منازلهم خوفا من سطوة ابن زياد وأخذ الرجل يحدّث جليسه بالشر المقبل من جرّاء هذا الطاغي.

خطبة ابن زياد :
وعند الصباح جمع الناس عنده فقال في خطبته :
ان أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بانصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان الى سامعكم ومطيعكم ، وسوطي على من ترك
____________
1) الطبري ج6 ص200.
2) مثير الأحزان لابن نما ص14.
3) تاريخ الطبري ج6 ص201.

( 95 )

أمري وخالف عهدي ، وليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ لا الوعيد (4) فأبلغوا هذا الرجى الهاشمي مقالتي وليتق غضبي (5).
ثم أمر العرفاء بكتابة أسماء من وافق ابن عقيل ، ومن لم يفعل ولا يضمن خروج أحد تحت عرافته فهو حلال الدم ويصلب على باب داره وتلغى عرافته من العطاء (6) أو يسيّر الى الزارة وضع في عمان (7) وإليها نفى ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي فإنه يوم الطف كان مع الحسين ولما فنيت نباله أخذ يقاتل بسيفه فناداه بعض عشيرته : أنت آمن أخرج إلينا ، فخرج اليهم فلما قدم عمر بن سعد بالأسارى الى الكوفة وأخبر ابن زياد خبره سيّره الى الزارة (8).
____________
4) إرشاد المفيد.
5) نفس المهموم ص49.
6) الإرشاد.
7) ابن الأثير ج4 ص10.
8) الطبري ج6 ص261.

( 96 )



( 97 )

موقف الكوفيين

مهما عزب عن الباحث شيء من نفسيات الأمم لغموض فيها أو لحواجز لم تكشف بعد ، فإنه غير خاف عليه غرائز الكوفيين ، وإنهم في ظعنهم وإقامتهم ونصرتهم ، وخذلانهم ، ونهضتهم ، وقعودهم ، كالريشة في مهبّ الريح تتلاعب بهم أهواء متضاربة ونزعات وقتية . والذي ينتجه التفكير الصحيح في أمرهم أن القوم لا تحركهم غاية مرموقة ولا مبدأ ثابت شأن الرعاع من الناس الذين يحدوهم الجشع طورا والشهوة أخرى فرضيخة موهومة من هذا تسوقهم ، ولماظة عيش من آخر تأخذ باكظامهم ، وبالرغم من ذلك الهلع المردي أنهم ينكفؤن عنهما « بخفي حنين » فلا دين يحمد ولا دنيا يتهنّأ بها.
على هذا جروا في عاداتهم وضرائبهم منذ مصّرت هذه الحاضرة وأخص من أيامها العهد العلوي وأيام الإمام المجتبى الحسن ، ودور سيد الشهداء ، واعطف النظرة بعد هذا إلى نهضة التوابين وأيام المختار وأيام العلويين كزيد الشهيد ونظرائه الذين غرّوهم فأغرّوهم بالقيام ثم انثالوا عنهم.
هذه شناشن القوم لم يفتأوا يسيرون عليها منذ الأول إلى أن دمّرت وعاد أمر الكوفة كحديث أمس الدابر ، وعجيب ممن يذهب إلى أن الكوفة علوية إذا فمن ذا الذي استأصل شأفة العلويين ، وقتل كل ترابي في النسب أو في المذهب ، وهل كان في جيش ابن سعد في مشهد يوم الطف غير كوفي يعرف ؟ وقد بلغوا ثلاثين الفا أو يزيدون . ألم يكاتبوا الحسين يستقدمونه اليهم حتى إذا حل بين أظهرهم انتكثوا عليه تحت راية ابن مرجانة الى هنات كثيرة سوّدوا بها صحائفهم ؟


( 98 )

أتت كتبهم في طيّهـن كتـائـب * ومـا رقمـت إلا بســم الأراقم
أن اقدم إلينا يا ابن أكرم من مشى * على قدم من عربهــا والأعاجم

هكذا عرفت مقادير القوم من الثبات ومبالغهم من السداد وكميّاتهم من الاستقامة ، هب أن القوم لايهمهم دين ، ولا تردعهم تقوى ، ولا يتأثرون بجاذب الحق ، وإنما هم سماسرة الأطماع يتحرّون المعيشة تحت أي راية لمحق أو مبطل ، فيخدمون كل ناعق شأن النفوس الضعيفة والطبائع المسفة مع الضعة ، فهلا كان الشرف الإنساني يقودهم إلى اتباع أشرف الفريقين نسباً وأرفعهم شأنا وأعزهم حمى وأنداهم يدا وأرجحهم حجى وأكرمهم جدودا وأزكاهم نفوسا وأطهرهم ذيولا وارساهم قدما عند مستّن النزال واشتباك الرماح فيستبدلون الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل ؟
ولو كان في الكوفة يومئذ رجل شريف غير أسرة قليلة ضمّتهم أعماق السجون وضربت على أيدي آخرين القسوة الأموية لما بغوا عن آل الله بدلا ، ولما وجدوا عنهم حولا لكنهم أبوا كما هو لازم جبلتهم إلا أن يتسيطر عليهم ابن آكلة الأكباد « يزيد الفجور » ، ويتولى أمرهم مثل « ابن مرجانة » ولم يرقهم سبط نبي الهدى ، وابن سيد الأوصياء وفلذة كبد البتول الزهراء سيد شباب أهل الجنة.
واي زنة تجمع بين سليل الهدى وبين عصارة المخازي والمنكرات وأي مقياس يؤلف بينهما ؟
وهل تقام للقوم حجة يعذرون بها عندما يوقفون للمحاكمة ؟ وقد دخل ابن مرجانة عليهم وحده بلا عدة ولا عدد ، ولم يملك من الكوفة إلا موطأ قدمه وليس معه ثان يسدد خطاه ، ولذ تزّيا بزيّ سيد الشهداء وتلثّم كي لا يعرف فيقتل ، ولك من رآه حسبه « أبي الضيم » فيسلمون على ابن الرسول ، ولو علموا أنه ابن مرجانة لنالوا منه ، ولتهم علموا ، وليتها كانت القاضية ، فكان من أوسع الأمور البطش به أو اعتقاله لكنهم لم يفعلوا.
ولما دخل القصر لاث به أناس يعدون بالأنامل وكان الفتك بهم لاخماد الفتنة أهون شيء للكوفيين فإنه ومن معه في القصر مقطوعون عن المدد والذين بايعوا مسلما يزيدون على خمس وعشرين الفا.
أيعذر هذا الجمع المتراكم في تفكّكهم وتفرّقهم ونكثهم البيعة التي أعطوها برغبة واختيار لمجرد تهديد الدعي ابن الدعي بجيوش الشام ، وهل كان في الشام جيش


( 99 )

عتيد يساق إلى العراق والحالة الأموية قلقلة ، وصفوهم متعكر بهلاك « ابن هند » وعدم الجدارة في ولي عهده فكان جو المملكة الأموية قائما ، ومراجل الأحقاد تغلي على بني عبد شمس ، فمن متخافت برفض يزيد الى مهامس بلغنه ، الى متجاهر بمناوأته ومظاهر عداء الناس تنجم وتخبو.
وفي كل من المدن والرساتيق مؤامرة حول الخلافة المنبوذة ، فهل كان ابن ميسون والحالة هذه يقدر أن يؤلّب جيشا الكفاءة لتدمير العراق ؟
هب أنه كان يتسنّى له شيء من ذلك ، فهل يتصور وصول الجيش إلى العراق قبل أن يُمزّق ابن زياد في قصره تمزيقا لو كانت النفوس متحقّزة للحق ناهضة للدفاع عن الدين القويم ؟
ثم أي وقت يصل ذلك الجيش الموهوم الى العراق وفي وسع العراقيين عندئذ استلام الأمر للحسين ـ عليه السلام ـ قبله ، ولديهم مقانب وكتائب ممن بايع مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ ؟ ولو أنهم فعلوا ذلك ، ووثبوا في وجه ابن زياد لازدلف إليهم من كان ينتظر العواقب ، ويتحفّز للفتح والظفر ، وهناك من رواد المطامع أكثر فعندها يسوقون إلى عدوهم الألدّ جيشا لهاما فينتكث عليه الأمر وتنقلب الدائرة ويتم الأمر لداعية الحسين ـ عليه السلام ـ .
فهل في القوم من يعرف شيئا من هذا أو أنهم طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون ، كيف فاتتهم هذه القضايا الطبيعية وراعتهم الأوهام وكلهم قد مارسوا الحرب وتعاورت عليهم السياسات عادلة وجائرة ؟
وهب أنه لم يكن معهم من قوة النفس وثبات الإيمان ما يكبح ذلك الجماح أو يدحر تلكم الشهوات فينصروا الإمام العادل ـ عليه السلام ـ أفلا كان في وسعهم التواني والتخاذل عن قتله ، والتألّب كما كانوا يفعلونه مع أمير المؤمنين بعد منصرفه من صفين وقد عزم على النهضة الهامرة لملك ابن هند فكانوا يتفرقون عنه من هنا وهنا حتى وقف ـ عليه السلام ـ فيهم وقال : « فيا عجبا والله يميت القلب ، ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، وتقرّفكم عن حقكم ، وددت إني لم أعرفكم معرفة جرت ندما ، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدري غيظا ، أفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش : إن ابن أبي طالب






( 100 )

رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب ، لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني ، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أناذا ذرّفت على الستين (1) ».




ولعمر الحق لو لم تجد بنو أمية أنصارا منهم لما تسنى لهم إبادة العترة الطاهرة . فتألبوا على آل الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ ووثبوا عليهم وثبة الأعداء الألدّاء ، وفي مطاوي نياتهم أن لا يدعوا لهم نافخ ضرمة كأنهم قوم من الترك أو الديلم ، وكأن لم يكن لهم من الدين موطأ قدم فاستباحوا قتل الأطفال ، ولو نالوا من اشهامة نصيبا لما استباحوا سبي النساء من بلد الى آخر وهن عقائل الوحي وحرائر النبوة ، ولو كانوا يملكون شيئا من النخوة العربية لما استسهلوا تلكم المخازي التي تندى منها جبهة الإنسانية وتبرّأ منها العاطفة البشرية ، لكنهم نبذوا الإسلام بما ارتكبوا ، نبذوا دين العطف والغيرة ، نبذتهم العروبة ، نبذتهم العادات والتقاليد ، فأهون بهم منبوذين لا يردّهم شيء الى المجد العربي ولا الشرف القومي ولا الفخر الديني ، ولا أبعد الله غيرهم يوم كاتبوا الحسين واستنهضوه كاتبوا عدوّه فاغروه به ، ألا لعنة الله على القوم الضالمين
____________
1) نهج البلاغة ج1 ص77.
( 101 )

ابن سعد مع يزيد

لامناص من الخضوع لناموس الوراثة الحاكم في الجملة بأن لنفسيات الآباء تأثيرا في الأبناء أما بتسريها إليهم مع الطبيعة المشتركة بين الفريقين أو بتمرين مما يترشح من أواني سلفهم المفعمة بالفضائل أو الرذائل من مفعولات تلكم الغرائز ، وبطبع الحال أن الناشئ يتخذ النواجم من ضرائب سلفه سنة متبعة ، اللهم إلا أن يكبح ذلك الجماح ما تتأثر به الأبناء بواسطة الكسبيات ، وهذا على خلاف ذلك الناموس.
وعلى هذا فهلم معي الى عمر بن سعد الذي لم يعرف من أبيه غير المناوأة لأهل هذا البيت ـ عليهم السلام ـ والحسد لهم ، وكان أخف ما نجم من بغضاء سعد بن ابي وقاص قعوده عن نصرة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يوم الجمل وهو الإمام المفروض طاعته بعد اجتماع الأمة عليه ، وقالوا له لا يصلح لإمامة المسلمين سواك ، ولا نجد أحدا يقوم بها غيرك ، وهو ممتنع عليهم أشد الامتناع حتى تداكوا عليه لا يرون أحدا صالحا سواه ، فلما رأى حرصهم عليها بسط يده للبيعة فتمت بيعة المهاجرين والأنصار ولم تكن بيعته مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة كبيعة أبي بكر وإمامة عمر الثابتة بأبي بكر وحده وتمت البيعة لعثمان في الحقيقة بان عوف.
ولما عاتبه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ تظاهر سعد بالشك في الجهاد معه وقال : إني أكره الخروج في هذا الحرب فاصيب مؤمنا فان أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك (1).
____________
1) الجمل للشيخ المفيد 29 طبع النجف ثاني.
( 102 )

وهذا أعجب شيء منه وقد شاهد من فضل « أبي الريحانتين » الكثير وسمع من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حقه أكثر ، ألم يكن هو القائل : « إني سمعت رسول الله يقول لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2) إلا أنه لا نبي بعدي » ثم وضع إصبعيه على أذنيه وقال « أنى سمعته يقول ذلك وإلا استكّتا ؟ » (3)
ولما قال له معاوية : ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال : « أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فلن أسبّه ؛ سمعت رسول الله يقول وقد خلّفه في بعض المغازي فقال له علي : يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي » وسمعته يقول يوم خيبر : لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع اليه الراية ففتح الله عليه ؛ ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم » فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال : اللهم هؤلاء أهلي ».(4)









ولما عاتبه معاوية على ترك القتال معه في صفين قال له : « أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله :« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » ؟ فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال سعد : سمعه : فلان وفلان وأم سلمة . قال معاوية : لو كنت سمعت هذا لما قاتلته (5) ».
ولا شك فيما لأمير المؤمنين من السوابق والفضائل والمواقف والتأهل للخلافة كما لاريب في ثبوت البيعة له باختيار الأمة ، وأن الخارج على الامام العادل باغ يجب قتله ، وقد اعترف أبو بكر الجصاص المتوفى سنة 370 بأن عليا ـ عليه السلام ـ كان محقا
____________
2) صحيح البخاري ج2 ص259.
3) صحيح مسلم ج2 ص323.
4) الاصابة لابن حجر ج2 ص509.
5) شرح النهج لابن ابي الحديد ج1 ص201.

( 103 )

في قتاله الفئة الباغية ولم يخالف فيه أحد (6).
وقال أبوبكر ابن العربي الأندلسي المتوفى سنة 546 : « إن عليا كان إماما لأنهم اجتمعوا عليه ولم يمكنه ترك الناس لأنه كان أحق الناس بالبيعة فقبلها حوطة على الأمة ، وأن لاتسفك دماؤها بالتهارج ويتخرّق الأمر ، وربما تغير الدين ، وانقض عمود الإسلام ، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم علي : « ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا اليه » وكان علي أسدّهم رأيا وأصوب قولا لأنه لو تعاطى القود لتعصّبت لهم قبائلهم فتكونحربا ثالثة فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامة ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء ، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك الى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.
وحينئذ فكل من خرج على علي ـ عليه السلام ـ باغ وقتال الباغي واجب حتى يفيء الىالحق وينقاد الى الصلح ، وأن قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة ، وأهل الجمل والنهروانالذين خلعوا بيعته حق ، وكان حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا ، فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بُغاة فتناولهم قوله تعالى : « فقاتلوا التي نبغي حتى تفيء الى أمر الله ».
ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقاص بعدم مشاركة له في قتال علي ـ عليه السلام ـ فردّ عليه سعد : بأني ندمت على تأخري عن قتال الفئة الباغية يعني بها معاوية ومن تابعه (7). »
وحكى الآلوسي عن الحاكم والبيهقي أن عبدالله بن عمر يقول : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت من نفسي من هذه الآية « فقاتلوا التي تبغى ـ الآية » . حيث أني لم أقاتل الفئة الباغية يعني معاوية ومن معه من الباغين على علي ـ عليه السلام ـ » ، ولم يتعقبه آلوسي بشيء وزاد بتصريح بعض الحنابلة بوجوب قتال الباغين احتجاجا بأن عليا اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد فهو إذا أفضل من الجهاد (8).
وما أدري بماذا يعتذر سعد مع ذلك التصريح منه لمعاوية بأنه باغ ولم ينهض مع
____________
6) أحكام القرآن ج3 ص492.
7) أحكام القرآن ج2 ص224.
8) تفسير روح المعاني ج26 ص151.

( 104 )

خليفة الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لجهاد من يبغي في دين الله عوجا ، وكيف تفوّه بطلب السيف العارف بالمؤمن من الكافر ولم يطلبه من « الشيخين » في قتالهم أهل الردة وكان موافقا لهما على ذلك مع أن أهل الردة لم يمتنعوا من أداء الزكاة إلا بشبهة الدفع لمن أقامه النبي خليفة على المسلمين يوم الغدير ، ولم يخلعوا يدا عن طاعة ، ولا فارقوا جماعة المسلمين ، لولا أن قتالهم أمر دبّر بليل.
فأين كانت جلبة سعد وضوضاء أسامة وتزفّر ابن عمر من قتل علي ـ عليه السلام ـ لأهل الجمل أيام تفريط خالد في أولئك المسلمين الذين لم يتركوا الشهادتين حتى آخر نفس لفظوه ، وكما كان لأصحاب الجمل عند هؤلاء عذر في الخروج على سيد الوصيين يكون لأولئك الذين اطلقت عليهم الردة عذر في الامتناع عن أداء الزكاة ، أهل كان الحكم بقتال المرتدّين مقصورا على خصوص من خالف « أبابكر » أم هو عام لكل من تمت له البيعة ؟
نعم الحسد من جهة وعدم الرضوخ الى الحق منجهة أخرى لم يدعا لسعد وأمثاله طريقا في الخضوع لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ؛ « وإنما متسافل الدرجات يحسد من علا ».
لقد كان سعد ممن يشمخ أنفه بالفخفخة الباطلة والمجلد الكاذب ويرى نفسه في أشراف الصحابة ، وإذا قايسها مع أخي الرسول وجده أطهر منه نسبا وأعلا حسبا وأغزر علما وأثبت في المواقف وأشجع في الهزاهز وأقوى حجة وأشرف نفسا الى أن تنتهي حلقات الفضل ولأمير المؤمنين بقايا غير محصورة ينبوعها الحساب.
فكان في رضوخه لأبي الحسن ـ عليه السلام ـ خضوع الى هاتيك المآثر وظهور لنقصه فيها ، ولطموح نفسه إلى التّعالي ، ولم يكن عنده من التقوى ما يكبح عامل الكبرياء ليستهل البخوع للمجد العلوي ، وان أضر ذلك بدينه وأراده في آخره ؛ فإن العصبية أعشت بصره ، والنخوة الجاهلية تحكمت بين أحشائه ، والحسد المحتدم بصدره ألقاه في مدحرة الهلكة وحفزه الى مكامن البغضاء ، وان تستر بظواهر الاسلام وتعاليمه .
يشهد لذلك سؤاله أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لما سمعه يقول في خطابه : « سلوني قبل أن تفقدوني فوالله ما تسألوني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلا أنبأتكم به. »
فقام إليه سعد وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من






( 105 )

شعره ، فقال ـ عليه السلام ـ : « لقد سألتني عن مسألة حدّثني عنها خليلي رسول الله أنك ستسألني عنها ، وما في لحيتك ورأسك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ولدي الحسين » ، وعمر يدرج بين يدي أبيه (9).




وهذا منه سؤال مستهزء لا مستفهم ظن في ذلك أن يفحم الإمام لأن الجواب الحقيقي يعوزه البرهان ؛ فإن أمير المؤمنين لوعيّن عددا فأي أحد يمكنه عد الشعرات ولا يرمى بالخطأ ، وحيث وضح لأبي الحسن ـ عليه السلام ـ الواقف على ضمائر العباد ما أضمره سعد عدل الى ما في خزي لذلك المتعنّت اللدود ، وقد بقي وصمة عليه الى آخر الأبد فحكى له حديث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ.
فهذا الذي عرفناه من نفسيات سعد وبوائقه يسير من كثير ولو أردنا الإستقصاء لأريناك غرائب.
إذا فليس من البدع إذا قام ابنه عمر بهاتيك المظاهر الذميمة فؤاد الحق ونصر الباطل وأجهز على بقايا الرسالة وشظابا النبوة الى مخازي لا تحصى مع القسوة التي يمجها الطبع البشريّ ، وتتذمر منها الانسانية فأعقبها سبة خالدة ، وشية من العار سجلها له الدهر منذ خيانته مسلم بن عقيل الى مشهد الطف الى ما بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وإلى هذا القضايا الطبيعية كان يوعز أمير المؤمنين بعلمه المستقى من بحر النبوة فيقول : « إن بيتك لسخلا يقتل ابني الحسين. »
وإذا كان سعد يستهزئ بسيد الوصيين فلقد استهزأ ابنه عمر بسيد شباب أهل الجنة يوم اجتمع به قبل اشتباك الحرب وقال له : « أي عمر أتقاتلني ؟ أما تتقى الله الذي اليه معاد فأنا ابن من علمت ؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب الى الله تعالى ؟ »




فاعتذر ابن سعد بمعاذير لاترضى الخالق تعالى قال : ( أولا ) أخاف أن تهدم داري ، قال الحسين : أنا أبنيها لك ، و( ثانيا ) أخاف أن تؤخذ ضيعتي ، قال ـ عليه السلام ـ أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز (10) ، ويروى أنه قال له : أعطيك
____________
9) كامل الزيارة لابن قولويه من أعيان القرن الثالث ص74.
10) مقتل العوالم ص78.

( 106 )

البغيبغة وكانت عين عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع فيها معاوية الف الف دينار فلم يبعها منه (11) و( ثالثا ) أخاف من ابن زياد أن يقتل أولادي.
ولما أيس منه أو عبدالله قام من عنده وهو يقول : « ما لك ذبحك الله على فراشك عاجا ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا اليسير. »




فقال ابن سعد مستهزئ :
« في الشعير كفاية (12) ».

إن المواعظ لا تفيد بمعشــر * صموا عن النبأ العظيم كما عمُوا

إنك يا سيد الشهداء أبصر بهذا الطاغي ، وإنه يعشو عن الحق لدناءة حسبه ، وضؤولة مروءته ، وضعف دينه ، وبعده عن الصرط السّويّ ، وانغماره في الشهوات لكنك ابن من تحمّل الأذى ، ولاقى المتاعب في سبيل إنقاذ الأمة وانتشالها من موج الضلال فلم ترد بتلك النصائح وادلاء الحجج وضرب الأمثال إلا إتمام الحجة ، ولم تبق له مسرحا يلتوي اليه ، ولا منتكصا يتحرج منه حتى أتممت عليه كلمة العذاب ، وقطعت عنه المعاذير يوم تنشر الصحف وتنصب الموازين.
واذا كان أبوه سعد لم يستضئ بنور النبوة ولا استفاد من تعاليمه ما يقرّبه الى الحق فيتباعد عن وصي النبي مع ما يعلمه من الحق الثابت له ، فجدير بابنه اذا بات ليلته مفكرا في النصائح التي القيت اليه ممن يمحضه الود ولا يرديه في باطل ، فجار عن الطريق الواضح واختار الدنيا على الآخرة ، فإن « الشجرة المرة لا تنبت إلا مرا » والذي خبث لايخرج إلا نكدا وهل ترجى الهداية منه بعد قوله (13) :

أأترك مُلك الريّ والري رغبتي * أم أرجع مذمومـا بقتـل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها * حجاب وملك الـري قرة عيـن

وبعد هذا فهل يعجب القارئ ويستغرب من كتابة عمر بن سعد الى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل ، واجتماع الناس عليه ، وتوقف النعمان بن بشير عن محاربته (14) وكان محرّضا له على تدارك الأمر لئلا ينتكث فتله
____________
11) تظلم الزهراء ص103.
12) تهذيب الأسماء واللغاة للنووي بترجمة عمر بن سعد.
13) ابن الأثير ج4 ص22.
14) الطبري ج6 ص199.

( 107 )

ولقد تحققت فيه كلمة سيد الشهداء : « لاتأكل من بر العراق إلا يسيرا » فإنه رجع من كربلاء صفر الكف خالي الوطاب من الزلفى ، وهل أحد أخسر صفقة منه حين دعاه ابن زياد ، وطلب منه العهد بولاية الري فاعتذر بضياعه فلم يقبل منه ، وألحّ عليه قال : إني تركته يُقرأ على عجائز قريش اعتذارا منهن : أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعدالكنت قد أديت حقه . (15) وبقى في الكوفة خاسرا ربح السلطان والفوز بجوار المصطفى حتى قتله المختار شر قتلة في ذي الحجة سنة ست وستين ومعه ابنه حفص (16) ولعذاب الله أشد.

لفت نظر :
تقدم في حديث ابن قولويه أن سعد بن ابي وقاص اعترض على أميرالمؤمنين لما قال : « سلوني ـ الخ » ، ورواه الصدوق في الأمالي ص81 مجلس 28 ، والإستبعاد بأن سعدا لم يرد الكوفة موقوف على أن يكون هذا الخطاب بالكوفة ولم تقم قرينة على أمير المؤمنين لم يقل : « سلوني » إلا في الكوفة إذ من المحتمل أن يكون ذلك الإعتراض بعد خطبته ـ عليه السلام ـ بالمدينة اما في أيام خلافته أو في أيام خلافة من تقدمه ويؤيد تكرر هذا القول منه ـ عليه السلام ـ حديث عباية الأسدي : كان أمير المؤمنين علي كثيرا ما يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ـ الخ (17).
ولعل حديث ابن قولويه : وكان عمر يدرج بين يديه ، يؤكد هذا الإحتمال أعني وقوع الخطاب والإعتراض في المدينة ، فإنه على هذا يكون عمر صغيرا ، حتى على القوم بولادته أيام النبي ، واحتمال بعض العلماء أن تعيين الأب والإبن في حديث ابن قولويه والصدوق من الراوي للمغروسية في الأذهان بأن عمر بن سعد قاتل الحسين ، فعيّن الأب والإبن باجتهاده وحسبه الآخر رواية فدوّنها ورواها ، مبني على حصر الخطاب في الكوفة وليس له شاهد في الحديث والتاريخ.
ومما يشهد لتعدد الواقعة ما يروى أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض على أمير المؤمنين لما سمعه يقول : سلوني ـ الخ ، فأخبره ـ عليه السلام بأن في
____________
15) المصدر ص268.
16) تاريخ أبي الفدا ج1 ض195.
17) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص37.

( 108 )

بيته سخلا يقتل الحسين وكان ابنه الحصين طفلا صغيرا يرضع اللبن وعاش الى أن صار على شرطة عبيدالله بن زياد ، وأخرجه الى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين يتوعّده إن أخّر (18).
وهناك رواية ثالثة تشهد بأن المعترض هو أنس النخعي فقال ـ عليه السلام ـ : وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله وكان ابنه سنان قاتل الحسين ، وهو يومئذ طفل يحبو (19).
وهذه الروايات الحاكية لتعدد المعترض تدل على تعدد الخطاب من أمير المؤمنين فليس من البعيد أن يكون سعد في جملة هؤلاء.
وكيف كان فقد جاء في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج5 ص113 ، وتذكرة الخواص ص141 ، وابن الأثير في الكامل ج4 ص94 ومثير الأحزان لابن نما ص25 : أن أمير المؤمنين لقى عمر بن سعد وقال : كيف بك يا ابن سعد اذا قمت مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار ؟



ويزيد ابن الأثير : أن عبدالله بن شريك يقول : أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود اذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا : هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله .
وكان عمر يقول للحسين : يزعم السفهاء إني أقتلك فقال الحسين : ليسوا بسفهاء (20).
وكانت ولادة عمر أما في أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما ارتأه ابن عساكر لرواية ابن اسحاق أن أباه سعدا أرسل الىالجزيرة جيشا كان معهم ولده عمر وذلك في سنة 19 ، واختار ابن معين أن عمر بن سعد كان غلاما حدث السن سنة موت عمر بن الخطاب لحديث سيف أن سعدا تزوج يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة أيام الردة فولدت له عمر (21) ، وفي الرياض النظرة امّه بنت قيس بن معديكرب.
____________
18) نهج البلاغة ج2 ص508.
19) شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص208.
20) تهذيب التهذيب ج7 ص451.
21) الإصابة ج3 ص184.